ثالثًا: من أنواع الحيوانات التي تخالط الناس ويشق تحرزهم عنها فهي طاهرة ولو كانت غير مأكولة اللحم، ولو كانت من السباع، ومن ذلك: الهرّة، والحمار، والبغل، والفأر، ونحوها من سواكن البيوت.
ما حكم سؤر هذه الحيوانات؟
يعني لو أن هرة لعقت من إناء، حمار لعق من إناء، بغل فأر ونحوها من سواكن البيوت التي يشق التحرز عنها، ولو كانت غير مأكولة اللحم، فقالوا: إنها طاهرة.
الدليل: حديث كبشة بنت كعب بن مالك وكانت عند ابن أبي قتادة أن أبا قتادة دخل عليها قالت فسكبت له وضوءًا، فجاءت هرة تشرب تبحث عن ماء فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة -رضي الله عنها-: فرآني أنظر إليه، فقال أتعجبين يا بنت أخي؟ فقلت: نعم، فقال: إن رسول الله ﷺ قال: إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه البخاري والترمذي والعقيلي والدار قطني.
ومعنى الطوافين علينا: "الذين يداخلوننا ويخالطوننا" [التمهيد: 1/319].
والطوافون: بنو آدم يدخل بعضهم على بعض بالتكرار، والطوافات: هي المواشي التي يكثر وجودها عند الناس؛ مثل: الغنم والبقر والإبل، فجعل النبي ﷺ الهرة من هذين القبيلين لكثرة طوافه واختلاطه بالناس.
وأشار إلى الكثرة بصيغة التفعيل يعني ما قال: الطائفين والطائفات، قال: "الطوافين والطوافات" وهذا يدل على كثرة دخول الهرة وخروج الهرة مثلاً؛ فيصعب ويشق التحرز من أثرها أو سؤرها، ولذلك وبما أن الشرع قد جاء بالتخفيف ورفع الحرج، فلذلك يقال في مثل هذه الحيوانات التي تعيش بيننا أن أنها طاهرة، أو أن سؤرها طاهر.
وفي "عون المعبود" أشار إلى أن علة الحكم بعدم نجاسة الهرة هي الضرورة الناشئة من كثرة دورانها في البيوت ودخولها فيه بحيث يصعب صون الأواني عنها، والمعنى أنها تطوف عليكم في منازلكم ومساكنكم فتمسحونها بأبدانكم وثيابكم، يعني: تحتك فيها وأنت ماشي وهي تحتك فيك، ولو كانت نجسة لأمرهم بمجانبتها.
والذي جاءت به الشريعة من ذلك في غاية الحكمة والمصلحة في الحقيقة، فإن هذه لو صار حكمها في الشرع النجاسة لكان في ذلك حرج ومشقة عظيمة على الأمة؛ لكثرة طوفانها على الناس ليلاً ونهارًا وعلى فرشهم وأطعمتهم وآنيتهم وثيابهم. كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين. [إعلام الموقعين: 2/117].
"والقول بطهارة الهر هو قول فقهاء الأمصار من أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل الشام وسائر أهل الحجاز والعراق وأصحاب الحديث" [الأوسط لابن المنذر: 1/301].
فإذا شربت قطة من إناء أو أكلت من طعام فإنه لا ينجس، ولا بأس أن يأكل بعدها، ويقاس على الهرة غيرها ممن هو في مثل حالها من سواكن البيوت، قالوا: كابن عرس، والفئران؛ بجامع علة الطواف.
وهذه إذا كانت حية، نحن ما نتكلم على الفأر الذي سقط ومات في زيت أو سمن هذه تقدم الكلام عنها على الميتات، نتكلم عن حكم الأحياء.
وذكرنا لكم هذه طرفة المتن الذي فيه: ولو دخلت فأرة في ماء فخرجت حية فهو طاهر، وشرحه الشيخ قال: "دخلت فأرة في ماء فخرجت حية" يعني ثعبانًا فهو طاهر، قالوا: يا شيخ كيف هذا؟ قال: الله على كل شيء قدير، يعني بعض الذين فيهم غفلة وفيهم جهل يتصدون لأشياء ما لهم فيها خبرة، يأتون بالعجائب، هكذا من دخل في غير فنّه أتى بالعجائب.
ملاحظة هنا: أن الحنابلة أخذوا من هذا الحديث أن كل ما دون الهرة في الخلقة فهو مثلها في الحكم بالطهارة، سواء كان من الطوافين أو لم يكن من الطوافين، حتى ولو كان لا يوجد في البيوت أبدًا؛ لكن هذا القياس فيه ضعف للفارق؛ لأن العلة إنهن من الطوافين عليكم والطوافات، فلكثرة التطواف والمخالطة والملابسة صار هذا الحكم.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "وإذا كانت العلة في الهرة هي التطواف وجب تعليق الحكم به" الآن ما هي قضية الحجم قضية التطواف، قال: "لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعلل بكونها صغيرة الجسم، ولو علل بذلك لقلنا به، وجعلناه مناط الحكم" فكون العلة صغر الجسم غير صحيح، يقول الشيخ:" لأنه إثبات علة لم يعلل بها الشارع وإلغاء لعلة علل بها الشارع، فالعلة هي التطواف وهي علة معلومة المناسبة وهي مشقة التحرز؛ فيجب أن يعلق الحكم بها" [الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين: 1/459].
يقول الشيخ في موضع آخر أيضًا: "فكل ما شق التحرز منه فهو طاهر" يعني: في هذا الباب الحيوانات، "فعلى هذا البغل والحمار طاهران، وهذا هو القول الراجح الذي اختاره كثير من العلماء" [الشرح الممتع: 1/444].
فالصحيح من أقوال أهل العلم إلحاق الحمار والبغل بالهرة في طهارة سؤرهما وعرقهما، وهو مذهب المالكية والشافعية للعلة المذكورة وهي التطواف، ولحاجة الناس إليهما في الركوب والحمل، ولا سيما قبل وجود السيارات.
قال ابن قدامة: "والصحيح عندي طهارة البغل والحمار؛ لأن النبي ﷺ كان يركبها، وتركب في زمنه وفي عصر الصحابة، فلو كان نجسًا لبين النبي ﷺ ذلك، ولأنهما لا يمكن التحرز منهما لمقتنيهما؛ فأشبها السنور" [المغني: 1/37].
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: "والصحيح الذي لا ريب فيه أن البغل والحمار طاهران في الحياة كالهر، فيكون ريقهما وعرقهما طاهر، وذلك أن النبيﷺ كان يركبهما كثيرًا" كان له حمار، كان له بغلة اسمها الدلدل، والحمار عفير، وعند ابن عمر أيضًا يتروح عليه، قال الشيخ السعدي: "وذلك أن النبي ﷺ كان يركبهما كثيرًا ويركبان في زمنه، وقد قال النبيﷺ في الهرة إنها من الطوافين عليكم فعلل بكثرة طوفانها ومشقة التحرز منها، ومن المعلوم أن المشقة في الحمار والبغل أشد من ذلك" [المختارات الجلية].
فإذن، توضأ وركب حمارًا ليذهب للمسجد الحمار عرق فأصاب رجل الراكب عرق من هذا هل يجب غسله إذا أراد أن يدخل في الصلاة؟ لا يجب.