الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نص الحديث الثالث عشر
قال النبي ﷺ: إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا -للذي قال- الحقَّ، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض الحديث رواه البخاري [رواه البخاري: 4800].
شرح الحديث الثالث عشر
فهذا حديث عظيم جليل من أحاديث عظمة الله، وأنه إذا تكلم بالأمر في السماء، وأمره سبحانه كن: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [آل عمران: 47]، وسمع أهل السماوات كلامه أرعدوا من الهيبة، حتى يلحقهم مثل الغشي، فإذا كان كذلك يسأل بعضهم بعضا: ماذا قال ربكم؟ فيخبر بذلك حملة العرش الذين يلونهم بما قال ربهم، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم، والملائكة مراتب، وهم سكان السماوات ما من موضع أربع أصابع إلا فيه ملك قائم أو راكع أو ساجد فيسأل بعضهم بعضًا؛ فيخبر الأعلى منهم الأدنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، حتى ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا.
وقد جاء ذلك صريحا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أخبرني رجل من أصحاب النبي ﷺ من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله ﷺ رُمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله ﷺ: ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رُمي بمثل هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم، ومات رجل عظيم، فقال رسول الله ﷺ: فإنها لا يُرمي بها لموت أحد ولا لحياته [رواه مسلم: 2229].
شف فائدة العلم أنه ينفي الخرافة والمعتقدات الباطلة، ويضعك -يا أيها المؤمن المسلم- على طريق الوحي علمك من الوحي شيء مؤكد، وهذه الأشياء الخفية الغيبية إذا رمي بنجم في السماء الشهاب هذا العابر ماذا وراءه؟ فأهل الجهل يفسرونه بخرافاتهم، لكن أنت تأخذ السبب من الوحي، فالعلم بالوحي يعطيك الإجابة على السؤال الذي لا يملك جوابه عامة الناس، بل عندهم ربما جهل يؤدي إلى اعتقادات فاسدة أو باطلة، وأنت عندك العلم اليقيني، فقال ﷺ: فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا -تبارك وتعالى اسمه- إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم يعني السابعة حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال: الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال: قال فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا، حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا؛ فتخطف الجن السمع، فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون به ..)) [رواه مسلم: 2229]، يقذفون الخبر إلى أوليائهم ليصل إلى الأرض إلى الكاهن في الأرض، ويرمون بالنجم هم عندما يستمعون في السماء، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق يعني: لو وصل الخبر بدقة استطاعوا أن يوصل الخبر بعضهم إلى بعض قبل الاحتراق قبل أن يحترقوا قبل أن يحترق مصدر الخبر الذي استرق السمع، إذا استطاع أن يلقيه قبل ما يحترق، والذين من بعده نقلوه بدقة حصل على وجهه، وهذا نادر.
ومتى لا يخرجون بشيء؟ أو يأتي الخبر كاذبا كذبا خطئا؟ إذا احترق المصدر الذي استرق السمع قبل أن يلقي ما سمعه أو ألقاه على عجل فأخذه الذي بعده نصف ما سمعه جيدا، وقد يتغير أثناء النقل، كما يحدث من التحريف عند البشر في نقل الأخبار من واحد إلى واحد كلما أطال السند طالت السلسلة كثرت فرص التحريف، وقد يكذبون، وهذا الغالب، يكذبون هم وكهنة الأرض ويلفقون، لكن لا يخلو أحيانا أن يوجد خبر صحيح بسبب ما تقدم، ولكن كثيرا ما يكذبون أو لا يأخذونه كاملا أو دقيقًا مثل ما سأل النبي ﷺ ابن صياد سأله هل يدري ما خبأ له؟ تدري ما خبأت لك ابن صياد؟ على الراجح كما قال ابن حجر -رحمه الله- بعد الدراسة الطويلة: أنه دجال من الدجاجلة، وليس الدجال الأكبر، اسمه صافي، يهودي، من يهود المدينة، فالنبي ﷺ قال له: تدري ماذا خبأت لك؟ وكان النبيﷺ قد خبأ له سورة، هذا له صلة بالشياطين، فقال: الدخ، فالنبي ﷺ قال له: اخسأ فلن تعدو قدرك النبي ﷺ كان خبأ له سورة الدخان، لكن ما وصلت كاملة، ما وصل إلا النصف، ويبدو احترق المصدر، فابن صياد لما سأله قال: الدخ؛ ما وصلت كاملة، ولذلك قال له ﷺ: اخسأ فلن تعدو قدرك [رواه البخاري: 1354، ومسلم: 2930، 2931] يعني مهما بلغت أنت والذي وراءك.
