الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فنحن في التعاملات النبوية من النبي ﷺ مع أصناف الناس، ومن هؤلاء من ابتلاهم الله في أنفسهم، وقد قال : لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ[آل عمران : 186] ، وهذا الابتلاء في النفس قد يكون بإصابة بعاهة كالأعمى، وممن أخذ الله منهم بعض ما أعطاهم، وأبقى لهم ما شاء.
حثهم على الصبر والاحتساب
وكان النبي ﷺ مع هؤلاء له شأن عجيب، ونأخذ دروساً بالغة من تعامل النبي ﷺ مع أصحاب العاهات، والذين كان فيهم من أنواع البلاء ما قدره الله عليهم، فقد كان ﷺيحثهم على الصبر، ويبشرهم بالجنة إذا صبروا على ما أُصيبوا به.
فعن أنس بن مالك ، قال: "سمعتُ النبي ﷺ يقول: إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة [رواه البخاري: 5653].
والمقصود بحبيبتيه أي عينيه؛ لأنهما أحب الأعضاء إلى الإنسان لما يحصل له بفقدهما من الأسف على فوات رؤية ما يريد رؤيته؛ سواء كان من خير يُسَرُ به أو من شر فيجتنبه، وقوله: فصبر كما جاء في رواية للترمذي: من أذهبتُ حبيبتيه فصبر، واحتسب، لم أرض له ثواباً دون الجنة [رواه الترمذي: 2581، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 8140].
والمقصود أنه يصبر مستحضراً ما وعد الله به من الثواب، لا أن يصبر رغماً عنه مجرداً عن احتساب الأجر، لا، وإنما يستحضر الثواب الذي أعده الله لأهل البلاء.
والله يبتلي عبده تارة لحبه إياه؛ ولأن له مقاماً عنده يريد أن يبلغه إياه بهذا الابتلاء؛ لأن عمل هذا المبتلَى لم يكن ليوصله إلى تلك المنزلة قبل الابتلاء، فيبتليه ليصبر فيرفعه إليها.
وكذلك فإن هذا الابتلاء يكون كفارة لذنوبه، وقد يدفع الله بهذا الابتلاء عنه ابتلاء أكبر، ويكون البلاء الذي أصابه صارفاً عنه أنواعاً أخرى أشد.
وقد جاء في حديث سلمان موقوفاً عليه فيمن يتلقى ما أصابه الله به من البلاء بالرضا، قال: "إن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة، وإن مرض الفاجر كالبعير عقلَه أهله، ثم أرسلوه، فلا يدري لم عُقِل، ولم أُرسل" أخرجه البخاري في الأدب مفرداً موقوفاً على سلمان .
وقوله في الحديث: عوضته منهما الجنة هذا من أعظم العوض؛ لأن الالتذاذ بالبصر يفنى بفناء الدنيا، وأما الالتذاذ بالجنة فإنه باقٍ ببقائها، وهو شامل لكل من وقع له ذلك بالشرط المذكور، حتى قال ابن بطال رحمه الله: "هذا الحديث حجة بأن الصبر على البلاء ثوابه الجنة، ونعمة البصر على العبد، وإن كانت من أجل نعم الله تعالى عليه فعوض الله عليها بالجنة أفضل من نعمتها في الدنيا، العوض بالجنة أفضل من البصر نفسه في الدنيا، لنفاذ مدة الالتذاذ بالبصر في الدنيا، وبقاء مدة الالتذاذ به في الجنة؛ لأن هذا الضرير في الجنة مبصر.
وكان النبي ﷺ يدعو لأهل البلاء
فعن عطاء بن أبي رباح، قال: "قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: "ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة، وأشار ابن عباس رضي الله عنهما إلى امرأة أتت النبي ﷺ، فقالت: "إني أُصرع" يعني مصابة بالصرع.
ومعلوم أن المصاب بالصرع يسقط، ويصبح له حركات لا يعقلها أحياناً، واضطراب عند سقوطه، وأشياء عشوائية، ولذلك لما اشكت المرأة ما كان شكواها فقط من الصرع، قالت: "إني أُصرع، وإني أتكشّف، فادعُ الله لي" فهي اشتكت من الصرع؛ لأنه يسبب لها التكشف، وتكشف المرأة الذي يكون بحضرة رجال أجانب هو ثقيل جداً على نفس المرأة المؤمنة؛ لأنها قد تُصرع في السوق، قد تُصرع في الطريق، تُصرع أمام الناس، لا تملك نفسها، المصروع لا يستطيع أن يتحكم في مكان الصرع، ومدة الصرع، وأمام مَن يُصرع، ولا أن يتوارى دائماً عن الناس عندما يُصاب بالنوبة، قد تأتيه النوبة فجأة في مكان عام، ولذلك فإن المرأة جاءت من حرصها على التستر، وحرصها على عدم انكشافها عند الأجانب، وهذا يبين أهمية الحجاب في حياة المرأة المسلمة، وحرص المرأة المسلمة على الحجاب؛ مع أنها معذورة بالصرع، والله لن يعاقبها إذا تكشفت؛ لأن الصرع ليس بيدها، لكن مع ذلك جاءت تشتكي تقول: "يا رسول الله، إني أصرع، وإني أتكشّف، فادعُ الله لي، فقال النبي ﷺ: إن شئتِ صبرت ولك الجنة صبرتِ على هذه النوبات الصرعية، ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك [رواه البخاري: 5652، ومسلم: 6736].
