الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ملخص الدرس الماضي
فقد تحدثنا في الدرس السابق عن نجاسة الخمر هل هي حسية أو معنوية؟ وذكرنا أن الذي ذهب إليه عامة العلماء أن نجاسة الخمر هي نجاسة حسية، وهو قول المذاهب الأربعة وابن حزم، وكذلك شيخ الإسلام -رحمه الله- ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم، واستدلوا بأن النبي ﷺ أمر بغسل الآنية التي يشرب بها الخمر قبل استعمالها، وهذا يدل على أن الخمر نجسة نجاسة حسية، وليست فقط نجاسة معنوية، وإلا لما أمرهم بغسل الإناء من أثر الخمر، وقد وصف الله -تعالى- خمر الجنة بأنها طاهرة وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان: 21]، ومفهوم هذا أن خمر الدنيا ليس كذلك.
وأيضًا فإن الشريعة قد منعت كل وجوه الانتفاع بالخمر فأمرت بإراقتها، ومنعت من التداوي بها، وحرمت بيعها، ومنعت تخليلها، وأمرت باجتنابها، ووصفتها بأنها رجس، فكل ذلك يدل على النجاسة.
واختار بعض العلماء القول بأن الخمر نجاستها نجاسة معنوية، وأنها طاهرة حسًا، نجسة معنى.
وتحدثنا عن المسكرات، المسكرات المائعة، وأن حكمها حكم الخمر عند جماهير أهل العلم.
وأما المسكر الجامد غير المائع كالحشيشة ففي طهارته ونجاسته خلاف بين الفقهاء.
ثم تحدثنا عن الكحول، وهي المادة الأساسية التي تسبب الإسكار، بل هي روح الخمر، وأن الحاجة تدعو إلى بحث المسألة نظرًا؛ لأن العطور تدخل فيها هذه الكحول كما أنها تستعمل في عالم الصناعة مذيبات في عالم الأدوية والأدهان.
وكذلك أنواع من المعقمات، ومنها: الكحول الإيثيلي والميثيلي والبروبيلي، وغيرها، وأن الكحول الميثيلي سام يستعمل في المبيدات.
وتحدثنا عن مسألة استعمال العطور المشتملة على نسبة من الكحول، وأن الذي عليه فتوى كثير من أهل العلم أن الحكم يترتب على نسبة الكحول الموجودة في هذا العطر، فإن كانت هذه النسبة كبيرة تسبب الإسكار فإنه خمر لا يجوز استعماله ولا شراؤه ولا اتخاذه ولا إبقاؤه.
وكذلك فإن الخمر لا يتوقف تحريمها على شربها فقط، بل جميع وجوه الاستعمال والانتفاع محرمة؛ لأن الله قال: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90] يعني اجعله في جانب وأنت في الجانب الآخر.
وذكرنا بعض الآثار عن الصحابة الدالة على تحريم استعمال الخمر في الامتشاط مثلًا والادهان، ولو أخذنا بقول من يقول الخمر طاهرة فإن هذا لا يعني جواز استعمال هذه العطور؛ لأننا مأمورون باجتناب الخمر اجتنابًا كليًا سواء كانت طاهرة أو نجسة، والاجتناب هو التباعد عن الشيء، وإذا قلنا : الخمر نجسة فيلزم غسل ما أصاب البدن والثوب منها، وإن قلنا : إن الخمر طاهرة فلا يلزم الغسل، ولكن لا يجوز الاستعمال.
حكم الأطعمة والأشربة والأدوية التي فيها كحول
ما حكم الأطعمة والأشربة والأدوية التي يدخل في تركيبها نسبة من الكحول، فإن المسألة في عالم الصناعة اليوم قد تشعبت، فدخلت في صناعة الحلويات، وبعض أنواع الآيسكريم والمخبوزات والمعجنات والعصيرات وتستعمل فيها الكحول لإذابة بعض المواد التي لا تذوب بالماء من الملونات والمواد الحافظة وغيرها؟
فالجواب عن هذا: أن نسبة الكحول إذا كانت ضئيلة بحيث تصير مستهلكة في التركيبة الكلية للمطعوم أو المشروب بحيث لا يظهر لهذه الكحول أثر من لون أو طعم أو رائحة، فإن الاستعمال جائز بشرط أن لا يكون ضارًا، ومن أمثلة هذا المشروبات الغازية فإنه يوجد بها نسبة ضئيلة من الكحول، ولكن لا تؤثر في الإسكار، بمعنى لو شرب كمية ضخمة من المشروبات الغازية لا يسكر؛ لأن ما أسكر كثيره فقليله حرام.
أما إذا كانت نسبة الكحول الداخلة في المطعوم والمشروب تسبب إسكارًا لو أكل أو شرب منه كثيرًا فإنه حرام في القليل والكثير.
ومع الأسف فإن ما يصنع في بعض الأماكن في العالم من الحلويات يضعون فيها نسبة من الخمر والكحول لإكسابها نكهة معينة، ومذاقًا خاصًا، يعتبر مرغوبًا عند بعض المستخدمين والمستهلكين هناك، فهنا يجب على التجار المسلمين الذي يستوردون المطعومات والمشروبات من الغرب والشرق أن يدققوا فيما يأتون به في هذا الباب.
