الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
مراجعة ما سبق
فقد سبق الكلام أيَّها الإخوة؛ عن ضوابط مهمَّة في قضية الاستدلال، وما هو الاستدلال الصَّحيح، وما هي أوجه الانحراف في الاستدلال، وما هي الضَّوابط التي تضبط الاستدلال حتى يكون مستقيماً، ثُمَّ تحدَّثنا عن موضوع الخلاف: ما هو الخلاف السَّائغ، ما هو الخلاف الاجتهادي، ما هو الخلاف المقبول، وكذلك ما هو الخلاف المردود والشَّاذ والمرجوح، وذكرنا مؤامراتٍ في مسألة تمييع قضية الاستدلال وتحريفها، وكذلك تمييع قضية الخلاف والعبور منها إلى الطعن في المسلَّمات والثَّوابت.
الموقف من المخالف
نختم هذه الدَّورة: دورة ضوابط الاستدلال والخلاف: بالموقف من المخالف، لمَّا عرفنا موضوع الخلاف وبعض ما حيك من المؤامرات في هذه القضية؛ نريد أن نتعرَّف على محاولات تمييع الموقف من المخالف، ما هو الموقف من المخالف شرعاً؟ وماذا يعمل أعداء الملَّة والدِّين في هذه المسألة؟ المخالف قد يكون مخالفاً مفارقاً للدِّين بالكلِّية كافراً زنديقاً منافقاً نفاقاً أكبر مبتدعاً بدعةً مخرجة عن دين الله، وقد يكون مبتدعاً لكن لا يخرج عن الملَّة، وقد يكون فاسقاً عاصياً، مثلاً: المخالف للحقِّ أنواع، أولاً: لا بُدَّ أن نعلم أنَّ من حكمة الله في خلقه ومشيئته في عبادته أنَّه خلقهم متفاوتين في أشكالهم وصورهم وأخلاقهم وطباعهم، فهذا أبيضٌ وذاك أسودٌ، وهذا سهل وذاك حزن، كما قال النَّبي ﷺ: إنَّ الله تعالى خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر ذلك، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك يعني: في الألوان والسَّهل والحزن والخبيث والطيب[رواه أبو داود 4695، والترمذي 2955، وصححه الألباني في الجامع الصغير 2640]. رواه الترمذي وهو حديث صحيح. فجاء بنو آدم على قدر ذلك، يعني: على مبلغ هذه القبضة من الألوان والطِّباع، فجاءت صورهم وأخلاقهم بحسب القطعة التي خُلقوا منها من الأرض، وكذل ذلك بتقدير الله لوناً وطبعاً وخلقاً، ومن جهة الخبث والطِّيبة، ومع أنَّ النَّاس أوَّل ما خُلِقوا كانوا أمةً واحدةً على التَّوحيد، إلَّا أنَّه مع مر الزَّمان وتقلُّب الأحوال عادوا فاختلفوا في أهم رباط يربط البشرية وهو التَّوحيد والإيمان، وتفرَّقوا في الدِّين، كانوا عشرة قرون كُلُّهم على الإسلام، من بعد آدم ونوح عشرة قرون كُلُّهم على الإسلام، ثُمَّ ظهر الشِّرك وتفرَّق النَّاس إلى مؤمنٍ وكافرٍ، وما كانوا في أوَّل البشرية متفرقين في الملة والدِّين، بل كُلُّهم على التَّوحيد، وكُلُّهم على الإسلام العام الذي هو دين آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى والأنبياء جميعًا ومحمد ﷺ، قال الله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً يعني: على الإيمان والتَّوحيد: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[البقرة213]. وقال الله : وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس:19]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان بين نوح وآدم عشرة قرون كُلُّهم على شريعة من الحقِّ، فاختلفوا فبعث الله النَّبيين مبشرين ومنذرين"[رواه الطبري 4072، والحاكم 3654، وقال شيخ الإسلام: "قد ثبت عنه" منهاج السُّنَّة النَّبوية5/177]. رواه الطَّبري والحاكم وصحَّحه، وقال شيخ الإسلام: "ثبت عنه".
وصار الخلاف إذاً بين شعوب بني آدم وقبائلهم وأقوامهم وأممهم في أخلاقهم وأرزاقهم وأشكالهم وصورهم وأديانهم وعقائدهم، إذاً متى حصل الافتراق في بني آدم؟ ومتى صار هناك انقسامٌ في قضية التَّوحيد والإيمان؟ متى صار هنالك مؤمنون وكفَّار وموحدون ومشركون؟ بعد عشرة قرون من البشرية منذ بدايتها؛ لأنَّ الله أول ما فطرهم على الإيمان والتَّوحيد، فلم يكن الإنسان قرداً ولم يكن جاهلاً، بل خلق الله آدم يوم خلق البشر وهو أول البشر على هذه الطَّبيعة البشرية، وهذه الصُّورة الحسنة، وخلقه وعلَّمه وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وكان هو وذريته إلى عشرة قرون على التَّوحيد، حصل الافتراق والخلاف بعد عشرة قرون، وظهر الشِّرك والكفر، فما هو الأصل في البشرية؟ التَّوحيد، وعلى أيِّ شيءٍ فطرهم الله أول ما خلقهم؟ على الإيمان.
