الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
تعريف سجود التلاوة
فقد قال المصنف -رحمه الله تعالى-: سجود التلاوة، وسجود التلاوة هو سجدة يسجدها المصلي، عقب تلاوة آية من آيات السجود في القرآن.
وسميت سجدة التلاوة ولم تسم سجدة القراءة، للفرق بين التلاوة والقراءة، فالقراءة تطلق على قراءة الكلمة الواحدة، وأما التلاوة فلا تكون إلا لكلمتين فصاعدًا، وذلك لأن أصل التلاوة اتباع الشيء للشيء، يقال: تلاه إذا تبعه، فتكون التلاوة في الكلمات يتبع بعضها بعضًا، وهذه السجدة سجدة التلاوة، هي سجدة إكبار وإجلال، وعنوان طاعة وامتثال، وقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار [رواه مسلم: 81].
حكم سجود التلاوة
وأما حكم سجود التلاوة، فقد قال المصنف -رحمه الله تعالى-: "ويسن للقارئ والمستمع" فهو إذًا سنة مؤكدة من السنن الثابتة عن النبي ﷺ قد روى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كان النبي ﷺ يقرأ السورة التي فيها السجدة، فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد أحدنا مكانًا لموضع جبهته"[رواه البخاري: 1079].
ولا خلاف بين العلماء في سنية سجود التلاوة ومشروعيته، وإنما اختلفوا في وجوبه، والذي عليه جمهور أهل العلم أنه سنة لا واجب كما ذكره ابن قدامة في "المغني"، ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن زيد بن ثابت قال: "قرأت على النبي ﷺ والنجم فلم يسجد فيها"[رواه البخاري: 1073 ، ومسلم: 577].
وما رواه البخاري أيضًا عن ربيعة بن عبد الله التيمي أن عمر بن الخطاب قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة، قال: يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر " [رواه البخاري: 1077].
وفي رواية أنه قال: "إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء" [رواه البخاري: 1077]، يعني من أراد أن يسجد سجد، ومن أراد أن لا يسجد فلا حرج عليه، والله -تعالى- لم يفرضها فرضًا ولم يوجبها إيجابًا.
أسباب سجود التلاوة
وقول المصنف -رحمه الله-: "ويسن للقارئ والمستمع" هذا فيه أن سجود التلاوة له سببان اثنان، وهما: التلاوة. والثاني: الاستماع.
السبب الأول : التلاوة، لابد أن يكون للآية الكاملة، لا لموضع السجدة فقط، قال النووي -رحمه الله-: "فلو سجد قبل الانتهاء إلى آخر آية السجدة ولو بحرف واحد لم يجز" كما في [المجموع: 4/ 63].
إذًا، أين موضع السجدة؟
في نهاية الآية التي فيها السجدة.
وأحيانًا تكون آيات مجموعها عن السجدة.
السبب الثاني : الاستماع، وهو قصد سماع القراءة والإنصات للقارئ، ويسن السجود للتالي والمستمع، لا نعلم في هذا خلافًا، وقال النووي -رحمه الله-: "سجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع بلا خلاف سواء كان القارئ في صلاة أم لا" [المجموع: 4/ 58].
وأما الذي يسمع القراءة، ولم يقصد الاستماع لها، فهذا يسمى السامع، وفرق بين السامع والمستمع.
وأما الذي يسمع القراءة، ولم يقصد الاستماع لها، فهذا يسمى السامع، كالجالس في المسجد، إذا سمع غيره يقرأ، أو مر في الطريق على رجل يقرأ آية السجدة، فقيل: يسن له السجود، وهو مذهب الحنفية والشافعية؛ كما في "المجموع": 4/ 58].
وفي مذهب المالكية والحنابلة أنه لا يسن له السجود كما في "الإنصاف".
وقع الخلاف في السامع، هل يسن له السجود أو لا؟
السامع هذا يصل إليه الصوت يسمعه، لكنه ليس متقصدًا للسماع، ليس منصتًا ومستمعًا، لا ينوي بجلوسه هذا أن يستمع لهذا القارئ، لكن هو يقرأ وواحد ثاني يقرأ بجانبه، فسمعه يقرأ آية سجدة، فهذا يقرأ لنفسه، فسمع جاره يقرأ آية سجدة، هذا لا يقصد الاستماع لجاره، بدليل أنه هو يقرأ لنفسه، وهكذا المار، واحد خارج من المسجد، وشخص يقرأ يتلو فمر بآية سجدة، فهذا المار ما قصد الاستماع، وقد ثبت عن جمع من الصحابة عدم السجود في حالة السماع، فعن سعيد بن المسيب: أن عثمان مر بقاص فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: "إنما السجود على من استمع ثم مضى ولم يسجد" [رواه عبد الرزاق في المصنف: 3/ 344، رقم: 5906].