وقد وجه إلى لجنة الافتاء السؤال التالي: تباع في الأسواق بعض الأدوية أو الحلوى تحتوي على نسبة ضئيلة من الكحول فهل يجوز أكلها علمًا أن الإنسان لو أكل من هذه الحلوى وتضلع لا يصل إلى حد السكر أبدًا؟
فأجابت اللجنة: إذا كان وجود الكحول في الحلوى أو الأدوية بنسبة ضئيلة جدًا بحيث لا يسكر أكل أو شرب الكثير منها فإنه يجوز تناولها وبيعها؛ لأنه لا يكون لها أي مؤثر في الطعم أو اللون أو الرائحة لاستحالتها، ومعنى الاستحالة التحول من حال إلى حال، لاستحالتها إلى طاهر مباح، لكن لا يجوز للمسلم أن يصنع شيئًا من ذلك ولا يضعه في طعام المسلمين، ولا أن يساعد عليه. انتهى.
فاللجنة تقول : لو أن هذا المأكول أو المشروب استعمل منه الكثير فلم يسكر فإنه حلال، ولكن مع ذلك لا يجوز للمسلم الذي يعمل في عالم صناعة المأكولات والمشروبات أن يضيف أي خمر أو كحول إلى المصنوع؛ لأنه أصلًا لا يجوز أن يتخذه ولا أن يشتريه ولا أن يستعمله؛ لأن الله قال: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90].
فإذن، مع تجويز أكل أو شرب هذا إذا كانت النسبة فيه ضئيلة ولا تؤثر فإن هذا لا يعني جواز أن يقوم المسلم بإضافته في المطعومات والمشروبات؛ لأن اتخاذه أصلًا لا يجوز، فهناك فرق بين تناول الكحول مباشرة وبين خلطه بغيره، فإن تناول المقدار هذا وحده لا يجوز ولو كان قطرة، أما إذا خلط بغيره من الأدوية والأغذية، فإما أن يكون تأثيره واضحًا أو لا يكون، فإن كان تأثيره واضحًا حرم الاستعمال وحرم الخلط أصلًا، وإن لم يكن له تأثير واضح في الأغذية والأدوية جاز الاستعمال، ولكن لا يجوز للمسلم أن يخلطه به أصلًا، قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله-: إذا خالطت هذه الكحول شيئًا ولم تضمحل بما خالطته، الاضمحلال يعني زوال الأثر، قال الشيخ : ولم تضمحل بما خالطته صار هذا الشيء حرامًا؛ لأن هذا الخليط أثر فيه.
أما إذا انغمرت هذه الكحول بما خالطته ولم يظهر لها أثر فإنه لا يحرم بذلك، والنسبة بين الكحول وبين ما خالطه قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة، بمعنى أن هذه الكحول قد تكون قوية فيكون اليسير منها مؤثرًا في المخالط، وقد تكون ضعيفة فيكون الكثير منها غير مؤثر، والمدار كله على التأثير. انتهى كلام الشيخ.
لعله يقصد -رحمه الله- بقضية قوية وضعيفة التركيز؛ لأن المقدار الضئيل من الشيء المركز يؤثر، والمقدار الضئيل من الشيء المخفف لا يؤثر.
فإذن، يمكن أن نضيف لكلمة "القليل والكثير" "التركيز"، ونقول في النتيجة النهائية: إذا كان المطعوم أو المشروب لو أخذ منه كثيرًا سكر فلا يجوز لا خلطه ولا استعماله، وإن كان لا يؤثر بمعنى أن الكحول اضمحلت استحالت تغيرت في الشيء المخلوط، لكن الخلط أصلًا لا يجوز، وقال علماء اللجنة الدائمة: لا يجوز خلط الأدوية بالكحول المسكرة، لكن لو خلطت بالكحول جاز استعمالها إذا كانت نسبة الكحول قليلة لم يظهر أثرها في الدواء في لون الدواء ولا طعمه ولا رائحته، وإلا يعني لو كان موجود أثر الكحول لونًا أو طعمًا أو ريحًا، قالت اللجنة: وإلا حرم استعمال ما خلط بها؛ لأن بقاءها معناها أن الصفات موجودة ما استحالت ولا تغيرت، هذا بالنسبة لقضية نجاسة الخمر الحسية وموضوع الكحول؛ لأن الكحول داخلة في الخمر وأثر هذا على المطعومات والمشروبات والأطياب، ونحوها.
كيفية إزالة النجاسة من الأعيان المتنجسة
ثم قال المصنف الشيخ السعدي -رحمه الله-: وإذا زالت عين النجاسة طهر المحل ولم يضر بقاء اللون والريح؛ لقوله ﷺ لخولة في دم الحيض: يكفيك الماء، ولا يضرك أثره [رواه أحمد: 8767، وقال محققو المسند: "حديث حسن"].