علاقة الإنسان بغيره
هؤلاء البشر الذين خلقهم الله على هذه الأرض لا بُدَّ لهم من اجتماع، فالإنسان مدنيٌّ بطبعه يميل إلى الإنسان التَّشاكل والتَّقارب، ولا يستطيع الإنسان أن يحيا وحده، بل لا بُدَّ من أن يجتمع مع جنسه ويتعاون، وأن يكون هناك علاقاتٌ تربطه بالآخرين، قال ابن خلدون رحمه الله: "هذا الاجتماع ضروريٌّ للنَّوع الإنسان وإلَّا لم يكمل وجودهم، وما أراده الله من اعتمار العالم بهم"[تاريخ ابن خلدون1/43]. يعني: ماذا أراد الله من عمران العالم بهؤلاء البشر؟ أن يعبدوه وحده لا شريك له، وقد ظهرت ضرورةٌ هذا الاجتماع في زماننا، والآن صار العالم كما يقولون قريةً صغيرةً بسبب وسائل الاتصال ووسائل النَّقل والمواصلات السَّريعة، التي قرَّبت الأطراف وصار البعيد بها قريباً، فالآن صار عندنا شيءٌ أصليٌّ في طبيعة النَّاس وهو الاجتماع، وصارت عندنا أيضاً أشياء تمزج النَّاس وتقرِّب النَّاس بعضهم إلى بعض كوسائل النَّقل ووسائل الاتصال، وهذا يؤثِّر على المسائل العقدية، فما هو أثره على الموضوع الدِّيني؟ لا شكَّ أنَّ المجتمعين يحتاجون إلى رباط يجمعهم، حتى النَّاس على هذه الأرض يحتاجون إلى أنظمةٍ دنيويةٍ: نظام ملاحة جوي وبحري عالمي، ونظام اتصالات عالمي وإلى آخره، حتى لا يحصل هنالك تناقضاتٌ وتصادماتٌ وتضارباتٌ، لا بُدَّ من لغةٍ مشتركةٍ يفهمون فيها بالاتصالات، مثلاً: حواسيب الطَّاقة؛ لا بُدَّ أن يكون فيه نوعٌ من التَّعاون، وقضية محاربة التَّلوُّث ومكافحة الأمراض، والمحافظة على البيئة، وفي قضية الأعمال والأرزاق والشَّركات ومؤسسات البيع الشِّراء والاستيراد والتَّصدير، الأشياء الصَّحية لا بُدَّ أن يكون هناك نوع تعاون واشتراك في هذا على المستوى الدِّنيوي والأخروي، يعني: حتى يصلح حال النَّاس أخروياً؛ لا بُدَّ لهم من نظامٍ، وحتى ينضبط وضعهم على الأرض ولا يكون هناك اعتداء ولا ظُلم، ولا يكون هنالك ما يؤدِّي إلى تنغيص عيشهم من الفواحش، فالفواحش على سبيل المثال: هي فضيحة في أولاد الحرام وأمراض إلى آخره، لو كانت المسألة مفتوحةً في الأشياء المالية: الاحتيال والغصب والسَّرقة والرِّبا؛ لاستولى المرابون على الأموال، وبقي النَّاس يشتغلونها لصالح هؤلاء المرابين وهكذا.
