الحمد لله، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فحديثنا في هذه المجموعة الثانية من الآداب الشرعية عن اللباس، وما يتعلق به.
تعريف اللباس ومعناه
أما اللباس، فهو جمع ألبسة، وهو ما يستر البدن، ويدفع الحر والبرد، ومثله الملبس.
واللبس بالكسر، ولبس الكعبة كسوة الكعبة، ويقال: لباس كل شيء، أي غشاه، واللبوس هو ما يلبس، قال الله -تعالى-: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ [الأنبياء: 80] يعني الدرع.
وقال الله : يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ[الأعراف: 26].
أهمية اللباس
وهذا اللباس نعمة من نعم الله امتن على عباده، وشرع لهم ما يستر عوراتهم، ويكون لهم سترًا وجمالاً بدلاً من قبح العري وشناعته، كما يعرف ذلك كل من رأى بعض هؤلاء الوثنيين، وغيرهم، من أهل الجاهلية الذين لا يزاولون يعيشون في ظلماتها.
ولا فرق بين المتعرين من الغربيين في الشواطئ والشوارع، وغيرها، وبين الوثنيين في إفريقيا الذين لا يسترون عوراتهم، الجميع واحد، وكل من البهائم، أو أقبح من البهائم، فإن الله قال: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: 44].
بل إن بعض الأنعام كالغنم جعل الله لها في خلقتها سترًا لعورتها بخلاف بقية الدواب، أما هؤلاء فمع أن الله خلق لهم من الألبسة ما يلبسونه، ولكنهم يصرون على كشف العورات.
حكم اللباس
اللباس تعتريه الأحكام الشرعية الخمسة، فمنه ما هو فرض، ومنه ما هو مندوب، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو محرم.
فالفرض منه، ما يستر العورة، ويدفع الحر والبرد، بحيث إذا لم يلبسه الإنسان تضرر، ففي هذه الحالة يكون لبسه عليه واجبًا.
والمندوب أو المستحب، ما يحصل به إظهار النعمة: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ[الضحى: 11]، وقد دخل صحابي على النبي ﷺ فرآه سيئ الهيئة، فقال: هل لك من شيء؟ قال: نعم من كل المال قد آتاني الله، فقال: إذا كان لك مال فلير عليك [رواه النسائي: 5294، وصحه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي: 5294].
وفي رواية للترمذي: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده[رواه الترمذي: 2819، وأحمد: 8092، وإسناده حسن، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح: 4350].
ومن المندوب أيضاً: اللبس للتزين في الجمع والأعياد، فهذه من المستحبات.
وكذلك لمجامع الناس؛ لقوله ﷺ: ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته, سوى ثوبي مهنته[رواه ابن ماجه: 1096، وصححه الألباني صحيح ابن ماجه: 899].
وأما المكروه، فهو ما يكون مظنة التكبر، أو ما قد يؤدي إليه، وما فيه إنفاق مال كثير بدون فائدة، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف، أو مخيلة". [صحيح البخاري: 7/182].
والمخيلة، هي الكبر.
وقد جاء عن عبد الله بن عمرو قال: يا رسول الله أمن الكبر أن يكون لي الحلة فألبسها؟ قال: لا، قال: أمن الكبر أن تكون لي راحلة فأركبها؟ قال: لا، قلت: أمن الكبر أن أصنع طعامًا فأدعو أصحابي؟ قال: لا، الكبر أن تسفه الحق، وتغمص الناس[رواه البزار في مسنده: 6/407، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 426]، وتذر الحق جانبًا.
وتركه، هو الإعراض عنه، وغمط الناس، أي احتقارهم. والحديث قد رواه أحمد رحمه الله، وقال الهيثمي: "رجاله ثقات".
وأما اللباس المحرم، فهو كل لباس لبس بقصد الكبر والخيلاء، أو ما كان فيه إسبال على الراجح، أو لبس الحرير للرجال بغير عذر، ونحو ذلك من الأمور.
وهذه الألبسة المشروعة، كل ما كان فيه إظهارًا لصفة الآدمية؛ لأن الله جعل آدابًا للبشر منها هذا اللباس؛ كما يظهر في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ[الإسراء: 70]، وكشف العورة من الأمور التي يتسبب عنها ذيوع الرذيلة، وشيوع الفساد بين أفراد المجتمع.
واحترام آدمية الإنسان وتميزه عن البهائم، يتجلى في خلق هذا اللباس الذي جعله الله له، وكان من النعم التي لا تعد ولا تحصى.
وكذلك فإن الألبسة في الشريعة تخضع في أحكامها لذواتها بحسب المصنوع منه، فجلود الميتة -مثلاً-، وما لا يذكى إذا دبغت طهرت عند بعض العلماء، وحل لبسها، وعند بعضهم لا تطهر.
وأما الأشياء المصنوعة من الخنزير، وغيره، فإن النصوص دلت على تحريمه، وكذلك الحرير قد ورد النص بتحريمه على الرجال.
فإذًا، لا يجوز لبسه.
هدي النبي ﷺ في اللباس
وأما بالنسبة لهدي ﷺ في اللباس، فإنه ﷺ كان يلبس ما تيسر من اللباس من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة، ولبس البرود اليمانية، والبرد الأخضر، ولبس الجبة، والقباء، ولبس القميص والسراويل، والإزار والرداء، والخف والنعل.
فإذًا، كان يلبس ما تيسر، ولا يتكلف.
والذين يمتنعون عما أباح الله من الملابس والمطاعم والمناكح تزهدًا وتعبدًا، بإزاء طائفة أخرى، لا يلبسون إلا الذي فيه إسراف، ومغالاة، ولا يأكلون إلا ألين الطعام، ويرون لبس الخشن من الثياب يعتبرونه إزراءً، ولذلك لا يلبسونه، أو يعرضون عنه تكبرًا وتجبرًا، ولذلك كان من ترك اللباس تواضعًا لله خيره الله يوم القيامة من الحلل ما شاء؛ لأنه تركها لله.
ففرق بين أن يزهد الإنسان في شيء لله، وبين أن يتركه لسبب آخر؛ كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في الذين يتركون الأموال في الدنيا، فقال: إن بعض هؤلاء ذكر أن بعض هؤلاء يتركون المكاسب درأ المشكلات مع الناس، أو للتعب الذي لا بد من الحصول على المؤن، فهذا لا يسمى زاهدًا.
لو واحد قال: أنا لا أدخل في التجارات؛ لأنها وجع رأس، لا أدخل في هذه الصفقات والمقاولات والأشياء؛ لأنها وجع رأس، ولأنها في مشكلات كثيرة، فأنا سأكتفي بهذه الوظيفة، وأترك الأموال لأهل الأموال، لو أنه تركها بهذه النية، فإن هذا لا يعتبر زاهدًا؛ لأنه ما حصل له فتركه، وإنما تركه لله تواضعًا، أو تركه زهدًا في الدنيا، حتى لا ينشغل به، وإنما تركه ... لوجع الرأس، فهذا لا يعتبر زهدًا.
وكذلك من آيات الزهد الصحيح: أن يكون لما ترك هذا الأمر اشتغل بالأمر الآخر، وهو عبادة الله ، فإذا ترك الدنيا لعبادة الله هذا زاهد، أما إذا ترك الدنيا للراحة، فهذا لا يعتبر زاهدًا، وإذا ترك الدنيا ولهى فلا يعتبر زاهدًا، لو واحد قال: أنا أترك الدنيا، أنا لا أريد وظائف ولا تجارات، كل الوقت على التلفزيون، وعلى البلوت، وعلى السهرات، فهل هذا يعتبر زاهدًا؟
لا.
لأنه لما ترك الدنيا لم ينشغل بالمطلوب، وهو عبادة الله.
فمتى يعتبر الإنسان زاهدًا؟
إذا ترك الدنيا لله، لينشغل بعبادة الله، ولم يضر ذلك بنفسه، ولا أدى إلى وقوعه في حرام، ولا ترك واجب، إلى آخره.
لأن مثل هذا الزهد في اللباس -مثلًا- يوجد عند أحبار أهل الكتاب، يوجد عند أحبار النصارى، من التزيين، يتزينون، عند المبتدعة يتزينون، بترك اللباس.
فما هو الفرق بيننا وبينهم إذًا؟ ما الفرق في الزهد في اللباس بين أهل السنة وبين المشركين والمبتدعة؟
كلهم يشتركون من جهة التخلي عن الملابس النفيسة كلهم يتخلون عنها، لكن هؤلاء الأحبار والرهبان والمبتدعة، ما يتركونها تواضعًا لله ، وإنما قد يتركونها لقصد فاحش، مثل اعتقاد حرمتها، يعتقد حرمة الملابس النفيسة، فيتركها: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ[الأعراف: 32]، لكن المؤمن يتركها، إذا ترك الملابس النفيسة، والغالية مرتفعة الثمن، فهو يتركها لا اعتقادًا بحرمتها، إذا لم تكن محرمة، وإنما من باب التواضع لله ، فهذا يؤجر على قصده.