وروى ابن أبي شيبة عن عثمان قال: "إنما السجدة على من جلس لها واستمع" [مصنف ابن أبي شيبة: 1/ 367].
وعن مطرف بن عبد الله: "أن عمران بن حصين مر بقصاص، فقرأ القاص سجدة-القاص مثل الواعظ- فمضى عمران ولم يسجد معه، وقال: "إنما السجدة على من جلس لها" [مصنف عبد الرزاق الصنعاني: 3/ 345].
وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: مر سلمان على قوم قعود، فقرأوا السجدة فسجدوا، فقيل له: لم لم تسجد معنا؟ فقال: "ليس لهذا غدونا" [رواه عبد الرزاق في المصنف: 3/ 345، رقم: 5909]، وصحح الحافظ ابن حجر -رحمه الله- إسناد جميع هذه الآثار في ["فتح الباري: 2/ 558].
وعن ابن عباس قال: "إنما السجدة على من جلس لها" [مصنف ابن أبي شيبة: 1/ 367، رقم: 4216]، وصحح إسناده النووي في [المجموع: 4/ 58]..
قال ابن قدامة: "ولا مخالف لهم في عصرهم نعلمه إلا قول ابن عمر: "إنما السجدة على من سمعها" فيحتمل أنه أراد من سمع عن قصد" يعني أراد بقوله : "على من سمعها"، يعني على من استمعها، يعني على من سمعها بقصد "فيحمل عليه كلامه جمعًا بين أقوالهم، ولا يصح قياس السامع على المستمع لافتراقهما في الأجر" [المغني: 1/ 447].
وأثر ابن عمر هذا الذي ذكره ابن قدامة -رحمه الله- رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، ولكن في إسناده عطية العوفي، وهو ضعيف جدًا.
حكم سجود المستمع إذا لم يسجد القارئ
وإذا لم يسجد القارئ فهل يسجد المستمع؟
قيل: يستحب السجود للمستمع سواء سجد القارئ أم لم يسجد، وهذا عند الشافعية كما في "المجموع": 4/58، روضة الطالبين: 1/ 319].
وقيل: لا يسن له السجود إذا لم يسجد القارئ؛ لأن المستمع تابع للتالي، وهذا عند المالكية والحنابلة كما في "المغني"، وهو اختيار الشيخين ابن باز وابن عثيمين -رحمهما الله-، فهؤلاء جعلوا المستمع كالمأموم، والقارئ كالإمام، فإذا سجد القارئ، سجد المستمع متابعة له، وإذا لم يسجد القارئ أو التالي، لم يسجد المستمع، ويدل على ذلك ما رواه البخاري -رحمه الله- عن زيد بن ثابت قال: "قرأت على النبي ﷺ: والنجم فلم يسجد فيها"، فهذا الحديث يدل على أمرين:
الأول: عدم وجوب سجود التلاوة؛ لأن النبي ﷺ لم ينكر على زيد تركه السجود.
والثاني: أن المستمع لا يسجد إلا إذا سجد القارئ، قاله الشيخ عبد العزيز بن باز مستدلًا به على عدم سجود المستمع للتلاوة إذا لم يسجد القارئ: ويؤكد ذلك ما رواه البخاري معلقًا على تميم بن حذلم: "قرأت القرآن على عبد الله بن مسعود وأنا غلام، فمررت بسجدة، فقال عبد الله: أنت إمامنا فيها"[صحيح البخاري: 2/ 41].
وبما رواه عبد الرزاق في المصنف عن سليمان بن حنظلة قال: "قرأت عند ابن مسعود السجدة فنظرت إليه" من الذي يقرأ؟ الطالب، ومن الذي يستمع؟ الشيخ، الطالب قرأ الآية، وفيها سجدة، فهو من باب الاسترشاد، جعل ينظر إلى الشيخ، مع أن القارئ هو الطالب، فقال له ابن مسعود: "ما تنظر، أنت قرأتها، فإن سجدت سجدنا"[مصنف عبد الرزاق الصنعاني: 3/ 344، رقم: 5907]، وهذا الخلاف إنما يكون إذا كان التالي والسامع في غير صلاة تجمع بينهما، إما إن كانا في صلاة فالمأموم تابع لإمامه.
وهل للمستمع أن يذكر القارئ فيقول: اسجد، يعني في غير الصلاة؟ لو أن شخصًا يستمع لتلاوة شخص، فمر التالي بالسجدة وما سجد فهل المستمع يقول له: ألا تسجد؟ أو ألا تريد أن تسجد؟
الجواب: إن احتمل الأمر أنه ناس، يعني أن التالي ناس للسجود فليذكره، أما إذا لم يحتمل النسيان، كأن يكون ذاكرًا فلا يذكره؛ لأنه تركها عن عمد ليبين إن كان طالب علم، أو شيخًا يقتدى به، أن سجود التلاوة ليس بواجب، فقد يكون التالي شيخ وصاحب علم، ويريد عمدًا أن يترك سجدة التلاوة، ليبين للناس أن سجود التلاوة ليس بواجب، فهنا لا يتدخل المستمع، ويقول: ألا تسجد؟ ألا تريد السجود؟
لأنه يفهم أن هذا التالي والقارئ قاصد لترك السجود، وليس بناس، ولا ساه. ذكر هذا ابن عثيمين -رحمه الله- في "الشرح الممتع".
إذا كان الإنسان يستمع لتلاوة القرآن من شريط التسجيل، أو من اسطوانة مدمجة في السيارة، أو من جهاز الحاسوب، فالمسجل فيه تلاوة، وهو يستمع للتلاوة المسجلة، وهذه التلاوة فيها موضع سجدة، فهل يسجد المستمع للتلاوة المسجلة، وفيها موضع سجود، أم لا ؟
الذي يظهر أنه لا يشرع له السجود، وقد نص بعض العلماء على هذه المسألة، فمن ذلك ما جاء في [الفتاوى الهندي: 1/133] وهو من كتب الأحناف: "إن سمعها" يعني "آية السجدة من الصدى، وهو ارتداد الصوت، من مكان بعيد لا تجب عليه" وهذا يشبه إذا سمعها من جهاز التسجيل.
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- إن كان الإنسان يستمع إلى تلاوة القرآن الكريم بواسطة جهاز التسجيل، ومر القارئ بآية فيها سجدة تلاوة فهل يسجد؟
فأجاب الشيخ: لا يشرع للمستمع أن يسجد إلا إذا سجد القارئ؛ لأن النبي ﷺ قرأ عليه زيد بن ثابت سورة النجم ولم يسجد كما في [مجموع فتاوى ابن باز: 11/415]، ونحوه في [الشرح الممتع: 4/133].
وسئل الشيخ ابن عثيمين عن هذه المسألة: إذا استمعت إلى تلاوة مسجلة وفيها موضع سجدة فهل أسجد؟ فقال الشيخ: لا يسجد إلا إذا سجد المسجل.
والشيخ طبعًا يريد بهذا أن سجود المستمع لا يكون إلا إذا سجد القارئ، والمسجل ليس من شأنه السجود.
طبعا يتكلم على أي سجود؟
السجود على الأعضاء السبعة.
أما وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 15] سجود الإذعان والخضوع، هذا المسجل وغير المسجل، كله يسجد لله، لكن نتكلم عن سجود على الأعضاء السبعة.
فالشيخ قال مداعبًا وملاطفًا: لا يسجد إلا إذا سجد المسجل، يعني لا يسجد.
إذا كان القارئ عن طريق التلفاز أو المذياع في نقل مباشر، وسجد القارئ التالي، سجد وأنت الآن تراه أنت تستمع له، وهذه القراءة منقولة فهل تسجد؟
لقد سجد التالي، إذًا أنت تسجد؛ لأن النقل هذا المباشر الحي كأنك معه.
لكن هنا سؤال وهو لو كان المنقول صلاة وأنت خارج الصلاة، ولنسهل المسألة، ونقول: شخص بجانبك يصلي قيام الليل، وأنت تستمع له، فهو يصلي، وأنت خارج الصلاة لست معه، وتستمع فسجد هو، فهل تسجد أنت؟
هذا يشبه ما لو نقلت صلاة العشاء من الحرم، وأنت تستمع للتلاوة في التلفزيون، والنقل حي ومباشر، وسجد الإمام في الحرم للتلاوة، وأنت تستمع، فهل تسجد؟ يعني هل يختلف الحكم؟
إذا كان التالي في صلاة، والمستمع ليس في صلاة، في أحد عنده أثارة من علم في هذه المسألة؟ فهل إذا سجد التالي يسجد المستمع أم لا؟
الآن لو طلبنا القاعدة السابقة يسجد، لكن نريد أن نعرف فقط من كلام العلماء، هل فيه فرق لو كان التالي يصلي والمستمع خارج الصلاة؟
تكرار السجدات
هل قراءة أكثر من آية سجدة في مجلس واحد، يعني تكرار السجدات؟
الجواب: إذا قرأ آيات السجدات في مكان واحد سجد لكل سجدة.
واحد يقرأ آيات السجدات في القرآن، فإنه سيسجد لكل آية، لكن إذا كرر الآية الواحدة في المجلس فيجزئه أن يسجد سجدة واحدة بعد فراغه من القراءة، وتكفيه عن الجميع، ولكن إن سجد في البداية، فإنه يسجد مرة أخرى عند فراغه، قال بهذا مالك والشافعي وأحمد كما في "المجموع: 4/ 71، و"الروض المربع".
واستثنى المالكية من الحكم المعلم والمتعلم فيسجدان مرة واحدة.
ومذهب أبي حنيفة أنه تكفيه سجدتان عن الجميع.
وقال الشيخ ابن عثيمين في فتاواه: إن كان الإنسان يكرر الآيات، ويحفظ القرآن، فسجوده الأول يغني عن الباقي، ولا حاجة أن يعيد السجود" [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين: 14/ 318].
إذًا، الآن قد يكون هؤلاء في حلقة تعليمية، والشيخ يأمر واحدًا أن يقرأ، والموضع فيه سجدة تلاوة، فهذا يقرأ، وهذا يقرأ، وهذا يقرأ، كل واحد فيهم يقرأ، وكل واحد فيهم يستمع في هذه الحلقة التعليمية، فيكفيهم سجدة واحدة، وخصوصًا أن مقام التعليم يقتضي التكرار، فلو قال له: أعد الآية، أعد الآية، أعد الآية، فيقطع التعليم أو الدرس تكثير السجدات، ولذلك يكفيه سجدة واحدة.
مواضع سجود التلاوة
قال المصنف -رحمه الله- "إذا تلا آية سجدة، فسجود التلاوة لا يكون إلا عند تلاوة آية السجدة، ومجموع ما ورد في القرآن من سجدات التلاوة خمسة عشر ما بين متفق عليها أو مختلف فيها".
مواضع السجدات المتفق عليها:
وهي على النحو التالي:
أولًا: المواضع المتفق عليها: اتفق الفقهاء على سجود التلاوة في عشرة مواضع من القرآن الكريم:
أولًا: آخر آية من سورة الأعراف: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 206].
الثاني: سورة الرعد: عند قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [الرعد: 15].
الثالث: سورة النحل عند قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 49-50].
الرابع: سورة الإسراء عند قوله تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 109].
الموضع الخامس: في سورة مريم عند قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم: 58].
السادس: سورة الحج عند قول الله -تعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج: 18].
الموضع السابع: في سورة النمل عند قوله تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل: 25-26].
الثامن: سورة السجدة عند قوله تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [السجدة: 15].
التاسع: في سورة الفرقان عند قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [الفرقان: 60].
العاشر: سورة فصلت عند قول الله -تعالى-: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [فصلت: 38].
طبعًا نلاحظ مثلًا في سورة النمل السجدة في آية، ولكن موضع السجود لا يأتي إلا في نهاية الآية التي تليها.
إذًا هو هذا الموضع موضع سجود التلاوة، مثال على قضية أن لا يسجد التالي: قد تكون المصلحة مثل الدرس الآن، الآن لو أنا كل ما قرأت آية سجدت فسجدتم، ثم رجعت وقرأت الثانية فسجد وسجدتم، فأحيانًا يرى المدرس أو المعلم أن الأنسب للدرس أن لا يسجد.
على آية حال: بالنسبة للمواضع المتفق عليها، هذه التي تقدمت في سجود التلاوة.
مواضع السجدات المختلف فيها
أما المختلف فيها من حيث الإثبات وعدمه، فقد اختلفوا في خمسة مواضع من القرآن الكريم:
الأول: السجدة الثانية في سورة الحج، وهي قوله:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77]، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن سورة الحج فيها سجدتان إحداهما التي تقدمت في المتفق عليه، والأخرى عند قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا الآية.. [الحج: 77] لما روي عن عقبة بن عامر قال: "قلت: يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما" [رواه الترمذي: 578، وقال: "هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي"].
إذًا، هذا ضعيف.
قول عمر وعلي وعبد الله بن عمر وأبي الدرداء وأبي موسى ، قال ابن قدامة: "لم نعرف لهم مخالفًا في عصرهم" [المغني: 1/ 443].
وقال أبو إسحاق السبيعي التابعي الكبير: "أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين" [المغني، لابن قدامة: 1/ 443].
إذًا، هذا رأي الذين يقولون: إن سورة الحج فيها موضعان للسجود سجدتا تلاوة، قال الشيخ الألباني: "لم يوجد ما يشهد لها من السنة والاتفاق، إلا أن عمل بعض الصحابة على السجود فيها، الثانية من سورة الحج، قد يستأنس بذلك على مشروعيتها، ولا سيما ولا يعرف لهم مخالف" [تمام المنة، ص: 270].
بينما ذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا سجود في هذا الموطن لعدم ثبوت دليل يدل على ذلك.
هذا بالنسبة للسجدة الثانية في الحج.
الموضع الثاني فهو: سجدة سورة ص، هذه من المواضع المختلف فيها، هل فيها سجود تلاوة أو ليس فيها سجود تلاوة؟ في قوله تعالى: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص: 24].
فذهب الحنفية والمالكية إلى مشروعية السجود للتلاوة في سورة ص، للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ﷺ أنه سجد في سورة ص، ومنها ما رواه البخاري -رحمه الله- عن مجاهد قال: قلت لابن عباس: أنسجد في ص؟ فقرأ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعام: 84] حتى أتى إلى قوله: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] يعني بهدى وبهدي داود وسليمان اقتد يا محمد ﷺ، وداود سجد، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: نبيكم ﷺ ممن أمر أن يقتدي بهم" [رواه البخاري: 3421].
وفي رواية أخرى: "فسجدها داود فسجدها رسول الله ﷺ" [رواه البخاري: 4807].
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن سجدة ص ليست من عزائم السجود، أي ليست من متأكداته، فهي سجدة شكر لا سجدة تلاوة؛ كما في ["المغني": 1/ 448]، و "المجموع": 4/ 61].
وعليه فإذا قرأها خارج الصلاة استحب له السجود، وأما إذا قرأها في الصلاة فلا يسجد؛ لأن سجود الشاكر لا يشرع داخل الصلاة، قالوا : هذه سجدة شكر، يعني داود سجدها شكرًا.
فإذًا، نحن لا نسجدها تلاوة، يعني في الصلاة لا نسجدها، وسجود الشكر لا يشرع داخل الصلاة.
واستدلوا أيضًا بما رواه النسائي عن ابن عباس أن النبي ﷺ سجد في ص، وقال: سجدها داود توبة، ونسجدها شكرًا [رواه النسائي: 957]، لكن الحديث هذا ضعفه البيهقي، والنووي، وصححه ابن كثير، وقال: على شرط البخاري، وابن حجر -رحمه الله- قال: "رواته ثقات"، والشوكاني والألباني صححاه، وهذا كما في "الخلاصة" و"إرشاد الفقيه": 1/ 151، و"الدراية"، و "فتح القدير": 4/ 492].
فإذًا، فيه خلاف بين العلماء في صحة هذا الحديث.
وقوله: "سجدها داود شكرًا" شكرًا على ماذا؟
على قبول التوبة وتوفيق الله -تعالى- إياه عليها.
فحين يجري في القرآن ذكر من الله تعالى لتلك التوبة، نشكره تعالى على تلك النعمة كما في ["حاشية السندي": 2/ 159].
أيضًا استدلوا بما رواه أبو داود -رحمه الله- عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر ص، فلما بلغ السجدة نزل فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود" يعني تأهبوا لذلك، وتهيئوا له، فقال النبي ﷺ: إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود، فنزل فسجد وسجدوا [رواه أبو داود: 1410]، وصححه النووي، ومن المعاصرين الألباني في صحيح أبي داود، رقم: 1271].
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: فهذا السياق يشعر بأن السجود فيها لم يؤكد كما أكد في غيرها"[فتح الباري: 2/ 553].
وروى البخاري -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "ص ليس من عزائم السجود، وقد رأيت النبي ﷺ يسجد فيها".
إذا قرأ سجدة ص في الصلاة، وسجد فيها، فما الحكم بالنسبة لمن معه؟
اختلف العلماء في ذلك بناء على اختلافهم هل هي سجدة تلاوة أم شكر؟
فمن قال: هي سجدة تلاوة، قالوا: يسجد لها في الصلاة، ومن قال: هي سجدة شكر، قالوا: لا يسجد لها في الصلاة، فإن سجد بها في الصلاة عالماً متعمدًا بطلت صلاته، هذا في "الإنصاف"، و"المجموع".
بينما رجح مثلًا الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-، والشيخ ابن عثيمين من المعاصرين: أن سجدة ص سجدة تلاوة، وعلى هذا فيستحب السجود لها في الصلاة، وخارج الصلاة كما ذكر في "الشرح الممتع" قال الشيخ: "السجدة في آية ص سجدة تلاوة؛ لأن سبب السجود لها أنني تلوت القرآن ولم يحصل لي نعمة ولم تندفع عني نقمة، فإذا كان السبب هو تلاوتي لهذه الآية صارت من سجود التلاوة، وهذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة"[الشرح الممتع: 4/ 108].
إذًا، هو نظر لها من أي ناحية؟
قال : هي سجدة شكر في حق داود بينما نحن الآن إذا قرأناها، نحن نتلو، فهي بالنسبة لنا سجدة تلاوة، وتقدم قول العلماء المذكورين سابقًا في الامتناع عن السجود بهذه السجدة في الصلاة.
الموضع الثالث والرابع والخامس: سجدات المفصل: النجم، والانشقاق، والعلق، فذهب جمهور الفقهاء إلى أن في المفصل ثلاث سجدات، أحدها في آخر النجم، والثانية في سورة الانشقاق، والثالثة في آخر سورة العلق.
أما النجم ففي قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم: 62]، فقد روى البخاري -رحمه الله- عن عبد الله بن مسعود أن النبي ﷺ قرأ سورة النجم فسجد بها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم -وهو أمية بن خلف المشرك الكافر- كفًا من حصى أو تراب، فرفعه إلى وجهه، وقال: يكفيني هذا، قال عبد الله-يعني ابن مسعود-: فلقد رأيته بعد قتل كافرًا" [رواه البخاري: 1070].
وأما الانشقاق وهي قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ [الانشقاق: 21] فلما رواه مسلم عن أبي رافع قال: "صليت مع أبي هريرة صلاة العتمة فقرأ: إذا السماء انشقت، فسجد فيها، فقلت له: ما هذه السجدة؟ فقال: سجدت بها خلف أبي القاسم ﷺ، فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه" [رواه مسلم: 578].
وأما سورة العلق وهي قوله تعالى: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق: 19] فلما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: "سجدنا مع النبي ﷺ في إذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك" [رواه البخاري: 578].
وذهب الإمام مالك -رحمه الله- إلى أنه لا سجود في المفصل، واستدل له بما رواه أبو داود عن ابن عباس: أن رسول اللهﷺ لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة" [رواه أبو داود: 1403]، ولكن الحديث ضعفه النووي -رحمه الله-، ومن المعاصرين الشيخ الألباني، قال النووي عن حديث أبي هريرة الذي فيه السجود في النجم والانشقاق: "وقد أجمع العلماء على أن إسلام أبي هريرة كان سنة سبع من الهجرة، فدل على السجود في المفصل بعد الهجرة" [شرح النووي على مسلم: 5/ 77]
وكذلك بما رواه ابن ماجه عن أبي الدرداء قال: "سجدت مع النبي ﷺ إحدى عشرة سجدة ليس فيها من المفصل شيء" [رواه ابن ماجه: 1056].
هذا من أدلة الذين يقولون بأنه لا يوجد في المفصل، والثلاثة هذه ليس فيها سجدة، لكن هذا الحديث ضعيف.
الخلاصة في عدد سجدات التلاوة
بالنسبة للأئمة أيضًا كخلاصة: الشافعي وأحمد -رحمهما الله- يثبتان أربعة عشر سجدة للتلاوة باستثناء سجدة ص.
أبو حنيفة يثبت أربعة عشر باستثناء ثانية الحج في غير الصلاة.
مالك -رحمه الله- لا يثبت إلا إحدى عشرة باستثناء ثانية الحج، وسجدات المفصل.
وقيل: عدد السجدات خمس عشرة سجدة، وذلك على اعتبار سجدة ص سجدة التلاوة.
وهذا القول رواية عن أحمد، وهو قول إسحاق، واختاره من المعاصرين الشيخ ابن عثيمين -كما تقدم- قال: بالنسبة لنا هي سجدة تلاوة، ويستدل لهذا بما رواه أبو داود عن عبد الله بن منين عن عمرو بن العاص أن رسول الله ﷺ أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان، لكن هذا الحديث ضعفه الذهبي -رحمه الله-، وكذلك من المعاصرين الألباني، بينما قال الحافظ -رحمه الله-: حسنه المنذري والنووي، وضعفه عبد الحق، وابن القطان، وفيه عبد الله بن منين وهو مجهول، والراوي عنه الحارث بن سعيد العتقي وهو لا يعرف أيضًا [تلخيص الحبير : 2/ 27].
قال المباركفوري: "قال الحافظ: عبد الله بن منين وثقه يعقوب بن سفيان".
وقال في ترجمة الحارث بن سعيد العتقي: أنه مقبول.
فالظاهر: أن هذا الحديث حسن.
وفيه دليل على أن مواضع السجود خمسة عشر موضعًا، وإليه ذهب أحمد والليث وإسحاق، وابن وهب، وطائفة من أهل العلم، وقد صححه أيضًا ابن القيم في "إعلام الموقعين"..
فإذًا، أربع عشرة سجدة، إحدى عشرة سجدة، خمس عشرة سجدة، ويوجد تفصيل في الخمس عشرة، وفي الأربع عشرة.
سجود التلاوة في الصلاة وخارجها
ثم قال المصنف -رحمه الله-: أن يسجد في الصلاة أو خارجها، فسجود التلاوة يسن إذا قرأ آية السجدة سواء كان في الصلاة أو خارج الصلاة.
أما خارج الصلاة، فسبق أنه يستحب للقارئ والمستمع إذا سجد القارئ.
وأما في الصلاة فإن كان منفردًا سجد لقراءة نفسه، وإن كان مأمومًا فهو تابع للإمام، وإن سجد الإمام سجد معه المأموم وجوبًا، وإن لم يسجد الإمام لم يسجد المأموم كما في "الإنصاف"، و "المجموع".
وإذا كان يصلي والآخر يستمع له خارج الصلاة فقد أحيلت إلى لجنة البحث.
حكم سجود الامام في الصلاة السرية
وإن قرأ الإمام آية السجدة في صلاة سرية، قال ابن قدامة -رحمه الله-: "يكره للإمام قراءة السجدة في صلاة لا يجهر فيها وإن قرأها لم يسجد" [المغني:1/ 449] لماذا؟
قال: "لأن فيه إيهامًا على المأموم" [المغني: 1/ 449] سيسبب تشويشًا للناس، فجأة كبر وسجد، الناس ركعوا، ظنوا هذا ركوعا، وهو يقصد سجود تلاوة في صلاة سرية، وهم لا يدرون ماذا يقرأ إمامهم.
وذهب الشافعية إلى عدم الكراهة.
ما هو دليلهم؟
قالوا : روى أبو داود عن ابن عمر: أن النبي ﷺ سجد في صلاة الظهر، ثم قام فركع، فرأينا أنه قرأ تنزيل السجدة" [رواه أبو داود، رقم: 807]، لكن الحديث ضعفه الإمام أحمد -رحمه الله-، وكذلك الألباني في "تمام المنة".
ورجح الشيخ ابن عثيمين من المعاصرين: عدم كراهة قراءة آية السجدة في الصلاة السرية؛ لأن الكراهة تحتاج إلى دليل شرعي، ولا دليل يدل على ذلك، ولكن إذا قرأ آية سجدة في صلاة سرية فلا يسجد حتى لا يشوش على الناس، وإذا قرأ ولم يسجد لم يأت مكروهًا.
إذًا، صار كأن هذا قول وسط، لا بأس أن يقرأ بالسجدة في صلاة سرية، ولكن لا يسجد.
إذا سجد الإمام للتلاوة فظن المأموم أن الإمام ركع فركع، الآن بعض العامة إذا سمع مثلًا في سجدة ص: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فخر راكعًا، قال هذا المأموم: الله أكبر، قال: هذا ركوع، هو لا يرى الإمام، في الخلف، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فركع المأموم، والإمام سجد، تحصل، فإذا سجد الإمام للتلاوة فظن المأموم أنه ركع، ثم ركع بناء على أن الإمام قد ركع فلا يخلو من حالين.
ولها طبعًا أيضًا صورة أخرى : أن يظن المأموم أن الإمام لا يريد سجدة التلاوة، أنه يريد الركوع فقط، ما انتبه.
على أية حال: إذا سجد الإمام للتلاوة فظن المأموم أنه ركع ثم ركع بناء على أن الإمام قد ركع، فلا يخلو من حالين:
إحداهما: أن يعلم بأن الإمام ساجد وهو راكع، علم المأموم أن الإمام تحت وهو راكع، فماذا يفعل؟
يجب عليه أن يسجد اتباعًا لإمامه، يترك الركوع هذا، وينزل للسجود مع الإمام.
الحالة الثانية: أن لا يشعر أن الإمام ساجد إلا بعد أن يقوم من السجدة، يعني بعدما الإمام يقول: الله أكبر، من سجدة التلاوة، المأموم يتوقع الآن سمع الله لمن حمده، ما جاءت سمع الله لمن حمده، جاءت: الله أكبر، فعرف المأموم أن الإمام كان ساجدًا، ولم يكن راكعًا، والآن السجدة انتهت، فحينئذ نقول للمأموم الذي ركع: ارفع الآن، وتابع الإمام، واركع مع إمامك، واستمر وسقط عنك سجود التلاوة حينئذ؛ لأن سجود التلاوة ليس ركنًا في الصلاة حتى يحتاج أن تأتي به بعد إمامك، وإنما يجب عليك متابعة الإمام، والمتابعة هنا قد فاتت، فهي سنة قد فات محلها، وتستمر في صلاتك.
إذًا، مرة أخرى الإمام سجد للتلاوة، المأموم جاهل، ساهٍ، لاهٍ، ركع، إذا عرف أن الإمام في سجود التلاوة يسجد معه.
وإذا ما عرف إلا بعد ما انتهت سجدة التلاوة، وقال الإمام: الله أكبر، وقام ليواصل القراءة، اكتشف صاحبنا أنها كانت سجدة تلاوة، وهو راكع، يتوقع: سمع الله لمن حمده، سمع الله أكبر، ماذا نقول له؟ هات سجود التلاوة الذي فاتك؟
لا.
لأن سجدة التلاوة هذه ليست ركنًا في الصلاة، لو كان فاته ركن مع الإمام لابد أن يأتي به، ويواصل المتابعة، لكن هذه الحالة سجدة التلاوة التي فاتت المأموم ليست ركنًا.
ولذلك ماذا نقول له؟
ارفع مع الإمام، واستمع لقراءته، وما بقي من الصلاة واصل معه وتابع.
ولا نقول له: هات سجدة التلاوة التي فاتتك، لأن موضعها فات، والإمام رفع وليست ركنًا.
فإذًا، ارفع وواصل متابعة الإمام فقط.
وإذا حصل العكس، كأن قرأ الإمام سورة العلق، ثم كبر للركوع، يعني الإمام لا يريد السجود، لا يريد سجدة التلاوة، يريد أن يركع بعد انتهاء التلاوة، فالمأموم ظن أنه سجد، فسجد فما حكم الصلاة؟
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عن هذه المسألة فقال: صلاتك صحيحة، والأفضل لك لما عرفت أنه لم يسجد أن ترفع وتستتم قائمًا، ثم تركع وتطمئن في الركوع، ثم ترفع وتستتم قائمًا وتطمئن، ثم تتابع إمامك، ولا حرج عليك في التخلف عنه؛ لأنك معذور لعدم علمك بأنه ركع.
إذًا، فتوى الشيخ لمن ظن أن الإمام سجد للتلاوة فسجد، هو الآن ماذا يتوقع أن يسمع؟ الله أكبر، فسمع "سمع الله لمن حمده"، فاكتشف أنه فاته الركوع مع الإمام، فماذا يفعل؟ الركوع هذا ركن، ولا يمكن نقول للمأموم: ارفع وواصل، لا، نقول له: ارفع واركع واطمئن، وارفع واطمئن، وتابع الإمام.
في بعض الأئمة أحيانًا يركعون عند آيات توهم بعض المأمومين أن فيها سجدة، وما فيها سجدة، لكن فيها لفظ السجود، فإذا سمعها بعض المأمومين توهم أن فيها سجدة تلاوة، فليس من الحكمة أن الأئمة ينهون التلاوة في هذه الآيات، يقول : نختبر المأمومين، الآن نحن نريد أن نجمعهم، نحن الآن نريد أن يجتمعوا معنا.
مثال آية فيها كلمة السجود، وليست من آيات سجود التلاوة: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ [القلم: 42]، قال هذا: الله أكبر، ظن هذا الثاني إنه سجدة.
وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق: 40]، وركع، فظنه المأموم سجد، هذه فيها سجدة صريحة الآية.
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص: 73].
آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران: 113].
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 98].
لاحظ الآيات هذه الآن تقريبًا التي استعرضناها كلها فيها تكملة، فلماذا يكبر بعدها؟
فإذًا، على الإمام أن يتجنب التشويش على المأمومين، وأن لا يتصرف تصرفًا يمكن أن يوقع المأمومين في اللبس، وهذه من حكمة الإمام.
سنتابع بمشيئة الله -تعالى- الموضوع في الدرس القادم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.