حاجة النَّاس إلى نظام يُرتِّب حياتهم في الدنيا
إذاً حتى من النَّاحية الدُّنيوية يحتاجون إلى نظامٍ وإلى ضبط وإلى أمرٍ ونهيٍ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكُلُّ بني آدم لا تتمُّ مصلحتهم لا في الدُّنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتَّعاون والتَّناصر، فالتَّعاون والتَّناصر على جلب منافعهم، والتَّناصر لدفع مضارِّهم، ولهذا يقال: الإنسان مدنيٌّ بطبعه. فإذا اجتمعوا فلا بُدَّ لهم من أمورٍ يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة، ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد والنَّاهي عن تلك المفاسد، فجميع بني آدم لا بُدَّ لهم من طاعةِ آمرٍ وناهٍ، فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية ولا من أهل دين فإنَّهم يُطيعون ملوكَهم فيما يرون أنَّه يعود لمصالح دنياهم؛ مصيبين تارةً أو مخطئين أُخرى، وأهل الأديان الفاسدة من المشركين وأهل الكتاب المستمسكين به بعد التَّبديل أو بعد النَّسخ والتَّبديل: مطيعون فيما يرون أنَّه يعود عليهم بمصالح دينهم ودنياهم، وإذا كان لا بُدَّ من طاعة آمرٍ وناهٍ فمعلومٌ أنَّ دخول المرء في طاعة الله ورسوله خيرٌ له، وذلك هو الواجب على جميع الخلق، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64]. فما تستقيم حياتهم إلَّا بهذا: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ[النساء:65]. وقال الله: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ[الشورى:10]. "[مجموع الفتاوى28/62-63]. إذاً يجب على النَّاس الدُّخول في شريعة ربِّ العالمين وطاعته؛ لأنَّه لا بُدَّ من آمرٍ وناهٍ وإلَّا تضطرب الأرض، وتصبح البشرية في فوضى، إذاً من هو؟ وما هو الشَّيء الذي يضبط الشَّرع والدِّين؟ ومن هنا كان لا بُدّ من معرفة الأصول الإسلامية وعلاقة المسلم بغير المسلم؛ لأنَّه إذا قلنا: لا بُدَّ أن يكون هنالك في الأرض نظامٌ ثُمَّ وجدنا بأنَّ النَّاس على الأرض مسلمون وكفَّار؛ فكيف ستكون العلاقة؟ وما هي علاقة المسلم بالمخالف له على ضوء ما يحتاجه أهل الأرض من تعاون؟ فهناك أشياءٌ دنيوية: كالاتصالات والتِّجارة ومكافحة الأمراض، وكذلك ألَّا يحدث ظلمٌ واعتداءٌ وألَّا يصبح هناك احتلالٌ ونهبُ ثروات واستيلاء على خيرات واستعبادٌ وإذلالٌ، فلا تكفي الأنظمة الحديثة هذه إذا لم يوجد شرعٌ يضبط ولا آمرٌ وناه يمنع العدوان، وينظِّم الأمور، ويحفظ الحقوق، وإلا سيأكل بعضهم بعضاً.
علاقة المسلم بغيره من الكفَّار
والآن يوجد على الأرض مسلمون أو كفَّار: ما هي العلاقة؟ وكيف ينظر المسلمون إلى مخالفيهم؟ وما هي نوع العلاقة معهم؟ وكيف يضبطون هذا إذا علمنا أنَّ من هؤلاء الموجودين كما قلنا: كفَّارٌ أصليون ومرتدون ومنافقون وزنادقة، ويوجد ملاحدةٌ أيضاً وعصاة، ومبتدعة خارجين عن الإسلام ومبتدعة غير خارجين عن ملة الإسلام، فكيف يتمُّ التَّعامل وداخل الصَّف الإسلامي يوجد مندسُّون، ويوجد داخل الصَّف الإسلامي من أهل البدع والأهواء والنِّفاق والمنهمكون بالشَّهوات من فُسَّاق الملَّة وعصاة الموحدين؟ فإذاً: كلمة المخالف والتَّعامل مع المخالف، وتحديد الموقف من الآخر، وماذا نفعل مع الآخر؟ هذه مهمَّة جداً، وهذه القضية الآن محور اهتمام ومعترك نقاشات وحواراتٍ طويلة، وكذلك يصبُّ أعداء الإسلام فيها كثيراً من الخلط والمؤامرات، كلمة المخالف بالنَّسبة لنا تشمل: الكافر الوثني، والملحد، والكتابي، والمرتد، والمنافق، والمبتدع بدعةً اعتقادية وبدعةً عملية، والمنازع في المسائل الفقهية القطعية والظَّنية، والعاصي، والفاسق، فمعرفة كيف نتعامل مع هؤلاء لا بُدَّ لنا فيها من ضوابطٍ شرعيةٍ؛ لأنَّنا في النِّهاية لن نستطيع أن نعرف كيف نتعامل بحقٍّ ودقةٍ، إلَّا إذا كان هناك شرع يضبط لنا ذلك، وحيث أنَّنا بشرٌ، وخُلِق الإنسان ظلوماً جهولاً، كيف سنعرف من غير وحيٍّ؟ فلا بُدَّ من العودة للوحي، سنذكر فيما يلي جملةً من الأصول والقواعد الهامَّة المتعلَّقة بهذا الموضوع من النَّاحية الشَّرعية.