بعد أن بين المصنف -رحمه الله- جملة من الأعيان النجسة، وذكرنا أنها اثنا عشر عينًا، النجاسات الأساسية: البول، والغائط، والدم، والخنزير، والميتة، والكلب، وسباع البهائم، والقيح، والصديد، والمذي، والودي، والقيء المتغير، والخمر، أراد -رحمه الله- بعد ذلك أن يبين كيفية إزالة النجاسة إذا أصابت هذه الأعيان النجسة شيئًا من الطاهرات فنجسته.
وسبق أن ذكرنا الفرق بين الشيء النجس، والشيء المتنجس، فقلنا: الشيء النجس هذه نجاسة في أصلها كالبول والغائط، وأما المتنجس فهو شيء طاهر في الأصل كالثوب والبدن البقعة، فلما وقعت عليه النجاسة صار متنجسًا.
النجس هو النجاسة ذاتها.
المتنجس ما وقعت عليه النجاسة أو خالطته.
وذكرنا فروقًا أخرى، لكن ماذا بالنسبة لإزالة النجاسة؟
تجب إزالة النجاسة من ثلاث محال: ثوب الإنسان، وبدنه، وبقعة صلاته، بمعنى لو وقعت نجاسة على رجل الدابة هل يجب عليك شرعًا أن تزيلها وإذا ما أزلتها تأثم؟ لو أصابت النجاسة جدارًا هل يجب عليك إزالة النجاسة وإذا ما أزلتها تأثم؟
لا.
لكن لو وقع على بدنك نجاسة، أو على ثوبك، أو على بقعة صلاتك، يجب عليك شرعًا أن تزيلها، ولا يجوز لك إبقاؤها، قال ابن رشد -رحمه الله-: "وأما المحال التي تزال عنها النجاسات فثلاثة، ولا خلاف في ذلك: الأبدان، ثم الثياب، ثم المساجد، ومواضع الصلاة" [بداية المجتهد: 1/89].
لو وقعت نجاسة في المسجد الآن يجب إزالتها وإن لم تزل أثموا، ما يجوز إبقاءها في المسجد أصلًا، بينما لو وقعت في أرض في الخارج نجاسة أصابت أرضًا ما نأثم إذا ما أزلناها.
اتفق العلماء على هذه الثلاثة؛ لأنها منطوق بها في الكتاب والسنة، أما الثياب فالدليل على وجوب إزالة النجاسة من الثياب من القرآن: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 4]، وهذا الأصل، يعني حملها على الحقيقة، قال بعضهم: إن العمل يطلق عليه لباسًا، ويقال هذا لباسه خبيث إذا كان عمله خبيثًا، ولباسه طيب أو طاهر إذا كان عمله طيب، لكن الأصل حمل الألفاظ على الحقيقة: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ، قالوا : طهرها من النجاسة أو اغسلها بالماء.
وفي الثابت كذلك من أمر النبي ﷺ بغسل الثوب من دم الحيض، وصبه الماء على بول الصبي الذي بال عليه.
وأما المساجد، فالدليل: حديث الأعرابي صبوا على بول الأعرابي ذنوبًا من ماء أمر بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي الذي بال في المسجد.
والبدن، ثبت عن النبي ﷺ الأمر بغسل المذي عن البدن، وأنه أمره أن يغسل ذكره، وفي رواية: "والأنثيين" أي الخصيتين.
إذن، غسل النجاسات من المخارج، يعني في الاستنجاء والاستجمار هذا دال على وجوب إزالة النجاسة عن البدن.
إذن، الشرع جاء بالأمر بغسل النجاسة عن الثوب والبدن والمساجد وبقعة الصلاة.
إزالة النجاسة
وبالنسبة لموضوع "إزالة النجاسة" يمكن أن نجمل الكلام عليه في النقاط التالية:
أولًا: هذه الأعيان النجسة هل يمكن تطهيرها؟ الدم البول الغائط، إلى آخره، هل يمكن تطهير الأعيان النجسة؟
لا يمكن؛ لأنها نجسة وليست متنجسة، فالأعيان النجسة لا يمكن تطهيرها، البول لا يتطهر، الغائط مهما غسلته فهو غائط، فالأعيان النجسة تبقى نجسة مهما فعلت بها فستبقى نجسة حتى تضمحل وتزول، إذا ما صار في عين هذا شيء آخر، لكن العين النجسة نفسها لا يمكن تطهيرها.
ماذا بالنسبة للكلب، الخنزير، الميتة، هل يمكن تطهير عينها وذاتها؟
لا يمكن، فلو غسل الخنزير ببحار الدنيا فسيبقى نجسًا، ولو غسلت الميتة ببحار الدنيا فستبقى نجسة.
فإذن، كما قال النووي -رحمه الله-: الأعيان النجسة كالميتة والروث وغيرهما لا تطهر بالغسل.
أما الأعيان المتنجسة كثوب أصابه بول، أو أرض أصابتها نجاسة، فهي طاهرة في الأصل، وطرأت عليها النجاسة فإنه يمكن تطهيرها.
إذن، هذه النقطة الأولى، المسألة الأولى: الفرق بين النجس والمتنجس في موضوع إمكانية إزالة النجاسة أو التطهير.