الشاهد: أن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم يعني بالخبر ويرمون به يعني بالنجم فيحرقه، قد يلقي الخبر قبل الاحتراق وقد يحترق ولا يلقي، وقد يلقي بعضه، وقد يصل مشوشا، وقد يصل دقيقا، وقد يكذبون.
المهم كما هي القضية المعروفة، قال ابن عباس: ويرمون به فما جاؤوا به على وجهه فهو حق [رواه مسلم: 2229] يعني إذا وصل الخبر صحيحا ولكنهم يقرفون وفي رواية: يقرفون فيه ويزيدون يقرفون يخلطون فيه الكذب قال: ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون حديث ابن عباس رواه مسلم -رحمه الله- في صحيحه [رواه مسلم: 2229].
وقد جاء في تمام حديثنا هذا لما قلنا قبل قليل في أول الحديث جاء قوله ﷺ: فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض يركبون، يركب بعضهم فوق بعض، ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه، يعني: فرق، قال ﷺ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه يعني ألقى الكلمة ثم احترق، قال: فيكذب معها مائة كذبة يعني الناس في الأرض لما يذهبون للكاهن والعراف، وفي كلمة صحيحة أو خبر صحيح وصل من استراق السمع هم يكذبون معها مائة كذبة أو تسعة وتسعين، وكلما جاءهم واحد من الناس قال: سيحدث في يوم كذا وكذا وكذا، سيحدث كذا وكذا، لأخبار أكثرها كذب، وواحد في المائة صحيح، فيقال يعني: يقول الناس بعدما يأخذوا الأخبار ويتداولونها والواحد في المائة يحصل، ينسى الناس التسعة والتسعين كذبة، ولا يتذكرون إلا الخبر الواحد الصحيح، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء ، فالناس مساكين هؤلاء الجهلة الذين يأتون العرافين والكهان كثير منهم سذج ومغفلون، ينسون التسعة والتسعة كذبة، ويتذكرون هذه الواحدة، ويقول بعضهم لبعض: صدق، قال لنا كذا كذا.
إذن، يعلمون الغيب، إذن، يعرفون وهي كلها واحد في المائة من استراق السمع؛ كما قال تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ [الحجر: 16- 18]، وقال تعالى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 10]، أي: محرق.
قوله في الحديث: إن الله إذا تكلم بالكلمة في السماء من الأوامر الإلهية، وهذا من أحاديث العظمة الإلهية كيف يكون وقْع الكلام الإلهي على الملائكة، قال: ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله .
طبعا الملائكة الأجنحة عظيمة مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر: 1]، وجبريل له ستمائة جناح، ولما حاول يعني بعضهم واحد من الشباب يعني الخوض في صفات الله أتى به أحد أئمة أهل العلم، فقال له: يا بني: الله يقول عن الملائكة أن لها أجنحة مثنى وثلاث ورباع، لو قلت لك: الملك له جناحان تقول: واحد على اليمين وواحد على الشمال، ولو قلت لك: ثلاث، ممكن تقول واحد فوق، وأربع، واحد تحت، والخامس أين تركبه؟ والسادس؟ والعاشر؟، فالشاب هذا تاه، خلاص، قال: هذا عن مخلوق، عن صفة مخلوق، أنت ما استطعت ما استوعب عقلك أين تركب الجناح رقم كذا الجناح؟ رقم كذا؟ فما بالك بالخالق؟
الشاهد: الملائكة غيب، وصفتهم عظيمة، وجبريل كان له ستمائة جناح سادا الأفق، رآه النبي ﷺ والله قال: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23]، رآه على صفته الحقيقية؛ لأن جبريل كان يأتي بصورة آدمي، يأتي بصورة رجل، يأتي بصورة دحية الكلبي، صورة جميلة، لكن مرة رآه فالنبيﷺ كاد أن يغشى عليه من هول ما رأى، ستمائة جناح سادا الأفق، ينزل من كل جناح من التهاويل من الدر والياقوت، فكاد أن يغمى عليه، شيء عظيم، الملائكة شيء عظيم، خلقوا من نور، ولهم قوة عظيمة، يعني قرية قوم لوط ضربها بجناحه، يعني قلعها في السماء، فيرسل الله الملائكة للإهلاك، ويرسل الملائكة لتثبيت المؤمنين، ومحاربة الكافرين، ويرسل الملائكة لأشياء كثيرة.