ثم أن يزهد في الدنيا، وينشغل في الآخرة، أما إذا كان يزهد في الدنيا، وينام ويكسل، ويلهو، فهذا لا يعتبر زاهدًا.
وكلتا الطائفتين، سواء الذين يحرمون الملابس المباحة، أو الذين يلبسونها تبخترًا وتكبرًا وإسرافًا، مخالفتان لهديه ﷺ، فلبس الرفيع من الثياب يذم إذا كان تكبرًا وتفخرًا وخيلاء، ويمدح إذا كان تجملاً وإظهارًا لنعمة الله تعالى، وكذلك لبس الدني من الثياب، ممكن يذم، لو واحد الدني من الثياب يمكن يذم، إذا قصد الرياء، قال: ليقول الناس عني إني متواضع -مثلاً-، هذا يأثم، مع أنه ترك اللباس الفخم، لكن، لا، ولبس ملابس رديئة.
فهذه الملابس الرديئة لو تعمد لبسها ليقولوا عنه متواضع، فهذا أيضاً آثم؛ لأنه ترك لأجل الناس، وعمل هذا لكي يحصل على محمدتهم، ويقال عنه: هذا صاحب دين، هذا زاهد، هذا عابد، هذا ورع، هذا تقي، هذا غير منشغل بالدنيا، ونحو ذلك، فيذم إذا كان شهرة وخيلاء، ويمدح إذا كان تواضعًا.
وقد كان السلف يلبسون الثياب المتوسطة، لا المرتفعة ولا الدون، ويتخيرون أجودها للجمعة، والعيد ولقاء الإخوان، ولم يكن تخير الأجود عندهم أمرًا قبيحًا.
وأما اللباس الذي يزري بصاحبه، فإنه قد يتضمن شكوى للخلق، ومد اليد إلى الناس لنيل أموالهم.
وليس كل ما تهواه النفس يذم، ينبغي أن يعلم أنه ليس كل ما تهواه النفس يذم، وليس كل ما يتزين به للناس يكره، وإنما ينهى عن ذلك إذا نهى عنه الشرع، أو كان على وجه الرياء في الدين، فإن الإنسان يحب أن يرى جميلاً، وذلك حظ للنفس، وهذا لا يلام عليه. الرجل يحب أن تكون نعله حسنة، وثوبه حسنًا، فبين له ﷺ أن ذلك ليس من الكبر.
وقد كان بعض الصوفية لبسوا الصوف من باب الخشونة، واعتقد بعضهم تحريم لبس الناعم من الثياب، وتعبدوا بلبس الصوف، مع أنه ليس في الإسلام التعبد بلبس الصوف، لكن هؤلاء تعبدوا بلبس الصوف.
بل قال بعضهم: إن الصوفية سموا بذلك؛ لأنهم لبسوا الصوف، والصوف يعرف -طبعًا- أنه تكون له رائحة كريهة عند العرق، ولبسوه حتى في الصيف.
وهذا ليس من الدين في شيء، قال الشوكاني رحمه الله: "الأعمال بالنيات، فلبس المنخفض من الثياب تواضعًا وكسرًا لثورة النفس".
يعني: لو واحد رأى نفسه فيها كبر، فلبس ثوبًا تواضعًا، ليكسر كبر نفسه، أو يمنعها من التكبر، إذا لبس الثياب غالية الثمن، هذا من المقاصد الصالحة الموجبة للمثوبة من الله.
"ولبس الغالي من الثياب عند الأمن على النفس من التسامي المشوب بنوع من التكبر". [نيل الأوطار: 2/131].
إذا لبس هذه الأشياء، لبس الغالي من الثياب، وهو يأمن على نفسه من الكبر، وهو ليس له في ذلك قصد كبر، وكان اللباس مباح شرعًا؛ فإنه لا بأس به، بل إنه يتطلبه الوضع أحيانًا.
فالنبي ﷺ كان له حلة يتجمل بها للوفود، استقبال الناس يأتيه زعماء قبائل، ناس من كبار القوم، معظمين عند أقوامهم، يأتيه من هؤلاء، فهنا يحسن لباسه من أجل لقائهم.
وإذا عرفنا هذا فينبغي إذًا أن نعلم بأن ترك التكلف من الضوابط، أي شيء فيه كبر لا يجوز، أو فيه محرم كالحرير للرجال لا يجوز، وكذلك أن التجمل بالثياب للعيدين والجمعة، ولقاء الإخوان والوفود التي تأتي، وفي الدعوة إلى الله، أن ذلك قصد شرعي، وأن الإنسان يلبس ما يصلح لجسده، فبعض الناس قد لا يناسبه أنواع من اللباس تناسبه أنواع أخرى، وهكذا.
ألوان الألبسة وأشكالها وصفاتها
وأما بالنسبة الألبسة من حيث ألوانها وأشكالها وصفاتها ومناسبتها لعادات الناس، فإنها تختلف.
الثوب الأبيض
فمن حيث الألوان اتفق الفقهاء على استحباب لبس ما كان أبيض اللون من الثياب، وتكفين الموتى به؛ لحديث سمرة بن جندب قال رسول الله ﷺ: البسوا من ثيابكم البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم[رواه النسائي: 1896، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2027].
إذًا، لبس البياض سنة، يؤجر عليها الإنسان، إذا قصد تطبيق السنة؛ لأنه قال: البسوا البياض فلبسه إذًا سنة.
وقال في تعليل ذلك: فإنها أطهر وأطيب ربما يظهر فيها الشيء، أي نجاسة، أو شيء من هذا القبيل تظهر بسرعة، وأدنى شيء يقع عليه يظهر، فيسارع، ليكون نقيًا، ألم تر أنه ﷺ قال في دعائه: نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس [رواه البخاري: 744، ومسلم: 598]، فهذا الثوب الأبيض للأحياء والأموات أيضاً؛ كما دل عليه قوله: وكفنوا فيها موتاكم.
ولبس جماعة من الصحابة ثيابًا غير بيضاء، كما لبس ذلك النبي ﷺ لبيان أن لبس الأبيض ليس بواجب، ولو قال: البسوا من ثيابكم البياض فما الذي صرفها عن الوجوب؟ أنه ﷺ لبس ملابس أخرى ليست بيضاء.
وحتى الكفن يجوز أن يكون ببياض خالطه لون آخر؛ كما جاء في الحديث: إذا توفي أحدكم فوجد شيئًا فليكفن في ثوب حبرة[رواه أبو داود: 3152، وقال ابن حجر -رحمه الله-: "إسناده حسن"، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 455].
وحبرة؛ كعنبة، في الوزن، برود يمانية من الكتان، أو القطن، سميت حبرة؛ لأنها محبرة، أي مزينة؛ لأن التحبير هو التحسين والتزيين، والتخطيط، كانت مخططة بلون آخر، فلا بأس بذلك.
وقد لبس النبي ﷺ ثوبًا حبرة، بل إن أنس قال: "كان أحب الثياب إلى رسول الله ﷺ أن يلبسها الحبرة" [رواه البخاري: 5813، ومسلم: 5562].
وإذا كانت هي أحب الثياب إلى النبي ﷺ؛ فلأن ليس فيها كبير زينة، مخطط، ليس فيها كثير زينة، وكذلك قد يحتمل الوسخ.
وأما بالنسبة للبس الثوب الأسود، فإنه جائز، بغير كراهة، للرجل والمرأة، إلا إذا قصد به معنى مبتدعا، كما تلبسه النساء في العدة إحدادًا على وفاة الزوج، فإذا تقصدت لبس الأسود إحدادًا على الزوج، وإظهارًا للحزن، فهذه بدعة؛ لأنها خصت هذا اللون، وقصدت به قصدًا لم ترد به الشريعة، وقد خرج النبي ﷺ ذات غداة، وعليه مرط مرحل من شعر أسود [رواه مسلم: 5566].
وعن جابر قال: "رأيت رسول الله ﷺ دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء". [رواه مسلم: 3376].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "صنعت لرسول الله ﷺ بردة سوداء فلبسها فلما عرق فيها وجد ريح الصوف فقذفها، قال وأحسبه قال: وكان تعجبه الريح الطيبة". [رواه أبو داود وإسناده صحيحٍ: 4076، وأحمد: 25047، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 4364].