فلما سمعت المرأة ذلك، وكان عندها خير بين أن تنال الجنة بصبرها على الصرع، وبين أن يدعو لها، وتشفى منه آثرت الباقي على الفاني، وقالت: "أصبر" اختارت مباشرة ما احتاجت إلى تفكير طويل واستشارات، قالت مباشرة: "أصبر" ما دام أن المسألة فيها الجنة، وهذا يدل على شدة إيمانها بالجنة مقارنة بما يحدث عند كثير من الناس من عدم الاكتراث أحياناً إذا ذكر له شيء عن نعيم الجنة، وكأنه لا يعنيه، أو أنه لا علاقة له بالأمر، لكن الذي يعيش لأجل الجنة مستعد أن يصبر على الصرع، وعلى غير الصرع لأجل أن ينال الجنة.
ولذلك قالت: "أصبر" ثم قالت: "إني أتكشف، فادعُ الله لي ألا أتكشف" أنا أصبر على الصرع، لكن لا أتحمل التكشف أمام الرجال الأجانب، فدعا لها" [رواه البخاري: 5652، ومسلم: 6736].
إذاً، إنه لعجب أن تصرع المرأة ولا تتكشف، وتصبر على الصرع، ولكن الدعاء النبوي يسترها.
قال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث فضل من يصرع" [فتح الباري: 10/115].
والصرع هو مرض معروف طبياً، ومشخص، والصرع هذا اختلال في كهرباء الدماغ، ويكون له أسباب بعضها معروف، وبعضها غير معروف، وله ما يزيده، ويعجل بمجيء الحالة أو يجعلها تشتد، ومنه ما يكون من صرع الجن، فهو ليس بمرض في الجسد أو مرض وراثي؛ لأن الصرع من أسبابه الوراثة، فمنه ما يكون مرضاً جسدياً لأسباب من الوراثة أو غيرها، ومنه ما يكون نتيجة صرع الجن للإنس، فيدخل الجني في الإنسي فيصرعه، ويتلعب به، ويطرحه، ويسقطه، ويقيمه، ويقعده، ويرميه، ويجعله يأتي بالحركات العجيبة الغريبة الشاذة في صرعه، وعلى أية حال سواء كان الصرع من هذا النوع أو من هذا النوع فهو ابتلاء، وفيه أجر عظيم.
ولذلك ابن حجر رحمه الله قال في الحديث: "في فوائد الحديث، وفي الحديث فضل من يصرع" يعني أن هذا ابتلاء من الله، وإذا صبر عليه فهو مأجور، ومثل سلب النظر، والبصر كذلك الصرع.
إذاً، إذا صبر عليه الإنسان على هذا البلاء؛ لأنه شديد، ومحرج للمصروع، ولأهل المصروع، وكذلك قد يكسر قد يؤذي أثناء صرعه، ويخيف الأطفال لكن هذا أمر الله في خلقه ابتلى بعض هؤلاء؛ لكي ينتبه الأصحاء إلى نعمة الصحة فيؤجر المصابون، ويتعظ الأصحاء، هذا جواب من قال: لم خلق الله الأمراض؟، ولماذا قدر العاهات؟ فيُقال: ليعرف عباده نعمة الصحة، وليكون هذا البلاء أجراً، وحسن عاقبة لمن صبر عليه، وليبتلي العباد هل يصبرون على البلاء أم لا؟، ولئلا يغتروا بالدنيا، والصحة، فيُقال: قد يسلبها منكم فجأة كما سلبها من فلان، وفلان، وفلان، فلا تأمن على نفسك، ولا تغتر.
فإذاً، وجود أصحاب عاهات في المجتمع هذا فيه حكم عظيمة خلافاً لمن قال: نقتلهم؛ لأنهم عبء على المجتمع، ونفقات صحية، وإهدار ميزانيات، وماذا سيستفيد منهم المجتمع في الإنتاج؟، فيُقال: هذا تفكير الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر أما الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر فيقولون: وجود أصحاب العاهات بين الناس هذا فيه حكم عظيمة، وفائدة للمبتلى، وعظة للصحيح، قال: وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة يعني أنه يصبر على البلاء، ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه أن علاج الأمراض كلها بالدعاء، والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير علاج الأمراض كلها بلا استثناء سرطان عمى أي مرض أن علاج الأمراض كلها بالدعاء، والالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير كانت دعوة، واحدة من النبي الكريم لمكانته عند ربه، وإجابة الله لدعائه يكون الشفاء بواسطتها سبب عظيم للشفاء، يشفي الله بدعوة نبيه أعطاه دعوات مجابة يدعو ويجاب، وأن تأثير ذلك يقول ابن حجر في فوائد العلاج بالدعاء، وانفعال البدن عنه أعظم من تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجع بأمرين، يعني هل أي واحد يدعو وهو مصاب سيشفى؟ يقول ينفع وينجع بأمرين، أحدهما من جهة العليل، وهو صدق القصد يعني نية صافية صالحة صدق القصد، والإخلاص لله، واليقين به ، قال: والآخر من جهة المداوي، وهو قوة توجهه، وقوة قلبه بالتقوى، والتوكل.