إذا تحولت الأعيان النجسة عن حالها واستحالت إلى عين أخرى فهل يحكم بطهارتها أم لا؟
مزيد من التوضيح، الاستحالة هي التحول من حال إلى حال، التغير تحول الشيء من حقيقة إلى حقيقة أخرى، من مادة إلى مادة أخرى كتحول الأجساد إلى تراب، وتحول الخمر إلى خل، وتحول الخنزير إلى ملح، هذه تسمى عند الفقهاء استحالة، التحول من حال إلى حال، ومن مادة إلى مادة، تسمى عند الفقهاء استحالة، فالنجاسة قد يتم تحولها من عينها إلى عين أخرى مختلفة تمامًا بأسباب طبيعية كالهواء والشمس، وبأسباب من المؤثرات التي يستعملها الإنسان كالكيماويات مثلًا، فإذا تمت عملية الاستحالة فهل يزول الحكم؟
الخمر إذا أصبحت خلًا صارت طاهرة، والخنزير إذا أصبح ملحًا صار طاهرًا، والسرجين إذا أصبح رمادًا صار طاهرًا، هذه المسألة فهمها مهم في عالم الصناعة اليوم، وقد دخلت المعالجات الكيميائية في كثير من المركبات، وحتى تتبين فائدة الموضوع وأبعاده فلننظر في المسائل التالية: ما حكم دخان وبخار النجاسة؟
ما حكم الجيلاتين الذي يستخلص من الميتة ثم يدخل في صناعات وقد تحدث عملية الاستحالة للجيلاتين هذا والتغير الكامل؟
ما حكم الصابون الذي يصنع من شحوم الخنزير أو الميتة؟
ما حكم المراهم والكريمات والأدهان التي يدخل في تركيبها أشياء من النجاسات؟
ما حكم مياه الصرف، مياه المجاري التي تعالج كيميائيًا وتكرر عدة مرات لتزول منها الشوائب وتعود ماء؟
ما حكم الأطعمة والمزروعات التي يتم تسميدها بنجاسات؟ فالنجاسة تدخل في التربة والنبات يسحب من التربة والثمار تخرج من النبات لكن طرأت أثناء هذا تحولات كثيرة؟ هل تكون هذه الأشياء نجسة باعتبار الأصل أو طاهرة باعتبار عمليات التحول التي صارت؟
الحقيقة أن هذه المسألة مجال للاجتهاد، وتفاوت أنظار الفقهاء، فقد ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الأعيان النجسة تبقى نجسة ولو استحالت إلى عين أخرى، واستثنوا فقط الخمر إذا تحولت خلًا بفعل الله تعالى لا بفعل البشر.
الخمر تتحول إلى خل بشيء طبيعي، كذا تترك في الطبيعة بفعل الله تتحول إلى خل في أحيان، وقد يضاف عليها أشياء من المؤثرات الكيميائية من فعل البشر في المصانع وغيرها فتتحول إلى خل.
الذين يقولون: إن المواد النجسة تبقى نجسة ولو تحولت، ولو استحالت ولو تغيرت، فالخنزير يبقى نجسًا حتى لو صار ملحًا، ونحو ذلك لا يستثنون إلا الخمر إذا تحولت خلًا بفعل الله -تعالى-.
أما إذا قام مخلوق بتخليل الخمر يقولون : ما تغير شيء في الحكم وهي باقية على نجاستها، هذا في المجموع والإنصاف، وغيرها هذه المسألة عندهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: اتفقوا كلهم -الفقهاء- على الخمر إذا صارت خلًا بفعل الله -تعالى- صارت حلالًا طيبًا" [مجموع الفتاوى: 21/ 71].
قال ابن قدامة: "لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلًا، وما عداه لا يطهر كالنجاسات إذا احترقت وصارت رمادًا" الرماد عندهم يبقى نجسًا "والخنزير إذا وقع في الملاحة" منبت الملح في أراضٍ معينة، بقع معينة من الأراضي منبت الملح يستخرج منها الملح، لو وقع الخنزير فيها ومات يتحول إلى ملح، قال: "والخنزير إذا وقع في الملاحة وصار ملحًا، والدخان المترقي من وقود النجاسة" بخار النجاسة عندهم نجس، قال: "والبخار المتصاعد من الماء النجس" [المغني: 1/ 53].
قلنا : الشافعية والحنابلة عندهم أنها تبقى على حكم أصلها وهو النجاسة.
وفي المقابل ذهب الحنفية والمالكية والظاهرية وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم إلى أن العين النجسة إذا استحالت إلى عين أخرى اختلفت تمامًا، صارت مادة أخرى فإنها تصبح طاهرة.
تجد المسألة في "فتح القدير" في فقه الحنفية "شرح الخرشي" و "المحلى" و "فتاوى شيخ الإسلام" قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وأكثر علماء المسلمين يقولون: إن النجاسة تطهر بالاستحالة، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر، وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد" [اقتضاء الصراط المستقيم: 2/299].
اختارت "اللجنة الدائمة للإفتاء" هذا القول أيضًا بأن النجاسة إذا استحالت تطهر.