قواعد تعامل المسلم مع غيره
الأصل الأول: العلم بحال المخالف
الأصل الأول: العلم بحال المخالف، فحتى نستطيع أن نتعامل مع المخالف تعاملاً صحيحاً شرعياً؛ يجب أن نعلم أولاً حال هذا المخالف، وإذا كان هناك في الأرض مِللٌ شتَّى، فمن المهمِّ أن نعرف طبيعة من سنتعامل معه، وما هو دينه؟ وما منزلة هذا الدِّين منك؟ لما نزل التَّتر بلاد المسلمين، على سبيل المثال: وأشكل أمرهم على المسلمين سألوا عن حالهم ليعلموا كيفية التَّعامل معهم، فكان ممَّن تصدَّى لبيان هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال في جوابٍ له: "فإنَّ أمرهم قد أُشكل على كثيرٍ من المسلمين؛ بل على أكثرهم، تارةً بعدم العلم بأحوالهم" يعني: أحوال هؤلاء التَّتر "وتارةً لعدم العلم بحكم الله تعالى ورسوله ﷺ في مثلهم"[مجموع الفتاوى28/ 509-510]. انتهى. فلا بُدَّ من معرفة أحوال المخالفين لنكون على بصيرة في التَّعامل معهم، وهنا لا بُدَّ أن نعلم أنَّ النَّاس على قسمين لا ثالث لهما قد ذكرهما ربُّنا تعالى في كتابه العزيز: إمَّا مؤمنٌ سلك سبل السَّلام، وهداه الله إلى الصَّراط المستقيم، وشرح صدره له، وإمَّا كافرٌ ضلَّ عن سواء السَّبيل وطريق الحقِّ، وضاق صدره ولم ينشرح للهدى، ولم يرفع بذلك رأساً، والدَّليل على انقسام البشرية والخليقة إلى هذين القسمين قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[التغابن:2]. كافرٌ ومؤمنٌ، فهذه قسمةٌ واضحةٌ من الله، شرعيةٌ لا غبار عليها البتَّة، فالمخالف الذي يقول: كُلُّ من على الأرض مؤمنون، وليس هنالك كفَّارٌ؛ مصادمٌ لكتاب الله مكذِّبٌ لله؛ لأنَّ الله قال: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ فالذي لا يرضى أن يُسمِّي الكفَّار كفارًا ويأبى ذلك؛ مصادمٌ لله، فالله سمَّاهم كفاراً: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ[التحريم:7]. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ، وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا[النساء:102]. فسمَّاهم كفاراً وناداهم: الذين كفروا، فهل تأبى هذا؟ وقال الله : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ[الأنعام:125-126].
الأصل الثَّاني: اعتقاد أن كُلَّ من خالف وخرج عن ملَّة الإسلام بالكلَّية فهو كافرٌ
الأصل الثَّاني: أن يعتقد المسلم أن كُلَّ من خالف وخرج عن ملَّة الإسلام، بالكلَّية فهو كافرٌ أيَّاً كان دينه وملته ونحلته: بوذي أو هندوسي أو سيخي أو يهودي أو نصراني أو ملحد أو مجوسي، فليكن ما شاء هذا المخالف والخارج عن الإسلام، فالذي ليس بمسلم كافرٌ وليس عندنا: مسلمٌ وكافرٌ وآخر لا مسلمٌ ولا كافرٌ، إمَّا مسلمٌ قد يكون طائعاً وقد يكون عاصياً، وقد يكون عنده بدعةٌ عمليةٌ أو بدعةٌ لا تكفِّره فهو مسلمٌ فاسقٌ أو مسلم عاص أو مسلم مبتدع، وإمَّا كافرٌ والكافر قد يكون مُلحداً وقد يكون صاحب دينٍ سماويٍّ سابقٍ محرَّفٍ، وقد يكون صاحب دين غير سماويٍّ: بوذي ونحوه، قد يكون منافقاً نفاقاً أكبراً، أو زنديقاً، إذاً: ليس عندنا صنفٌ ثالثٌ: إمَّا مسلمٌ والمسلم درجاتٌ، وإمَّا كافرٌ وكذلك الكافر دركاتٌ والمنافق في الدَّرك الأسفل من النَّار، والكفر بعضه أشدُّ من بعض كما أنَّ الإيمان درجاتٌ والمؤمنون طبقات عند الله، فإذاً الأصل الثَّاني لا بُدَّ يعتقد المسلم كفرَ كُلِّ مَن خرج عن دين الإسلام، فأيُّ واحدٍ ليس بمسلمٍ فهو كافرٌ، وكونه عند الله في الآخرة يُمتحن له عذرٌ كأن لم يطَّلع على الحقِّ فيوم القيامة له حسابٌ أو شأنٌ خاصٌّ، فهذا إلى الله ولا نحكم على مصائر العباد في الآخرة، وما وصله من الحقِّ وصل مشوَّهاً، وما أحدٌ دعاه ولا بيَّن له وما سمع؛ فهذا أمرٌ آخرٌ، لكن ما الحكم عليه الآن في الدُّنيا؟ فأنت تحتاج الحكم عليه لتعرف كيف تتعامل معه، هل تبدأه بالسَّلام مثلاً؟ أو هل تزوِّجه أختك أو بنتك المسلمة؟ وهل تدعو له بالرَّحمة إذا مات؟ وهل تُغسلَّه وتصلِّي عليه؟ فلا بُدَّ أن تعرف، فقضية التَّعامل ومعرفة ما نوع هذا الإنسان مهمٌّ جداً؛ لأنَّ فيها أحكامٌ فقهيةٌ تترتَّب عليها الحلُّ والحرمة، مثلاً: حتى اعتقاد قلبك فإذا عرفت أنَّه كافرٌ يجب أن تبغضه شرعاً، لا يمكن أن تُحبَّه أبداً لكفره، قد ممكن يكون حسن الخلق، وأنا أُحبُّ خلقاً له، لكن لا أُحبُّه ذاتاً وهو كافرٌ بالله؛ لأنَّه يجب علينا أنَّ نبغضه شرعاً، فهذا اسمه: الحبُّ في الله والبغض في الله، وهذا هو أوثق عُرى الإيمان، فيجب أن يكون موقفك من الأشخاص على حسب موقفهم من الله، مسلمون لله مقرِّون بوحدانيته يعبدونه لا شريك له فأنت تحبُّهم على تفاوتٍ، فالمحبَّة تكون بتفاوت إيمانهم، هذا وليٌّ من أولياء الله وهذا عنده فسقٌ ومعاصي، والكافر يجب أن تبغضه على تفاوت البغض أيضاً، هذا كافرٌ لا يقاتلنا في الدِّين ولا يُخرجنا من ديارنا ولا يُظاهر على إخراجنا، وهذا كافرٌ حربيٌّ يقتلنا ويسفك دماءنا ويخرجنا من ديارنا ويظاهر على إخراجنا وينهب ويحتل ويقمع ويظلم ويعتدي وينتهك الأعراض فهذا شيءٌ آخرٌ، فأيضاً كُرهنا للكفَّار بحسب كفرهم، لكن ابتداءً يجب أن يعتقد المسلم كفرَ كُلِّ من خرج عن الإسلام أيَّاً كانت مِلته، وأيَّاً كانت نحلته، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]. وقال : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُوَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[آل عمران:85]. وقال النَّبي ﷺ: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يعني: أمة الدَّعوة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النَّار[رواه مسلم 153]. رواه مسلم في صحيحه. وجاء في صحيح البخاري ومسلم أنَّ النّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام أمر بلالاً فنادى في النَّاس أنَّه لا يدخل الجنَّة إلا نفسٌ مسلمة[رواه البخاري 2897، ومسلم 111].
قال القاضي عياض رحمه الله: "ولهذا نُكفِّر كُلَّ من لم يكفِّر من دان بغير ملَّة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شكَّ" فلو شخصٌ قال: أنا متردِّدٌ هل النَّصارى كفَّار أو لا؟ فهذا التَّردُّد كفرٌ، ولو قال: أنا أشكُّ: هل الهندوسي كافرٌ أو لا؟ فهذا الشَّك كفرٌ، قال: "أو صحَّح مذهبهم وإن أظهر مع ذلك الإسلام واعتقده" يعني: هذا الشَّاك المتوقِّف في الكافر -مع أنَّه يعرف أنَّه غير مسلم- إذا شكَّ في كفره أو توقَّف فإنَّه يكفر "ولو اعتقد ولو أظهر الإسلام"[الشفا بتعريف حقوق المصطفى2/286]. وقال الشَّيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نواقض الدِّين: "الثَّالث من لم يكفِّر المشركين أو شكَّ في كفرهم أو صحَّح مذهبهم كَفَر إجماعاً"[ شرح نواقض الإسلام9].