فإذا قال واحد: والرقية؟ فنقول: من جهة العليل يكون أثر الرقية إذا صدق قصده، ومن جهة المداوي إذا قوي توجهه، وقوي قلبه بالتقوى، والتوكل.
زيارتهم وإجابته طلباتهم
كيف كان النبي ﷺ يعامل أيضاً المصابين بهذه الآفات الدنيوية، وما حصل من البلاء في أجسادهم عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: انطلقوا بنا إلى البصير الذي في بني واقف نعوده، وكان رجلاً أعمى رواه البيهقي، وصححه الألباني. [رواه البيهقي في السنن الكبرى: 20851، وصححه الألباني في السلسلة: 521].
إذاً، زيارة أصحاب العاهات، وإجابة طلب هؤلاء بنو واقف حي من أحياء الأنصار كان فيهم رجل أعمى، النبي ﷺ ذهب يزور الأعمى، وسمّاه بصيراً، قال: انطلقوا بنا إلى البصير، وهذا فيه تلطف في الوصف، واحترام لمشاعر الآخرين، والتفاؤل.
ومن ذلك أيضاً ما جاء في حديث محمود بن الربيع الأنصاري أن عتبان بن مالك، وهو من أصحاب رسول الله ﷺ ممن شهد بدراً من الأنصار أتى رسول الله ﷺ، فقال: "يا رسول الله، إني رجل ضرير البصر، وأنا أصلي بقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبين مسجد قومي، هناك مسيل ماء كثيف، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم جاء المطر، وسالت المياه، وحُبِستُ عن مسجد قومي، ولم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، وودتُ يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، فقال له رسول الله ﷺ: سأفعل إن شاء الله.
إذاً، الصحابة يتبركون بمكان النبي ﷺ بملامسة النبي ﷺ، بجسده الشريف، للبقعة، للباس؛ لأن عرقه مبارك، وبدنه مبارك، وشعره مبارك، ولعابه مبارك، ولذلك البركة التي وضعها الله في نبيه شيء عظيم، فكانوا يلتمسون البركة، والفضل في المكان الذي يصلي فيه، أو اللباس الذي يلبسه ونحو ذلك.
وهذا من الخصوصيات النبوية، يعني ما يصلح يقول الآن تعال يا شيخ صلّ في بيتنا نتبارك فيه ونتخذه مصلى، لا هذا من الخصائص النبوية، فالله جعل في نبيه بركة خاصة النبي ﷺ لما طلب منه الضرير هذا الطلب جبر خاطره، وأجاب طلبه، ولبى دعوته، قال عتبان: "فغدا رسول الله ﷺ، وأبو بكر حين ارتفع النهار" في اليوم التالي من الصباح، لما ارتفع النهار مضيا إليه، فاستأذن رسول الله ﷺ فأذنتُ له، يقول عتبان صاحب البيت: "فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: أين تحب أن أصلي من بيتك.
إذاً، ماذا فعل ﷺ؟ قصد إجابة طلب الرجل مباشرة أول شيء؛ لأن نفس الرجل متعلقة بهذا الطلب فأول شيء فعله ﷺ إجابة طلبه الخاص بعد أن أجاب الطلب في الزيارة، جاء الطلب الخاص مباشرة، قال عتبان: "فأشرتُ له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله ﷺ، فكبر، فقمنا، فصفنا فصلى ركعتين ثم سلم" [رواه البخاري: 5401، ومسلم: 1528].
إذاً، هل يجوز أن تُصلى صلاة الضحى جماعة؟ الجواب: نعم، أحياناً.
ولم يكن النبي ﷺ دائماً يصلى الضحى جماعة، لكن حصل أنه صلى أحياناً الضحى جماعة، قال في الحديث: "حبسناه على خزيرة صنعناها له حبسناه" يعني قلنا له: انتظر، حضّرنا لك شيئاً من طعام، انتظر
والخزيرة نوع من الأطعمة، وهي لحم يقطع صغاراً ، ثم يصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذرّ عليه الدقيق، هذا يسمى عندهم خزيرة، وإذا لم يكن فيه لحم، وإن لم يكن فيه لحم فهو عصيدة.
وهذا الحديث فيه إجابة الفاضل دعوة المفضول، واستصحاب الزائر بعض أصحابه النبي ﷺ صحب الصديق ثاني أهم رجل في البلد.
قال ابن حجر في فوائد الحديث: "واستصحاب الزائر بعض أصحابه إذا علم أن المستدعي لا يكره ذلك" [فتح الباري: 1 / 522]، يعني يحب هذا لو جاء عنده يحبه، وأن اتخاذ مكان في البيت للصلاة لا يستلزم وقفتيه، وإن أطلق عليه اسم المسجد، فلو أن شخصاً اتخذ في بيته مكاناً خاصاً قال: هذا مكان بعيد عن الإزعاج والضوضاء، هادئ، طاهر، نظيف، سأتخذ هذا المكان في بيتي أصلي فيه دائماً، هل يلزم من هذا الكلام أن يكون لهذا المكان حكم المسجد، ويصبح، وقفاً، ولا يجوز بيعه، ويبقى إلى قيام الساعة هكذا؟ الجواب: لا.
إذاً، لماذا سمي مسجداً، يُقال من باب اللغة مكان السجود، مسجد اسم مكان السجود في اللغة، أي مكان تسجد أنت فيه يسمى مسجداً، فأنت لو صليت الآن، وسجدت، فيُقال: هذا مسجدك يعني مكان سجودك.
فلذلك سماه مسجداً، ولا يلزم من ذلك الوقفية، والحديث فيه الرخصة في الصلاة في الرحال عند المطر، وصلاة النوافل جماعة أحياناً، واتخاذ موضع معين للصلاة، يعني لو قال قائل: أين الدليل على تخصيص مكان للبيت في الصلاة هادئ طاهر نظيف بعيد عن ممر الأولاد، والداخل والخارج، فيُقال: هذا الحديث كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا[آل عمران : 37]، اتخذت مكاناً تصلي فيه، والنهي عن إيطان كإيطان البعير ما وقعه؟ فيُقال: هذا في المسجد، أما في البيت فلا ينهى عن اتخاذ مكان بعينه يصلى فيه دائماً، لكن المسجد واحد دائماً يحافظ على مكان في المسجد لا يصلي فيه إلا هو هذا منهي عنه أصلاً، والمسجد ليس ملك أحد، ملك رب العالمين، ولذلك بعض الناس يغضب إذا جاء من وسبقه إلى المكان المعتاد الذي هو اعتاد أن يصلي فيه، فيُقال: المسجد ليس ملكك، والمكان ليس ملكاً لك، والحديث نهى عن إيطان كإيطان البعير؛ لأن البعير عنده دائماً في الحظيرة مكان معين يتوطنه دائماً يجلس فيه، ولذلك نهى عن إيطان كإيطان البعير، وإذا شهدت لك هذه البقعة وهذه البقعة في المسجد أحسن، وربما تفضي قضية الصلاة في موضع واحد في المسجد إلى نوع رياء، وإلى نوع خصومة، لو جاء شخص وسبقه يقول: لماذا أخذت مكاني؟ هذا ليس مكانك، يقول: أنا متعود فيه من زمان من عشرين سنة أنا أصلي هنا، حتى أنت تأتي اليوم تأخذ مكاني، فيُقال: نهى عن إيطان كإيطان البعير، أنت إذا دخلت المسجد تصلي في أقرب مكان إلى الإمام، وميمنة المسجد خير من ميسرته، ويمين الصف خير من شماله، أفضل الأماكن وسط الصف خلف الإمام، ثم اليمين، ثم الشمال، ولا تحدد مكاناً لا تصلي إلا فيه في المسجد.
ثم من فوائد الحديث عموم النهي عن إمامة الزائر لا يستلزم أن يسمح للزائر بالإمامة لفضله، وإذا كان الزائر هو الإمام الأعظم فلا يكره حينئذ أن يؤم.
فإذاً، النهي عن الإمامة في البيت لغير صاحب البيت، ويُستثنى منه الإمام الأعظم، ومن أذن له صاحب البيت.
فإذاً، نهى أن يؤم الرجل الرجل في سلطانه أو في بيته ومنزله، هذا يستثنى منه من سمح له صاحب المنزلة بالتقدم، والإمام الأعظم كان النبي ﷺ أيضاً في تعامله مع أصحاب ما يسمونهم اليوم بالاحتياجات الخاصة، كان يرشدهم لما فيه الخير لهم، ويدلهم على أدوية، ويدلهم على أشياء تخفف البلاء عليهم، ويدلهم على ما فيه مصلحتهم، فعن أبي هريرة ، قال: "أتى النبي ﷺ رجل أعمى، فقال :يا رسول الله، ليس لي قائد يقودوني إلى المسجد، فسأل رسول الله ﷺ أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب [رواه مسلم: 1518].
قال النووي رحمه الله: "هذا الأعمى هو ابن أم مكتوم ، وقد جاء مفسراً في حديث عند أبي داود وهذا الحديث من أقوى الأدلة على وجوب صلاة الجماعة في المسجد" [شرح النووي على مسلم: 2 / 454].
