الأصل البول قاعدا
من الآداب: البول جالسًا، فالأفضل والمستحب للإنسان أن يتبول قاعدًا؛ لأنه المعهود من فعل النبي ﷺ، ولأنه أستر له، وأحفظ له من أن يصيبه شيء من رشاش بوله، وقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: "من حدثكم أن رسول الله ﷺ كان يبول قائمًا فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدًا" [رواه الترمذي: 12، وصححه النووي، وغيره].
ففي هذا الحديث دليل على أن الهدي المعتاد، يعني الغالب من فعل النبي ﷺ هو البول قاعدًا، وقد روي عن عبد الله بن مسعود قال: "إن من الجفاء أن تبول وأنت قائم". ذكره الترمذي معلقًا دون سند.
حكم البول قائمًا
ولكن ما حكم البول قائمًا؟ يعني من الأدب أن يبول قاعدًا.
طيب هذا معروف لما؟ لأنه أستر، لا شك أن البول قاعدًا أستر من البول قائمًا، ويأمن من ارتداد الرشاش عليه، وحتى في تلويث الثياب قد يكون قاعدًا أولى؛ لأنه يحتاج إذا أراد أن يبول قائمًا أن يتجرد من السراويل وغيرها تمامًا حتى يستطيع أن يبول دون، يعني ليأمن من تلوث الثياب.
على أية حال: ما حكم البول قائمًا؟
من العلماء من قال بالكراهة دون عذر، يعني عندهم أنه يجوز بعذر، بدون عذر يكره، لماذا؟
قالوا: لأنه لا يأمن أن يصيب رشاش بوله شيئًا من بدنه أو ثوبه، هذا الذي هو الكراهة دون عذر قول الحنفية والشافعية؛ كما في "البحر الرائق"، و "روضة الطالبين" للنووي -رحمه الله-.
وقد وردت عدة أحاديث عن النبي ﷺ في النهي عن البول قائمًا، ولكن لا يصح منها شيء.
قال النووي -رحمه الله-: "وقد روي في النهي عن البول قائمًا أحاديث لا تثبت" [شرح النووي على مسلم: 3/ 166].
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "لم يثبت عن النبي ﷺ في النهي عنه -البول قائمًا- شيء" [فتح الباري: 1/330].
ومن العلماء من قال بالجواز وشرط أمن التلوث وأمن انكشاف العورة، وهذا مذهب المالكية والحنابلة.
إذًا، أي المذهبين أشد؟ أي القولين أشد الأول وإلا الثاني؟
الأول؛ لأنهم قالوا يكره بلا عذر.
والثاني قول المالكية والحنابلة يجوز إذا أمن التلوث والانكشاف.
هذا التلوث والانكشاف أصلاً ما يجوز حتى عند الأولين، يعني هذه مفروغ منها، لكن القول الثاني جعلوه هو شرط الجواز، يعني قالوا جائز بشرط عدم الانكشاف، وعدم التلوث.
ومن أمثلة كتب المذاهب المذكور فيها القول هذا، يعني المالكية والحنابلة "المدونة" و "الفروع".
إذًا، أيهما كتاب المالكية؟ المدونة، وأيهما كتاب الحنابلة؟ الفروع.
قال المرداوي: "ولا يكره البول قائمًا بلا حاجة على الصحيح من المذهب إن أمن تلوثًا وناظرًا" [الإنصاف: 1/ 99].
إذًا، هذا القول الأخف؛ لأنهم قالوا يجوز بلا كراهة حتى لو لم يكن هناك عذر، إذا أمن تلوثًا وناظرًا.
طيب مثل ماذا العذر؟ يعني كأن لا يتمكن من الجلوس، يكون فيه علة في ركبته، في باطن ركبته، يكون المكان كله مثلاً، يعني أحيانًا طينًا، يخوض في طين، لو جلس يجلس في الطين، قمامة كله مكان ما حوله قمامة، إذا جلس يجلس على قمامة، يعني الحاجة أمثلتها كثيرة أو العذر، أو قلنا إلا لعذر، العذر أمثلته كثيرة، وقد روى البخاري ومسلم عن حذيفة قال: "أتى النبي ﷺ سباطة قوم فبال قائمًا، ثم دعا بماء؛ فجئته بماء فتوضأ" [رواه البخاري: 225، ومسلم: 273].
ما معنى السباطة؟
ملقى القمامة والتراب، ونحو ذلك، تكون بفناء الدور مرفقًا لأهلها، يعني مرفقًا لأهلها، يعني من ضمن المرافق التي كانت موجودة السباطة، مجموعة بيوت لها سباطة تلقى فيها القمامة والتراب، ونحوها.