الأصل الثَّالث: أنَّه لا سبيل إلى التقاء الإيمان والكفر
الأصل الثَّالث: هذان الطَّريقان والسَّبيلان: الإيمان والكفر، التَّوحيد والشِّرك، لا سبيل إلى التقائهما أبداً، طريقان مستقلِّان منفصلان، وخطَّان متوازيان لا لقاء بينهما، فمن مال عن صراط الذين أنعم الله عليهم وقع في صراط المغضوب عليهم والضَّالين بحسب ميله له نصيب من ذلك، قال الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ[هود:112-113]. قال شيخ المفسِّرين الإمام الطَّبري رحمه الله معلقاً على الآية: "ولا تميلوا أيُّها النَّاس إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم وترضوا أعمالهم، فتمسَّكم النَّار بفعلكم ذلك، فإنَّكم إن فعلتم ذلك لم ينصركم الله بل يخلِّيكم من نصرته ويسلِّط عليكم عدوكم"[تفسير الطبري12/ 599]. انتهى. وقال الله تعالى لنبيِّه الكريم: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا[الإسراء:73-75]. جاء في فتاوى اللَّجنة الدَّائمة[فتاوى اللَّجنة الدَّائمة2/ 131]: "إنَّ من يُحدِّث نفسه بالجمع أو التَّقريب بين الإسلام واليهودية والنَّصرانية؛ كمن يجهد نفسه في الجمع بين النَّقيضين، بين الحقِّ والباطل بين الكفر والإيمان، وما مثله إلَّا كما قيل:
أَيُّها المُنْكِحُ الثُّريّا سُهَيْلاً | عَمْرَكَ اللهَ كَيْفَ يَجْتَمعانِ |
هيَ شأْميَّةٌ إذَا ما استَقَلَّتْ | وسُهَيْلٌ إِذَا استَقَلَّ يَمانِ؟" |
ولأجل ذلك جاءت سورة الكافرون بأكملها بالمفاصلة التَّامة والبراءة الشَّاملة والإعلان لهذا في قوله : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6].
حقيقة الدِّين العالمي
فالدَّعوة إلى مذهبٍ عالميٍّ يجمع الأديان: كفرٌ بالله؛ لأنَّ الله ليس عنده غير الإسلام، فمن قال: نؤلِّف ديناً ونأخذ متفرقاتٍ، مثلاً من الإسلام جزء، ومن النَّصرانية جزء، ومن اليهودية جزء، ومن السِّيخ جزء، ومن الهندوس جزء، ومن البوذية جزء، ومن الشّيوعية جزء، ومن المجوس جزء، ثُمَّ نؤلِّف ديناً فهذا كفرٌ بالله؛ لأنَّ هذه التَّشكيلة في النَّهاية هي شأنٌ غير الإسلام، فيها من الإسلام نسبةٌ لكنَّها ليست هي الإسلام، ولا يمكن أن تكون هذه التَّشكيلة أو العولمة عقيدة، فلو قال قائل: نعمل ديناً اسمه دين العالمية، ويسير بدلاً من أن نقول: مسلمٌ، يهوديٌّ، نصرانيٌّ، نقول: أنت وأنا عالميٌّ وكُلُّنا عالميون، مثلاً: دينٌ جديدٌ اسمه الدِّين العالمي، فلا شكَّ أنَّ دين العالمية هذا سيكون كفراً، ولا يمكن أن يتوافق هذا الدِّين مع الإسلام أبداً، فكيف تأخذ من البوذية أو من النَّصرانية أو من المجوسية ويكون غير مصادمٍ للإسلام؟ وحتى في قضايا الفقهيات تجد عند الهندوس مثلاً: أنَّه ممكن أنَّ الخال ينكح بنت أخته، فكيف تصير؟ فلا يمكن، أو أنَّ النَّصرانية تُبيح الخمر، والمزدكية عندهم إباحيةٌ شاملة الفروج إلى آخره، فممكن أن يشترك اثنان أو ثلاثة في امرأةٍ، وذلك غير قضية الاعتقاد، يعني: فأنت تعتقد أنَّ الله واحدٌ لا شريك له، وهذا يعتقد أنَّ الله ثالثُ ثلاثةٍ، وذاك يعتقد أنَّ عزيراً ابن الله، وهذا يعتقد أنَّ بوذا هو الله، والمجوس يعتقد أنَّ هناك خالق الخير وخالق الشَّرِّ وإله الظُّلمة وإله النُّور هؤلاء الثَّنوية المجوسية، فلا هو في الأصول ولا في الفروع يمكن أن تخرج بتشكيلةٍ توافق الإسلام أو لا تتعارض مع الإسلام، كما كانت الآية صريحة: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[آل عمران:85]. يعني: في النَّار خالدٌ مخلدٌ فيها، وليس هناك حلٌّ وسطٌ، فإمَّا إسلامٌ وإمَّا كفرٌ، فإذاً قالوا نخترع دين الإنسانية وهي فكرة التَّقارب بين الأديان، نخترع فكرة الدِّين المشترك لأهل الأرض، نقول: هذه فكرةٌ كفريةٌ، قال الدَّكتور محمد محمد حسين رحمه الله: العالمية في الاصطلاح الحديث مذهبٌ يدعو إلى البحث عن الحقيقة الواحدة، التي تمكن وراء المظاهر المتعددة في الخلافات المتباينة، ويزعم أصحاب هذه الدَّعوة والقائمون عليها أنَّ ذلك هو السَّبيل إلى جمع النَّاس على مذهبٍ واحدٍ، تزول معه خلافاتهم الدِّينية والعنصرية بإحلال السَّلام في العالم محلَّ الخلاف، هذا وهمٌ كبيرٌ؛ لأنَّ أصحاب دعوة دين الإنسانية والعالمية، ويقولون الملَّة الإبراهيمية أحياناً، يعني: تشترك فيها الأديان الثَّلاثة بزعمهم، هؤلاء يظنُّون أنَّه ممكن حلُّ الخلافات في الأرض بهذه الطَّريقة وهو أن نُجيب ديناً جديداً مأخوذاً من الجميع، لكن في الحقيقة لا هو إسلامٌ 100% ولا هو نصرانية 100% ولا هو يهودية 100% ولا هو بوذية 100%، فكُلُّ أهل دينٍ متمسِّكون بدينهم سيُنبذوا، فمن الذي سيعتنقه على فرض إن أُقيم واتفقوا على دستورٍ أو كتابٍ لهذا الدِّين الجديد سيتبعه أو يعتنقه بعض النَّاس الذين يرون بأنَّ هنالك شيءٌ مشتركٌ ممكن أن يحلَّ الخلاف بين الملل في الأرض، ولكن سيبقى في المقابل كثيرون كُلٌّ متمسِّكٌ بدينه، فستقوم القائمة بين هذا الدِّين العالمي أو العالمية والإنسانية وهذا الدِّين الجديد، وبين أتباع الأديان الأخرى، فماذا فعلنا؟ زدنا الكفر في الأرض مذهباً جديداً، وزدنا الملل الكفرية ملةً وديناً، هذه خلاصة الموضوع، بعض النَّاس حوَّلوا الجارودي ذلك المفكِّر الفرنسي الذي أظهر أنَّه اعتنق الإسلام، وهو في الحقيقة ما اعتنق الإسلام، يقول جارودي: دخلت الإسلام وبإحدى يدي الإنجيل وباليد الأخرى كتاب رأس المال لماركس، ولست مستعداً للتَّخلِّي عن أيٍّ منهما، ويقول: عندما أعلنت إسلامي لم أكن أعتقد أنَّي أتخلَّى عن مسيحيتي، ولا عن ماركسيتي، ولا أهتم بأنَّ أبدو بهذا متناقضاً أو مبتدعاً، ويقول أيضاً: أنا جئت للإسلام بعد مسيرة طويلة، تنقَّلت فيها بين الفلسفة المحضة والمسيحية والماركسية، وانتهت إلى الإسلام دون التَّخلي عن اعتقاداتي الخاصَّة وقناعاتي الفكرية؛ لأنَّ انتقالي إلى الإسلام لا يعتبر انقطاعاً من ماض؛ بل هو تواصلٌ لذلك الماضي الطَّويل، الذي عشت فيه تجارب كثيرة، والدِّين الذي أنا عليه اليوم هو توفيقٌ بين الإسلام وما سبقه من ديانات، فالجارودي هذا مذهبه: مذهب العالمية أو مذهب الإنسانية الذي هو تلفيق من كُلِّ الأديان، ولذلك الشَّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله لما سئل عن الجارودي: هل هو مرتدٌّ؟ يعني: هذا دخل الإسلام وارتدَّ بهذه المعتقدات أو ماذا؟ قال الشَّيخ: "لا يحكم عليه بأنَّه مرتدٌّ عن الإسلام" لأنَّه ما دخل الإسلام أصلاً؛ لأنَّ الذي يقول: أنا داخل الإسلام وبيدي الإنجيل وما أتخلَّى عنه، ما دخل وهو يقول أشهد ألَّا إلَه إلَّا الله، فهو ينقضها وهو يتكلَّم بها، قال الشَّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "لا يحكم بأنَّه مرتدٌّ عن دين الإسلام كمَّا توهَّمه بعضُهم، وإنَّما هو كافرٌ أصليٌّ لم يدخل في الإسلام كما اعترف هو بذلك حيث يقول: انتهيت إلى الإسلام دون التَّخلَّي عن اعتقاداتي الخاصَّة وقناعاتي الفكرية"[مجموع فتاوى بن باز 9/199]. هذا الرَّجل نموذجٌ من النَّاس الذين حاولوا أن يأتوا بمذهب الإنسانية أو زمالة الأديان، أو يسلك مسلكَ التَّقارُب بين الأديان، فطلع وجاء وقال هذا الكلام.
