الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فلا زلنا نتحدث عن التعاملات النبوية مع أصناف الناس، ومن هؤلاء المنافقون الذين كانوا على عهده ﷺ، فكان يعاملهم على الأصل في معاملة المسلمين في أحكام الدنيا على حسب الظاهر.
وعرفنا أن حركة النفاق قد بدأت وظهرت بعد معركة بدر لما ظهر المسلمون وزادت قوتهم، فاضطر الذين كانوا يكرهون دعوة النبي ﷺ إلى إظهار الإسلام مع إبطانهم للكفر جُبناً وخداعًا.
وكان يرأس النفاق في المدينة عبد الله بن أُبي بن سلول الذي كان ينتظر الزعامة على الأوس والخزرج، وأن يتوّج ملكًا قبل الهجرة النبوية، فلما سُحب منه بساط الملك، وانعطف الناس إلى رسول الله ﷺ شرق بذلك، وعادى هذه الدعوة.
وكان ﷺ يترفق منه، ويعامله بالحلم رغبة في تأليف قلبه، وعفا عنه أكثر من مرة، ولما نقض يهود بني قينقاع العهد الذي كان بينهم وبين النبي ﷺ، وطلب ابن سلول من النبي ﷺ أن يعفو عنهم، وألا يقتلهم قبِل شفاعته فيهم؛ تأليفًا له، وشرط عليهم الجلاء عن المدينة.
ولما خرج النبي ﷺ إلى غزوة أُحد تخاذل المنافقون عن القتال معه، ورجعوا بثلث الجيش؛ ومع ذلك لم يعاقبهم النبي ﷺ، وقد جاء عن زيد بن ثابت ، قال: "لما خرج النبي ﷺ إلى أُحد رجع ناس ممن خرج معه.
موقف المنافقين في غزوة أحد
وكان أصحاب النبي ﷺ فرقتين؛ فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم، فنزلت: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [رواه البخاري: 4050، ومسلم: 7208].
ومعنى رجع ناس ممن خرج معه، يعني مع النبي ﷺ مَن هم هؤلاء الناس؟ عبد الله بن أبي، وأصحابه.
وقد ورد ذلك صريحًا في رواية موسى بن عقبة في المغازي، وأن عبد الله بن أُبي كان وافق رأيُه رأيَ النبي ﷺ على الإقامة بالمدينة، والتحصّن بالمدينة، وعدم الخروج للقتال خارج المدينة.
فلما أشار غير ابن أُبي بالخروج وشباب الصحابة، وكذلك مَن تحمّس وأراد أن يستدرك ما فاته يوم بدر، والنبي ﷺ نزل على رأي هؤلاء، وأجابهم، ولم يكن رأيًا خاطئًا، ولم يكن سبب هزيمة المسلمين أنهم خرجوا من المدينة، ولم يتحصّنوا بها، ولكن كان سبب الهزيمة إرادة الدنيا، وترك المواقع، وعصيان أمر النبي ﷺ، والسعي وراء المغانم، هذا هو سبب الهزيمة، فكان البقاء في المدينة، والتحصُّن فيها رأيًا وجيهًا، وكان الخروج للقتال خارج المدينة رأياً وجيهاً أيضاً.
فلما رأى النبي ﷺ كثرة من أصحابه قد تحمّسوا للخروج خرج، لما خالف هذا الرأي الذي اعتمده ﷺ أخيرًا رأيَ عبد الله بن أُبي غضب وأصابته الحمية، ويأخذ برأي غيري، ويترك رأيي؟.
فخرج مع النبي ﷺ، وفي جزء من الطريق انخنس بثلث الجيش ورجع بهم.
وقال عبد الله بن أبي لأصحابه: أطاعهم وعصاني؟ علام نقتل أنفسنا؟ فرجع، ورجع من أطاعه.