طيب الآن هذا الحديث في الصحيحين: "أتى سباطة قوم فبال قائمًا" ألا ينافي هذا حديث عائشة المتقدم؟ يعني "من حدثكم أن النبي ﷺ بال قائمًا فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدًا؟".
الجواب: إذا حملنا حديث عائشة على ما علمته من حاله داخل بيته، وحديث حذيفة على ما علمه من حاله خارج بيته، فلا تعارض.
وإذا حملنا حديث عائشة على حاله من غير عذر، فإننا سنحمل حديث حذيفة على حاله مع العذر، والنتيجة أيضًا لا تعارض.
فإذًا، حديث حذيفة لا ينافي حديث عائشة -رضي الله عنهما-، وذلك لأن ما وقع منه ﷺ هنا قائمًا من البول كان نادرًا جدًا، والمعتاد خلافه.
ويمكن أن يكون هذا مبنيًا على عدم علم عائشة بما وقع منه قائمًا.
ويحمل حديث عائشة على البيت فإنها كانت عالمة بأحواله ﷺ في البيت، ومعلوم أن حديث حذيفة كان خارج البيت. [هذا كلام السندي على حاشية النسائي: 1/27].
وقد ذكر العلماء في سبب بول النبي ﷺ قائمًا على غير عادته أسبابًا؛ فقيل: كانت العرب تستشفي بذلك، يعني بالبول قائمًا من وجع الصلب، من وجع الظهر، وكان به ﷺ وجع الصلب إذ ذاك، في تلك الحال التي بال فيها قائمًا.
وقيل: إن سببه ما جاء في رواية البيهقي أنه ﷺ بال قائمًا لعلة بمأبضه، والمأبض باطن الركبة، فكأنه لم يتمكن لأجله من القعود، لكن الرواية ضعيفة، ضعفها البيهقي نفسه، والدار قطني، والنووي، وغيرهما [ينظر: "المجموع"، و "فتح الباري"].
تنبيه على خطأ منسوب للإمام أحمد
وبمناسبة ذكر البيهقي، يعني سنن البيهقي، هذا يعني قال بعض طلبة العلم من المعاصرين إنه رأى في مسند الإمام أحمد في بعض طبعات المسند كلامًا منسوبًا لأحمد، وقال الإمام أحمد مثلاً بعد الحديث، يعني يسوق الحديث في المسند، ثم قال أحمد، طيب وهذا الحديث قد روي موقوفًا ومرفوعًا والموقوف أثبت كذا وكذا، فقال يعني المتتبع لعبارات أحمد ما يجدها بهذا الطول، وبهذا التفصيل، يقول فتعجبت كيف يعني هذه العبارات لأحمد موجودة في طبعة المسند هذه، وما هي موجودة في طبعات أخرى، يقول: فتتبعت، فإذا يعني الأحاديث هذه التي فيها التعليق هذا موجودة في البيهقي، فذهبت إلى البيهقي فإذا موجود في بعض الأحاديث: قال الإمام، بعد الحديث، قال الإمام أحمد، فرجعت إلى المخطوط وجدت: "قال أحمد" قال: أحمد، من هو أحمد؟ البيهقي نفسه، اسمه أحمد، فسنن البيهقي يعلق البيهقي على الحديث، ويقول قال أحمد بعد الحديث، فجاء واحد في طبعة للبيهقي وحط، أضاف الإمام، قال الإمام، أو بعض النساخ حط الإمام، صارت قال الإمام أحمد، فجاء بعض هؤلاء العباقرة، وقالوا: في كلام لأحمد، في كلام للإمام أحمد في سنن البيهقي، ما هو موجود، خلنا نأخذه ونحطه في مسنده، وشالوه من سنن البيهقي، ووضعوه في مسند أحمد على أنه كلام أحمد.
على أية حال: الرواية هذه التي فيها أنه "بال قائمًا لعلة بمأبضه" ضعيفة.
وقيل: إنه بال قائمًا؛ لأنه لم يجد مكانًا للقعود فاضطر للقيام؛ لكون الطرف الذي من السباطة كان عاليًا مرتفعًا.
وقيل: إنه ﷺ بال قائمًا فعل ذلك لبيان الجواز، يعني هو سنة البول قاعدًا فعله مرة لبيان الجواز.
قال ابن قدامة: "ولعل النبي ﷺ فعل ذلك لتبيين الجواز، ولم يفعله إلا مرة واحدة" [المغني: 1/121].
