أحوال جلد الحيوان
جلد الحيوان له أحوال:
أولاً: أن يكون جلد حيوان مأكول اللحم، وقد ذكي ذكاة شرعية.
ثانيًا: أن يكون من جلد حيوان مأكول اللحم، لكنه لم يذك ذكاة شرعية.
ثالثًا: أن يكون مصنوعًا من جلد حيوان غير مأكول اللحم أصلاً.
حيوان مأكول اللحم: يعني جلد الأرنب، جلد الغزال، جلد البقر، جلد الثيران.
حيوان غير مأكول اللحم: جلد الحية، جلد الثعلب، ونحو ذلك.
فلنبدأ بها واحدًا واحدًا مع بيان حكمها.
جلد مأكول اللحم المذكى
أولاً: أن يكون جلد حيوان مأكول اللحم، وقد ذكي ذكاة شرعية، فجلودها طاهرة بإجماع العلماء؛ لأنها صارت طيبة، لأنها يعني الجلود، صارت طيبة طاهرة بالذكاة، يعني الذبح؛ كجلود الإبل والبقر والغنم والظباء والأرانب المذكاة وغيرها، سواء دبغت أم لم تدبغ، خلاص الجلد طاهر، وما صنع منه طاهر.
قال ابن حزم -رحمه الله-: "واتفقوا أن جلد ما يؤكل لحمه إذا ذكي طاهر جائز استعماله وبيعه" [مراتب الإجماع: ص 23].
جلد مأكول اللحم غير مذكى
ثانيًا: أن يكون جلد حيوان مأكول اللحم، ولكنه لم يذك ذكاة شرعية، بل هو ميتة، سواء لأنه لم يذبح، مات حتف أنفه، وجدوا ثورًا ميتًا فأخذوا جلده، وصنعوا منه أشياء، أو قتلوه فلم يذك ذكاة شرعية، بالمسدس قتلوه، بالصعق الكهربائي، قتلوه، وقيذ لم يذك ذكاة شرعية، أو أن الذابح غير مسلم ولا كتابي، ذبحه مجوسي، سيخي، هندوسي، شيوعي، بوذي، فلو ذبحه فإن ذبيحته ميتة لا تؤكل.
فسواء كان هذا الحيوان مأكول اللحم مات بغير التذكية أو ذبح لكن المذكي غير مأذون شرعًا بتذكيته؛ فإن هذا ميتة، فيكون جلده نجسًا، ولا يطهر إلا بالدباغ، فإذا دبغ صار طاهرًا.
والدباغة هي: معالجة بالمنظفات والمطهرات ليزول ما في الجلد من النتن والفساد والرطوبة، وكانوا يستعملون في السابق مواد في الدباغة مثل: القرظ وهو ورق شجر السلم، والعفص، والشب وهو نبت طيب الرائحة، وقشور الرمان، ونحو ذلك.
في العصر الحديث تتم دباغة الجلود في المصانع الكبرى بمواد كيماوية، ونحوها لتنقية الجلد، وتوحيد لون الجلد، وإزالة الأوساخ عن الجلد، عملية تنظيف، وتليين، وتهيئة للصناعة.
والدباغة صنعة معروفة، والدباغ: الذي يقوم بالدباغ.
فحيوان مأكول اللحم لو كان ميتة جلده نجس إلا إذا دبغ فيطهر بالدباغ.
وكثير من المصنوعات الجلدية الموجودة اليوم في الحقائب والأحذية وغيرها مصنوعة من جلد مدبوغ في الحقيقة قد تم تنظيفه.
لكن يبقى عندنا البحث هل الجلد هذا المدبوغ هو جلد حيوان مأكول اللحم، وإلا هو جلد حيوان غير مأكول اللحم؟
نحن نتكلم الآن في القسم الثاني عن حيوان مأكول اللحم، في القسم الأول قلنا: إذا ذكي الجلد طاهر حتى بدون دباغة ولو صنع منه شيء جاز استعماله، لو كان مأكول اللحم، لكن غير مذكى، فالجلد نجس، ولا يجوز استعماله إلا بالدباغة.
طهارة جلود الحيوانات مأكولة اللحم بالدباغة
ويدل على طهارة جلود الحيوانات مأكولة اللحم بالدباغة ما رواه مسلم عن يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير حدثه قال: رأيت على ابن وعلة السبئي فروًا فمسسته، فقال: ما لك تمسه، قد سألت عبد الله بن عباس قلتُ: إنا نكون بالمغرب ومعنا البربر والمجوس نؤتى بالكبش قد ذبحوه ونحن لا نأكل ذبائحهم؟ يعني لأنهم من المشركين والكفار غير أهل الكتاب، ويأتون بالسقاء، هذا إناء الجلد الذي يوضع فيه الماء، ويأتون بالسقاء، ويجعلون فيه الودك، يعني الشحم، فقال ابن عباس: قد سألنا رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: دباغه طهوره [رواه مسلم: 366].
وعن ابن عباس قال: "تُصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله ﷺ فقال: هلا أخذتم إهابها؟ ما معنى إهابها؟ جلدها، هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها [رواه مسلم: 363].
فهذا يدل على أن جلد ميتة الحيوان المأكول اللحم تطهر بالدباغ.
وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفتوى، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وآخر قول مالك، آخر ما استقر عليه قول مالك -رحمه الله- كما قال ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري.
ذهب بعض العلماء إلى أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ مطلقًا، وهذا عند الحنابلة، ومشهور عند المالكية، واستدلوا بحديث عبد الله بن عكيم قال: "أتانا كتاب رسول الله ﷺ قبل وفاته بشهرين أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" [رواه أبو داود: 4128، والترمذي: 1729].
فقالوا: إن هذا الحديث ناسخ، ولا يجوز الاستعمال.
لكن الحديث في صحته نزاع، صححه بعضهم كالإمام أحمد في قولٍ عنه، وابن حزم، والبوصيري، وابن حجر، والألباني من المعاصرين، وضعفه أكثر المحدثين كابن معين، والبيهقي، وابن عبد البر، والخطابي، والبغوي، وابن الجوزي، والنووي، وابن دقيق العيد، وابن الملقن، والصنعاني، والشوكاني، وأحمد شاكر، وقالوا: على تقدير صحته محمول على ما قبل الدباغ، والراوي للحديث عبد الله بن عكيم تابعي مخضرم، يعني ليس بصحابي.
والحديث لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب؛ والإهاب يطلق على الجلد قبل الدبغ، فلذلك يقال لا إشكال حتى لو صححنا الحديث نحمله على جلد الميتة قبل الدبغ، قال: لا تنتفعوا منها بإهاب ولا عصب، والإهاب الجلد قبل الدبغ، ونحمل ذلك الحديث إنما حرم أكلها أنه هلا انتفعتم بجلدها ؟ يحمل على الجلد بعد الدبغ.
فإذًا، يحمل حديث الإباحة على الجلد بعد الدبغ، ويحمل حديث التحريم على الجلد قبل الدبغ؛ وبالتالي لا نحتاج إلى القول بالنسخ، يعني يمكن الجمع بين النصين.
ولا شك أن الجمع بين النصين أولى من ادعاء نسخ أحدهما للآخر؛ لأن عملية التوفيق بين الأحاديث المتعارضة تمر بأطوار، فبعد إثبات صحة الحديثين؛ لأنه قد يكون أحد الحديثين ضعيفًا، وبالتالي ما نحتاج للجمع أصلاً، فبعد إثبات صحة الحديثين ننظر هل يمكن حمل أحدهما على حال والآخر على حال؟ أو يمكن أن يكون أحدهما عامًا والآخر خاصًا؟، أو يمكن أن يكون أحدهما مطلقًا والآخر مقيدًا؟، ننظر فمثل الحالة هذه التي بين أيدينا الآن يمكن أن نحمل أحد الحديثين المتعارضين على الجلد قبل الدبغ، والآخر على الجلد بعد الدبغ.
لكن من جهة الصحة ما رأيكم حديث رواه مسلم: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها ، أو حديث رواه تابعي مخضرم عند أبي داود والترمذي أيهما أصح؟ الأول.
لو فرضنا صحة الحديثين نتوجه هذا التوجه، قال أبو داود قال النضر بن شميل يسمى إهابًا ما لم يدبغ، فإذا دبغ لا يقال له إهاب، إنما يسمى شنًا.
فإذًا، حديث الإباحة واضح فيه الدبغ أنه يطهر، والشاة مأكولة اللحم أصلاً، ميتة نعم، الدباغ يطهر الجلد.
حديث النهي عن الانتفاع من الميتة بإهاب أو عصب.
الإهاب في اللغة يطلق على الجلد قبل الدبغ، فلذلك لا تعارض في الحقيقة.
قال ابن قتيبة -رحمه الله-: "ونحن نقول إنه ليس هاهنا بحمد الله تناقض ولا اختلاف؛ لأن الإهاب في اللغة الجلد الذي لم يدبغ، فإذا دبغ زال عنه هذا الاسم، يريد لا تنتفعوا به وهو إهاب حتى يدبغ" [تأويل مختلف الحديث، ص: 256].
قال الحازمي: "فالمصير إلى حديث ابن عباس أولى لوجوه من الترجيحات، ويحمل حديث ابن عكيم على منع الانتفاع به قبل الدباغ، وحينئذ يسمى إهابًا، وبعد الدباغ يسمى جلدًا، ولا يسمى إهابًا، وهذا معروف عند أهل اللغة" [البدر المنير: 1/ 600].
قال أبو عيسى يعني الترمذي: "وليس العمل على هذا عند أكثر أهل العلم. وسمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر فيه: قبل وفاته بشهرين، وكان يقول: كان هذا آخر أمر النبي ﷺ، ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده" [سنن الترمذي: 4/ 222] يعني حديث عبد الله بن عكيم.
إذًا، كان يقول بصحته ثم صار يقول بتركه، وعلى فرض صحته عرفنا كيف الجمع.
وقد وصف ابن عبد البر في "التمهيد" هذا القول -وهو القول بتحريم جلد ميتة مأكول اللحم، حتى مع الدباغة، حتى لو كان هو المذهب- بالشذوذ لمخالفته النصوص الصحيحة في تطهير الدباغ لجلد الميتة.