لأنه لو كانت صلاة الجماعة في المسجد مستحبة فقط كان رخص للأعمى، فإذا لم يرخص للأعمى فهل يرخص للأصحاء؟ فأما ما يترتب على حضوره المسجد ضرر فإنه يتخلف، ولو قال قائل: هل هناك تعارض بين حديث ابن أم مكتوم، وحديث عتبان؟ عتبان كان ضريراً، وابن أم مكتوم كان ضريراً، وذاك أجابه وذهب وصلى في بيته في مكان يتخذه مصلى، وهذا لم يرخص له، فلماذا قال ابن رجب -رحمه الله- في الجمع بين الحديثين: "إن ابن أم مكتوم كان قريباً من المسجد، بخلاف عتبان كان بعيداً ولهذا ورد في بعض طرق الحديث حديث ابن أم مكتوم أنه كان يسمع الإقامة، وكذلك فإن عبور عتبان إلى مسجده مع وجود سيل في الوادي هذا مستحيل، يعني هذه مهلكة يعني بالتأكيد بخلاف طريق ابن أم مكتوم إلى المسجد، فلم يكن فيها سيل إذا نزل المطر.
وقال ابن رجب رحمه الله أيضاً: "ويحتمل أن يكون عتبان جعل موضع صلاة النبي ﷺ من بيته مسجدًا يؤذن فيه، ويقيم ويصلي بجماعة أهل داره، ومن قرب منه، فتكون صلاته حينئذ في مسجد إما مسجد جماعة، أو مسجد بيت يجمع فيه" يعني في مسجد جماعة، ومسجد بيت يجمع فيه، وأما ابن أم مكتوم فإنه استأذن في صلاته في بيته منفرداً فلم يأذن له، وهذا أقرب ما جمع به بين الحديثين، والله أعلم" [فتح الباري لابن رجب: 2/392].
فإذاً، كأن ابن رجب يميل إلى ابن أم مكتوم لما استأذن كان على أساس أن يصلي وحده في بيته، وعتبان لما استأذن على أساس أن يصلي جماعة بمن عنده في الدار من الزوجة والموالي والإماء ونحو ذلك، كأمٍ مثلاً وأخت، وأهل البيت، يعني صلاته صلاة جماعة ليست منفردة.
وكان ﷺ يقضي حوائج ذوي العاهات
كان النبي ﷺ يقضي حوائج هذا النوع وهذه الشريحة من الناس، فعن أنس أن امرأة كانت في عقلها شيء، يعني من الفتور والنقصان، فيه تغير وعلة، كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان انظري أي السكك شئتِ حتى أقضي لك حاجتك فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها [رواه مسلم: 6189].
وقد سبق أن هذا من النبي ﷺ لم يكن خلوة بالمرأة؛ لأنه كان في الطريق، وأمام الناس.
وقوله: "خلا بها في بعض الطرق" واضح أنه ليس في مكان مغلق، وإنما كان في الطريق، يعني لم يكن بقربهما أحد لكن الناس يذهبون، ويجيئون، ويرون من بعد، فمثل هذا لا يسمى خلوة.
ثم إن النبي ﷺ أصلاً في بعض المسائل المتعلقة بالأحكام مع النساء له خصوصيات، كما أجابوا عن أشياء في حديث أم سليم رضي الله عنها، وغير ذلك.
وكان ﷺ متواضعاً حليماً، ولذلك قضى حاجة هذه المرأة، فكانت تريد أن تكلمه في موضع، قال أي مكان تريدين أن آتي فيه أتي وأجيبك على ما تريدين، وأقضي لك حاجتك، عندك طلب، مشكلة.
بعض الناس عندهم مشكلات كثيرة، نفسية، واجتماعية، انظري أي حاجة مالية، علّة، شيء تريد طلباً مستعد أن يلبي لها ما تطلب.
والنبي ﷺ قد عاتبه ربه في قضية الأعمى لما تركه من أجل محاولة هداية صناديد قريش، هذا مقبل لا يرى مَن عند النبي ﷺ.
ولما حضر عند النبي ﷺ كبار قريش، كان يأمل في إسلامهم، فهو الآن منشغل بهم، وابن أم مكتوم جاء كأي مسلم يريد أن يتعلم، ولا يرى من عند النبي ﷺ، قال: يا رسول الله، علمني، والنبي ﷺ منشغل مع هؤلاء، فأعرض عنه، فنزلت: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى[عبس : 1 - 3]، يعني هذا مقبل، وأولئك معرضون، فهذا المقبل أولى بأن تنشغل به عن المعرضين هذا لعله يذكر فتنفعه الذكرى، أولئك الذين استغنوا وأعرضوا فأنت لهم تصدى، وتنشغل عن هذا المريد للخير، وأولئك أعرضوا، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى المعرض، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى[عبس : 7 - 10].