قال ابن إسحاق في روايته: "فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، الصحابي الجليل والد جابر، تبِع الثلث المنسحب، وكان خزرجيًا من قوم عبد الله بن أُبي، فناشدهم أن يرجعوا للقتال، فأبوا، فقال: أبعدكم الله" [سيرة ابن إسحاق: 3 / 304].
وفي رواية أن عبد الله بن عمرو بن حرام قال لهم: "يا قوم أذكركم الله، لا تخذلوا قومكم ونبيكم عند مَن حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال" لو نعلم قتالاً لاتبعناكم فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف عنه قال: "أبعدكم الله أعداء، الله فسيغني الله عنكم نبيه"، وهذه الرواية إسنادها حسن.
وكان أصحاب رسول الله ﷺ فرقتين في الحكم كما جاء في الحديث الصحيح، يعني، فيمن انصرف مع عبد الله بن أُبي، قال الخازن رحمه الله: "معنى الآية: فما لكم يا معشر المؤمنين بأمر المنافقين فئتين صرتم في أمرهم فرقتين، فرقة تذُبُّ عنهم، وفرقة تباينهم، وتعاديهم". [تفسير الخازن: 1/407].
كان يجب عليكم يا معشر المؤمنين أن تكونوا فريقًا واحدًا لا فريقين، فنهى الله الفرقة الذين يذبُّون عنهم، يعني عن المنافقين، ويدافعون عنهم، ويلتمسون لهم العذر، وأمر المؤمنين جميعًا أن يكونوا صفاً واحداً ضد هؤلاء المنافقين، وأن يتبرؤوا منهم، لماذا قالوا: والله أركسهم، يعني نكسهم في الكفر والردة، وجعلهم مغموسين في النفاق بسبب ما اكتسبوا من الأعمال الخبيثة.
فهؤلاء المنافقون قد خذلوا المسلمين في أحلك الظروف، وفي أشد الأوقات، وكانوا في ذلك الوقت العصيب في وقت الحاجة قد انسحبوا، ولو أنهم ما خرجوا لكان أحسن، ولكنهم خرجوا متظاهرين بأنهم سيقاتلون، وأنهم ينصرون المؤمنين، ثم ينسحبون في الطريق ليخذلوا المسلمين، ويفتّوا في عضد المسلمين، ولذلك فإنه يجب التبرؤ منهم.
إن الذين سحبوا ثلث الجيش، وأرادوا التأثير على الضعفاء، والذين أرادوا الهزيمة للمسلمين بزعم أن القتال لن يقع، وهم يعرفون أن المواجهة حاصلة لا محالة، ما الذي صدّهم عن الالتحاق بركائب أهل الإيمان؟ الكفر والنفاق.
قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ[آل عمران: 167].
مع ما صدر منهم لم يعاقبهم النبي ﷺ على هذه الجريمة العظيمة من التثبيط والتخذيل.
وترك النبي ﷺ قتل المنافقين في عدّة مواضع مع بيان نفاقهم، وظهوره؛ لأجل مصالح كثيرة للإسلام.
فهو ﷺ سدّاً لذريعة التنفير عن الدين، ولئلا يتحدث العرب بكلام ينفر من الدين، ترك قتل بعض المنافقين مع أنهم يستحقون القتل حقيقة.
موقف المنافقين في غزوة بني المصطلِق
ويدل على ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: "كنا في غزاة، وهذه غزوة بني المصطلق "فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، الكسع: ضرب الدبر باليد أو الرجل، وهذه عند بعض العرب كانت تعتبر غاية في الإهانة، فقال الأنصاري: يا للأنصار أغيثوني، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله ﷺ، فقال: ما بال دعوى الجاهلية ويحصل أحياناً ان الواحد يمزح مزحة هي عند الآخر إهانة، هذا يقصد المزاح، وذاك يعدها إهانة بالغة.
