الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد سبق الكلام عن سجود التلاوة وأنها سجدة واحدة باتفاق الفقهاء وأن صفة هذا السجود كسجود الصلاة وأقوال العلماء في اشتراط ما يشترط للصلاة من طهارة وستر عورة واستقبال القبلة في سجود التلاوة، وأن مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف اشتراط ذلك، وأن من أهل العلم من لم يشترط شيئًا من ذلك كما ذهب إليه البخاري - رحمه الله - واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وتلميذه ابن القيم ومن المعاصرين علماء اللجنة الدائمة للإفتاء الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، والمسألة كما تقدم ليس فيها نص صريح لكن قول الجمهور أحوط ولهذا قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "هي بشروط الصلاة أفضل سجدة التلاوة ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا بعذر" [مجموع الفتاوى: 23/165]. ولا شك أنه أبلغ في تعظيم الله .
تكلمنا عن كيفية سجود التلاوة، وأنه إن كان الساجد في صلاة فإذا قرأ آية السجدة وفرغ منها فإنه يكبر ويسجد سجدة واحدة ثم يرفع رأسه من السجود مكبرًا، والأصح أنه لا يرفع يديه عند التكبير للسجود ولا عند الرفع منه ولا يجلس جلسة الاستراحة، وأما إن كان الساجد في خارج الصلاة فإنه يكبر ثم يسجد سجدة واحدة ويرفع رأسه بلا تكبير، وبذلك لا يكون في سجدة التلاوة تشهد ولا تسليم، ويقول في سجوده للتلاوة ما يقول في سجود الصلاة، وقد ورد في السنة أدعية أخرى تقال في سجود التلاوة، ولكن الواجب في ذلك قول : سبحان ربي الأعلى، وما زاد عن ذلك من الذكر فهو مستحب، وكذلك الدعاء ويسجد من حيث كانت حاله، فإن كان قائمًا سجد عن قيام وإن كان قاعدًا سجد عن قعود، واختار شيخ الإسلام أن الأفضل السجود من قيام دائمًا وعرفنا أنه يسجد للتلاوة حتى في أوقات النهي وإن قرأ آية السجدة في الطائرة أو السيارة فإنه يسجد إلى جهة سيره ويومئ بالسجود، ومن أخر سجود التلاوة عن قراءة الآية ولم يطل التأخير سجد، وإن طال الفصل فلا تقضى لفوات سببها، وليس لسجود التلاوة بديل ثبت من ذكر يقال بدل السجود، ووردت بعض الأحاديث الضعيفة، ولا حرج في المرور أمام من يسجد للتلاوة؛ لأنه ليس بصلاة فلا يأخذ أحكامها، وتوقفنا عند الكلام عن سجود الشكر.
سجود الشكر وقته وسببه
قال المصنّف - رحمه الله - الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتابه قال: "وكذلك إذا تجددت له نعمة أو اندفعت عنه نقمة سجد شكرًا لله".
وسجود الشكر هو سجدة واحدة أيضًا يسجدها المصلي شكرًا لله تعالى على ما أنعم عليه، وسبب سجدة الشكر أحد أمرين :
الأول: تجدد نعمة، والثاني: اندفاع نقمة، أما تجدد النعمة يعني حصول نعمة جديدة، فهذا يعني أن النعم المستمرة أصلًا لا يشرع لها سجود شكر، فمن قال : أنا سأسجد سجود شكر على نعمة التنفس فيقال : هذه أصلًا نعمة موجودة لا يشرع السجود فيها، أما شكر الله عليها هذا مطلوب دائمًا، لكن سجدة الشكر تحديدًا لنعمة متجددة فأما سلامة السمع وسلامة البصر وسلامة النطق وسلامة الجسم ونحو ذلك فلم يرد في السنة السجود لمثلها ونحن نتبع ولا نبتدع.
قال النووي - رحمه الله -: "لا يشرع السجود لاستمرار النعم؛ لأنها لا تنقطع"، [المجموع شرح المهذب: 4/68]، فالاستحباب يكون فقط عند تجدد النعم كمن أتاه ولد بشر به فسجد شكرًا أو سمع انتصارًا للمسلمين في أي مكان فسجد شكرًا، فقد تكون النعمة خاصة به وقد تكون النعمة لجميع المسلمين، أما بالنسبة لاندفاع النقم وهو السبب الثاني فإذا سلم من شيء وجد سببه كرجل حصل له حادث سيارة وهو يسير وانقلبت به ولكنه خرج سالماً فسجد شكرًا لله تعالى؛ لأن هذه النقمة وجد سببها وهو الانقلاب لكنه سلم، وكذلك من غرق في البحر فنجاه الله فإذا أخرج سجد شكرًا، من نجا من حريق يسجد شكرًا، من سقط في بئر فخرج سالماً فاندفعت نقمة يسجد لله شكرًا، وهكذا لو خرج من سجن فاندفاع النقمة التي وجد سببها هذا من دواعي سجدة الشكر، وسجود الشكر عند تجدد النعم أو اندفاع النقم مستحب لما رواه أبو داود عن أبي بكرة عن النبي ﷺ أنه: "كان إذا جاءه أمر سرور أو بشّر به خر ساجدًا شكرًا لله" [رواه أبو داود: 2774، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 2774]، وهذا الحديث حسّنه بعض المحدّثين وضعّفه بعضهم، وفي حديث عبد الرحمن بن عوف أن النبي ﷺ قال له: إن جبريل عليه السلام أتاني فبشّرني فقال إن الله يقول من صلّى عليك صلّيت عليه ومن سلّم عليك سلمت عليه فسجدت لله - عز وجل - شكرًا رواه أحمد وحسنه الألباني. [رواه أحمد: 1662، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1662].