وعن أم خالد رضي الله عنها قالت: أوتي النبي ﷺمن ثياب فيها خميصة سوداء، فقال: من ترون نكسوا هذه الخميصة؟فسكت القوم، فقال: ائتوني بأم خالد؟ فأتي بها إلى النبي ﷺ كانت بنتًا صغيرة، وكان من عاداتهم تكنية الصغار، ومن فوائد ذلك: أن يحس الولد بمسؤولية، ويسارع إليه النضج من السن المبكرة. فألبسنيها بيده، وقال: أبلي وأخلقي، أبلي وأخلقي مرتين. وجعل ينظر إلى علم الخميصة، ويشير بيده إلي، ويقول: يا أم خالد هذا سناه وسناه بالحبشية حسن[رواه البخاري: 5823].
وهذا فيه دليل على جواز لبس الأسود للمرأة، ولا خلاف في ذلك عند العلماء، كما ذكر الشوكاني -رحمه الله تعالى-.
الثوب الأصفر
أما بالنسبة للثوب الأصفر؛ فإنه قد اتفق على لبسه أيضاً ما لم يكن معصفرًا أو مزعفرًا، وقد قال معتمر سمعت أبي يقول: "رأيت على أنس برنسا أصفر من خز" [رواه البخاري: 5802].
وقد قال الله عن اللون الأصفر: قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ[البقرة: 69]، ولذلك، فإن الأصفر الفاقع، ويجب أن يكون عند علماء النفس هكذا مما يدخل البهجة إلى النفس، اللون الأصفر الفاقع؛ لأنه قال: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ حتى أن بعضهم عده في لبس الإحداد ممنوعًا؛ لأنه من الثياب التي يتجمل فيها، والمرأة في الإحداد تمنع من التجمل والتزين، وتلبس ثوب البيت، أو الثوب المعتاد، ما تلبس ثوب زينة، أو ثوب عطب، ما تلبس ثوب زينة، ولا ثياب الحفلات، والأعراس، ونحو ذلك.
الثوب الأخضر
وأما بالنسبة للأخضر، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى استحبابه، لماذا؟
قالوا: لأنه ثياب أهل الجنة، قال الله تعالى: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ[الإنسان: 21].
وكذلك لحديث أبي رمثة قال: "رأيت رسول الله ﷺ وعليه بردان أخضران". [رواه أبو داود: 4208، والترمذي: 2812، والنسائي: 1572، وأحمد: 7117، وإسناده صحيح، وصححه الترمذي في صحيح الترمذي: 2977].
ماذا ورد في القرآن أيضاً في اللون الأخضر؟
رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ[الرحمن: 76].
الثوب المخطط
أما بالنسبة المخطط، فقد تقدم بأن لبس المخطط لا بأس به، ولبس النبي ﷺ ثياب الحبرة، وأنه ﷺ كان يحب لبسها.
بعض الملابس التي لبسها النبي ﷺ
ماذا لبس النبي ﷺ من الألبسة؟
لقد لبس النبي ﷺ من الألبسة ملابس متعددة.
لبس النبي ﷺ للعمامة
فمن ذلك: أنه ﷺ لبس العمامة -مثلاً-، ولبس العمامة ثابت في لبس النبي ﷺ.
ومن محظورات الإحرام: أن المحرم لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرنس، ولا ثوبًا مسه زعفران، ولا ورس، وإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين. الحديث معروف.
وكان رسول الله ﷺ إذا اعتم أسدل عمامته بين كتفيه، قال نافع: "كان ابن عمر يسدل عمامته بين كتفيه" [رواه الترمذي: 1736، وصححه الألباني في مختصر الشمائل: 94].
الآن السنية في لبس العمامة، قد اختلف فيه العلماء، فذهب بعضهم إلى استحبابه، قال الشوكاني: والحديث يدل على استحباب لبس العمامة، وقد وردت عدة أحاديث في لبسها، وإن كان فيها مقال، فهي لكثرتها يقوي بعضها بعضًا.
من جهة لباس العرب كانت العمامة معروفة، وكانوا يقولون: العمائم تيجان العرب.
ولكن قال بعض العلماء: إن العمامة خاضع لعرف الناس والقوم؛ فإذا كان عرفهم، لبس العمامة، لبس العمامة، وإذا كان ليس من عرفهم، فلا يلبس العمامة، حتى لا يكون شهرة، ولا يلفت الأنظار، أو يرفع الناس إليه أبصارهم.
لكن المصيبة أنه في بعض البلدان قد استبدلت العمائم بقبعات المشركين، ومنعت لبس العمامة في تركيا بسبب الهالك أتاتورك، واستبدل ذلك بلباس الإفرنج -فعليه من الله ما يستحق-؛ لأن مفارقة المشركين في الملابس أمر مطلوب، ولذلك لما أراد أن يفرق المسلمين، أمر بتغيير العمائم، ومنع لبسها، ومنع لبس اللباس الإسلامي للرأس المشهور المعروف الذي كان، وجعل جزاءات على من لبسه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: مفارقة المسلم للمشرك في اللباس مطلوب. [اقتضاء الصراط المستقيم: 1/281].
وليس فقط في العقيدة؛ كما يقول البعض: المهم العقيدة تكون مختلفة، حتى في الشكل الظاهر يجب أن يكون هناك فرق.
لم يثبت في طول العمامة شيء معين عن النبي ﷺ.
وذكر بعض العلماء كالنووي رحمه الله أنه كان له عمامة قصيرة ستة أذرع، وطويلة اثنا عشر ذراعًا. [إعانة الطالبين: 2/96].
وقال الحافظ رحمه الله: لا يحضرني في طول عمامة النبي ﷺ قدر محدود. [غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: 2/245].
وقال ابن حجر المكي: لم يتحر في طولها وعرضها شيء.
فالمعول عليه حسب العادة، عادة الناس.
ونلاحظ -مثلًا- أن سكان وسط إفريقيا الذين يعيشون في المناطق الحارة، يلبسون عمائم عظيمة، يلفونها طبقة فوق طبقة، من قماش أبيض لتقي شدة الحر.
وأما غيرهم من سكان المناطق المعتدلة من المسلمين، فيلبسون عمائم صغيرة، لا تتعدى بضعة أذرع من القماش، تلف على قلنسوة، أو طاقية.
وهذا كان لباس المسلمين في تركيا، ولكن بدله.
لبس القميص
وأما بالنسبة للقميص، وهو أشبه ما يكون في الثوب الذي نلبسه الآن، فإن النبي ﷺ كان يحب لبس القميص، وسمي القميص قميصًا؛ لأن الآدمي يتقمص فيه، أي يدخل فيه ليستره، وهو مخيط له كمان وجيب، الكمان معروفة، والجيب فتحة الرقبة من الثوب التي تكون في صدره، عادة، هذا هو الجيب.
وقد جاء عن أم سلمة رضي الله عنها: أنها قالت: "كان أحب الثياب إلى رسول الله ﷺ القميص". [رواه أبو داود: 4027، والترمذي: 1762، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2028].
ويجوز لبسه مزررًا، ومحلول الأزرار، إذا لم تبد عورته، ولا كراهة في أي واحد منهما.
وقد جاء عند أبي داود في "كتاب اللباس" عن عروة بن قرة عن أبيه : أتيت رسول الله ﷺفي رهط من مزينة، فبايعناه، وإن قميصه لمطلق الأزرار، قال: فبايعته، ثم أدخلت في يدي في جيب قميصه، فمسست الخاتم، قال عروة: فما رأيت معاوية ولا ابنه قط إلا مطلقي أزرارهما. [رواه أبو داود: 4084، وأحمد: 20384، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 45].
وهذا معنى الأزرار المحلولة.
فإذا كان يلبس تحته شيء يستر عورته؛ لأن فتحة الثوب لو انكشفت وانفتحت، إذا لم يكن يلبس تحته ما يستر ما بين الستر والركبة تظهر العورة.
فإذا قال: ما حكم تزرير الأزرار؟
فهذا يعتمد على ما يلبس تحته؛ لأن بعض الثياب عريضة، فلو ركع المصلي، وصارت الفتحة نازلة، وليس بلابس تحته ما يستر ما صارت العورة مستورة، وهذا خطأ يقع فيه بعض الناس يلبسون سراويل قصيرة، على ثوب فضفاض وفتحة واسعة، فإذا ركع ظهر من هذه الفتحة العورة، أو الفخذ.
إذًا، حكم التزرير يعتمد على ما يلبس تحته، في هذه الحالة، إذا كان لا يستر العورة.