ولذلك ينبغي على مَن يمزح ألا يكون مزحه مؤذيًا، فهذا جاء وضربه من ورائه مازحاً، وهذا عنده في عُرفه وعرف قومه أن هذه من أكبر الإهانات، ولذلك اشتعل الموقف فجأة، كل طرف نادى من معه، وصارت القضية مواجهة، وبالرغم من الألفاظ المستعملة؛ يا للمهاجرين، يا للأنصار، بالرغم من أنه هذه مصطلحات إسلامية، وهذه أسماء إسلامية، لكن النبي ﷺ لما استعملت بطريقة خاطئة تمامًا قال: ما بال دعوى الجاهلية، وأين دعوى الجاهلية؟ هذا يقول: يا للمهاجرين، وهذا يقول: يا للأنصار، صحيح أن الشعار إسلامي، لكن لما استعمل استعمال عصبية، وتحزُّب، ومواجهة، لم يعد إسلاميًا، وصارت جاهلية.
ولذلك فإن الشعارات ليس عليها مدار صحة الأمر دائماً، لا، قد يكون الشعار براقًا لكن استعمال خاطئ قد تكون جريمة فقال رسول الله ﷺ: ما بالُ دعوى الجاهلية ما الذي حدث؟ لماذا هذا التحزب؟ قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة كلمة قبيحة خبيثة، فسمع بذلك عبد الله بن أُبي، قال: إيه، هذا واحد منهم كسع واحداً منا، واحد من المهاجرين فعلها بهذا الأنصاري، أو بهذا الرجل من أهل المدينة منا فعلوها، أو فعلوها؟ أما، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. [رواه البخاري: 4905، ومسلم: 6748]
وفي رواية: فانكفأ كل منافق إلى عبد الله بن أُبي فقالوا: كنتَ تُرجى، وتُدفع، فصرت لا تضر، ولا تنفع، وينك يا عبد الله بن أبي كنت تحمي، ويُستجار بك هذا، واحد من قومك الآن كسع، وأنت لا تفعل شيئًا، فالمنافقون اجتمعوا إلى رئيسهم، وأثاروا فيه العصبية قالوا: كنتَ ترجا وتدفع الآن صرت لا تضر ولا تنفع.
فقال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُ منها الأذل، سيكون لنا ولهم حساب، وسنخرجهم منها، وهذه كلمة خطيرة جداً.
هذا الحديث سنده مرسل، لكن مرسل جيد، كما قال ابن حجر: المرسل وإن كان من أقسام الضعيف، لكن عندما يكون جيد الإسناد يمكن ان يُعضد بمرسل آخر جيد فيتقوّى به.
فإذا قيل: مرسل، فهو ليس بإسناد متصل، لكن عندما يكون السند جيداً مع كونه مرسلاً ينفع في التعضيد.
في رواية ابن إسحاق: فقال عبد الله بن أُبي: أقد فعلوها؟ نافرونا، وكاثرونا في بلادنا، هؤلاء أجانب جاؤوا إلينا من مكة في يثرب يزاحموننا؟ لا والله، نافرونا، وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، نحن صرفنا عليهم، وأطعمناهم، وأعطيناهم من نخل المدينة، وآويناهم عندنا، والآن بعد أن عزوا، وشبعوا كاثرونا، ونافسونا، والآن يؤذوننا، والله إذا رجعنا المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني كلمة عبد الله بن أُبي تحمل في طياتها بذور الفتنة العظيمة والشقاق، وفض العلاقات بين المهاجرين والأنصار، وقضية تأليب أهل المدينة على إخراج المؤمنين منها، وعلى طرد المهاجرين من المدينة.
ومن تأمل في هذا الكلام عرف خطورته، وما هي هذه الفتنة العظيمة التي كان يخطط لها عبد الله بن أبي.
وقد وصف المهاجرين بأسوأ الصفات سمِّن كلبك يأكلك، وصفهم بأنهم كلاب.