ولذلك فإن النبي ﷺ، وعى هذا جيداً، فلم يكن ﷺ ليعرض عمن جاء يريد الخير، وكان يساوي بين الشريف، والضعيف والفقير، والغني، والسادة، والعبيد، والرجال، والنساء، والصغار، والكبار، وكان النبي ﷺ بعد نزول هذه الآية: عَبَسَ وَتَوَلَّى يكرم عبد الله بن أم مكتوم إكراماً بالغاً، وقالت عائشة رضي الله عنها: "أنزل: عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله ﷺ، فجعل يقول: يا رسول الله، أرشدني، وعند رسول الله ﷺ رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله ﷺ يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول: أترى بما أقول بأساً؟ فيقول: لا، ففي هذا أنزل سورة عبس". رواه الترمذي، وصححه الألباني. [رواه الترمذي: 3331، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية: 202].
كان ﷺ يخفف عنهم ويسلك سبيل التيسير بهم
النبي ﷺ من رحمته بأصحاب العاهات أنه كان يريد التخفيف عنهم، ويبتغي رفع الحرج عنه، ويسلك بهم سبيل التيسير، فعن زيد بن ثابت، أن رسول الله ﷺ أملى عليه: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[النساء : 95] .
هكذا نزلت الآية أولاً ليس فيها زيادة غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ما كان فيها هذه الكلمات الثلاث، كانت الآية: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[النساء : 95]، المجاهد خير من القاعد، لكن هناك بعض القاعدين عندهم عذر قهري فهل الخيرية الآن تزول عنهم؛ لأنهم قعدوا النبي ﷺ كان يلقي الآيات التي تلقى عليه، وهو يلقيها على كتبة الوحي، وزيد بن ثابت منهم حفّاظ الوحي.
فالنبي ﷺ أملى على زيد بن ثابت الآية: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِفي هذا الوقت جاء عبد الله بن أم مكتوم، والنبي ﷺ يملي الآية على زيد، فقال: "يا رسول الله، لو أستطع الجهاد لجاهدت، وكان رجلاً أعمى، فأنزل الله –تبارك وتعالى- على رسوله ﷺ، يقول زيد بن ثابت وفخذه على فخذي، كان جالس عنده، وجاءت الفخذ على الفخذ، فثقلت يعني فخذ النبي ﷺ، صارت ثقيلة جداً على فخذ زيد؛ لأن الوحي عندما ينزل فإنه ينزل بشدة وله ثقل والنبي ﷺ كان يعاني، عند نزول الوحي حتى أنه ليعرق في الشتاء، ويشتد عليه، ويتغير وجهه، ويغط كغطيط البكر صوت البكر، ثم ينفصل عنه، فإذا انفصل عنه رجع إلى حالة العادية، لكن لما ينزل عليه الوحي ينزل عليه بمعاناة، وشدة، ليكون كامل التفرغ لما سيلقي عليه، يعني حالة نزول الوحي حالة فيها ثقل على النبي ﷺ يقول زيد: "فثقلت يعني فخذ النبي ﷺ عليّ حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله غير أولي الضرر بمناسبة مجيء ابن أم مكتوم.
والنبي ﷺ يملي على زيادة جاءت ثلاث كلمات بشأن أم مكتوم وأشباهه، فصارت الآية: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ والْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[النساء:95].
فصارت المقارنة بين قاعد ليس من أولي الضرر، وبين المجاهد، ولا يستويان قطعاً.
وقال تعالى مخففاً عن أصحاب البلاء هؤلاء: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ[الفتح : 17]، وإذا كان الأعرج ليس عليه حرج، فالمشلول من باب أولى؛ لأن العرج فيه حركة مع صعوبة، لكن المشلول لا يتحرك أصلاً، فذلك قال: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا[الفتح : 17].
فرفع الله عنهم فريضة الجهاد لأجل عذرهم، ولم يكلفهم حمل السلاح والخروج للقتال وهم بهذا الحال، لكن بعض أصحاب الهمم العالية حتى مع كونهم من أهل الأعذار كانوا يصرون على الخروج للجهاد.
قال ابن إسحاق: "حدثني أبي إسحاق بن يسار عن أشياخ من بني سلمة، أن عمرو بن الجموح كان رجلاً أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأُسد يشهدون مع رسول الله ﷺ المشاهد، أربعة شجعان أبطال، فلما كان يوم أُحد أرادوا الأولاد حبسه، أرادوا حبس أبيهم، وقالوا له: إن الله قد عذرك لماذا تخرج؟ فأتى رسول الله ﷺ، فقال: "إن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فو الله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة" فقال رسول الله ﷺ: أما أنت فقد عذرك الله، فلا جهاد عليك، وقال لبنيه: ما عليكم ألا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة فخرج معه فقتل يوم أحد، والإسناد رجاله ثقات، والأشياخ الذين في السند إن كانوا من الصحابة فهو متصل، وإلا فهو مرسل. [السيرة النبوية لابن كثير: 3/74]. وقد روى بعضه أحمد بسند صحيح.