وأما القميص ضيق الفتحة، فيجوز أن يصلي فيه؛ لأنه لو كان ضيق وتركه، أو وفي موضع درس...، لا تنكشف العورة بلبسه، أما لو كان الجيب وهو فتحة الرقبة بحيث ترى منه العورة في ركوعه، ولا تظهر في القيام، فهل تنعقد صلاته؟ ثم إذا ركع تبطل أم لا تنعقد أصلاً؟
قال بعض العلماء: أنها لا تنعقد.
ثم تكلموا في قضية اللحية إذا كانت طويلة وتستر، ونحو ذلك.
على أية حال هذه التفاصيل، لكن المقصود أنه لا بدّ أن ينتبه لهذه المسألة.
قال ابن قدامة رحمه الله: "فإن لم يكن إلا ثوب واحد فالقميص؛ لأنه أعم في الستر، فإنه يستر جميع الجسد إلا الرأس والرجلين، ثم الرداء؛ لأنه يليه في الستر، ثم المئزر، ثم السراويل، ولا يجزيء من ذلك كله إلا ما ستر العورة عن غيره وعن نفسه" [المغني: 1/656].
يعني لو قال: طيب أنا الآن لوحدي، وأنا لو أني ركعت أنا الذي سأرى عورتي، نقول: ولو كان؟ يجب أن يستر عورته في الصلاة، عن غيره وعن نفسه، قال الأثرم: سئل أحمد عن الرجل يصلي في القميص الواحد غير مزرور عليه؟
قال: ينبغي أن يزره، قيل له: فإن كانت لحيته تغطيه ولم يكن متسع الجيب؟ قال: إن كان يسيرًا فجائز. [المغني: 1/656].
فالقميص الذي كان موجودًا في ذلك الوقت يمكن أن يسميه، يطلق على ما يسمى اليوم بالجلابية، وهو الثوب الواسع الذي يعم جميع البدن من العنق إلى الكعبين، ولكن كان قديمًا يلبس ملاصقًا للبدن، وتحت الثياب، أما اليوم، فإن بعض الناس ما زال يلبسه تحت الثياب الخارجية، ويسمونها بالقطنية، في بعض البلدان، أو القمباز، وأكثر الناس يلبسه فوق الملابس الداخلية، فيكون دثارًا، وهي شعار.
فإذًا، ما هو الفرق بين الدثار والشعار؟
ما يلي بدن الإنسان، ما يلي الجلد مباشرة، شعار، وما يلبس من خارج يتدثر به من خارج فوق، أما الذي يسمونه اليوم الناس: قميصًا، وهو الذي يلبس إلى منتصف الجسم، ولا يواري إلى نصف الجسم، فليس هو القميص الذي كان معروفًا على عهد النبي ﷺ، فإن القميص المعروف على عهده ﷺ هو أشبه ما يكون بالثوب.
هل كانت السراويل في عهد النبي ﷺ
هل كانت السراويل في عهد النبي ﷺ؟
نعم، بدليل أنه ﷺ قال: من لم يكن له إزار فليلبس السراويل، ومن لم يكن له نعلان فليلبس خفين[رواه البخاري: 5853، ومسلم: 2854]؛ لأن السراويل أصلاً ممنوعة في الإحرام، لكن إذا ما وجدت، فأما السراويل، فهي لفظة فارسية معربة تذكر وتؤنث، والسراويل جمعها: سروايلات، وبعض الناس: سروال.
الحقيقة هو السراويل ما يلبس في الرجلين، الثنتين، أما السروال يلبس في رجل واحدة، فالآن يقولون: سروال، والسروال هذا نصف الملبوس، وإلا ما يلبس في الرجلين يقال له: سراويل، والجمع سراويلات.
حكم لبس السراويل للرجال والنساء
ما حكم لبسه للرجال والنساء؟
الجواب: يجوز لبسه للرجال والنساء، قال في الحديث: اللهم اغفر للمتسرولات[رواه البزار: 898، وهو حديث موضوع، كما في ضعيف الجامع: : 1178]، ولكنه لا يصح.
وكانت النساء يلبسنه تحت الثياب للستر، حتى إذا وقعت، نزلت من مكان، ما يظهر ساقها، لأجل لبسها للسراويل تحت الثياب.
وكذلك فإن كان يساعدهم في امتطاء الخيل، وفي القتال.
هل لبس النبي ﷺ السراويل
وقد وقع الخلاف هل لبسها النبي ﷺ أم لا؟
فقال بعضهم: إنه ﷺ لم يلبسه.
وقال بعضهم: إنه لبسه.
قال ابن حجر رحمه الله في تعليقه على حديث: "بعت رسول الله ﷺ رجل سراويل قبل الهجرة فارجح لي" [رواه أحمد: 19122، وقال محققو المسند: "حديث حسن"]: "وما كان ليشتريه عبثًا، وإن كان غالب لبسه الإزار". [فتح الباري: 10/272].
وقال ابن القيم رحمه الله: واشترى ﷺ السراويل، والظاهر أنه إنما اشتراها ليلبسها.
وقد روي في غير حديث: أنه لبس السراويل، وكان يلبسون السراويلات بإذنه. [زاد المعاد: 1/139].
وقال: روي، بصيغة التضعيف.
وكذلك فإنه قيل بأنه من لباس إبراهيم ؛ لأنه كان كثير الحياء.
ولا شك أن لبسه تحت الثياب من الستر، ويحرص عليه الذي يستحي.
لبس البرنس
وأما بالنسبة للبرنس -طبعًا- السراويل غير البنطلونات الموجودة اليوم، وإن كانت تشابهها في الفكرة، لكن تختلف، السراويلات ليست هي البنطلونات الموجودة الآن.
البرنس جمعها برانس، وهو كل ثوب رأسه منه ... المغاربة هو البرنس، والذي يلبسه بعض الناس عند الخروج من الحمام، البرنس، كل ثوب رأسه منه له رأس.
وقد لبسه أنس ، قال بعض التابعين: "رأيت على أنس برنسًا أصفر من خز" [رواه البخاري: 7/186]. وكان معروفًا على عهد النبي ﷺ بدليل حديث ابن عمر: أن رجلاً قال: يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ فقال النبي ﷺ: لا تلبسوا القميص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين.. الحديث [رواه البخاري: 1838].
فهذا كونه لا يجوز للمحرم معناه: أنه يستعمل، ويجوز لغير المحرم، مثل ما يقال في النقاب، مثل ما يقال في القفاز للمرأة، والنقاب تلبسه بالشروط الشرعية.
فهذا الحديث يدل بمفهومه على إباحة البرنس لغير المحرم؛ لأنه لما قال: لا تلبسوا القميص.. ولا العمائم ولا كذا.. فما هو مفهوم الحديث؟
أنه يجوز لغير المحرم.
وبعض الناس قال: إنه من لباس الرهبان.
ولكن ليس هذا هو الراجح.
وربما يكون للرهبان ثياب أخرى، فيها تفصيل خاص، أو لون خاص -مثلاً-، لباس الرهبان، فإذا عرفوا بتفصيل خاص، أو لون خاص، فعند ذلك نجتنب لبسه.
لبس العباءة
أما القباء، وهي العباءة؛ فإنها معروفة على عهد النبي ﷺ، وقد جاء في حديث المسور بن مخرمة قال: قسم رسول الله ﷺ أقبية لم يعطِ مخرمة شيئًا، فقال: مخرمة يا بني انطلق بنا إلى رسول الله ﷺ؟ فانطلقت معه، فقال: ادخل فادعه لي، فدعوته، فخرج إليه، وعليه قباء منها، فقال: خبأت هذا لك قال: فنظر إليه، فقال: رضي مخرمة. [رواه البخاري: 5800، ومسلم: 2478].
مخرمة كان في خلقه شيء قبل، وهو أسلم بعد، فالنبي ﷺ تألفه، وخبأ له هذا الخباء.
ولما مخرمة قال لولده: ادعه لي؟ كان في خلقه شيء، ثم بعد ذلك تألف قلبه النبي ﷺ.
القباء هذا له أكمام، فما حكم لبس القباء دون إدخال الإكمام؟
قال سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن طرح القباء على الكتفين من غير أن يدخل يديه في كميه؛ هل هو مكروه أم لا؟
فأجاب: بأنه لا بأس بذلك باتفاق الفقهاء، وليس هذا من السدل المكروه؛ لأن هذه اللبسة ليست لبسة اليهود [مجموع الفتاوى: 22/144].
لأن بعضهم قال: إن هذا الإسدال مشابهة للأعاجم؛ لأنهم هكذا يفعلون.
لبس النعال
وكذلك فإنه ﷺ لبس النعال، وقال: استكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكبًا ما انتعل [رواه مسلم: 5615].