فبلغ النبيَ ﷺ هذا الكلام، فقال عمر: "يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق" يعني هذا كلام، وهذه فتنة ليس لها دواء إلا أن يُحز رأس هذا المنافق، فقال النبي ﷺ: دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه يعني أتباعه، زاد ابن إسحاق في الرواية: فقال ﷺ لا تقتله، ولكن أذِّن بالرحيل.
من المهم جداً إشغال الناس، الآن كلام عبد الله بن أُبي بدأ ينتشر، ما هو الحل، والمسلمون الآن في طريق سفر، وليسوا في البلد، تدارك الأمور في طريق السفر أمر صعب، وحتى لا تنتشر هذه الفتنة في الجيش، قال لعمر: أذِّن في الناس بالرحيل لأن إشغال الجيش بالحركة والاستمرار في المسير مع التعب سيشغلهم عن تداول الكلام، وانتقال هذه الفتنة، ومنع البلبلة، وعدم المهاترات، فكانت مسيرة متصلة ليلاً ونهارًا، أجهدتهم حتى إذا نزلوا للراحة ناموا مباشرة، فلقيه أُسيد بن حضير، لقي النبي ﷺ، فسأله عن ذلك، ما الخبر؟ أنت عادة يا رسول الله ترأفُ بالجيش، وترحم المسيرة، وتعطي الناس حظهم من الراحة، ونراك الآن قد أُمرتَ بمسيرة متوالية، والراحة قليلة، والآن الناس في غاية التعب والنصب، لماذا فعلتَ ذلك؟ فأخبره النبي ﷺ بما قاله عبد الله بن أُبي، فقال أُسيد بن حُضير : "فأنت يا رسول الله الأعز وهو الأذل".
وهذا من نصرة أُسيد بن حضير لرسول الله ﷺ، وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أُبي، وكان مسلماً صادقًا، وأبوه رأس المنافقين، يخرج الحي من الميت
بلغ عبد الله بن عبد الله بن أُبي ما كان من أمر أبيه، فأتى النبي ﷺ، فقال: "بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه جراء كلامه وفتنته، فإن كنتَ فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه" يعني لا داعي لأن تأمر أحدًا آخر بقتله، وأنا لا أطيق أن أرى قاتل أبي يمشي بين الناس، لكن مُرني أنا آتيك برأسه، وهذا يدل على صدق إيمان عبد الله بن عبد الله بن أُبي أنه مستعد أن يقتل أباه، وأن يأتي برأسه إلى النبي ﷺ يعني إذا كان صاحب فتنة بين المسلمين فهو مستعد أن يقتله، لكن النبي ﷺ أيضاً رأف بحال صاحبه عبد الله بن عبد الله بن أبي، وقال له: بل ترفق به، وتحسن صحبته.
وفي رواية للترمذي، "فقال له ابنه عبد الله: "والله لا تنقلب إلى المدينة حتى تقر أنك الذليل، ورسول الله ﷺ العزيز، ففعل عبد الله بن أبي، ورضخ، وأقرّ أنه هو الذليل، والنبي ﷺ هو العزيز، قال أبو عيسى يعني الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
حرص الشريعة على كسب الرأي العام
ونلاحظ في قول النبي ﷺ لعمر: دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه نلاحظ اهتمام النبي ﷺ بما يسمّى اليوم بالرأي العام، والانطباع الذي يتكون عند الناس، وماذا يقول الناس في الخارج؟، وماذا يقول الناس البعيدون عن المدينة؟
وماذا يقول الكفار؟،وهل ممكن أن تفهم القضية خطأ؟ بطريقة خاطئة، نعم ممكن، وماذا سيقول أولئك البعيدون؟ يقولون: محمد يقتل أصحابه؛ لأن عبد الله بن أُبي بالنسبة للناس البعيدين عن المدينة مسلم، فلما يعلموا أن النبي ﷺ قتله، سيقولون: ليست هناك فائدة إذا أسلمنا، إذا ما أسلمنا قاتلونا، وإذا أسلمنا قتلونا، هذا قتل واحد من الذين معه، معناه أن الإسلام لا يعصم الدم فخشي النبي ﷺ أن يحدث قتل عبد الله بن أُبي بلبلة عند الناس البعيدين، وتكون عائقًا في طريق إسلام بعض الناس، أو أن تفهم القضية فهمًا خاطئًا يعود بضرر على المسلمين، وهؤلاء قبائل.