ما هي أدلتهم؟ وعلى أي شيء استندوا في هذا؟
أولاً : قالوا: الطهارة والنجاسة وصفان، قالوا: إن الطهارة والنجاسة تتعلق بحقائق الأعيان، فإذا انتفت هذه الحقائق انتفى الحكم معها، فالشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة، وقد انتفت حقيقة هذا الشيء، وتحول إلى حقيقة أخرى، قال في "السيل الجرار": "فقد ذهب ما كان محكومًا بنجاسته ولم يبق الاسم الذي كان محكومًا عليه بالنجاسة" ما في خنزير، ما في خمر، ذهب الاسم الذي كان محكومًا عليه بالنجاسة، "ولا الصفة التي وقع الحكم لأجلها، وصار كأنه شيء آخر، وله حكم آخر"[السيل الجرار، ص: 35].
وقال ابن حزم الظاهري -رحمه الله-: وإذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رمادًا أو ترابًا فكل ذلك طاهر، ويتيمم بذلك التراب" يجوز التيمم بذلك التراب، ميتة تحللت تحللًا كاملًا وصارت ترابًا رجعت إلى الأصل وهو الطهارة؛ لأنه الآن هذا ميتة وإلا تراب؟ تراب، أيش حكم التراب؟ الطهارة، يجوز التيمم به؟ نعم، قال: "برهان ذلك أن الأحكام إنما هي على ما يقع عليه ذلك الاسم" خنزير، ميتة، خمر، عذرة، بول "فإذا سقط ذلك الاسم ما عادت ميتة، ولا عادت العذرة، عذرة، ولا عاد الخمر خمرًا، ولا عاد الخنزير خنزيرًا، فإذا سقط ذلك الاسم فقد سقط ذلك الحكم، وأنه غير الذي حكم الله -تعالى- فيه، قال: "والعذرة غير التراب"، العذرة شيءـ والتراب شيء آخر، فإذا صارت العذرة ترابًا ما عادت عذرة، قال: "والعذرة غير التراب وغير الرماد" يعني أذا أحرقت العذرة وصارت رمادًا، قال: "وكذلك الخمر غير الخل، والإنسان غير الدم الذي منه خلق، والميتة غير التراب" [المحلى بالآثار: 1/136].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن النجاسة إذا صارت ملحًا أو رمادًا فقد تبدلت الحقيقة وتبدل الاسم والصفة، فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير لا تتناول الملح والرماد والتراب لا لفظًا ولا معنى" قال: "والمعنى الذي لأجله كانت تلك الأعيان خبيثة معدوم في هذه الأعيان، فلا وجه للقول بأنها خبيثة نجسة" [مجموع الفتاوى: 20/ 522].
ثانيًا: مما استندوا عليه قالوا : كما أن الأشياء الطاهرة إذا استحالت يحكم بنجاستها، فكذلك الأشياء النجسة إذا استحالت يحكم بطهارتها، فجميع النجاسات نجست بالاستحالة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "كل النجاسات نجست بالاستحالة" في الإنسان مثلًا البول أيش أصله؟ ماء طاهر دخل، ونتيجة مروره في أعضاء الجسم وانتهى في المثانة بولًا، العذرة أصلها طعام طاهر، دخلت في الجسم وتعرضت لعمليات انتهت في المستقيم برازًا، فأصلها طاهر، لكن نتيجة التحولات التي صارت عليها انقلبت نجاسة، وكذلك النجاسة لو صار عليها تحولات بحيث تغيرت تمامًا وصارت عينًا أخرى فإن الحكم يتغير إلى الطهارة، قال: فجميع النجاسات نجست بالاستحالة، فإن الإنسان يأكل الطعام ويشرب الشراب وهي طاهرة ثم تستحيل دمًا وبولًا وغائطًا فتنجس، وكذلك الحيوان يكون طاهرًا فإذا مات صار ميتة احتبست فيه الفضلات وصار حاله بعد الموت خلاف حاله في الحياة فينجس.
المتردية والنطيحة وما أكل ... كل هذا ميتة، قال ابن القيم بكلام مشابه: وعكس هذا أن الطيب إذا استحال خبيثًا صار نجسًا، كالماء والطعام إذا استحال بولًا وعذرة فكيف أثرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثًا ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيبًا؟"، فابن القيم يستنكر على من يقول: أن الاستحالة لا تأثير لها، يقول : أنتم عندكم أن الطاهر ينقلب نجسًا وخبيثًا بالتغير فكيف لا يصح عندكم أن ينقلب النجس طاهرًا بالتغير؟ قال: "والله -تعالى- يخرج الطيب من الخبيث، والخبيث من الطيب، ولا عبرة بالأصل، بل بوصف الشيء في نفسه، ومن الممتنع بقاء حكم الخبث وقد زال اسمه ووصفه، والحكم تابع للاسم والوصف دائر معه وجودًا وعدمًا" [إعلام الموقعين: 1/298].
وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على فائدة لطيفة في هذه المسألة، وهي قال: "لا ينبغي أن يعبر عن ذلك بأن النجاسة طهرت بالاستحالة" يعني لو انقلب الخنزير ملحًا والخمر خلًا، قال : لا نقول إن النجاسة طهرت بالاستحالة، فإن نفس النجس لم يطهر لكن استحال، وهذا الطاهر الشيء الحال الجديد والمادة الجديدة ليس هو ذلك النجس، يعني هذا ليس نجسًا طهر؛ لأن النجاسة لا يمكن تطهيرها، فهذا الجديد شيء آخر يختلف تمامًا عن الشيء الأول، فهو طاهر لا لأن النجاسة تم تطهيرها، وإنما طاهر لأنه مادة جديدة نتجت بعد التحول بعد الاستحالة، بعد التغير صارت مادة جديدة طاهرة، الأصل طاهرة، والأصل في الأشياء الطهارة، قال: "وهذا الطاهر ليس هو ذلك النجس وإن كان مستحيلًا منه والمادة واحدة كما أن الماء ليس هو الزرع والهواء والحب، وتراب المقبرة ليس هو الميت، والإنسان ليس هو المني" قال: "والله -تعالى- يخلق أجسام العالم بعضها من بعض، ويحيل بعضها إلى بعض، وهي تتبدل مع الحقائق ليس هذا هذا" [مجموع الفتاوى: 21/611] يعني هذا شيء مختلف.
ما يستبعد أن بعض التراب الذي نحن نتيمم عليه ونمشي عليه كان يومًا ما أجساد عباد ماتوا دفنوا، أو ما دفنوا، التراب يتقلب، ما يستبعد أن يكون بعض التراب الذي أنت تراه أصله أجساد عباد ماتوا من زمان، هذا ليس بمحال، ولابد من التنبه إلى أنه لا يحكم باستحالة العين إلا بانقلاب عين المادة انقلابًا كاملًا وشاملًا بحيث تتغير طبيعتها وصفتها وخواصها كتحول الدم إلى مسك، هذا تغير تام وشامل، فالفقهاء الذين قالوا بأن الاستحالة تطهر يشترطون أن تكون استحالة كاملة؛ لأنه أنت ممكن تجد ميتة أجزاء منها صارت ترابا وأجزاء منها باقية، باقي آثار، يعني عظام وآثار، ما صار انقلابا كليًا بعد، فهم يشترطون حتى تحكم بطهارة كل الميتة أنها تغيرت تغيرًا كاملًا، وصارت كلها ترابًا.
نحن تطرقنا إلى موضوع الاستحالة؛ لأنه كان يتعلق بالمسألة مسألة الكحول الداخلة في الصناعات بناء على ذلك يقال في كثير من المصنوعات المعاصرة التي دخل في صناعتها شيء من النجاسات ما تحققت فيه الاستحالة ولم يبق منه شيء من أجزاء النجاسة وصفاتها وخواصها، فهذا يجوز استخدامه والانتفاع به؛ لأن الآن ستقول أنت: الجيلاتين بقري مـأخوذ من بقر مضروب بمسدس ميتة، هذا جيلاتين خنزيري داخل في صناعة الحلويات، والأجبان أشياء مأخوذة أنفحة من ميتة هل تمت الاستحالة فنتجت مادة جديدة تمامًا؟ اختفت تمامًا صفات المادة الأصلية، تركيب المادة الأصلية، هنا علم الكيمياء، الكيمياء الحديث، وليس السيمياء أو السحر الكيمياء ممكن يرشدنا كثيرًا في قضية الاستحالة، هنا يمكن أن يدخل الخبراء المسلمون في هذا الباب من أبواب الفقه لكي يقولوا: إن الاستحالة حصلت، ما حصلت، بنسبة كذا، يعرف الجيلاتين صار فيه استحالة وإلا لا، قد لا تعرف، لكن أهل الخبرة يعرفون، وبالتالي يقولون لك إذا في أشياء من ميتة أو من خنزير أو من كذا دخلت في مصنوعات، هذه المصنوعات طاهرة وإلا لا، بناء على مسألة الاستحالة السابق شرحها، فيقال في المصنوعات المعاصرة التي دخل في صناعتها شيء من النجاسات ما تحققت فيه الاستحالة ولم يبق من النجاسة شيء أبدًا لا من أجزائها ولا صفاتها ولا خواصها، يعني صارت الاستحالة كاملة أن النتيجة أو الناتج يجوز استعماله والانتفاع به، وما لم تتحقق الاستحالة الكاملة فيه فإنه باق على نجاسته، وهذا الكلام يدخل في عطورات ومطعومات وصوابين ومراهم ومستحضرات تجميل ومساحيق ومعاجين أسنان وأدوية، وأشياء كثيرة جدًا.