فهو يشبه الراكب الذي يلبس النعال، يشبه الراكب في خفة المشقة، وقلة التعب، وسلامة الرجل من أذى الطريق؛ لأن الراكب على الدابة أهون عليه، وأبعد عن أذى رجليه، فكذلك شبه المنتعل بالراكب.
وهذا كلام بليغ منه ﷺ، فالحافي يلقى من الآلام والمشقة بالتعثر وغيره، ما يقطعه عن المشي، ويمنعه من الوصول إلى مقصوده، بخلاف المنتعل، فإنه كالراكب، يسير إلى مقصوده بنعليه.
وقد جاء من حديث عبيد بن جريج، قال لعبد الله بن عمر : رأيتك تصنع أربعًا لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها؟
قال: وما هي يا ابن جريج؟
قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال، ولم تهل أنت حتى كان يوم التروية؟
فقال له عبد الله بن عمر: أما الأركان فإني لم أر رسول الله ﷺ يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية، فإني رأيت رسول الله ﷺ يلبس النعال التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها، وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله ﷺ يصبغ بها، فأنا أحب أن أصبغ بها، وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله ﷺ يهل حتى تنبعث به راحلته". [رواه البخاري: 166، ومسلم: 2875].
فلبس النعال من السنة، والاحتفاء أيضًا قد ورد أحيانًا، أمرنا أن نحتفي أحيانًا، لأجل الاخشوشان؛ لأن النعم لا تدوم، وحتى لا يتعود على النعومة البالغة.
وأما بالنسبة للمقابر، فإنه لا يلبس النعل في المقبرة؛ لحديث بشير بن الخصاصية، قال: أن النبي ﷺ رأى رجلًا يمشى في نعلين بين القبور، فقال: يا صاحب السبتيتين ألقهما؟[رواه أحمد: 22003، والنسائي: 2048].
وفي رواية: يا صاحب الستبيتين ويحك ألق سبتيتيك، فنظر الرجل، فلما عرف رسول الله ﷺ خلعهما، فرمى بهما. [رواه أبو داود: 3232، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 600].
فهذا فيه نهي عن لبسها لحرمة الأموات، ولا يمشي بين القبور بالنعلين، ولإكرام الميت.
وحديث: إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم[رواه البخاري: 1374، ومسلم: 7395]، لا يدل على الجواز، هذه حكاية الحال.
ثم قد يكون بعد أن ينصرف إذا أراد الإنسان أن يطبق، ما دخل المقبرة، في شارع المقبرة، لما دخل إلى القبور خلع النعال، لو خروج من صفوف القبور، وسلك الشارع، ولبس النعال، لربما سمعه أيضاً الميت، إذا انصرف عنه المسلمين، فحكاية الحال لا تعني الجواز، ويمكن أن يسمعها بأن يفارقوا موضع القبور.
بعض آداب النعال وأحكامه
وقد جاء في لبس النعال عن النبي ﷺ آداب لو جمعت يمكن يكون فيها درس كامل:
فمن ذلك: أنه ﷺ قال: إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، لتكن اليمنى أولهما تنعل، وآخرهما تنزع[رواه البخاري: 5855].
وكذلك فإنه ﷺ كان يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله، في طهوره وترجله وتنعله. [رواه البخاري: 426، ومسلم: 640].
وهذا دليل على أن البدء باليمين في التنعل سنة، يؤجر عليها الإنسان، قال ابن عبد البر رحمه الله: من بدأ بالانتعال في اليسرى أساء لمخالفة السنة" [فتح الباري: 10/312].
وهو إذا لبس النعال باليمين لتكريم الرجل اليمنى، ويؤخر خلعها لما بعد اليسرى؛ لتكريمها؛ لأن اليمين في الشريعة مكرمة.
ويستحب للابس النعل: أن يتفقد نعله، لإزالة ما علق به، إذا أراد أن يدخل المسجد، فإذا وجد شيئا مسحه بالتراب؛ لأن التراب لها طهور.
وكذلك فإنه إذا أراد أن يدخل بهما المسجد، وضعهما بين رجليه، لا يؤذي بهما من عن يمينه، ولا من عن شماله، ولا من أمامه، ولا من خلفه، يضعهما بين رجليه، هذه هي السنة، ويقعد عليها في الأرض، ولا بأس بذلك، أما إذا لم يكن عن يساره أحد، وضع النعلين عن اليسار، ولا حرج في ذلك.
ويكره للابس النعال أن ينتعلها قائمًا؛ لأن النبي ﷺ نهى أن ينتعل الرجل قائمًا. [رواه أبو داود: 4137، والترمذي: 1775، وابن ماجه: 3618، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 3608، ومشكاة المصابيح: 4414].
وهذه النعال التي تحتاج إلى تربيط، فإذا لبسها قائمًا كان عرضة للسقوط.
وقيل: لما فيها من الكبر.
وقيل: لما فيها من قبح المنظر، أن يلبس وهو قائم.
ولذلك أمر بأن تلبس والإنسان جالس، هذه أي نعال تحتاج إلى تربيط، أما التي لا تحتاج إلا أن يدخلها في الرجلين، ويمشي، فلا يحتاج أن يجلس.
ويكره المشي في نعل واحدة، فمن الأدب أن الإنسان إذا انقطعت نعله أن يخلعهما جميعًا، إما أن يصلحها ويلبسها، أو يخلعهما جميعًا؛ لقوله ﷺ: لا يمش أحدكم في نعل واحدة ليحفهما جميعًا، أو لينعلهما جميعًا[رواه البخاري: 585، ومسلم: 5617].
وقال: إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمش في نعل واحدة حتى يصلح شسعه، ولا يمش في خف واحد. فلماذا؟
ورد أنها يعني من صفة أهل النار، وورد أشياء أخرى.
وقيل أيضًا: لعدم العدل بين الرجلين، يعني لأجل العدل يخلعهما جميعًا أو يصلحهما ويلبسها جميعًا.
ولكن من أفضل ما ورد: أنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن المشي بالنعل الواحدة أنها مشية الشيطان، فإن الشيطان يمشي بالنعل الواحدة.
وربما إذا لبس نعل، وخلع نعل، يحتاج في مشيته أن يتوقى للحافية، غير الأخرى، فيخرج عن حد الاعتدال في مشيته، فتكون المشية فيها نوع من القبح، ولا يؤمن عليه من التعثر.
ولأجل العدل بين الجوارح، كل ذلك من أسباب النهي عن المشي في النعل الواحدة.
ويكره للرجال والنساء لبس نعل له صوت، إعجابًا بصوته، قالوا: هو زي اليهود.
وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على كراهة اتخاذ النعال السندي -وهي نعال لها صوت كصرير الباب-، قال له المروذي: أمروني في المنزل أن أشتري نعلًا سنديا للصبية؟ فقال: لا تشتر، فقلت: يكره للنساء والصبيان؟ قال: نعم أكرهه، وإن كان للمخرج والطين فأرجو، وأما إن أراد الزينة فلا. [غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: 2/339].
فإذًا، فبعض الملبوسات التي لها أصوات يمشي بها فتدق الأرض، فيكره للسخف.
وهنا نأتي في قضية أحذية النساء العالية الموجودة الآن، فإن دور الأزياء تحمل سيفًا بتارًا، وترفع سبابتها للمرأة آمرًا ناهية، البسي هذا واخلعي، وليس إلا الطاعة للأوامر، هذا الحاصل في مجتمع النساء، وكأنها منومة مساقة كالطفلة، ما يقدمونه لها تأخذ به، ويسألون عن الموضة اليوم، وقد كتبت بعض الكاتبات في أضرار هذا الكعب العالي نصائح للمرأة في الإضرار الصحية والجمالية والأخلاقية، في لبس الكعب العالي.
قال الأديب الراحل علي الطنطاوي رحمه الله تعالى في كتابه: "مع الناس" والنساء يتخذن هذه الأحذية الفظيعة ذات الكعوب العالية، مع أن المشي بها أصعب من المشي على الحبل، ومن لم يصدق من الرجال، فليمش مائة خطوة على رؤوس القدمين، وهي فوق ذلك تقلب عضلات الساق، وتشوه جمالها، وما للبسها معنى، وليس فيها جمال، ولكن هذا يراد للناس، وهكذا يفعلون.