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله-: "والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود" [فتح الباري: 1/ 330].
والحاصل: أنه لا حرج في البول قائمًا لا سيما عند الحاجة إلى ذلك بشرط أن يكون المكان مستورًا لا يرى فيه أحد عورة البائل، ولا يناله شيء من رشاش البول -كما قلنا- إذا أمن الانكشاف والتلوث، ولكن الأفضل البول جالسًا؛ لأن هذا هو غالب فعل النبي ﷺ، بل هو عامة فعله، ولأنه أستر للعورة وأبعد عن الإصابة بشيء من رشاش البول. هذا مقتضى كلام الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في هذه المسألة.
وقال الشيخ ابن عثيمين: "والبول قائمًا جائز، ولا سيما إذا كان لحاجة، لكن بشرطين:
الأول: أن يأمن التلويث.
والثاني: أن يأمن الناظر" [الشرح الممتع: 1/115-116].
قال الحافظ: "وقد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قيامًا، وهو دال على الجواز من غير كراهة إذا أمن الرشاش" [فتح الباري: 1/ 330].
هذا كلام الحافظ تأييدا لمذهب المالكية والحنابلة، مع أن مذهب الحافظ أصلاً شافعي، هذا من تجرده -رحمه الله-.
وقال الشيخ محمد أنور شاه الكشميري في "العرف الشذي": "إن في البول قائمًا رخصة، وينبغي الآن المنع عنه؛ لأنه عمل غير أهل الإسلام" [العرف الشذي: 1/ 57].
فهو الشيخ طبعًا من الحنفية، هو يقول: إنه الآن عمل غير أهل الإسلام، هذا ملاحظ بالحقيقة، يعني تعليقًا على وجود الحمامات المراحيض في الحمامات العامة المعلقة في الجدران التي يأتيها الكفار، هؤلاء الإفرنج من الروم ويبولون فيها قيامًا.
طبعًا هذه صارت خلاص وحتى البوذيين وغيرهم، يعني صارت تقريبًا سنة الكفار من أهل الأرض البول قيامًا في الحمامات العامة، ليس عندهم لا أمن الناظر، ولا أمن التلوث؛ لأن ما عندهم استنجاء، يقف ويبول، خلص يلبس لباسه على نجاسته، ثم يأتي واحد يبول والثاني يبول بجانبه والثالث بجانبه، هكذا وضعية هذه المراحيض مع الأسف تبنيها شركات أجنبية، وبعضها تصممها مكاتب هندسية عربية، ويبنيها مقاولون عرب تشبهًا بالكفرة في هذه المراحيض العامة، في حمامات مراحيض المطارات وغيرها تجدها هكذا.
فإذًا، هذا تقليد للكفرة هذا الوضع للمراحيض بهذه الصورة المكشوفة البول فيها قائمًا، وبجانب بعض، لا أمن الناظر، ولا أمن التلوث، ولا أصلاً فيها طريقة للاستنجاء.
فإذًا، قول الشيخ محمد أنور شاه الكشميري الآن مع أنه طبعًا هو قاله قبل ما توجد هذه الأشياء، لكن هو لاحظ، هو من المتأخرين طبعًا، لكن لاحظ أن هذه سنة الكفار، قال: "إن في البول قائمًا رخصة، وينبغي الآن المنع عنه؛ لأنه عمل غير أهل الإسلام".
فإذا نزلنا كلام الشيخ على المراحيض العامة الموجودة في المطارات وغيرها من فعل الكفار؛ لأن حماماتهم العامة حتى في جامعاتهم ومبانيهم المنشآت العامة مطارات مستشفيات جامعات وغيرها، هذا لا تحرز عن نظر بعضهم إلى بعض، ولا تحرز عن النجاسة، يلبسون ثيابهم على نجاساتهم -والعياذ بالله-، فهو فعل سيئ، وصار بعض المتفرنجين من بني قومنا يقلدونهم، ويفعلون فعلهم -والعياذ بالله-، وهذا فعل هؤلاء في الحمامات العامة، هذه المراحيض المعلقة في الجدران المكشوفة من أسباب عذاب القبر بلا شك؛ لأنهم لا يستنجون، ما في استنجاء ولا استجمار، يبول ويلبس ثيابه على النجاسة، فهذا من أسباب عذاب القبر، "وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله"، "لا يستنزه من بوله".
هذا هو من أسباب عذاب القبر.
وعلى أية حال: يبقى كلام الفقهاء في قضية جواز البول قائمًا لعذر أو جواز البول قائمًا إذا أمن الناظر وأمن التلوث.