وكذلك الأشياء التي تستخلص من الأعيان النجسة وتستخدم في الأطعمة والأدوية إذا تحولت عينها تحولًا تامًا جاز استعمال المادة الجديدة، فعلى سبيل المثال: يذكر بعض أهل الاختصاص أن الجيلاتين المستخلص من عظام وجلود البقر والخنازير يتحول تحولًا تامًا عن المادة التي يستخلص منها، فيه حالات يصير التحول كاملًا، وتصبح للناتج خصائص كيميائية غير خصائص الأصل، وبهذا يصبح طاهرًا عند هؤلاء، هذا الفريق من أهل العلم، وجاء في قرارات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بعد ما بحثت موضوع المواد المحرمة والنجسة في الغذاء والدواء بمشاركة مجمع الفقه الإسلامي والأزهر ووزارة الصحة في الكويت في عام ألف وأربعمائة وخمسة عشر للهجرة، قالوا: المواد الغذائية التي يدخل شحم الخنزير في تركيبها دون استحالة عينه، ما في تغيير كلي مثل بعض الأجبان وبعض أنواع الزيت والدهن والسمن والزبد، وبعض أنواع البسكويت والشوكولاتة والآيسكريم هي محرمة لا يحل أكلها مطلقًا اعتبارًا لإجماع أهل العلم على نجاسة الخنزير، وعدم حل أكله، ولانتفاء الاضطرار إلى تناول هذه المواد، يعني الفقهاء أجمعوا على النجاسة، ونحن لسنا في حالة اضطرار، والتحول الشامل ما حصل، فهذه الأشياء محرمة الاستعمال.
أما الاستحالة التي تعني انقلاب العين إلى عين أخرى تغايرها في صفاتها، تحول المواد النجسة أو المتنجسة إلى مواد طاهرة، وتحول المواد المحرمة إلى مواد مباحة شرعًا، وبناء على ذلك الجيلاتين المتكون من استحالة عظم الحيوان النجس وجلده وأوتاره طاهر وأكله حلال.
الصابون الذي ينتج من استحالة شحم الخنزير أو الميتة يصير طاهرًا بتلك الاستحالة ويجوز استعماله.
المراهم والكريمات ومواد التجميل التي يدخل في تركيبها شحم الخنزير لا يجوز استعمالها إلا إذا تحققت فيها استحالة الشحم، وانقلاب عينه، أما إذا لم يتحقق ذلك فهي نجسة. [موقع إسلام ست دت كم].
هل تتنجس العين الطاهرة عند ملاقاتها للنجاسة؟
ثالثًا في موضوعنا الأصلي في قضية النجاسة : في قضية التطهير والإزالة -نرجع إلى المسألة الأصلية قلنا في مسائل عدة مسائل أولًا وثانيًا- ثالثًا: العين الطاهرة إذا لاقت عينًا نجسة فهل يحكم بتنجس العين الطاهرة؟
العين الطاهرة إذا لاقت عينًا نجسة فهل يحكم بتنجس العين الطاهرة؟ إذا لامس نجس طاهرًا وطاهر نجسًا هل يحكم بانتقال النجاسة أم لا؟ هل إذا لامس طاهر نجسًا تنتقل النجاسة؟ الآن ملامسة عاد كثير وإلا قليل فيه ملامسة، الآن افرض أنها نقطة، هي النجاسة موجودة، الآن فيه عندنا شيء نجس، قد يكون عذرة بول دم خنزير ميتة، هل إذا لامس الطاهر نجسًا تنتقل النجاسة جاف أو رطب؟
الجواب سيعتمد على قضية الجفاف والرطوبة، يشترط الفقهاء للحكم بتنجيس الشيء الطاهر إذا لامسه شيء من الأعيان النجسة يشترطون لانتقال النجاسة أن يكون أحدهما على الأقل رطبًا.
أما إذا كانت العين النجسة جافة أو يابسة والعين الطاهرة الملاقية أو المماسة لها جافة كذلك، فلا انتقال للنجاسة، فلو كان الثوب جافًا لاقى نجاسة جافة، عظم ميتة يابس، فلا تنتقل النجاسة، ولا تأثير حينئذ، فالنجاسة اليابسة لا تنتقل إلى من لمسها، ولا تنجس بدنه وثيابه إلا مع الرطوبة، فإن كانت النجاسة رطبة أو العين الطاهرة رطبة فإن النجاسة تنتقل حينئذ، قال السيوطي: النجس إذا لاقى شيئًا طاهرًا وهما جافان فلا ينجسه، مثال ذلك مس كلبًا ويده جافة، والكلب جاف لا تنتقل النجاسة، يده رطبة أو الكلب رطب تنتقل.
إزالة النجاسة عن شيء طاهر عند ملاقاة النجاسة
رابعًا: إذا لاقت النجاسة شيئًا طاهرًا فنجسته فكيف يمكن تطهيره؟ وقع بول على سجاد، غائط على سجاد، كيف يمكن تطهيره؟
أولًا: لابد من إزالة عين النجاسة، فتزال العين النجسة، فينشف البول من السجاد أولًا، ما تروح تسكب الماء مباشرة؛ لأن هذا ينشر النجاسة، أولًا: تجفف النجاسة، وإذا كانت عذرة تزيلها، أولًا لابد من إزالة عين النجاسة عن المحل الطاهر، فإن وقع شيء من الغائط على أرض أو بدن أو ثوب فلابد من إزالة جرمه من هذا المكان الطاهر، ويدل على هذا ما جاء عن أسماء قالت: جاءت امرأة النبي ﷺ فقالت: أرأيت إحدانا تحيض في الثوب كيف تصنع؟ يعني في تطهير ما أصاب الثوب من الدم؟ قال: تحته، ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، وتصلي فيه" [رواه البخاري: 227، ومسلم: 291].