ثم روى حادثة عن امرأة – استعبدتها الأزياء الغربية الغريبة، فقال: ورأيت امرأة واقفة في الترام، الترام هذا مركبة كانت تمشي على الكهرباء، بخطوط مثل الحافلات، تركب قديمًا، كانت مستعملة في بلد الشيخ، ثم ذهبت، وأوقفت عن العمل، قال: ورأيت امرأة واقفة في الترام، والمصاعد خالية، وكلما دعوها لتجلس أبت، ثم تبين لي أنها تلبس إزارًا خراطة، أي تنورة ضيقًا عجيبًا، لا تستطيع معه المشي إلا كمشي المقيد بالحديد، ولا تستطيع صعود الترام إلا بكشف رجليها، وإخراجها منها، فلذلك لا تستطيع القعود، تتساءلون: لماذا تعذب نفسها هذا العذاب؟
من أجل الناس.
وأما ما ذكرته الكاتبة في أضرار الكعب العالي، فتقول الكاتبة: إن الله قد خلق القدم مسطحة لحكمة عظيمة، ينسجم بها القدم مع الجسم، فيساعده ذلك على الحركة والحياة، والصحة تطلب لبس الكعب الواقف، والمشية الطبيعية التي تساعد الجسم، حتى على الرشاقة والجمال، هي مشية بسط.... بها القدم، ويرجع الصدر إلى الوراء، وكل امرأة سليمة لم تشوه الأباطيل ذهنها، تعترف بأن السير بهذا الكعب عسير مزعج.
وأعجب العجب: أن هناك نساء بلغت بهن عبودية الذهن، أنهن يزعمن أن الكعب العالي أسهل بالمشي عليهن من الكعب الواقف، وهن يناقشن ذلك متحمسات، وأفضل وسيلة لإثبات هذا أن يسأل رجلاً أن يلبس الكعب العالي، ويسير نصف ساعة وسيرى معنى ما نقول، فإن السير بالكعب يكاد يكون مستحيلًا.
ثم بالنسبة للأضرار الجمالية، ذكرت هذه الكاتبة أشياء، وقالت: الكعوب العالية تقتل الحركة الطبيعية قتلاً، وتذل الجسم؛ لأنها تفرض عليه حركات مصطنعة.
نسأل الله أن يعافينا، وأن يعفو عنا.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فنكمل آداب اللباس إن شاء الله.
وقد تحدثنا فيما سبق في قول الله : يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا[الأعراف: 26].
وأن الحاجة إلى الملبوس ماسة لما فيها من حفظ الجسد، ودفع الأذى، وستر العورة، وحصول الزينة.
ولذلك امتن الله على عباده: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا.
فوائد اللباس
فإذًا، فوائد اللباس الرئيسية أربعة:
أولاً: حفظ الجسد. فإن هناك سرابيل تقي الحر، وسرابيل تقي البأس في الحر، وسرابيل تقي من برد الشتاء، فإذا كان لا يلبس في وقت الحر، ربما يحترق جلده، أو يتسلخ، وفي البرد يحتاج اللبس لشدة البرد، يحتاج للتدفئة، وفي القتال يحتاج إلى اللبس لاتقاء السلاح.
فهذا الاتقاء فائدة عظيمة اللباس.
وثانيًا: ودفع الأذى، ودفع الأذى هذا يشمل ما يكون في الحرب والجو وغيره، وحفظ الجسد معًا، وستر العورة، وحصول الزينة، يتجمل.
وسميت العورة سوءة؛ لأنه يسوء صاحبها انكشافها.
وقالوا في الريش في الآية، هو اللباس والعيش والنعم والمعاش، والجمال.
وذكر الله بأن لباس التقوى هو خير، حتى نلتزم بذلك، ونحرص عليه.
والله قد جعل دفع المضار، واجتلاب المنافع، من الحكمة: وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ[النحل: 81].
هذه في سورة النعم، وليست سورة الأنعام، الأنعام من السبع الطوال، أما سورة النعم فهي سورة النحل، لكثرة ما ذكر فيها من نعم الله على عباده، وما امتن به عليهم، وقال: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا[النحل: 18].
فهذه السرابيل التي تقي الحر، مثل الثياب القطن والكتان والبرد أيضًا الصوف، وإذا ذكر الحرب فمن باب أولى البرد: وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْهي الدروع التي تقي في الحرب.
وكان العرب أصحاب جبال وخيام، والله منته عليهم وعلى غيرهم، وذكر لأصحاب الجبال المأوى الذي يكونوا فيها، واكتفى بذكر أحد القسيمين عن الآخر؛ لأن السرابيل التي تقي الحر أيضًا تقي البرد، إذا كانت أسمك.
وينبغي أن يكون اللباس بعيدًا عن السرف؛ لأن الله قال: يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[الأعراف: 31].
ومعلوم أن قوله: خُذُواْ زِينَتَكُمْ أي من الثياب التي تستر عوراتكم: وَلاَ تُسْرِفُواْ يعود على الجميع: خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ يعود على الجميع، على اللبس، وعلى الأكل والشرب.
وكون الثياب جمال وزينة، فهذا معروف عرفًا وعادة.
ويقع في ذلك التجاوز والتقصير، والتوسط المطلوب معتبر من وجهين: في صفة الملبوس وكيفيته أولًا، وفي جنسه وقيمته ثانيًا.
التوسط في اللباس
التوسط في اللباس يكون في صفة الملبوس، وكيفيته، وفي جنسه وقيمته.
فأما الصفة، فهي معتبرة بالعرف من وجهين:
أحدهما: عرف البلاد، فإن لأهل المشرق مثلاً زيًا مألوفًا، ولأهل المغرب زيًا مألوفًا.
وما بينهما من البلاد لهم عادات مختلفة في اللباس.
وكذلك فإن هناك عرف الأجناس بالإضافة إلى عرف البلدان، ما هي الأشياء تؤثر في اللباس؟
عرف البلدان، وعرف الأجناس.
وهذه المسألة مهمة لما نتكلم عن ثوب الشهرة؛ لأنك لما تلبس في بلد بخلاف أهل البلد كلهم، فأنت تلبس ثوب شهرة، ويقول الناس: ما هي الضوابط في قضية ثوب الشهرة؟ ومتى يكون ثوب الشهرة؟
فلما نقول الآن: العرف، عرف البلدان، وعرف الأجناس، هذا له علاقة بموضوع ثوب الشهرة.
فعرف البلدان أهل كل بلد لهم عرف في لباسهم، أنت ترى الآن لباس في باكستان، لباس السودان، لباس المغاربة، ملابس مختلفة، وكل هذه ملابس مسلمين -مثلًا-.
وكذلك لما نتكلم على قضية التشبة بالكفار في اللباس، فثياب الشهرة، والتشبه بالكفار، هاتان مسألتان لهما علاقة وثيقة بهذا الموضوع.
فإذًا، عرف البلدان، وعرف الأجناس -مثلاً- كان يعرف في القديم أن الجند لهم لباس، والتجار لهم لباس، زي مألوف، وهكذا.. لباس الأجناد معروف من قديم، ولا شك أن من عدل عن عرف بلده وجنسه يكون خرقًا وحمقًا، ويكون زيًا فاضحًا، وكذلك يسبب الدخول في لباس الشهرة، فلا بدّ أن يكون إذًا التوسط حاصل في الثياب من جهة صفة الملبوس وكيفيته.
أما من جهة القيمة والجنس؛ فإنه أيضاً يعتبر فيه اليسار والإعسار، فللموسر زي على حسب يساره، يتناسب مع حاله، وكذلك للمعسر، وذوي المنزلة الرفيعة قد يكون لهم زي، يعني -مثلاً- الآن البشت قد يلبسه العالم، أو الشيخ، أو صاحب الهيئة، صاحب المنصب، ولكن قد لا يلبسه في العادة -مثلاً- العمال على سبيل المثال، فهناك أشياء تناسب الأحوال المختلفة، والمنازل المختلفة، والغنى درجة الاقتدار من اليسار والإعسار، يتفاضل فيها الناس على حسب أحوالهم.
فإذا لبس الموسر الغني ثوبًا مبتذلاً مرقعًا، في أعين الناس ماذا يقال عنه؟
بخيل حتى على نفسه ما عرف يجيب له ثوب يتناسب مع حاله، وأين إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده؟ فلو لبس الغني ثوبًا من هذا النوع، لاعتبر في نظر الناس نوع من الحمق، ونظروا إليه بازدراء، قالوا: بخيل، لكن الفقير لو لبسه لا يعتب عليه أحد.
فإذًا، اللباس أن يتناسب مع الحال.
ولذلك بعض الناس يلبسون ثيابًا لا تناسب أحوالهم، فربما يلبس ثياب غالية جداً، وقد اقترض قيمتها -مثلاً- يقول واحد من أرباب العمل: جاءني شخص يطلب وظيفة من هؤلاء الشباب الجدد، فالراتب الذي عندي -مثلاً- ألف وخمسمائة، أو ألفين ريال، يقول: فنظرت إليه، الثوب، والغترة، ونوع الملابس، والأقلام، والكبك، والنظارات، والحذاء الذي عليه، يعني يقارب ثلاث آلاف ريال، فكيف سأوظف شخصًا بهذا الراتب؟ وهو يلبس إذا أضفت إلى ذلك الساعة، يمكن تصير عشرين ألف.
فإذًا، بعض الناس قد يتباهون بملابس لا تناسب أحوالهم، ويكون هذا من باب التظاهر في الحقيقة، الخيلاء، أو الافتخار، أو ابتغاء الرفعة في الدنيا، أو التظاهر بأنه من أهل الغنى واليسار، وهو ليس كذلك هذه مسألة المظهرية من الأمراض القاتلة الموجودة الآن في المجتمع، التباهي والتظاهر، ويلبسون أكثر مما عندهم، وأكثر مما يطيقون، ويقترض لأجل ذلك، لكي يتكلم عنه الناس أنه كذا، ويلبس كذا، ويظهر في أعينهم كذا، وذلك لما قالوا: التوسط في الملبس من آداب اللباس أن الإنسان يتوسط، ويلبس ما يناسب حاله هو، في صفة الملبوس، وكيفيته من جهة عرف البلد، وجنس الوظيفة، أو العمل، أو المكانة، وكذلك في القيمة تناسب حاله، فإن عدل الرفيع إلى زي الدني، كان مهانة وذلاً، وإن عدل المعسر إلى زي الموسر كان تبذيرًا وسرفًا، وإن عدل الدني إلى زي الرفيع كان جهلاً، ولزوم العرف المعهود، واعتبار الحد المقصود أدل على العقل، وأمنع من الذنب.
ولذلك قال عمر بن الخطاب فيما يروى عنه: "إياكم ولبستين: لبسة مشهورة، ولبسة محقورة". [أدب الدنيا والدين، ص: 450].
إياك تلبس لبسة مشهورة لتشتهر بها بين الناس، ويشار إليك بالبنان: انظروا إلى صاحب الثوب الفلاني، لبس كذا، هذه اللابس كذا، نساءً ورجالاً.
واللبسة المحقورة التي أيضًا يزدري الناس صاحبها.
وقال بعض الحكماء: "البس من الثياب ما لا يزدريك فيه العظماء، ولا يعيب عليك الحكماء". [أدب الدنيا والدين، ص: 450].
إنَّ الْعُيُونَ رَمَتْك إذْ فَاجَأَتْهَا | وَعَلَيْك مِنْ شَهْرِ الثِّيَابِ لِبَاسُ |
أَمَّا الطَّعَامُ فَكُلْ لِنَفْسِك مَا تَشَا | وَاجْعَلْ لِبَاسَك مَا اشْتَهَاهُ النَّاسُ |
يعني ما لا يتكلمون عليه ما لا يزدرونك عليه.
والْمُرُوءَةَ أن يكون الإنسان معتدل الحال في مراعاة لباسه، من غير إكثار، ولا اطراح. [أدب الدنيا والدين، ص: 450].
ولذلك فإن النفس إذا تأدبت بالآداب والفضائل، ما تحتاج إلى زينة زائدة، هذه الزينة التي يتمسك بها الناس، هذه الزينة لتعويض نقص هم يحسونه، وإلا لو كان الإنسان متأدب لا يحس بالحاجة لمثل هذه الأشياء.
وَمَا الْحُلِيُّ إلَّا زِينَةٌ لِنَقِيصَةٍ | يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا |
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفِّرًا | لِحُسْنِكَ لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُزَوَّرَا |
[أدب الدنيا والدين، ص: 450].
وليست العزة بالبزة، كما قالوا، ليست العزة بالثياب، العزة فيما داخل الإنسان، في نفسه.
وَتَرَى سَفِيهَ الْقَوْمِ يُدَنِّسُ عِرْضَهُ | سَفَهًا وَيَمْسَحُ نَعْلَهُ وَشِرَاكَهَا |
وَإِذَا اشْتَدَّ كَلَفُهُ بِمُرَاعَاةِ لِبَاسِهِ | قَطَعَهُ ذَلِكَ عَنْ مُرَاعَاةِ نَفْسِهِ |
فمن آداب اللباس: أن الإنسان لا ينفق الأوقات الطائلة في مراعاة الثياب، وفي هذه الأوقات التي يضيعونها اليوم أمام المرآة، وعند الخروج من البيت، بعضهم يجلس فترة طويلة إلى أن يلبس، وهي كله ثوب وطاقية وغترة، لكن يأخذ في لبسها نصف ساعة، ويعدلن ويعدل البرزام هذا الذي يحتاج إلى رحمة، فلذلك إذا اشتدت كلف الإنسان بمراعاة لباسه قطعه عن مراعاة نفسه، وصار الملبوس عنده أنفس، وهو على مراعاته أحرص، ولذلك قالوا: البس من الثياب ما يخدمك ولا يستخدمك؛ لأنك لو اللباس استخدمك، صرت عبدًا للباس، طيلة الوقت تعدل وتزين، وصار هذا هو الهم، الحرص على الثياب.
ولذلك قيل لبعضهم: أراك لا تبالي ما لبست؟ قال: ألبس ثوبًا أقي به نفسي أحب إليّ من أن ثوب أقيه بنفسي.
فكما أنه لا يكون شديد الكلف، فكذلك لا يكون شديد الاطراح في اللباس.
وفقد رأى النبي ﷺ رجلًا رث الهيئة، فقال: هل لك من مال؟ فقلت: قد أعطاني الله من كل المال من الإبل والغنم، قال: فلير أثر نعمة الله عليك[رواه أحمد: 17270، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة الجشمي فمن رجال مسلم].
فإذًا، المسألة واضح فيها قضية التوسط، ولذلك فإن النبي ﷺ كان لا يتكلف، لا في لباسه ولا في طعامه، فكان كما يقول ابن القيم رحمه الله في تدبيره ﷺ لأمر اللبس: "كان من أتم الهدي، وأنفعه للبدن، وأخفه عليه، وأيسره لبسًا وخلعًا". [زاد المعاد: 4/237].
هذا الكلام ذكره رحمه الله في المجلد المطبوع الآن: الطب النبوي، في مراعاة من مصلحة البدن، قال: في تدبيره ﷺ لأمر الملبس: كان من أتم الهدي وأنفعه للبدن، وأخفه عليه، وأيسره لبسًا وخلعًا" [زاد المعاد: 4/237].
كل ما كان الشيء الذي تلبسه أيسر لبسًا وخلعًا، ومؤنته أقل، والوقت الذي يستغرقه أقل، كان أفضل وأحسن، فلو قلت -مثلاً- هذا ثوب عادي -مثلاً- الكم، وهناك أكمام لها أربطة، أو لها كباكات، أو لها أشياء وربما استغرق وقته وضاع الكبك، وتدور على هذا، وربما الإنسان يصعب عليه أن يجد ما يوفر به دائمًا ما تحتاج إليه ثيابه، هو لا بدّ من مراعاة الفرق بين النساء والرجال، لا شك النساء في تعقيدات الألبسة عندهن أكثر بكثير، وإن كان الآن صار البدلات الآن الولد صار يريد يلبس القميص والبدلة، وربطة العنق هذه، وصارت المرأة تلبس من الثياب المتعرية التي ربما ليس فيها كثير عمل، لما فيها من العري، إلا أن بعض النساء يلبسن ألبسة من النوع المشدود على البدن، حتى مما يظهرن به أمام النساء من النوع المحرم، فبالتأكيد أن بعض الألبسة لا تستطيع أن تلبسها بمفردها، لا بد أن يكون معها من شدها عليه، يعني من ضيق اللباس الذي لبسته بعض النساء يمكن ما تستطيع تلبس بمفردتها، لا بدّ أن يكون هناك من عاونها في شده لإدخاله من ضيقه، هذا ينافي قضية، غير قضية ستر العورة التي لم تحصل، قضية المؤنة في اللبس والشدة على البدن؛ لأن بعض الناس هم مستعدين أن يضروا بأبدانهم، من أجل أن يظهروا بمظاهر الموضة -مثلاً-.
وكان ﷺ يلبس القميص، وكان أحب الثياب إليه، وكان هديه في لبسه لما يلبسه أنفع شيء للبدن، فإنه لم يكن يطيل أكمامه ويوسعها، بل كان كم قميصه إلى الرسغ، لا يجاوز اليد، فتشق على لابسها، لو الكم طويل شق على اللابس، وتمنعه خفة الحركة، وكان ذيل قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين لم يتجاوز الكعبين، فيؤذي الماشي، ويؤده، ويجعله كالمقيد [زاد المعاد: 4/237].