وعن أبي قتادة، قال: "أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله ﷺ، فقال: "يا رسول الله، أرأيتَ إن قاتلت في سبيل الله حتى أُقتل، أمشي برجلي هذه العرجاء صحيحة في الجنة؟، فقال رسول الله ﷺ: نعم، فقتلوا يوم أحد هو، وابن أخيه، ومولى لهم، فمرّ عليه رسول الله ﷺ، فقال: كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة [رواه أحمد: 22553، وحسنه محققو المسند]. رواه أحمد، وحسن الحافظ ابن حجر إسناده في الفتح
تولية النبي ﷺ لذوي العاهات
وبالرغم من أن أصحاب العاهات عندهم نقص بسبب عاهاتهم، لكن هذا ما كان يمنع النبي ﷺ من أن يوليهم أحياناً مسؤوليات، ومهمات، ويكلفهم بأشياء، ويضعهم في مكان سلطة، ومن ذلك ما وقع في غزوة أحد، لما استشار النبي ﷺ الناس في الخروج إلى لقاء المشركين خارج المدينة، أو البقاء في المدينة، وقتال الكفار من داخل المدينة، والتحصن في المدينة، قال ابن القيم في زاد المعاد: "واستشار رسول الله ﷺ أصحابه، أيخرج إليهم، يعني إلى المشركين، أم يمكث في المدينة؟ إلى قوله: "فخرج رسول الله ﷺ في ألف من الصحابة" [زاد المعاد: 3/173]. ومعلوم رجوع عبد الله بن أبي بثلث الجيش.
واستعمل النبي ﷺ ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة، إذاً، من عيّن خلفه إماماً في المسجد النبوي؟ ابن أم مكتوم هو الإمام يصلي بالناس.
وهذا دليل على أن إمامة الضرير صحيحة، وكذلك فقد والّاه النبي ﷺ الإمارة على المدينة أكثر من مرة، واستخلفه ليصلي بالناس في المدينة، رجل عالم فقيه حافظ للقرآن، وضرير، لا يخرج في الجهاد، فكان يستفاد منه، وهو في هذه الحالة فيكون مرجعاً للناس في غياب النبي ﷺ بفقهه، وعلمه، ويؤم بهم، ووظيفة الإمامة شيء عظيم، وليست طلب رزق، أو طلب عيش، لا، شيء كبير.
فكان النبي ﷺ، ولى ابن أم مكتوم الإمامة، بل إنه أوكل إليه الأذان، فأما الإمامة فقد روى أنس أن النبي ﷺ استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين يصلي بهم وهو أعمى" رواه أبو داود، وأحمد، وهو حديث صحيح.
وأما الأذان، فهو سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: إن بلالاً يؤذن بليل، فلكوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم، ثم قال وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يُقال له: أصبحت أصبحت. [رواه البخاري: 617].
طلع الفجر يعني بلال الأذان الأول، وابن أم مكتوم الأذان الثاني.
وابن أم مكتوم حيث أنه لا يرى فكان لا بدّ من شخص ينبهه إلى أن الفجر طلع حتى يؤذن، فكان جميل الصوت، لكن انظر إلى استثمار طاقات أصحاب العاهات يؤذن، ويؤم، ويكون أميراً.
وعن عائشة رضي الله عنها، أن أم مكتوم كان مؤذناً لرسول الله ﷺ، وهو أعمى. [رواه أبو داود: 535، وصححه الألباني]، رواه أبو داود، وهو حديث صحيح، والحديث السابق في الصحيح.
كان ﷺ يحذر بشدة من إيذائهم:
كذلك كان النبي ﷺ من مراعاته لأصحاب العاهات أنه كان يحذر بشدة من إيذائهم؛ لأنهم ضعفاء، فمن يؤذي ضعيفاً هذا ملعون.
فعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي ﷺ: ملعون من سب أباه، ملعون من سب أمه، ملعون من ذبح لغير الله، ملعون من غير تخوم الأرض علامات الأرض، وحدود الأرض التي تحددت مسافات، وأرض فلان من فلان، فملعون من غير تخوم الأرض، ثم قال: ملعون من كمه أعمى عن طريق يعني: أضله عن طريقه، أو دله على غير مقصوده؛ لأن بعض هؤلاء السفهاء من الشباب أو غيرهم مثلاً أهل الطيش، والأذى يأتيهم أعمى من أين فيضحكون، ويعطيه طريق آخر غير الطريق الذي يريده، وربما يوجهه إلى جهة فيها أذية له، والآن هناك طرق فيها سيارات، وفيها احتمال الدهس، وأماكن فيها حفر مثلاً، فمن كمه أعمى عن طريق يعني أضله عنه، أو دله على غير مقصوده قال: ملعون من كمه أعمى عن طريق ثم قال: ملعون من وقع على بهيمة، ملعون من عمل بعمل قوم لوط. [رواه أحمد: 1875ق، وحسنه محققو المسند].
إتيان الذكران من العالمين، هذا ملعون مطرود من رحمة الله، والحديث رواه أحمد، وقال الألباني: صحيح.