فلم يقل النبي ﷺ لعمر: اقتله، لا، فكّر، تدّبر في الأمر توقف، وخشي أن يعود ذلك بضرر على المسلمين، وعلى الدعوة.
قال النووي رحمه الله: "فيه ما كان عليه ﷺ من الحلم، وفيه ترك بعض الأمور المختارة" [شرح النووي: 8 / 392].
يعني مع أنها وجيهة؛ قتل عبد الله بن أُبي، وكان هذا سيقضي على فتنة هذا الإنسان المنافق، هذا مصدر فتنة، هذا قتله يريح البلاد والعباد، لكن النبي ﷺ ما قتله مع أن قتله المصلحة فيه واضحة، لكن كان سيترتب عليه مفسدة أكبر.
صبر النبي ﷺ على عبد الله بن أُبي خشية المفاسد الأخرى الأعظم، وكان ﷺ يتألّف الناس، وكان يريد أن يتألف قوم عبد الله بن أُبي، وولد عبد الله بن أُبي، ويخشى مما يفهمه الآخرون خطأ.
وكان ﷺ يصبر على جفاء الأعراب، والمنافقين؛ لتقوى شوكة المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكّن الإيمان من المؤلفة قلوبهم، ويتمكن الإيمان من قلوب المؤلفة، ويرغّب غيرهم في الإسلام، وكان يعطي الأموال الجزيلة على ذلك، ولم يقتل المنافقين لهذا المعنى.
يقول النووي: "ولإظهارهم الإسلام، وقد أمر بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر؛ ولأنهم كانوا معدودين في أصحابه ﷺ، ويجاهدون معه إما حمية، وإما لطلب دنيا" مغانم "أو عصبية لمن معهم من عشائرهم" [شرح النووي: 8/392].
يعني إذا قيل: ألم يقاتل بعض المنافقين مع المسلمين؟ فنقول: نعم، قاتل بعضهم مع المسلمين، لكن ما كان لنصرة الله ورسوله، ولا لإعلاء كلمة لا إله إلا الله، ولماذا قاتلوا؟ إما لطلب دنيا ومغانم.
وقد رأوا ما غنم المسلمون في بدر، وإما حمية لعشائرهم، وإما أنهم كانوا يخافون على أنفسهم لو لم يخرجوا، وقاتلوا قال القاضي: "واختلف العلماء؛ هل بقي حكم الإغضاء عنهم؟ يعني عن المنافقين، "وتُرِك قتالهم، أو نسخ ذلك عند ظهور الإسلام، ونزول قوله تعالى: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ[شرح النووي: 8/392].
قال بعض العلماء: إن الحلم عن المنافقين، والصفح عنهم ترك معاقبتهم، وترك قتل رؤوس الفتنة منهم إنما كان لأجَل، وليس حكمًا دائمًا، وإن قول الله تعالى: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73]، ينسخ الحلم عنهم.
ولذلك يبقى عندنا قضية المصلحة والمفسدة فقط، قتلهم فيه مصلحة، وقد يترتب عليه مفسدة، فنقارن بين مفسدة ترك المنافق، ومفسدة قتل المنافق؛ لأن تركه مفسدة واضحة، وقتل المنافق قد يكون فيه مفسدة، فتقارن المفسدتين؛ فإن كان قتله مفسدته أخف يُقتل، وإن كان قتله مفسدته أكبر يُترك.