انظر إلى الناس الذين يلبسون الثياب احتمال السقوط والتعثر حاصل، وإذا ضرب برجله يحتاج أيضاً إلى مؤنة، حتى يضرب هذا الثوب ويمشي به، وربما صار كالمقيد.
وأما إذا كان الثوب ملتزمًا صاحبه فيه اتباع السنة، كان سهلا أن يمشي، سهل المشي.
الآن بعض الألبسة وبالذات عند النساء، يصعب المشي فيها جداً، وقد تكلمنا سابقًا عن لبس الكعب العالي للنساء.
وكذلك فإنه ﷺ إذا لبس ثوبه لم يكن يقصر عن عضلة ساقية، فتنكشف ويتأذى بالحر والبرد، ولم تكن عمامته بالكبيرة التي يؤذي الرأس حملها، ويضعفه ويجعله عرضة للضعف والآفات، كما يشاهد من حال أصحابه، ولا بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد، بل وسطًا بين ذلك، وكان يدخلها تحت حنكة، وفي ذلك فوائد عديدة، فإنها تقي العنق الحر والبرد.
انظر عمائم العرب كانت تلف تحت الحنك، ولذلك يجوز المسح عليها.
أمام هذه الغترة ما يجوز المسح عليها في الوضوء؛ لأنها لا يشق خلعها، بخلاف عمائم العرب يشق خلعها، إذا لبسها يحتاج إلى وقت حتى يلبسها.
ولماذا كانوا يلفونها من تحت الحنك؟
لأنها تقي، البرد الآن مع هذه الملابس التي نلبسها يحتاج الإنسان إلى واقي آخر، لأجل الرقبة.
أما عمائم العرب كانت تلف من تحت الحنك، فتقي الرقبة.
وفي ذلك فوائد عديدة، فإنها تقي العنق الحر والبرد، وهو أثبت لها ولاسيما عند ركوب الخيل والإبل والكر والفر.
وإذا تأملت هذه اللبسة وجدتها من أنفع اللبسات، وأبلغها في حفظ الصحة وصحة البدن وقوته، وأبعدها عن التكلف والمشقة على البدن.
فإذًا صار عندنا الآن من آداب اللباس أيضًا: البعد عن التكلف، وأن يكون أنفع للبدن، وأبعد عن التكلف، والمشقة، ما لا مؤنة في لبسه، ومشقة في لبسه وخلعه.
وكان أحب ألوان الثياب إليه البياض والحبرة، ولم يكن من هديه ﷺ لبس الأحمر ولا الأسود، ولا المصبغ، ولا المصقول، وأما الحُلَّة الحمراء التي لبسها، فهي الرداءُ اليماني الذى فيه سوادٌ وحُمرة وبياض [زاد المعاد: 4/238] وسيأتي الكلام في هذا إن شاء الله.
هذا ما ذكره ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد حول هذه المسألة.
اختلاف الملابس باختلاف الأحوال
نأتي الآن إلى آداب أخرى، وقد ذكرنا: مسألة الاعتدال والتوسط في أول الكلام، من كلام الماوردي رحمه الله الذي تقدم، الاعتدال والتوسط، وأن العبد إذا كان يتأدب بالوقار، فإنه لا يحتاج إلى أن يتزين بلباس فخم، وإنما زينته في أدبه في الحقيقة.
فإذًا، يكون اللباس وسط بين الخسيس والنفيس، يناسب حاله وبلده ومهنته، ولذلك العمال -مثلاً- كما قلنا لا يزري بهم لو العامل -مثلاً- العامل في مصنع، أو في ورشة، مسلم إذا لبس هذا الثوب بدلة العمل التي يسمونها: أوفروت الآن، هل في إزراء عليه؟
لا هذا عمله، وهذا لباسه.
لكن واحد يؤم الناس في المسجد جاء لابس دخل عليهم، أو في خطبة الجمعة، طلع في المنبر، لماذا؟
لأن هذا اختلاف الأحوال لا بدّ أن تتأثر المسألة، اختلاف الملابس باختلاف الأحوال.
فإذًا، يراعى الوسط بين الخسيس، وبين أن يكون متوسطًا، أن يكون مناسبًا للحال، وأن يكون مماشيًا لعرف البلد، حتى لا يكون ثوب شهرة.
وكذلك مناسبًا لحال الإنسان من ناحية اليسار والإعسار.
ومع ذلك فإنه من أدب اللباس: أنه يستحب ترك الترفع في اللباس تواضعًا، حتى لو كان يقدر عليه، لكن ليس معنى ذلك أن يلبس مرقعًا مخرقًا، أو متسخًا، كلا، فترك الترفع باللباس وهو يقدر عليه قد جاء في فضله حديث عن النبي ﷺ، ومن ذلك الحديث الذي رواه الترمذي -رحمه الله- وحسنه قال ﷺ: من ترك اللباس تواضعًا لله تعالى وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها[رواه الترمذي: 2481، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 6145].
وفي الوقت نفسه لو أن الإنسان لبس لباسًا وهو يقدر عليه؛ إظهارًا لنعمة الله تعالى، وشكرًا، وهو مستحضر لها وشاكر لها، غير محتقر لمن ليس له مثله، فإن ذلك لا يضر، من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله تعالى عليه، وهو شاكر له، غير محتقر لمن لم يحصل له مثل هذه اللبسة، فلا يضره ذلك، ولو كان في غاية النفاسة: "إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة؟ قال: إن الله جميل يحب الجمال [رواه مسلم: 275]. إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده [رواه الترمذي: 2819، وأحمد: 8092، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح: 4350].
والإنسان لو كان عنده اقتدار، فلبس مرة من النفيس إظهارًا للنعمة، وترك اللباس مرة تواضعًا لله، فيكون جمع بين المصالح.
فليس من النوع الذي يقول: أنا ما أخرج إلا بالمستوى الفلاني، لا، مرة خرج بلباس متواضع.
جاء على الجمعة لبس لباس نفيس، جاء إلى مجتمع من الإخوان لبس لباسًا جميلاً، جاء إلى عرس لبس لباسًا جميلًا.
الضوابط الشرعية هذه: عدم احتقار الآخرين، وأن يكون قصده إظهار النعمة، وألا يكون في ذلك منكر شرعي، كالصورة والصليب، ونحو ذلك، والحرير.
ومن الآداب: أن يكون الكم إلى الرسغ؛ لحديث أسماء بنت يزيد رضي الله تعالى عنها قالت: كان كم يد رسول الله ﷺ إلى الرسغ. [رواه الترمذي: 1765، والنسائي: 9666]
ولقول أنس: كان كم يد رسول الله ﷺ إلى الرسغ.
يقول الشيخ ملا علي القاري رحمه الله في شرح الشمائل المحمدية: "ويجمع بين هذا وبين حديث الباب إما بالحمل على تعدد القميص أو بحمل رواية الكتاب على التقريب والتخمين". [جَمْعُ الْوَسَائِلِ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ، ص: 136]؛ لحديث ابن عباس: يلبس قميصًا مستوي الكمين بأطراف أصابعه.
ولكن بعضهم حمل قضية أطراف الأصابع على حال، والكم إلى الرسغ على حال، مثل الحضر والسفر. وحديث ابن عباس في الحقيقة أنه قد زمز صاحب الفيض بضعفه، فإذا كان ضعيفًا فنبقى على الرسغ؛ لأنه هو الذي ثبت، كما في سنن الترمذي.
طيب الآن هناك بعض الناس أكمامهم وسيعة جدًا، فما هو القول في هذه السعة؟
المبالغة في سعة الكم وطوله غير محمودة؛ لأنها تنافي الاعتدال الذي يليق بالمسلم، فيقول ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد": "وأما هذه الأكمام الواسعة الطِّوال التي هي كالأخراج، فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه ألبتة، وهي مخالفة لسنته، وفي جوازها نظر، فإنها من جنس الخيلاء". [زاد المعاد: 1/140].
سحب الثوب، وتوسعة الكم جداً، ورفع العمامة جداً، فيه قضية لفت النظر، ويكون الخيلاء من الأسفل والأعلى، وفي الكم يمكن أن يكون.
وقال ابن الحاج رحمه الله في كتاب: "المدخل": ولا يخفى على ذوي البصيرة أن كم بعض من ينسب إلى العلم اليوم فيه إضاعة مال؛ لأنه قد يفصل من هذا الكم ثوب لغيره.
يعين جاءت فترة بعض المنتسبين للعلم صار ...