الشاهد: الحديث يقول: ضربت الملائكة بأجنحتها والملائكة أجنحتها متعددة ومتفاوتة خضعانا لقوله يعني لما يجي الأمر الإلهي الملك يضرب بجناحه من الرهبة من الخوف، يعني من الخشية ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله فسبب الضرب من خضوعها وخشيتها تضرب بأجنحتها، فيصدر صوت عظيم، مثل في الحديث، يعني تقريبا للسامعين، قال: كأنه سلسلة على صفوان .
السلسلة، يعني خذها بسلاسل السفن، السلاسل الحديد الضخمة، لو جريت السلاسل الحديد الضخمة على صخر صفوان أملس كيف يطلع الصوت؟
يطلع صوت مضخم، يعني يطلع صوت عظيم، فقرب ذلك للأفهام بهذه الصورة، قال: ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه يعني الصوت، هذا سلسلة على صفوان صوت القول في وقعه على قلوبهم، والصفوان الحجر الأملس الصلب، وليس المقصود تشبيه صوت الله، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11].
فالمقصود تشبيه ما يحدث للملائكة من الفزع عندما يسمعون كلامه -تعالى- بفزع من يسمع سلسلة على صفوان، يعني إذا واحد سمع جر السلسلة على الصخر، الصوت الضخم الذي يطلع هذا كيف يسمعه؟ أيش الرهبة التي تكون في نفسه من الصوت هذا الضخم الفخم؟ فكذلك الملائكة يكون في نفوسهم من الخشية من الله، والخضوع لقوله.
طيب هذا الخضوع والخشية تأخذ وقتا؛ فإذا فزع عن قلوبهم: إذا زال الفزع عن قلوب الملائكة؛ لأن الفزع يعقد الألسنة، إذا زال الفزع عن قلوب الملائكة قالوا: ماذا قال ربكم؟ يسأل بعضهم بعضا، ويخبر بعضهم بعضا على النحو السابق، قالوا للذي قال، يعني لأمره تعالى ماذا تقول الملائكة عنه: الحق، فالحق هذا الكلمة، هذه صفة لمصدر محذوف تقديره: قال القول الحق، ماذا قال ربكم؟ فيجيبون: قال القول الحق.
وهذا الجواب الذي يقولونه يحتمل أن يكونوا قد علموا ما قال وقالوا علقوا على هذا إنه الحق، فيكون هذا عائدا إلى الوحي الذي تكلم الله به.
ويحتمل أنهم قالوا ذلك لعلمهم أن الله لا يقول إلا الحق، فلذلك قالوا هذا لأن الحق من أسمائه، وما يقوله حق، ووعده حق، ولقاؤه حق، والجنة حق، والنار حق، فقالوا الحق؛ لأنها صفة ربنا كما في "القول المفيد"، وهذا كما قال الله : حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23] فأخبروا بما قال يعني أخبر بعضهم بعضا بما قال -تعالى- من أوامره من غير زيادة ولا نقصان، كما في "تفسير ابن كثير".
عظمة الله وكبريائه
فالله -تعالى- هو العلي الكبير، العلي في ذاته، عال على جميع المخلوقات، وفوق جميع المخلوقات، وله علو القدر: فهو كامل الصفات، وله علو القهر والغلبة لجميع المخلوقات، الكبير في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته، الذي من عظمته وكبريائه أن الأرض قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه.
ومن كبريائه وعظمته: أن كرسيه وسع السماوات والأرض، والكرسي كحلقة في فلاة بالنسبة للعرش.
ومن عظمته وكبريائه: أن نواصي العباد بيده؛ فلا يتصرفون إلا بمشيئته، لا يقدرون على شيء إلا إذا شاء -سبحانه-، ولا يتحركون ولا يسكنون إلا بإرادته.
وحقيقة الكبرياء لا يعلمها إلا هو، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وكل صفة لله فهو أعلم بها.
ومن كبريائه: أن العبادات كلها الصادرة من أهل السماوات والأرض لتعظيمه، والتكبير دلالة على الكبرياء، نحن نقول: "الله أكبر"، كلمة "أكبر" دليل على الكبرياء، ولهذا كان التكبير شعارا للعبادات، فمثلا في الصلاة نقول: "الله أكبر"، عند الصعود: "الله أكبر"، في العبادات الكبار كالعيدين "الله أكبر"، اجتماع الجموع العظيمة، وهكذا في الأمور العظيمة "الله أكبر".