والله قال عن المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة: 16]، يعني يتقون بها القتل، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِين[المجادلة : 16]، فهم يعلنون الإسلام لعصمة دمائهم، وهذه هي الجُّنة التي ذكرها الله.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "والله أعلم من القتل، فمنعهم إظهار الإسلام، وهذه الأيمان التي يحلفونها منعتهم من القتل، ولم يُزِل عنهم في الدنيا أحكام الإيمان بما أظهروا منه، وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار بعلمه بسرائرهم، وخلافها لعلانيتهم بالإيمان". [الأم: 7/294].
إذًا، ما دام يظهر الإسلام في الدنيا نحن سنعامله بأحكام الإسلام الظاهرة، نسلّم عليه، ونرد السلام، ونشمته إذا عطس، والمناكحة، والتوارث، ونصلي عليه إذا مات، ونغسله، وندفنه في مقابر المسلمين، لكن في الآخرة إذا علم الله كفره في الباطن، فهو في الدرك الأسفل من النار، نحن قد لا نعرف الحقيقة، لكن هنالك بعض الناس قد يتبين نفاقهم بالأدلة والقرائن، شهود تابوا كانوا معهم، وشهدوا عليهم، يعني قد تتبين أشياء، فيُقام عليهم الحد.
قال ابن كثير رحمه الله: "ولهذا كان الضحاك بن مزاحم يقرأها: اتخذوا إيمانهم جنة يعني إظهار الإيمان تقية وجُنّة يتقون بها القتل، وجمهور القراء يقرأون: اتخذوا أيمانهم جمع يمين.
قبوله ﷺ اعتذارات المنافقين
وكان النبي ﷺ يقبل اعتذارات المنافقين وأيمانهم تأليفًا لقلوبهم، قال زيد : "خرجنا مع رسول الله ﷺ في سفر أصاب الناس به شدة، يعني في غزوة بني المصطلق، فسمعتُ عبد الله بن أُبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، حتى يتفرقوا ويقول: ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل.
وكان في غزوة بني المصطلق نصر للمسلمين؛ لأن النبي ﷺ أغار على بني المصطلِق المشركين، وهم غارّون؛ أخذهم على حين غِرّة، وكانوا يعدون لقتاله، وغزو المدينة، ففاجأهم في عقر داهم، وقضى عليهم، لكن ماذا فعل عبد الله بن أُبي في هذه الغزوة؟ انتهز فيها مواقف تدل على خبثه الشنيع؛ لأن قصة الكسع؛ كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار بالمزاح الذي بدأ، وانتهى إلى مواجهة، هذا صار في هذه الغزوة، واستغلّ عبد الله بن أبي قضية عائشة وصفوان بن المعطّل، واتهام عائشة بالزنا، حصل في هذه الغزوة، وقضية لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، صارت في هذه الغزوة، يعني ليخرجن الأعز منها الأذل في هذه الغزوة، وقضية الإفك في هذه الغزوة، ولا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله في هذه الغزوة، أي أن دور عبد الله بن أبي في هذه الغزوة كان دوراً بشعاً جداً جداً، من أسوأ ما مرّ على المسلمين إن لم يكن أسوأ، وأشد شيء من هذا المنافقين كان في هذه الغزوة،، وفي هذا السفر، وفي السفر ما كان في الحضر.
لما وصل المدينة أشاع المنافقون كلام عبد الله بن أُبي في رمي عائشة بالزنا مع صفوان رضي الله عنهما.
والنبي ﷺ لما بلغه مقالة عبد الله بن أُبي: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8]، لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا[المنافقون: 7]، يقول لقومه من أهل المدينة: لا تنفقوا عليهم، اقطعوا المعونات حتى ييأسوا.
ولذلك استدعى النبي ﷺ عبد الله بن أُبي؛ لخطورة كلامه البالغ، وحلف له عبد الله بن أُبي كذبًا، وهذه فيها قصة مع زيد بن أرقم الصحابي الجليل، سنعرفها بمشيئة الله في الدرس القادم، وفيه عبر بالغة.
نسأل الله أن يطهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب.
وصلى الله على نبينا محمد.