ما معنى "تحته"؟
تفركه، تقشره تحكه تنحته تحته، هذا إزالة للعين النجسة.
فإذن، بناء على هذا الحديث يجب إزالة عين النجاسة قبل الغسل؛ لأنك لو صببت الماء عليها قبل إزالة عينها لازدادت النجاسة اتساعًا، ولذلك لابد من الحت أولًا، وكذلك العذرة لابد أن تحتها ثم تغسل المكان، الآن تحتها باليد بالفرشاة، بشيء، بأي أداة، المقصود القشر والحك والنحت، قال النووي: وأما إذا كانت النجاسة عينية كالدم وغيره فلابد من إزالة عينها" [شرح النووي على مسلم: 3/ 200].
ما هي الخطوة الثانية في إزالة النجاسة؟
الغسل، غمر مكان النجاسة بالماء.
هذا الغمر والغسل حتى تذهب صفات النجاسة من لون أو طعم أو ريح، سواء كانت النجاسة على بدن أو ثوب أو مكان، ولا يكفي مسحها فلابد من الغمر بالماء؛ لحديث أبي هريرة: أن أعرابيًا بال في المسجد فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله ﷺ: دعوه وأهرقوا على بوله ذنوبًا من ماء... فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين [رواه البخاري: 6128].
والذنوب الدلو الملآى بالماء، الدلو العظيمة، وإنما أمر بالذنوب؛ لأنه يغمر النجاسة فتشربها الأرض، ويكون سطح الأرض حينئذ طاهرًا بالماء الكثير الذي جاء.
فإذن، الواجب ذهاب عين النجاسة وصفاتها من لون ورائحة وطعم، فإذا زالت بصب الماء عليها أو الجاري عليها كفى ذلك في تطهيرها.
سؤال: أيش رأيك نجرب معك، أصابت سجادة نجاسة بول مثلًا فوضعوها في ساحة الدار لغسلها وقبل أن يخرجوا لغسلها أمطرت السماء مطرًا غمر السجادة، فما حكم السجادة؟ ما أحد وضع يده في الموضوع، ما حكم السجادة؟
طاهرة.
إذن، هل يشترط في التطهير النية؟
ناموا استيقظوا الصباح الدنيا مغمورة بالماء، هل تشترط النية في إزالة النجاسة؟
لا تشترط.
هذا الكلام سبق ذكره، فإذا غسلها بالماء وبقي رائحة، بقي الطعم فلابد من غسلها مرة أخرى، وثالثة حتى يزول؛ لأن الطعم قد يكون في ميتة، قد يكون في خنزير، قد يكون في خمر، قد يكون في أشياء أخرى.
وأما اللون فإن بقي منه شيء بعد الغسل أو الرائحة وحدها يعني اللون فقط أو رائحة فقط، فمذهب جمهور العلماء أنه لا يضر بقاؤهما أو بقاء أحدهما إذ شق إزالتهما؛ لأنه أحيانًا الدم مثلًا أنت تفرك وتفرك وتفرك ويبقى لون أثر بعض النجاسات، يبقى لها أثر مع استعمال الفرك والغسل المتكرر، وقد جاء في حديث أبي هريرة: أن خولة بنت يسار أتت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله إنه ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه فكيف أصنع؟ قال: إذا طهرت فاغسليه ثم صل فيه ، فقالت: فإن لم يخرج الدم؟ قال: يكفيك غسل الدم، ولا يضرك أثره والأثر هو اللون [رواه أبو داود: 365، وأحمد: 8939، ولكن في إسناده ابن لهيعة، مداره على ابن لهيعة، والحديث ضعفه النووي، وابن رجب، وابن الملقن، وابن حجر في "التلخيص"].
لكن يغني عنه ما جاء عن معاذة قالت: سألت عائشة -رضي الله عنها- عن الدم يكون في الثوب، قلت: أرأيت الثوب يصيبه الدم فأغسله فلا يذهب أثره؟ فقالت: الماء طهور [البيهقي في السنن الكبرى: 4114].
وعن معاذة: أن امرأة سألت عائشة -رضي الله عنها- عن دم الحيض يكون في الثوب فيغسل فيبقى أثره، فقالت: ليس بشيء [البيهقي في السنن الكبرى: 4115].
قال القرافي: ولابد من إذهاب عينها وأثرها فإن بقي الطعم فهي باقية، وأما اللون والريح فإن كان زوالهما متيسرًا أزيلا وإلا تركا كما يعفى عن الرائحة في الاستنجاء إذا عسر زوالها من اليد أو المحل.
بقيت بقية في إزالة النجاسة، والوقت انتهى، فلعلنا سنأتي عليها إن شاء الله في الدرس القادم.
هذا والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد.