تكلمنا في الدرس الماضي عن سُنيّة قراءة السورة بعد الفاتحة، وأنها مشروعة للإمام والمنفرد بخلاف المأموم، وأن هذه السورة تكون في الفجر من طوال المفصّل، وفي المغرب من قصاره، وفي العصر والعشاء من أوساط المفصل، وأما صلاة الظهر فإنه يقرأ فيها بأوساط المفصّل على ما قيل، وقيل: يقرأ فيها بطواله، وأن أغلب أحوال النبي ﷺ تطويل صلاة الظهر، وذكرنا أن القراءة على ترتيب المصحف مستحبة، ولو خالف فقرأ بغير ترتيب المصحف فلا شيء عليه، بل هو أمر جائز، وأن القراءة من المصحف في الصلاة جائزة في رمضان وغيره وفي الفريضة والنافلة، وأن السنة الجهر في ركعتي الصبح والمغرب والعشاء، والإسرار في الظهر والعصر وثالثة المغرب والثالثة والرابعة من العشاء، وأن المنفرد يُسنُّ له الجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية وإن أسرّ فلا حرج عليه، لكنه يكون قد ترك السنة، وأن المرأة إذا كانت تصلي خالية أو بحضرة نساء أو رجال محارم جهرت بالقراءة، سواء صلّت بنسوة أو منفردة، وإن صلّت بحضرة أجنبي أسرّت، وأنه إذا قضى المسلم فائتة النهار ليلًا أو فائتة الليل نهارًا فإنه يراعي حال الصلاة المقضية؛ لأن القضاء على وفق الأداء، وأنه يُسنُّ الجهر في صلاة الجمعة، والعيدين، والاستسقاء، والتراويح، وخسوف القمر، وكسوف الشمس، أما ننوافل النهار، والسنن الراتبة، يُسنُّ فيها الإسرار، وأما نوافل الليل فيتوسط بين الجهر والإسرار، وأنه بعد فراغ المصلي من قراءة السورة يسكت سكتة لطيفة، ليقطع بها القراءة عن تكبيرة الركوع، ثم بعد ذلك يكبّر للركوع، وأن هذا التكبير واجب على الراجح وهو مذهب الحنابلة، وقال الجمهور : سنة، وأن التكبير يكون بين الركنين، فلا يكبّر وهو قائم، ولا يكبّر وهو راكع، بل بينهما، ثم بعد ذلك يخر راكعًا.
قال المصنّف - رحمه الله - ويضع يديه على ركبتيه ويجعل رأسه حيال ظهره والركوع ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا به ودليل ركنيته قوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة: 43]، وقوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج: 77]، ودلّت السنة على ثبوت ذلك ولزومه كما قال ﷺ في حديث المسيء صلاته: ثم اركع حتى تطمئن راكعًا [رواه البخاري: 757، ومسلم: 397]. وهذا الركوع المقصود به تعظيم الله فإن هذه الهيئة، وهي هيئة الركوع من هيئات التعظيم للمركوع له، ولهذا كان الناس يفعلونه لملوكهم وكبرائهم وسادتهم، ينحنون وربما يركعون، فالركوع هيئة تدل على تعظيم الراكع بين يدي من ركع له، ولهذا قال النبي ﷺ: أما الركوع فعظّموا فيه الرب [رواه ابن حبان: 1896، وابن أبي شيبة: 2559، وصححه الألباني في التعليقات الحسان: 1893]. فالركوع إذن تعظيم ليجتمع فيه التعظيم القولي والتعظيم الفعلي.
ما هي أقل درجة للركوع؟
الجواب: أن ينحني بحيث يمكنه أن يمس ركبتيه بيديه؛ لأنه لا يخرج عن حد القيام إلى الركوع إلا به كما قال ابن قدامة - رحمه الله - في المغني. [المغني لابن قدامة: 1/360]. إذا ما كان الانحناء بحيث يقدر أن يمسّ ركبتيه بكفيه فإنه لا يزال قائمًا ولم يصل إلى حد الركوع بعد، وبناء على ذلك فإنه لو انحنى بحيث لا تصل الكف إلى الركبة فإنه لا يعتبر راكعًا ولا يجزيه ذلك، والسنة: وضع الكفين على الركبتين، ولكن هذا مستحب ليس بواجب، فإن كانتا عليلتين لا يمكنه وضعهما انحنى ولم يضعهما، وإن كانت إحداهما عليلة وضع الأخرى، وقال بعضهم: أقل الركوع أن ينحني بحيث يكون إلى الركوع التام أقرب منه إلى الوقوف التام وهو قول المجد بن تيمية - رحمه الله - واختاره في الشرح الممتع [الشرح الممتع: 3/91]. وإن لم يقدر على الانحناء إلى هذا الحد إلا بالاعتماد على شيء لزمه ذلك، فإن لم يقدر انحنى القدر الممكن؛ لأن بعض الناس قد تكون فيه آفة في ظهره، أو عِلّة، فلا يستطيع أن يركع ركوعًا كاملًا، يستطيع أن يركع شيئًا ما، فيأتي بما يستطيع فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]، وهذا ركن، ونجد كثيرًا من الناس يخلون به، لا يركعون ركوعًا صحيحًا مع قدرتهم، وهذا قد يفعله البعض كبرًا، وقد يفعله البعض تساهلًا، بعض العرب كانوا يأنفون منه حتى أن أحدهم أراد أن يسلم بدون أن يركع، على أية حال هو قد يقبل منه الدخول في الإسلام ثم يزيد إيمانه، ويركع بعد ذلك، ولكن الركوع تواضع لله وتعظيم، فينبغي الحرص عليه، ولذلك تجد أن عددًا من الناس لا يتمه، فينبغي الحرص عليه وتعليمه للأولاد، فبعض الناس يكتفي بانحناءة يسيرة، كأنه لا يريد أن يتعب نفسه، وكذلك من جهله بالسنة، أو تجاهله لها، فينبغي على المسلم أن يصلي صلاة جادة، وأن يقتدي فيها بالنبي ﷺ وإذا كان هؤلاء اللاعبون يفعلونه وهو محرم فالمصلون أولى بفعله لله وذاك يركع لمدرّب، ويتشبه بالبوذيين في ركوعه، فالمسلم يركع لله، وأما أكمل الركوع فإنه يكون بأن ينحني بحيث يكون ظهره مستويًا، فجاء في بعض ألفاظ حديث المسيء صلاته: وإذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك رواه أبو داود وصححه الألباني وروى أحمد - رحمه الله - عن علي بن أبي طالب قال: "كان رسول الله ﷺ إذا ركع لو وضع قدح من ماء على ظهره لم يهراق" لم ينسكب، لم يختل، لم يقع.
وعند الطبراني عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله ﷺ إذا ركع استوى فلو صبّ على ظهره الماء لاستقر" وصححه والذي قبله الشيخ الألباني بمجموع الطرق.
وليس من السنة أن يخفض رأسه عن ظهره، ولا أن يرفعه عن مستوى ظهره، بل يكون رأسه مستويًا مع ظهره، لما جاء في صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله ﷺ إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ولكن بين ذلك" [رواه مسلم: 498]. ومعنى "لم يشخص رأسه" يعني: لم يرفع رأسه عن مستوى ظهره، ولم يصوبه، لم يخفض رأسه عن مستوى ظهره، ولكن بين ذلك، يعني بين التشخيص والتصويب، بحيث يستوي ظهره وعنقه، وفي حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة النبي ﷺقال: فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم قال : الله أكبر، وركع، ثم اعتدل، فلم يصوب رأسه، ولم يقنع، ووضع يديه على ركبتيه - يعني هذا في الركوع - اعتدال الظهر والرأس، وعدم التصويب، ولا الاقناع، ويضع اليدين على الركبتين" [رواه الترمذي: 304، وصححه الألباني في الإرواء: 305]. ومعنى لم يقنع يعني: لم يرفع رأسه عن ظهره، وإذا رفع رأسه عن ظهره، أو جافى ظهره، بحيث يكون كالمحدوب، كره ذلك، ويضع يديه على ركبتيه، ويأخذهما بهما، يعني يأخذ ركبتيه بكفيه، لما روى الترمذي عن عباس بن سهل بن سعد قال : اجتمع أبو حميد الساعدي، وأبو أسيد، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة، فذكروا صلاة رسول الله ﷺ فقال أبو حميد: "أنا أعلمكم بصلاة رسول الله ﷺ إن رسول الله ﷺ ركع فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما" صححه الألباني. [رواه أبو داود: 734، وصححه الألباني في المشكاة: 801].
ويفرق بين أصابعه، لما جاء في حديث أبي حميد عند أبي داود قال : فإذا ركع، أمكن كفيه من ركبتيه، وفرج بين أصابعه، حديث صحيح، وعن وائل بن حجر أن النبي ﷺ كان إذا ركع، فرج بين أصابعه. رواه الحاكم في المستدرك وحسنه الألباني، إذًا قبض وتفريج، قبض على الركبتين بالكفين، مع تفريج الأصابع، فإن كانت إحدى يديه مقطوعة، أو عليلة، فعل بالصحيحة كما تقدم، وفعل بالعليلة الممكن، فإن لم يمكنه وضع اليدين على الركبتين، أرسلهما ويجعل أصابعه على ساقه، لما روى أبو داود عن سالم البراد قال : أتينا عقبة بن عامر الأنصاري فقلنا له : حدثنا عن صلاة رسول الله ﷺ فقام بين أيدينا في المسجد فكبر، فلما ركع وضع يديه على ركبتيه، وجعل أصابعه أسفل من ذلك، أسفل الركبة ماذا يوجد؟ الساق، وجافى بين مرفقيه حتى استقر كل شيء منه، في آخر الحديث قال : ثم قال: هكذا رأينا رسول الله ﷺ يصلي" حديث صحيح. [رواه أبو داود: 863، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 863]. ومعنى قوله: "وجعل أصابعه أسفل من ذلك" يعني: أنه وضع كفيه على الركبتين، وأصابعه أسفل منهما، وفي رواية النسائي : فلما ركع وضع راحتيه على ركبتيه، وجعل أصابعه من وراء ركبتيه، صححه الألباني.
بعض الناس لما يمسك بركبتيه في الركوع هكذا، والسنة أن تمتد الأصابع إلى أول الساق، ويلقم ركبتيه كفيه، ومن السنة كذلك أن يجافي مرفقيه عن جنبيه أثناء الركوع، وهذا متفق على استحبابه بين العلماء، لما رواه الترمذي - رحمه الله - من حديث أبي حميد أن رسول الله ﷺ ركع فوضع يديه على ركبتيه، كأنه قابض عليهما، ووتر يديه، فنحاهما عن جنبيه، ووتر يديه، من التوتير وهو جعل الوتر على القوس، قال في النهاية: أي جعلهما كالوتر، فشبه يد الراكع إذا مدها قابضًا على ركبتيه بالقوس إذا أوترت، هذا في تحفة الأحوذي، فنحاهما عن جنبيه من نحى ينحي تنحية إذا أبعد يديه عن جنبيه، حتى كانت يده كالوتر، وجنبه كالقوس، ووتر يديه، أي عوجهما، من التوتير وهو جعل الوتر على القوس، فتجافى عن جنبيه، أي نحى مرفقيه، مرفقان تُنحَّى عن الجنب، وفي حديث أبي مسعود الأنصاري : وجافى بين مرفقيه. رواه أبو داود، وهو حديث صحيح، يعني باعدهما من جنبيه، وهو من الجفاء وهو البعد عن الشيء، انتهى من عون المعبود، ما هي الحكمة من هذه المجافاة؟ قال النووي - رحمه الله - إنها أكمل في هيئة الصلاة، وصورتها، ولكن يراعي في تفريج يديه عن مرفقيه، أن لا يؤذي من بجانبيه، قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: ينبغي كذلك أن يفرج يديه عن جنبيه، ولكنه مشروط بما إذا لم يكن فيه أذية، فإذا كان فيه أذية لمن كان إلى جنبه فإنه لا ينبغي للإنسان أن يفعل سنة يؤذي بها غيره، لأن الأذية فيها تشويش على المصلي إلى جنبه، وتلبيس عليه، ثم إنه يخشى أن يكون ذلك داخلًا في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58]، فإن هذا يشمل الأذى القولي والفعلي، انتهى من الشرح الممتع، ومعلوم أن الأذى درجات، وأن الإثم فيه يتفاوت، هل المرأة في هذه المجافاة كالرجل؟ مذهب جمهور العلماء أنها لا تجافي، بل تضم بعضها إلى بعض في الركوع والسجود، لكون ذلك أستر لها كما قال النووي - رحمه الله – وقيل : بل تفعل كما يفعل الرجل لما يلي :
أولًا : قوله ﷺ : صلوا كما رأيتموني أصلي رواه البخاري، وهذا الخطاب يشمل الرجال والنساء، وعلق الشيخ الألباني فقال : كل ما تقدم من صفة صلاته ﷺ يستوي فيه الرجال والنساء، ولم يرد في السنة ما يقتضي استثناء النساء من بعض ذلك، بل إن عموم قوله ﷺ: صلوا كما رأيتموني أصلي يشملهن. صفة الصلاة.
ثانيًا: عموم قوله ﷺ: إنما النساء شقائق الرجال [رواه أبو داود: 236، والترمذي: 113، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2333]. رواه أبو داود والترمذي من حديث عائشة وكذلك الدارمي من حديث أنس.
قال العجلوني: "قال ابن القطان هو من طريق عائشة ضعيف ومن طريق أنس صحيح" [كشف الخفاء: 1/243].
قال الخطابي: "فيه من الفقه أن الخطاب إذا ورد بلفظ المذكّر كان خطابًا للنساء إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها"، انتهى. [معالم السنن: 1/79]. والغالب والمشروع للمرأة أن تصلي وحدها في بيتها بدون حضرة الرجال، وحينئذ لا حاجة إلى الانضمام ما دام لا يشهدها الرجال، فالقول الراجح إذًا: أن المرأة تصنع كما يصنع الرجل في كل شيء فترفع يديها وتجافي وتمد الظهر في حال الركوع، انتهى من الشرح الممتع. [الشرح الممتع: 3/219].
وقال البخاري - رحمه الله -: "كانت أم الدرداء تجلس في صلاتها جلسة الرجل وكانت فقيهة"
[صحيح البخاري: 1/165].
وذكر الحافظ في فتح الباري - رحمه الله - أن أبا الدرداء كان له زوجتان كل منهما تكنى بأم الدرداء، ولكن إحداهما يقال لها : أم الدرداء الكبرى، والأخرى أم الدرداء الصغرى، واختار الحافظ - رحمه الله - أن أم الدرداء في هذا الحديث هي أم الدرداء الصغرى، وكانت فقيهة أيضًا، وأما حديث أن رسول الله ﷺ مر على امرأتين تصليان فقال: إذا سجدتما فضمّا بعض اللحم إلى الأرض فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل رواه أبو داود في المراسيل، والبيهقي، فهو مرسل، والمرسل من أقسام الضعيف، كما هو معلوم في المصطلح، ولكن تراعي المرأة في الأماكن المفتوحة، في الحرم مثلًا أماكن مرور الرجال، أن تضم بعضها إلى بعض؛ لئلا تنكشف، فإن قول الجمهور المتقدم في مثل هذه الحالات ينبغي العمل به، والحرص عليه، والاطمئنان في أركان الصلاة، ومنها الركوع ركن من أركان الصلاة، ففي حديث المسيء صلاته قال: ثم اركع حتى تطمئن راكعًا [رواه مسلم: 397].
وروى أبو داود عن أبي مسعود البدري قال: قال رسول الله ﷺ: لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود حديث صحيح. [رواه أبو داود: 855، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7224].
إذن، لا تجزئ صلاة من لا يسوي ظهره في الركوع والسجود، والمراد بذلك: "الطمأنينة" كما في عون المعبود. [عون المعبود وحاشية ابن القيم: 3/65]. وروى أحمد عن عبد الله بن القاسم قال: "جلسنا إلى عبد الله بن أبزى فقال: ألا أريكم صلاة رسول الله ﷺ؟ فقلنا: بلى، فقام فكبّر، ثم قرأ، ثم ركع، فوضع يديه على ركبتيه، حتى أخذ كل عضو مأخذه، ثم رفع حتى أخذ كل عضو مأخذه" حسنه الألباني. [رواه أحمد: 15371، وحسنه الألباني في أصل صفة صلاة النبي ﷺ: 2/633]. وروى أحمد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: إن أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته قالوا: يا رسول الله وكيف يسرقها؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها وصححه الألباني. [رواه أحمد: 11532، وصححه الألباني في المشكاة: 885]. والمقصود بالاطمئنان في الركوع أن يمكث في هيئة الركوع حتى تستقر أعضاؤه وتسكن مهما قلة المدة المهم أن تطمئن أعضاؤه وتسكن، هذه هي الطمأنينة، وهذا قول جمهور العلماء، الشافعية، والمالكية، والحنابلة، وعند الحنفية أقل الطمأنينة هو تسكين الجوارح قدر تسبيحة، وعبر المجد ابن تيمية بقوله : بقدر الذكر الواجب، ولو زاد في الهوي، ثم ارتفع، والحركات متصلة، ولم يلبث، لم تحصل الطمأنينة، ولا يقوم زيادة الهوي مقام الطمأنينة، الآن نحن نقول في الدرس : ولو زاد في الهوي، يعني الآن هو قائم، لو زاد في الهوي، ثم ارتفع والحركات متواصلة، زاد في الهوي يعني: مستوى الركوع، ثم ارتفع والحركات متواصلة، ولم يلبث لم تحصل الطمأنينة، نعيد الكلام، ولو زاد في الهوي، نزل تحت، مستوى الركوع، زاد في الهوي، ثم ارتفع، زاد ثم ارتفع، والحركات متواصلة، ما في سكون، ولم يلبث، لم تحصل الطمأنينة، فما هو هذا الوضع الذي لا تحصل به الطمأنينة؟ الآن لابد تنزل وتصعد مباشرة، لابد تنزل تحت مستوى الركوع وتصعد، واحد نزل بسرعة وتحت مستوى الركوع زاد وطلع هذا ركوع، لا نقول : ليس بركوع، هذا ركوع، ولكن لا تصح الصلاة به؛ لأنه بغير طمأنينة، إذن، هذا ركع ولكن لم تصح صلاته؛ لأنه لا توجد طمأنينة، وكثير من طلاب المدارس، والمصلين في المساجد، يفعلون ذلك، يركع ويرفع، ينزل تحت، ويطلع فوق، ولم يستقر، ولم يلبث، ولم يمكث، لا قدر تسبيحة، ولا أكثر من ذلك، فهذا مع ركوعه صلاته غير صحيحة؛ لأنه فقد الطمأنينة، لم يطمئن.
قال المصنّف - رحمه الله - تعالى بعد ذلك: ويقول : سبحان ربي العظيم يكرره، يشرع للمصلي أن يقول في ركوعه : سبحان ربي العظيم، لما روى أبو داود عن عقبة بن عامر قال : لما نزلت : فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74] قال رسول الله ﷺ: اجعلوها في ركوعكم [رواه أبو داود: 869، وضعفه الألباني في الإرواء: 334]. قال النووي: "إسناده حسن" [مرقاة المفاتيح: 2/714]. وأقل الكمال أن يقولها ثلاثًا، لما روى ابن ماجه عن حذيفة بن اليمان، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : إذا ركع سبحان ربي العظيم ثلاث مرات" حديث صحيح، ولو سبح خمسًا أو سبعًا أو تسعًا أو إحدى عشر، كان أفضل وأكمل، وقد كررها رسول الله ﷺ في قيام الليل كثيرًا، حتى كان ركوعه قريبًا من قيامه، وكان قد قرأ البقرة والنساء وآل عمران، كما في صحيح مسلم، وورد أنه ﷺ كان يقول في الركوع "سبحان ربي العظيم وبحمده" [رواه أبو داود: 870، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 4734]. إذن، صار عندنا الآن سنتان: سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي العظيم وبحمده.
قال المصنّف - رحمه الله -: وإن قال مع ذلك في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي فحسنٌ، لما روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: "كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن" [رواه البخاري: 817، ومسلم: 484]. أي: يفعل ما أمر به في قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 3].
وفي لفظ عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما رأيت النبي ﷺ منذ نزل عليه إذا جاء نصر الله والفتح، يصلي صلاة، إلا دعا، أو قال فيها : سبحانك ربي وبحمدك اللهم اغفر لي، وقد ثبت عن النبي ﷺ في الركوع أذكار كثيرة منها أنه كان يقول: سبُّوح قدوس رب الملائكة والروح [رواه مسلم: 487].
ومعنى سبوح المبرأ من النقص والشريك، وكل ما لا يليق بالإلهية من النقائص، وقدوس أي مطهر من كل ما لا يليق بالخالق، فإذًا سبوح المبرأ من النقائص، وكل ما لا يليق بالألوهية، والقدوس المطهر من كل ما لا يليق بالخالق، رب الملائكة معلوم، والروح جبريل فهو ربهم جميعًا.
ومما يقال في الركوع أيضًا ما ورد في صحيح مسلم أنه ﷺ إذا ركع قال: اللهم لك ركعتُ وبك آمنتُ ولك أسلمتُ، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي [رواه مسلم: 771].
وعند النسائي عن جابر أن النبيﷺ كان إذا ركع قال اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين وصححه الألباني. [رواه النسائي: 1051، وصححه الألباني في صفة صلاة النبي: 6].
وجاء أيضًا عند النسائي: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة حديث صحيح. [رواه أبو داود: 873، وصححه الألباني في المشكاة: 882].
هل يجمع بين هذه الأدعية أو يقتصر على واحد منها؟ قال النووي - رحمه الله -: "والأفضل أن يُجمع بين هذه الأذكار كلها إن تمكن" [الأذكار للنووي: 53]. وهو الذي يُفهم من قول المصنّف - رحمه الله -: وإن قال مع ذلك في ركوعه وذكره، وقال الشيخ ابن عثيمين : هذا محل احتمال، وقد سبق أن الاستفتاحات الواردة لا تقال جميعًا، إنما يقال بعضها أحيانًا، وبعضها أحيانًا، وبينا دليل ذلك، لكن أذكار الركوع المعروفة، تقال جميعًا عند عامة العلماء.
إذن أذكار الركوع يمكن أنت أن تجمعها كلها في ركوع واحد، لكن تعرف الواجب، سبحان ربي العظيم ما زاد فهو سنة، الشيخ الألباني - رحمه الله - قال: "يُحتمل أنهﷺ كان يجمع بينها، أو بين بعضها، أو يقتصر على نوع واحد منها، كل ذلك جائز، محتمل، ولم نقف على نص يرجّح بعض هذه الاحتمالات، انتهى كلام الشيخ - رحمه الله -، ويؤيد القول بالجمع ما رواه محمد بن نصر المروزي في قيام الليل عن ابن جريج - رحمه الله - قال: قلت لعطاء: كيف تقول في الركوع؟ قال: إذا لم أعجل، ولم يكن معي من يعجلني، فإني أقول : سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت، سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولًا، ثلاث مرات، وسبحان الله العظيم ثلاث مرات، ثم أقول : سبحان الله وبحمده ثلاث مرات، سبحان الملك القدوس ثلاث مرار، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، تسبق رحمة ربي غضبه مرارًا، إلا أن الإمام ينبغي له أن لا يطيل إطالة تشق على المأمومين، بل يكون ركوعه وسجوده نحو عشر تسبيحات، يعني لا يزيد على ذلك، روى أحمد عن أنس قال: "ما رأيتُ أحدًا أشبه بصلاة رسول الله ﷺ من هذا الغلام" يعني: عمر بن عبد العزيز، قال: "فحزرنا في الركوع عشر تسبيحات وفي السجود عشر تسبيحات" وحسّنه الحافظ - رحمه الله - وقال ابن القيم: "إسناده ثقات" وذكره الشيخ الألباني في صحيح النسائي، وإن كان أشار إلى ضعفه في الإرواء.
ما حكم تسبيح الركوع؟ جمهور العلماء على أن هذا التسبيح مستحب، فمن تركه فلا شيء عليه؛ لأن النبي ﷺ لم يعلّمه المسيء في صلاته، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ومذهب الحنابلة أن هذا التسبيح واجب، فمن تركه متعمدًا بطلت صلاته، وإن تركه ساهيًا وجب عليه ماذا؟ سجود السهو كما في المغني.
وقالوا بالوجوب؛ لأن النبي ﷺ أمر به، والأصل في أمره أنه للوجوب، والدليل على أنه أمر به حديث أبي داود عن عقبة بن عامر قال: لما نزلت: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 74]، قال رسول الله ﷺ: اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1]، قال: اجعلوها في سجودكم والحديث حسّنه النووي وصححه ابن القيم، وقال الشوكاني: "لا مطعن في إسناده" وإن كان الشيخ الألباني أشار إلى ضعفه في ضعيف أبي داود والإرواء، لكن هذا تحسين، وتصحيح عدد من العلماء، والواجب من ذلك أن يقولها مرة واحدة عند من يقول بوجوبها، وما زاد فهو سنة.
قال المصنّف - رحمه الله - تعالى: ثم يرفع رأسه قائلًا سمع الله لمن حمده أي بعد أن يركع المصلي، ويقول أذكار الركوع يعتدل قائمًا، والاعتدال من الركوع فرض وركن من أركان الصلاة لا تصح إلا به، ويدل على ذلك حديث المسيء صلاته حيث قال له ﷺ ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا. رواه مسلم، وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهﷺ: لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده فما هي الإقامة بين الركوع والسجود؟ هي الاعتدال المذكور هذا، فبعض الناس إذا رفع من الركوع ما يتم القيام، ويسجد فيكون قد فوت ركنًا من أركان الصلاة، والاعتدال الواجب هو أن يعود بعد ركوعه إلى الهيئة التي كان عليها قبل الركوع، سواء صلى قائمًا أو قاعدًا، لأنه يمكن أن يصلي قاعدًا، ويطمئن في اعتداله بعد الركوع: أن يعود إلى الهيئة التي كان عليها قبل الركوع، وتجب الطمأنينة في هذا الاعتدال لما روى البخاري عن أبي حميد الساعدي أنه قال في صفة صلاة النبي ﷺ وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه، قال الحافظ في الفتح : الفقار جمع فقارة وهي عظام الظهر إذن الفقار: العمود الفقري، وتجب الطمأنينة في هذا الاعتدال إذًا لهذا الحديث، والمعنى حتى يعود كل عظم مكانه، والمراد بذلك كمال الاعتدال وفي رواية هشيم عن عبد الحميد، ثم يمكث قائمًا حتى يقع كل عظم موقعه، وقالت عائشة في صفة صلاة النبي ﷺ: وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا" [رواه مسلم: 498].
ماذا بالنسبة لرفع اليدين في هذا الاعتدال؟ السنة رفعهما، وفي محل الرفع قولان: الأول أن يرفع يديه مع ابتداء رفعه من الركوع، فإذا اعتدل قائمًا حط يديه، لما رواه البخاري عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: رأيت رسول الله ﷺ إذا قام في الصلاة رفع يديه، حتى يكون حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه" والمراد بقوله: "ذلك" رفع اليدين، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع ويقول : سمع الله لمن حمده" [رواه البخاري: 736].
قال الحافظ - رحمه الله -: "ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع" أي إذا أراد أن يرفع؛ لأنه قد يقول قائل : إذا رفع يعني إذا رفع وانتهى، فالحافظ يقول "إذا رفع" يعني: إذا أراد أن يرفع، ويؤيده رواية أبي داود من طريق الزبيدي، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، السند الآن صار واحدًا، سند أبي داود وسند البخاري التقيا: الزهري، عن سالم، عن عبد الله، رواه أبو داود بلفظ: "ثم إذا أراد أن يرفع صلبه رفعهما حتى يكونا حذو منكبيه" ومقتضاه أنه يبتدئ رفع يديه عند ابتداء القيام من الركوع" [فتح الباري لابن حجر: 2/220]. إذا بدأ القيام من الركوع، إذا ارتفع من الركوع رفع يديه معهما، وحديث أبي داود صححه الألباني.
وفي حديث مالك بن الحويرث، وإذا رفع رأسه من الركوع، رفع يديه، وظاهره أنه رفع يديه، حين أخذ في رفع رأسه، كما قال ابن قدامة في المغني.
المحل الثاني: أن يكون محل رفع اليدين بعد الاعتدال، وهو رواية عن أحمد، قال أحمد بن الحسين : رأيت أبا عبد الله، إذا رفع رأسه من الركوع، لا يرفع يديه، حتى يستتم قائمًا، وذلك لأنه جاء في بعض ألفاظ حديث ابن عمر: رأيت رسول الله ﷺ إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد ما يرفع رأس من الركوع، أي رفعهما أيضًا، إذا أراد أن يركع رفع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه، يعني بعد ما يعتدل قائمًا، وهذا الحديث رواه أبو داود وصححه الألباني، لكن قال الحافظ : معناه وبعد ما يرفع رأسه من الركوع، معناه ما بعد ما يشرع في الرفع، لتتفق الروايات، وذلك لأن الحديث واحد، وهو من رواية الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، فإذًا هذا رأي الحافظ - رحمه الله -، إذن إذا رفع يديه، وليس بعد الاعتدال يرفع، وإنما إذا رفع من الركوع رفع يديه، هذا الموضع الأول، والموضع الثاني بعد الارتفاع، وبعد الاعتدال يرفع يديه، ويقول في حال ارتفاعه: سمع الله لمن حمده، فيبتدئ الرفع قائلًا : سمع الله لمن حمده، ويكون انتهاؤه من هذه العبارة عند انتهاء رفعه كما قال ابن قدامة في المغني [المغني لابن قدامة: 1/364]. وسمع الله لمن حمده هو دعاء لكن بلفظ الخبر وتقديره: اللهم اسمع لمن حمدك" كما في الذخيرة [الذخيرة للقرافي: 2/217]. فإذا استوى قائمًا قال : ربنا لك الحمد، ملء السموات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد، يعني: الحظ والنصيب والغنى والجاه، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، رواه مسلم.
إذن، لا ينفعه إلا عمل صالح، ولا ينفعه الغنى والجاه والمال، متى يقول : سمع الله لمن حمده؟ الكلام الآن للإمام والمنفرد، يقوله حين يرتفع، إذا رفع يقول : سمع الله لمن حمده حال ارتفاعه، فيبتدئ الرفع، ويبتدئ الكلام، حركة وقول معًا، وقد ورد في التحميد أربع صيغ: الأولى: ربنا ولك الحمد كما في البخاري. [رواه البخاري: 689]. الثانية: ربنا لك الحمد كما في البخاري أيضًا. [رواه البخاري: 722]. الثالثة: اللهم ربنا ولك الحمد في البخاري أيضًا. [رواه البخاري: 795]. الرابعة: اللهم ربنا لك الحمد رواها البخاري أيضًا. [رواه البخاري: 796]. إذن، هذه أربع روايات في البخاري، ربنا ولك الحمد، ربنا لك الحمد، بدون واو، اللهم ربنا ولك الحمد، اللهم ربنا لك الحمد، كلها سنة، فهذه الصفات الأربع واردة عن النبي ﷺ فيسن للمصلي أن يقولها، ولكن لا يجمع بينها، بل يقول هذه تارة، وهذه تارة، وهذه تارة، وهذه تارة.
تنبيه : بعض الناس يقول بعد قوله : ربنا ولك الحمد، يضيف الشكر، ربنا ولك الحمد والشكر، ولا شك أن لله الشكر، لكن هذه زيادة مبتدعة، لأن ألفاظ أذكار الصلاة مبينة محددة، ولا يجوز الزيادة عليها، لأنه إحداث في الدين، والزيادة في الدين كالنقص منه، ولو كانت خيرًا، لما فاتت النبي ﷺ فإذن، لا يزيد الإنسان، ولو قالها من قالها من العامة، ربنا ولك الحمد والشكر، نقول : الشكر ما وردت، والتسميع والتحميد سنة عند جمهور العلماء لأن النبي ﷺ لم يعلمه المسيء في صلاته، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، هذه حجة من؟ الجمهور كما في المغني، لكن الحنابلة ذهبوا كما قدمنا في التكبير إلى أنها واجب، وكذلك هذه أيضًا واجبة عندهم، وهي سمع الله لمن حمده من واجبات الصلاة، كما في الإنصاف، قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع : والدليل على ذلك يعني الوجوب أولًا : أن الرسول ﷺ واظب على ذلك، فلم يدع قول : سمع الله لمن حمده في حال من الأحوال. ثانيًا : أنه شعار الانتقال من الركوع إلى القيام.
ثالثًا : قوله ﷺ: إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد رواه البخاري. والقدر الواجب في ذلك هو قول : ربنا لك الحمد، أو ولك الحمد، أما زيادة ملء السموات إلى آخره مستحبة.
المصنف - رحمه الله - كان يتكلم على عبارتي سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد فقال بعدها: إن كان إمامًا أو منفردًا يعني يقولهما، فيجمع الإمام والمنفرد بين قول : سمع الله لمن حمده وربنا لك الحمد، وقد اتفق الفقهاء على أن المنفرد يجمع بين التسميع والتحميد، فيقول : سمع الله لمن حمده حين يرفع من الركوع، فإذا استوى قائمًا ماذا يقول؟ ربنا ولك الحمد، نقل الاتفاق على هذا الطحاوي في شرح معاني الآثار، وابن عبد البر في الاستذكار، أما الإمام فيجمع بينهما، سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، على القول الراجح من أقوال الفقهاء، وهو مذهب الحنابلة والشافعية، ويدل على ذلك حديث أبي هريرة كان النبي ﷺ إذا قال : سمع الله لمن حمده قال : اللهم ربنا ولك الحمد. رواه البخاري ومسلم. فإذن، هو قالهما جميعًا، وهو إمام وقد بين الحافظ ابن حجر أن استحباب تحميد الإمام مستفاد من هذا الحديث، ومن غيره، كما في الفتح الباري.
ماذا بالنسبة للمأموم؟ هل المأموم يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد أو يقول ربنا ولك الحمد فقط؟
هنا خلاف لأهل العلم، فمذهب الشافعية أنه يستوي في هذه الأذكار كلها الإمام والمأموم والمنفرد فيجمع كل منهم بين قوله : سمع الله لمن حمده عند رفعه من الركوع، وربنا لك الحمد بعد استقامته، واستتمامه قائمًا، ودليل ذلك أن النبي ﷺ كان يجمع بينهما وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي كما ذكر ذلك النووي في المجموع، وذهب جمهور العلماء، من الحنفية، والمالكية، والحنابلة، إلى أن المأموم يقتصر على التحميد فقط، فيقول : ربنا لك الحمد، أو ولك الحمد، ولا يقول : سمع الله لمن حمده، لماذا؟ قالوا : لأن النبي ﷺ قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا سجد فاسجدوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد رواه مسلم، هذا دليلهم أن المأموم يقتصر على التحميد، ففرق النبي ﷺ بين التكبير وبين التسميع، يعني التكبير إذا قال : الله أكبر، قولوا : الله أكبر، وإذا قال : سمع الله لمن حمده، ما قال : فقولوا : سمع الله لمن حمده، قال : فقولوا : ربنا ولك الحمد، لأن قوله : إذا قال : سمع الله لمن حمده، قولوا : ربنا ولك الحمد، بمنزلة قوله : إذا قال : سمع الله لمن حمده، فلا تقولوا : سمع الله لمن حمده، ولكن قولوا : ربنا ولك الحمد، بدليل السياق، يعني: سياق الحديث الذي قال : إذا كبر فكبروا، كما قال الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، المسألة طبعًا مذكورة في كتب الفقه، المغني، الأم، المحلى، إلى آخره، وعلى هذا فلا يقول المأموم : سمع الله لمن حمده، وإنما يقول : ربنا ولك الحمد، عند أكثر العلماء، ولكن متى يقول ذلك؟ يقوله في حال الرفع من الركوع، لاحظ، الإمام الآن يقول : سمع الله لمن حمده، إذا اعتدل يقول : ربنا ولك الحمد، المأموم ماذا سيقول؟ ومتى سيقول؟ إذا قلنا : إنه لا يقول إلا ربنا ولك الحمد، فمتى سيقوله عند ارتفاعه، أو بعد ارتفاعه؟ يقولها في حال رفعه من الركوع لقول النبي ﷺ إذا قال الإمام : سمع الله لمن حمده، فقولوا : ربنا ولك الحمد، فهذا يقتضي تعقيب قول الإمام قول المأموم، يعني أنه عقبه مباشرة، والمأموم يأخذ في الرفع عقيب قول الإمام : سمع الله لمن حمده، فيكون قوله : ربنا ولك الحمد، حينئذٍ، كما قال ابن قدامة في المغني، والمرداوي في الإنصاف.
إذن، المأموم يقول: ربنا ولك الحمد، هذا بالنسبة لأذكار الرفع من الركوع.
بقي عندنا مسألة إذا استتم قائمًا فماذا يفعل؟
مذهب الحنابلة أنه يقف ساكتًا، وصحح في الإنصاف، تبعًا للمغني والشرح وغيرهما، استحباب زيادة أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وغيره، مما صح، يعني هذا يقوله، يكمله، متى؟ بعد الرفع، ويستحب للإمام أن يجهر بقوله : سمع الله لمن حمده، ليسمع المأمومون ذلك، ويعلموا انتقاله، كما يجهر بالتكبير، ويسر بقوله، الإمام يسر بقوله ماذا؟ ربنا ولك الحمد، لأنه يفعله في الاعتدال، فيسر به، كالتسبيح في الركوع والسجود، وأما المأموم فيسر بها، كما يسر بالتكبير، وإذا أخذ بقول الشافعية، المأموم يقول : سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد فإنه يسر بهما جميعًا.
هل يقبض في الاعتدال إذا اعتدل قائمًا، بعد الركوع هل يقبض يديه أو يرسلهما؟
هذا موضع خلاف بين العلماء، فذهب بعضهم إلى سنية القبض في هذا القيام، لعموم حديث وائل بن حجر أن النبي ﷺ كان إذا كان قائمًا في الصلاة قبض بيمينه على شماله. أخرجه النسائي، وسنده صحيح، ولحديث سهل بن سعد قال : كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، رواه البخاري، قالوا : إن عموم قوله : في الصلاة يشمل القيام، قبل الركوع وبعد الركوع، وإذا كانت أحوال الصلاة أربعة لا خامس لها، يعني في الحركات، قيام، وركوع، وسجود، وقعود، فلما وصفوا قيامه بهذا، استوى قيامه قبل الركوع وبعد الركوع، وبالقول بسنية القبض، قال به الكاساني من الحنفية، ونقله ابن مفلح عن القاضي من الحنابلة، فقال في نكته على المحرر : وقطع به القاضي في الجامع، لأنه حالة قيام في الصلاة، فأشبه قبل الركوع، وهو قول الشيخ ابن باز، وابن عثيمين، واللجنة الدائمة، من المعاصرين، ومذهب جمهور العلماء، من الحنفية، والمالكية، والشافعية، أنه يرسل يديه في الاعتدال، ولا يقبض، لعدم ورود نص خاص في هذا الموضوع، وأن عموم القيام لا يشمله، لأنه اعتدال، وليس بقيام، كما ذكره في الفتاوى الهندية، والفتاوى الفقهية الكبرى، ومذهب الإمام أحمد أن المصلي مخير بين وضع يمينه على شماله أو إرسالهما؛ لأنه لم يرد في السنة ما هو صريح في هذا، قال المرداوي: "قال أحمد : إذا رفع رأسه من الركوع إن شاء أرسل يديه وإن شاء وضع يمينه على شماله" كما في الإنصاف والمبدع. وعلى كل، فإن الصلاة تصح بقبض اليدين، وبإرسالهما، وبكل قال طائفة من العلماء ممن يقتدى بهم، ولا ينبغي أن يفضي الخلاف في هذه المسألة إلى التنازع، ولا الاختلاف، ولا التفرق، ولا التبديع، ولا الانكار، هذا ليس موضع إنكار، موضع مباحثة بين طلبة العلم، ليس موضع إنكار، ولا تشديد، ولا أن يقال : بدعة ضلالة، ومن المقرر عند أهل العلم أن المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، هذه الاجتهادية لا ينكر فيها أحد على أحد؛ لأن كلًا من الفريقين المختلفين قد تمسكا بأدلة معتبرة، قال الشيخ ابن عثيمين : ولا ينبغي للإنسان أن يطلق كلمة بدعة في مثل هذا، لأنه يؤدي إلى تبديع الناس بعضهم بعضًا في المسائل الاجتهادية، التي يكون الحق فيها محتملًا في هذا القول أو ذاك، فيحصل من الفرقة والتنافر ما لا يعلمه إلا الله، قد يرجح البعض أنه يضع؛ لأن هذا قيام، وهذا قيام، إذا جرى وصف القيام في الصلاة بوضع اليدين، فما الفرق بين هذا وهذا؟ ولماذا نسميه اعتدالًا وهو قيام في الحقيقة؟ وأنه أقرب إلى الخشوع، كما يقال : في وضعهما قبل الركوع، وأنه أبعد عن العبث، أليس كذلك؟ أبعد عن العبث، فلعله الأقرب والله أعلم، ولكن مرة أخرى، لا مجال للإنكار، والتشديد، في هذه المسألة.
نأتي بعد ذلك إلى السجود في الدرس القادم إن شاء الله، وصلى الله على نبينا محمد.