وعن البراء بن عازب لما أرسل رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب إلى همدان قال البراء: فأسلمت همدان جميعًا فكتب علي إلى رسول الله ﷺ بإسلامهم فلما قرأ الكتاب خر ساجدًا رواه البيهقي وقال: إسناده صحيح [رواه البيهقي في الكبرى: 3932]، وصححه ابن القيم كما في زاد المعاد. [زاد المعاد :3/545]. والنبي ﷺ أرشد عليًا إلى أنه: لئن يهدي الله به رجلًا واحدًا خير له من حمر النعم [رواه البخاري: 2942، ومسلم: 2406].
وقد جاء عن الصحابة أيضًا سجود الشكر ففي قصة توبة كعب بن مالك: "فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل ارتفع على الجبل - جبل سلع - وهو من جبال المدينة بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر فخررتُ ساجدًا وعرفتُ أن قد جاء فرج " [رواه البخاري: 4418، ومسلم: 2769] وسجد علي لما وجد ذا الثدي بين القتلى في معركته مع الخوارج ؛ لأن النبي ﷺ كان قد أخبره عن آيتهم وأنه سيقاتلهم، علي سيقاتل الخوارج، شر قتلى تحت أديم السماء، وخير الناس من قاتلهم أو قتلوه، فقاتلهم علي فلما انتهت المعركة أمر أن يبحث عنه وأخبرهم بالوصف الذي وصفه النبي ﷺ فبحثوا فلم يجدوه، فرجعوا إلى علي قال: ما كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ، لابد أن يوجد فبحثوا فوجدوه تحت كومة من جثث القتلى فاستخرجوه، رجل مقطوع اليد، في نهاية العضد مثل ثدي المرأة، فذو الثُّديَّةِ هذا كان علامة على أن هؤلاء هم الخوارج، وهم الذين أخبر النبي ﷺ عليًا بأنه سيقاتلهم، ولا يُقتل من المسلمين عشرة، ولا يبقى منهم عشرة، وفعلًا ما بقي منهم إلا تسعة وتفرقوا ولم يقتل من جيش علي ما بلغوا عشرة من المسلمين، فلما عرف علي بوجود ذي الثُّديَّةِ بين القتلى خر ساجدًا شكرًا لله تعالى. [رواه مسلم: 1066].
شروط وكيفية سجود الشكر
قال ابن القيم - رحمه الله - عن الآثار التي جاءت عن الصحابة وهي آثار صحيحة لا مطعن فيها" يعني: في سجود الشكر. [زاد المعاد: 3/ 511]. ثم قال المصنّف - رحمه الله تعالى -: وحكم سجود الشكر كسجود التلاوة
فإذن، من ناحية الكيفية والشروط هو كسجود التلاوة، قال ابن قدامة - رحمه الله -: "صفة سجود الشكر في أفعاله وأحكامه وشروطه كصفة سجود التلاوة"، [المغني لابن قدامة: 1/449]، وقد سبق أنه يقول في سجود التلاوة ما يقول في سجود الصلاة لكن لو كان شخص في الصلاة فبشر بنعمة أو باندفاع نقمة فهل يسجد شكرًا في الصلاة؟ الجواب: لا يفعل ذلك؛ لأن سبب السجدة ليس من الصلاة، فإن فعل عمدًا بطلت صلاته إلا أن يكون ناسيًا أو جاهلًا بتحريم هذا، [المغني والمجموع] فلو أن رجلًا وهو يصلي بشر بولد، أخبر بانتصار للمسلمين، أخبر بخروج ابنه من السجن وهو يصلي فسجد شكرًا، ثم سأل بعد الصلاة ما حكم ما فعلت؟ فنقول له : إن كنت تعلم أن سجود الشكر في الصلاة يبطلها فصلاتك باطلة لأنك زدت فيها متعمدًا ما ليس منها، وإن كنت لا تدري أن سجود الشكر في الصلاة يبطلها فصلاتك صحيحة لقوله تعالى : رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] ، فإن كان عالماً ذاكرًا بطلت صلاته وإن كان ناسيًا أو جاهلًا لم تبطل؛ لأن بعض الناس قد يغلب عليه الفرح وينسى أحكام الصلاة فقد يخر ساجدًا، وقد يكون جاهلًا فيظن أن السجود مثل سجود التلاوة إذا حضر سببه يسجد.
ننتقل بعد ذلك إلى باب مهم من أبواب الصلاة وهو مفسدات الصلاة ومكروهاتها.
مفسدات الصلاة ما يبطلها، ولا فرق بين الفاسد والباطل عند جمهور العلماء.
مبطلات الصلاة
قال المصنّف - رحمه الله - تعالى: تبطل الصلاة بترك ركن وقد سبق معنا أن أركان الصلاة اثنا عشر وهي القيام في الفرض، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والاعتدال قائمًا، والسجود، والجلسة بين السجدتين، والتشهد الأخير، والجلوس له، والتسليم، والطمأنينة، وترتيب الأركان، فمن صلى ولم يأت بواحد من هذه الأركان فصلاته باطلة، وهذا باتفاق الفقهاء، قال المصنف - رحمه الله – تعالى : تبطل الصلاة بترك ركن أو شرط، عرفنا الأركان فما هي الشروط؟ النية، والطهارة من الحدث، والطهارة من النجس، ودخول الوقت، وستر العورة، واستقبال القبلة، ممكن واحد يكون طاهراً من الحدث غير طاهر من النجس، واحد رفع الحدث لكن ما أزال النجاسة، توضأ وعلى فخذه نجاسة، وإذا كان من شروط الصلاة إزالة النجاسة من الثوب، واحد توضأ وعلى ثوبه نجاسة وإذا كان من شروط الصلاة إزالة النجاسة من البقعة، فمن توضأ وصلى على بقعة نجسة ما حقق شروط الصلاة، شروط الصلاة كما عرفنا سابقًا النية، والطهارة من الحدث، والطهارة من النجس، ودخول الوقت، وستر العورة، واستقبال القبلة، فمن صلّى من غير أن يأتي بشرط من شروط الصلاة فصلاته باطلة، قال المصنف - رحمه الله -: تبطل الصلاة بترك ركن أو شرط وهو يقدر عليه عمدًا أو سهوًا أو جهلًا، إذن البطلان الأن حاصل حاصل سواء كان الشرط أو الركن المتروك متروكًا عمدًا أو سهوًا أو جهلًا؛ لأن هذه قواعد، أركان، شروط، ما يتسامح فيها بالنسيان وبالجهل، وهذه لابد من أدائها فمن صلّى مثلًا وترك الركوع أو السجود سواء كان ناسيًا جاهلًا عامدًا الصلاة باطلة، وكذلك لو صلى بغير طهارة فصلاته لا تصح حتى لو كان ناسيًا لكن ما هو الفرق بين المتعمد والجاهل والناسي؟ الفرق هو الإثم، يعني صحيح الصلاة تبطل في الحالتين لكن فرق بين طالب والعياذ بالله بلغ من استهانته بالصلاة أنه لما أمر في المدرسة بالصلاة ذهب إلى مصلى المدرسة وصلى معهم بغير وضوء متعمدًا، وبين من ظن نفسه على طهارة فصلى ثم تذكر أنه أحدث ولم يتوضأ، صحيح صلاة هذا باطلة، وصلاة هذا باطلة، لكن الذي ترك الشرط أو الركن متعمدًا آثم عليه التوبة بالإضافة إلى إعادة الصلاة.
هنا عرفنا قضية الفرق في الإثم، ويدل على أن الأركان لا تسقط عن الناسي والجاهل ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ دخل المسجد فدخل رجل فصلى ثم جاء فسلم على النبي ﷺ فردّ النبي ﷺ عليه السلام فقال: ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ فصلى ثم جاء فسلم على النبي ﷺ فقال : ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ ثلاثًا، فقال : والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره فعلّمني، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا هذه أي سجدة؟ الثانية، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها [رواه البخاري: 757، ومسلم: 397] ، فقوله: ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ يدل على أنه لا يكون مصليًا بدونها بدون الطمأنينة وأنها لا تسقط بالسهو فإنها لو سقطت بالسهو لسقطت عن الأعرابي لكونه جاهلًا بها والجاهل كالناسي" [المغني لابن قدامة: 2/3].
قال الحافظ - رحمه الله -: "وفي هذا الحديث من الفوائد - يعني حديث المسيء صلاته - وجوب الإعادة على من أخل بشيء من واجبات الصلاة" [فتح الباري لابن حجر: 2/280].
والراجح أن مثل هذا يعيد ما دام في الوقت، وأما الأشياء التي مضت فإعادتها عن هذه المدة الطويلة الماضية فيه حرج وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] ، ولكن لو كانت الإعادة ممكنة كرجل مثلًا كان يمسح على الجوربين من غير ما يلبسهما على طهارة، ويمسح جاهلًا ويقول : أنا بقيت على ذلك مدة فنقول إن كنت تستطيع قضاءها فاقضها قدرها تقديرًا فاقضها، لكن واحد يصلي من غير طمأنينة سنة، سنوات، هذا كل صلواته هكذا، كل الصلوات، وهو لم يأمره إلا بإعادة تلك الصلاة ؛ لأن الوقت لا زال قائمًا، على أية حال من ترك ركنًا من أركان الصلاة فإن تركه عمدًا بطلت صلاته في الحال، وإن تركه سهوًا ثم ذكره في الصلاة أتى به وسجد للسهو، وإن لم يذكره حتى فرغ من الصلاة فإن طال الفصل أعاد الصلاة ؛ لأنه لا يمكن إكمالها مع طول الفصل، واحد نسي سجدة من الركعة الثانية وراح وذهب، وتفرقوا، وراح المسجد، وراح البيت، وخرج من المسجد، ذهب البيت، وتذكر بعد ساعة أو جاء إلى صلاة العصر فقال له المأمومون : أنت اليوم يا أيها الإمام نقصت سجدة في الركعة الثانية لما صليت فينا الظهر فهذه لابد من إعادتها طال الفصل، وإن لم يطل الفصل بنى عليها يعني بنى على ما تقدم وأتى بالمفقود والمنسي وأكمل، وسجد للسهو، ويرجع في طول الفصل وقصره إلى العرف والعادة، [المغني] كذلك من ترك شرطًا من شروط الصلاة فصلاته باطلة سواء تركه عمدًا أو نسيانًا أو جهلًا، فمن صلى بغير وضوء ناسيًا، أو صلى قبل دخول الوقت يظن أن الوقت قد دخل، أو صلى لغير القبلة، هنا فيه تفصيل في قضية القبلة مر علينا سابقًا، ويستثنى من قضية ترك شرط من شروط الصلاة إزالة النجاسة إذا نسي ذلك أو جهل وجودها لأجل الدليل الذي دل عليه، ولولا وجود الدليل لقلنا : عليك الإعادة، لكن لما وجد الدليل على أن نسيان النجاسة والصلاة بها لا يبطل الصلاة قلنا بذلك، وهو حديث صلاة النبي ﷺ بنعاله وفيها نجاسة فأخبره جبريل في الصلاة فخلعهما وأكمل صلاته، ولو كان نسيان النجاسة أو الجهل بها مبطلًا في كل حال لأعاد النبي ﷺ صلاته من أولها ولكن لما أكمل الصلاة علمنا بأن من نسي نجاسة أو جهلها فصلاته صحيحة إذا ما اكتشف ذلك إلا بعد الصلاة وإذا اكتشف أثناء الصلاة أزالها وأكمل الصلاة وإذا كان لا يمكن إزالتها قطع الصلاة وذهب ففسخ ثيابه التي ربما لا يستطيع أن يفسخها إلا بانكشاف العورة ذهب وأزال النجاسة وصلّى.
قال العلماء : إزالة النجاسة من باب المنهيات، والقاعدة أن المأمورات لا تسقط بالجهل ولا النسيان، بل لابد من تداركها، وأما المنهيات فتسقط بالجهل والنسيان كما ذهب إلى ذلك أهل العلم الذين قالوا بهذا، فلاحظوا أن إزالة النجاسة من باب المنهيات، والطهارة وستر العورة واستقبال القبلة من باب المأمورات، فقالوا : المأمورات لا تصح الصلاة إذا تركها جهلًا، عمدًا، نسيانًا، وأما المنهيات إذا نسي إزالة النجاسة فتصح صلاته، أو إذا جهل وجود النجاسة ولم يعرف إلا بعد الصلاة أو أثناءها فأزالها، وأشار إلى الفرق بين قضية المأمورات والمنهيات السيوطي في الأشباه والنظائر، قال الشيخ ابن عثيمين : أما الواجبات فالجهل فيها أو النسيان يسقطان الإثم ولا يسقطان ما يجب في ترك هذا الواجب، ولهذا لم يسقط النبي ﷺ الطمأنينة في الصلاة عن الرجل الجاهل بها، وأما المنهيات فالجهل فيها أو النسيان فيها يسقط الإثم، ويسقط الحكم المترتب على فعل هذا المحظور، وذلك لأن المترتب على هذا المحظور لا يرفع الحظر بعد وقوعه، مثلًا رجل صلى بغير وضوء ناسيًا فصلاته غير صحيحة ويجب عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة، ورجل آخر تكلم في الصلاة ناسيًا فصلاته صحيحة وليس عليه إعادة الصلاة، ؛ لأن الكلام في الصلاة من باب المنهيات، وقول المصنّف - رحمه الله - بترك ركن أو شرط وهو يقدر عليه، يفيد أن من ترك ركنًا أو شرطًا لكونه لا يقدر عليه لا تبطل صلاته، كمن صلى جالسًا لعدم القدرة على القيام، أو ترك قراءة الفاتحة لكونه عاجزًا عن النطق ؛ لأنه أخرس مثلًا، أو ترك السجود لعدم قدرته على الانحناء، أو صلى بغير وضوء ولا تيمم لفقد الطهورين لم يجد ماء ولا ترابًا، أو صلى عريانًا ؛ لأنه لم يجد ما يستر به عورته، [المغني] وهكذا فكل ما تركه لعذر لا تبطل به الصلاة، وأما ما تركه لغير عذر فتبطل به الصلاة سواء كان عامدًا أو ناسيًا أو جاهلًا، قال : وبترك واجب عمدًا، يعني تبطل الصلاة بترك الواجب عمدًا، وواجبات الصلاة كما تقدم عند بعض العلماء : تكبيرات الانتقال، قول : سمع الله لمن حمده للإمام والمنفرد، قول : ربنا ولك الحمد، قول : سبحان ربي العظيم في الركوع مرة، قول : سبحان ربي الأعلى في السجود مرة، قول : رب اغفر لي بين السجدتين، التشهد الأول، الجلوس للتشهد الأول، ويضاف إليها الصلاة على النبي ﷺ على الراجح في التشهد الأخير كما تقدم، فمن ترك شيئًا من هذه الواجبات عمدًا تبطل صلاته، وأما إن تركها نسيانًا كأن نسي أن يقول الذكر بين السجدتين أو نسي التسبيح في الركوع فإن صلاته لا تبطل، ويسجد للسهو في آخر الصلاة، فإن كان مأمومًا سقط عنه سجود السهو إذا حصل السهو أثناء صلاته خلف الإمام في ترك الواجب.
الكلام وضابطه في بطلان الصلاة
قال المصنّف - رحمه الله -: "وبالكلام عمدًا" أي ومما يبطل الصلاة الكلام عمدًا، والكلام في الصلاة له أحوال :
الأول : أن يتكلم عامدًا بكلام ليس لإصلاح الصلاة عالماً بتحريم الكلام في الصلاة ذاكرًا لذلك، ففي هذه الحالة تبطل صلاته بإجماع العلماء، قال ابن المنذر - رحمه الله -: "أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدًا وهو لا يريد صلاح صلاته أن صلاته فاسدة" [المغني] صلاح الصلاة يعني إصلاح شيء فيها اضطرارًا، احتاج إلى ذلك لصلاح صلاته، قال ابن المنذر - رحمه الله -: أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدًا وهو لا يريد صلاح صلاته أن صلاته فاسدة، وقال الحافظ - رحمه الله - في الفتح: "أجمعوا على أن الكلام في الصلاة من عالم بالتحريم عامدًا لغير مصلحتها أو إنقاذ مسلم مبطل لها"، إذن، لغير مصلحة الصلاة أو لإنقاذ مسلم فمن تكلم لغير مصلحة الصلاة أو تكلم في غير إنقاذ مسلم فإن صلاته تبطل، ويدل على تحريم الكلام في الصلاة ما رواه البخاري ومسلم واللفظ له: عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت : وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وما رواه البخاري معلقًا، قال ابن مسعود عن النبي ﷺ: إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة [رواه أبو داود: 924، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1892].
ثانيًا: الحال الثاني أن يتكلم جاهلًا بحكم تحريم الكلام في الصلاة فمن كان جاهلًا بتحريم الكلام في الصلاة لقرب عهده بالإسلام أو لكونه نشأ في بادية بعيدة عن العلم فلا تبطل صلاته عند جمهور العلماء" {فتح الباري].
ويدل على أنها لا تبطل بكلام الجاهل ما رواه مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله ﷺ إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم"
إذن معاوية بن الحكم كان في البادية وما عرف أنه قد نزل النهي عن الكلام في الصلاة فما بلغه تحريم الكلام في الصلاة ؛ لأنه كان في البادية فجاء وهو لا يعلم بالحكم، ودخل المسجد النبوي، وصلّى مع النبي ﷺ وعطس العاطس فشمته وقال له : يرحمك الله، قال : فرماني القوم بأبصارهم منكرين عليه؛ لأنهم يعلمون الحكم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ يعني: زاد الطين بلة، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يعني: ليسكتوه، ويحمل هذا على أنه كان قبل أن يشرع التسبيح في الصلاة لمن نابه شيء فيها؛ لأنهم لو كانوا قد علموا هذا الحكم لقالوا : سبحان الله سبحان الله، بدلًا من أن يضربوا على أفخاذهم، قال : فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، يعني هممت أن أرد زيادة لكن آثرت السكوت وتمالكت نفسي، قال: فلما صلى رسول الله ﷺ فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن [رواه مسلم: 537]، أو كما قال رسول الله ﷺ الحديث. قال النووي: "وأما كلام الجاهل إذا كان قريب عهد بالإسلام فلا تبطل الصلاة بقليله لحديث معاوية بن الحكم هذا الذي نحن فيه؛ لأن النبي ﷺ لم يأمره بإعادة الصلاة لكن علّمه تحريم الكلام فيما يستقبل" [شرح النووي على مسلم: 5/21]. هذا إذن النوع الثاني من الكلام في الصلاة؛ لأن الكلام في الصلاة أنواع؛ وكان النوع الأول: عمدًا لغير مصلحة الصلاة ولا لإنقاذ مسلم عالماً بالتحريم، والثاني: جاهلًا بالحكم.
الثالث : أن يتكلم ناسيًا أنه في صلاة، يعني في بعض الناس تركبه الهموم فيأتيه أثناء الصلاة موضوع يطغى عليه وممكن يحدث به نفسه، ويغيب عن الصلاة، وفجأة يتفوه بشيء، وهذا شخص نسي أنه في صلاة فلا تبطل صلاته عند جمهور العلماء كما في المغني والمجموع، قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - إذا تكلم المسلم في الصلاة ناسيًا أو جاهلًا لم تبطل صلاته بذلك فرضًا كانت أم نفلًا لقول الله - سبحانه: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286]، وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أن الله - سبحانه - قال: قد فعلتُ [رواه مسلم: 126].
إذن، النووي وغيره من العلماء ذهبوا إلى أن ذا اليدين لما تكلم كان جاهلًا بالحكم، والساهي كالجاهل.
والرابع : أن يتكلم بما هو من مصلحة الصلاة، كما لو جهر الإمام في صلاة العصر، فقال له أحد المأمومين : هذه صلاة العصر، وكأن يقوم الإمام إلى خامسة فيقول له أحد المأمومين : هذه خامسة، فمذهب جمهور العلماء أن صلاته تبطل لعموم الأحاديث الصحيحة في النهي عن الكلام في الصلاة ولأن من نابه شيء في الصلاة فقد شرع له التسبيح لقوله ﷺ: من نابه شيء في صلاته فليسبّح [رواه مسلم: 421].
ولو كان الكلام مباحًا لمصلحتها لكان أسهل وأبين أن يقول نقصت ركعة، زودت ركعة، زودت سجوداً، نسيت الركوع مثلًا، فلما قيل لهم : سبحوا فقط، إذا نابكم شيء في الصلاة، ذهب من ذهب من العلماء إلى أن الكلام في الصلاة عمدًا يبطلها ولو لمصلحة الصلاة، وقال الأوزاعي - رحمه الله -: "لا تبطل إذا تكلم لمصلحة الصلاة" لا تبطل وهذا القول رواية عن مالك وأحمد، واستدلوا لذلك بأن النبي ﷺ وأصحابه تكلموا ثم بنوا على صلاتهم عندما قال له ذو اليدين : بل قد نسيت، قال: أكما يقول ذو اليدين ؟ [الحاوي الكبير: 2/182].
وهذا كلام يخاطب به الآدميون، لكنه كلام لمصلحة الصلاة، فلما كان لمصلحة الصلاة لم يبطلها ولو كان عمدًا، وذهب إلى هذا أيضًا من المعاصرين الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - فيمن لم يجد طريقة لتنبيه الإمام إلا الكلام، أو الإمام لم يجد طريقة لتنبيه المأمومين إلا الكلام، ووقع له - رحمه الله - مرة نسي الفاتحة في إحدى الركعات، ركعة سرية، تذكر بعد انقضاء الركعة فماذا يجب عليه؟ أن يقوم ويأتي ببدل منها، فلما قام سبحوا؛ لأنهم ظنوا الشيخ قام إلى الخامسة، فالشيخ استمر، فجلسوا على أساس أن من تيقن أن الإمام قام إلى خامسة لا يجوز له أن يتابعه، لكن الشيخ في الحقيقة قام إلى الرابعة وعليه ركعة بدل تلك التي نسي فيها الفاتحة، فأشار لهم وخشي أن بعضهم لا يفهم الإشارة أو لا يقوم فقال : قوموا وأتم صلاته، فذهب بعض العلماء إلى أنه إذا اضطر، ما وجد مساغًا لإصلاح الصلاة إلا بالكلام فيها لمصلحتها يتكلم بحدود مصلحة الصلاة فقط، ولا تبطل صلاته، واستدلوا بحديث ذي اليدين، قالوا : ذو اليدين على الأقل في بعض مراحل كلامه كان يعلم أن الصلاة لم تنته وتكلم ونبه، وما أمره النبي ﷺ بإعادة صلاته؛ لأن الكلام كان لمصلحة الصلاة، والنبي ﷺ رجع وقال للناس : أحقًا ما يقول ذو اليدين ؟ قالوا : نعم، وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا احتاج للكلام في الصلاة لمصلحة الصلاة يأتي بلفظ من القرآن، فإذا الإمام أنقص سجدة مثلًا قالوا : سبحان الله، قام قالوا : سبحان الله، ركع قالوا : سبحان الله، قعد ما يدري ماذا يفعل؟ فقال له واحد: اسجد؛ لقوله تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق: 19]، مثلًا، ولأن أركان الصلاة موجودة في القرآن اركعوا واسجدوا، قوموا، اقعدوا مع القاعدين، يعني إنها موجودة، لكن قال بعضهم: هذا لا يقصد به التلاوة، هذا يقصد به الكلام مع الإمام أو مع الجماعة، يعني حتى لو كانت اللفظة في القرآن، فما قصده أصلًا التلاوة، قصده التنبيه والكلام، وأيضًا بعض الحالات ربما لا يجدي فيها، أو لا يبينها كلام من القرآن، وقد لا يخطر بباله، وقد لا يجد، فلو رأى على ثوب الإمام نجاسة من الخلف مثلًا أثناء الصلاة ماذا سيقول له؟ فذهب بعض العلماء إلى أن واحداً من المصلين يضحي بصلاته لمصلحة عموم المصلين ويقول له : في ثوبك نجاسة، يعني يقترب من الإمام ويقول له : في ثوبك نجاسة ؛ لأنها لو كانت على شيء يمكن إزالته، كأن تقدم منه في الصلاة فأزالها، لكن في حالات قد يحتاج الأمر فيها إلى كلام أثناء الصلاة، فلو تكلم أثناء الصلاة لمصلحة الصلاة هل تبطل؟ فقال بعضهم : لا تبطل لحديث ذي اليدين كما تقدم، وقال بعضهم : تبطل؛ لأنه لو كان الخطاب لمصلحة الصلاة لا يضر لأمرنا النبي ﷺ بذلك؛ لأنه أقرب إلى الفهم وحصول المقصود لكن أمرنا بالتسبيح فلما عدل عن هذا الأبين إلى التسبيح علم أن ذلك ليس بجائز؛ لأن المصلحة تقتضيه لولا أنه ممتنع"، [الشرح الممتع: 3/266].
وأجابوا عن حديث ذو اليدين بأن النبي ﷺ حين تكلم لم يكن يعلم أنه في صلاة، ظن أن الصلاة قد انتهت ولهذا قال: لم أنس ولم تُقصر ولما قالوا : صدق ذو اليدين، لم يتكلم بعد، بل تقدم وصلى ما ترك، وفرق بين شخص يعلم أنه في الصلاة ولكنه يتكلم لمصلحة الصلاة وشخص لم يتيقن أنه في صلاة بل كان ظنه أنه ليس في صلاة وأن صلاته تمت، وحينئذ فلا يتم الاستدلال بهذا الحديث من جهة كلام النبي ﷺ أما من جهة كلام ذي اليدين وكلام الناس فيحتاج إلى جواب؛ لأن ذي اليدين لما قال : قصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم تقصر ولم أنس ؛ لأن ذا اليدين تأكد أنها لم تقصر، وأنه لا زال في صلاة ومع ذلك قال: بل قد نسيت، والناس عرفوا أنها لم تقصر وسألهم وقالوا: نعم فحصل الكلام والنبي ﷺ ما قال لهم : تكلمتم، أعيدوا بعد الصلاة، لا، فلذلك يحتاج من يقول بأن الصلاة تبطل بأي كلام حتى لمصلحتها أن يجيب عن هذا أيضًا، يعني ليست فقط القضية الجواب عن موقف النبي - عليه الصلاة والسلام - وإنما أيضًا الجواب عن موقف المأمومين الذين تكلموا وأقرهم ولم يأمرهم بالإعادة، وذكر الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - أنه إذا اضطر للكلام حيث إن الإمام لم يفهم المراد من التسبيح، فإذا لم نقل بأنه ينبه بالكلام فسيكون ألعوبة يقال : سبحان الله فيجلس، سبحان الله فيقوم، سبحان الله فيجلس، سبحان الله فيقوم، فلابد من الكلام، قال الشيخ : فربما يقال في هذه الحال : إذا دعت الضرورة يتكلم المنبه ثم يستأنف الصلاة، فيقال : واحد يقطع صلاته وينبه الإمام، وينبه الجماعة، ويبدأ الصلاة من جديد، هذا على قول من يقول: إن الصلاة تبطل ولو كان الكلام فيها لمصلحتها، وعلى قول من يقول : إن الكلام في الصلاة لمصلحة الصلاة إذا كان لابد منه ولم يجد مساغًا فإنها لا تبطل، إذن، ليس عليه شيء.
الخامس : أن يتكلم بكلام واجب مثل أن يخشى على صبي أو ضرير يخشى عليه الوقوع في هلكة، أو يرى حية تقصد غافلًا أو نائمًا، أو يرى نارًا تشتعل وتبدأ في الحريق، يرى طفلًا يعبث بالكهرباء، الطفل أدخل القلم؛ لأنه يمكن أن يصعق بتيار فهو يحتاج أن يتكلم في الصلاة ليقوم من ينقذ هذا، أو ينبه الغافل للحية والعقرب، ينبه الأعمى لئلا يسقط في البئر مثلًا فهل الكلام هذا لمصلحة الصلاة؟ لا، وإنما هو لمصلحة أشخاص خارج الصلاة لكن هل يجب أن يتكلم؟ نعم؛ لأن فيه إنقاذ معصوم من الهلكة، هو يتركه يقع في البئر، يترك الحية تلسعه، والعقرب تلدغه، لا، فمذهب جمهور الفقهاء أن صلاته تبطل لعموم الأحاديث الدالة على تحريم الكلام، كلام الآدميين في الصلاة مطلقًا، سواء كان واجبًا أو غير واجب لكن؛ لأنه معذور في الكلام ويؤجر على قطع صلاته لإنقاذ المعصوم، فيستأنف الصلاة من جديد، يتكلم أو هو يتقدم لإنقاذ المعصوم ويبدأ الصلاة من جديد، وقد يحتاج أن ينادي من بعيد، قد يكون يرى الأعمى يتجه إلى البئر من بعيد ولا يمكنه إدراكه، لابد من صوت مرتفع فيتكلم ينبهه.
السادس : أن يتكلم بذكر مشروع مثل أن يعطس فيحمد الله، أو يسمع أو يرى ما يغمه فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون، أو يرى عجبًا فيقول : سبحان الله، أو قيل له وهو يصلي : ولد لك غلام، فقال الحمد لله، فهذا لا يستحب في الصلاة ولا يبطلها، [المغني لابن قدامة]، لا يستحب في الصلاة ولا يبطلها؛ لأنه لما قيل له : مات أخوك؛ قال : إنا لله وإنا إليه راجعون، هذه من القرآن، ولما عطس وقال : الحمد لله أيضًا، هذا ذكر، وأيضًا هو من القرآن، لكن لا يستحب له ذلك؛ لأنه ليس له علاقة بالصلاة فلا يستحب ولا تبطل، وأما إذا قصد بهذا الذكر مخاطبة أحد الناس مثل أن يطرق عليه شخص الباب فيقول : ادخلوها بسلام، أو ينادي شخصًا اسمه يحيى فيقول : يا يحيى، فقيل : تبطل صلاته، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد قالوا : لأنه خطاب آدمي فأشبه ما لو تكلم، وقيل : لا تبطل صلاته فروى أبو بكر الخلال عن عطاء بن السائب قال : استأذنا على عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو يصلي فقال : ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف: 99]، فقلنا : كيف صنعت؟ فقال : استأذنا على عبد الله بن مسعود وهو يصلي فقال : ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ولأنه قرأ القرآن فلم تفسد صلاته كما لو لم يقصد به التنبيه.
وقيل: إن قصد التنبيه دون التلاوة فسدت صلاته، وهذا مذهب الشافعي" [المغني لابن قدامة: 2/45].
معنى ذلك إذا قصد التلاوة أو قصد التلاوة والتنبيه معًا لا تبطل على هذا القول، قال النووي: "الكلام المبطل للصلاة هو ما سوى القرآن والذكر والدعاء ونحوها، فأما القراءة والذكر والدعاء ونحوها فلا تبطل الصلاة، فلو أتى بشيء من نظم القرآن بقصد القراءة فقط، أو بقصد القراءة مع غيرها، كتنبيه إمامه أو غيره فهذا لا يبطل الصلاة، سواء قصد القراءة أو القراءة مع الإعلام، قال: فأما إن قصد الإعلام وحده - يعني أن يخبر شخصًا بشيء - فتبطل حتى لو كانت الكلمة من القرآن"، [المجموع شرح المهذب: 4/83].
ما هو ضابط الكلام المبطل للصلاة؟ لما قال ﷺ: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس يدل على أن الكلام المحرم في الصلاة الذي يبطلها هو ما كان من جنس كلام الناس الذي يجري بينهم في محادثتهم لبعضهم، قال النووي: "فيه دليل على تحريم جميع أنواع كلام الآدميين" [المجموع شرح المهذب: 4/83]، وفي حديث زيد بن أرقم: "فأُمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام" [رواه مسلم: 539]، قال ابن دقيق العيد قوله: "ونهينا عن الكلام يقتضي: أن كل ما يسمى كلامًا فهو منهي عنه وما لا يسمى كلامًا فدلالة الحديث قاصرة في النهي عنه"، [إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: 1/292].
هذا بالنسبة لقضية الكلام فبقي معنا التأوه والأنين والبكاء والنفخ والنحنحة والقهقهة والضحك هذا ما سنأتي عليه إن شاء الله في الدرس القادم، وصلّ الله على نبينا محمد.