صبره ﷺ على أذى من كفر من ذوي العاهات
وكان ﷺ ربما عانى من بعض هؤلاء أصحاب العاهات ممن وجد فيهم من الكفار والمنافقين، فيجمع إلى عمى البصر عمى البصيرة فكان يصبر على أذاهم، ومن ذلك القصة التي تروى عن مربع القيضي من المنافقين كان له مزرعة، والنبي ﷺ لما توجه بجيشه صوب أحد، أراد أن يجتاز بحائط هذا الرجل وبستاته، فقال لرسول الله ﷺ حين أجاز في حائطه: لا أحل لك يا محمد إن كنت نبياً أن تمر في حائطي، وأخذ بيده حفنة من تراب، وقال: لو أعلم أني أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به، فابتدره القوم ليقتلوه فقال النبي ﷺ: دعوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصيرة [السيرة النبوية لابن كثير: 2/347].
وهذا يروى يعني لم يثبت لكن موجود في سيرة ابن كثير، وسيرة ابن هشام، ولم يأمر النبي ﷺ بقتله، أو حتى بأذيته، فهذا يدل على صبره ﷺ على أذى هؤلاء.
وعموماً، فإن النبي ﷺ قد ندبنا إلى الاتعاظ بحال من أصيب في جسده، وهؤلاء فئة موجودة في المجتمع، لابدّ تجد في المجتمع مثلاً من العميان الذين فقدوا البصر من أهل الصمم، لا يسمعون أهل البكم، ولا ينطقون فيوجد أعمى، وأخرس، وأصم، وأبرص، يوجد في المجتمع فئات كثيرة.
والعاهة تشتد وتخف من شخص لآخر، فالأعرج أخف من المشلول، لكن عموماً كل واحد يتعظ بمن هو أشد منه، فالأعور يتعظ بالأعمى، ومهما كان الإنسان من نقص فإن لله عليه نعمة فيما بقي من حواسه، فبعض العميان مثلاً تجده في غاية الذكاء، الله عوضه عن الحاسة التي فقدها بسمع قوي جداً، إدراك، وأحياناً إدراك عجيب، يعني بالحاسة وليس لازم أن يكون سمعاً، حس شيء قدرة نفسية على إدراك الأشياء.
قال ﷺ: من رأى صاحب بلاء، فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، إلا عوفي من ذلك البلاء، كائنًا ما كان ما عاش [رواه الترمذي: 3431، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 555].
يعني: طيلة حياته يعافيه الله من ذلك البلاء كائنًا ما كان الحديث رواه الترمذي ، وهو حديث صحيح.
قال العلماء: "ينبغي أن يقول هذا الذكر سراً، يعني: ليس أن يأتي واحد مثلاً إلى رجل أعمى، فيقول في أذنه: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به؛ لأنه ليس هذا موضع شماتة، وإلا موضع إيذاء ،وأنه يخبره يعني أنا أفضل منك، لا، ولذلك قالوا: يقول هذا الذكر سراً، بحيث يسمع نفسه، ولا يسمع المبتلى، وقوله: من رأى صاحب بلاء سواء كان في أمر بدني كبرص، وقصر فاحش، أو طول مفرط، أو عمى، أو عرج، أو اعوجاج يد، ونحوها هذا كلام بعض الشراح، وهذا البلاء قد يكون دينياًُ، قال: أو دينياً بنحو فسق، وظلم، وبدعة، وكفر، وغيرها، فيقول: أيضاً: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً لكن هذا يمكن أن يقوله جهرًا زجرًا، يعني: لو واحد مر على واحد مثلاً يتعاطى مخدرات أو واحد طاعن في السن يتحرش بالنساء مثلاً، يعني أي صاحب فسق، أو معصية، أو بدعة، مررت بنصراني يسجد للصليب، أو يعبد الصليب، شخص هندوسي يعبد البقرة، مررت بواحد كافر، مشرك، مبتدع، على شرك أو بدعة مجاهر بالفسق، مثلاً شاب طائش حلق كل شعره إلا عرف الديك، وذنب الحمار، وجعل له خصلة وسلاسل، وأطواق، وأغلال، وألوان أصباغ أشكال، والبنطلون نازل، واللباس الداخلي طالع، فقلت له: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به هذا زجر له، فيكون الجهر به وجيهاً من باب التأديب، ومن باب الزجر لعله يرعوي، وقوله: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به العافية أوسع من البلية؛ لأنها مظنة الجزع، والفتنة، وحينئذ تكون محنة أي محنة والمؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وقوله: وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً يعني في الدين، والدنيا، والقلب، والقالب.
هذه نبذة من معاملة النبي ﷺ لأصحاب البلاء، والموضوع طويل.
نكتفي منه بهذا القدر، ونسأل الله العفو، والعافية في الدين والدنيا والآخرة، في أنفسنا وأهلينا وأموالنا.
وصلى الله على نبينا محمد.