شبهات المروِّجين للدِّين العالمي والرَّد عليها
مع الأسف أنَّ بعض ما يُسمى بالمفكرين الإسلاميين عندهم المبدأ هذا، وهذه كارثةٌ كبرى أن يخرج أحدهم ويتصدَّر في قناةٍ فضائية مشهورةٍ، ويقدِّم برامج عن الشَّريعة والدِّين، وهو يعتقد بهذه العقيدة، فهذه مصيبةٌ، يقول هذا الرَّجل هدانا الله وإيِّاه -عن المسلم مع الكفَّار مع الملل الأخرى-: نحن معاً نُؤمن بالله، ولو إيماناً إجمالياً، هذه مصيبة لما تقول: أنَّ البوذي مؤمنٌ لأنَّه يُؤمن ببوذا إذاً أنا وإيِّاه نشترك في الإيمان، أنا مسلمٌ وهو بوذيٌّ، فكُلُّنا مؤمنون ولو بالمعنى الإجمالي، ماهو المعنى الإجمالي؟ يعني: هذا يُؤمن ببوذا وذاك يُؤمن بالبقرة أنَّها إلهه، وهذا يُؤمن بعيسى ابن الله وذاك يُؤمنن بأنَّه عزيرٌ ابن الله، وهذا يؤمن أنَّه ليس هناك إلهٌ، فكلنا صرنا مؤمنين إذاً، فهذه كارثةٌ عظيمةٌ من الكوارث، مفكِّرون إسلاميون بعمائم يطرحون هذه القضية بهذا الشَّكل، يقول: نحن معاً نُؤمن بالله ولو إيماناً إجمالياً، نؤمن بالآخرة والجزاء الأخروي، رأى شخصٌ نصرانياً قسيساً، فقال له: هل تُؤمن بالبعث بعد الموت؟ قال له: نعم، وهو صادقٌ فالقسيس يُؤمن بذلك، وهل تؤمن أنَّه يوجد جنَّة ونار؟ قال: نعم، وهل تؤمن أنَّ الله يُحاسب العباد؟ فال: نعم، وهل تُؤمن أنَّ الذي يعمل خيراً سيلقى حسناٍ والذي يعمل شراً يلقى سوءاً؟ قال: نعم، فقال: إذاً أنا وإيِّاك كُلُّنا مؤمنون، ونحن معاً نؤمن بالله ولو إيماناً إجمالياً، ونؤمن بالآخرة والجزاء الأخروي ونؤمن بعبادة الله، وما هو الله تعريف الله؟ فأيضاً تعريف الإله هذا شيءٌ آخرٌ، قال ونؤمن بالقِيم الإخلاقية؛ فهل أنت أيُّها نصراني تحب الظلم والبغي؟ لا، وأنت أيُّها البوذي هل تُحبُّ السَّرقة؟ لا، وأنت أيُّها الهندوسي هل تحب سلب المال؟ لا، إذاً كُلُّنا قيمٌ أخلاقيةٌ واحدةٌ، إذاً ديننا واحدٌ وكُلُّنا مؤمنون وكُلُّنا إخوةٌ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10]. فأهلاً أخي في الله! فقوله في الله هذا لا تضبط؛ لأنَّه هو عنده الله ثالث ثلاثة، وهذاك عنده بوذا، فأنت تقول له أخي في الإنسانية أو في العالمية، قال نُؤمن بالوحدة الإنسانية ونأتي بأشياء يمكن أن تجمع بين المختلفين، فإذا وضعنا هذه الأشياء المتَّفق عليها فيمكن أن نقرِّب بين المختلفين بعضهم من بعض من جهتنا نحن المسلمون مستعدُّون للتَّقارب، المهمُّ أيضاً أن يكون عند الآخرين مثل هذه الروح فليُعاملنا بمثل ما نعاملهم به، ويقتربون منَّا بقدر ما نقترب منهم، فهذه كارثةٌ عظمى، يعني: لو قال ذلك شخصٌ عاميٌّ ممكن أن تقول أنَّه مضلَّل وملبَّس عليه؛ لطن المشكلة أنَّ يقولها رجلٌ يُقال عنه فضيلة الشَّيخ! هذه قضية المشترك الإنساني والمذهب أو الدِّين العالمي الإنساني أو زمالة الأديان والملة الإبراهيمية؛ هذه عين ما جاءت به الماسونية، فالماسونية لما جاءت وطرحت نفسها في الواقع كانت تتبنَّى قضية: دينٌ عالميٌّ يجمع النَّاس ويشرف عليه الماسونية، وما فعله التَّتر زمان في قضية الياسق، وأنَّ هذا جنكيز خان عمل له كتاباً، حيث جمع شيئاً من القرآن وشيئاً من الإنجيل وشيئاً من التَّوراة المحرَّفة وشيئاً من عنده، فأخرج لهم هذا الكوكتيل وهذا الدَّستور، على أنَّ هذا يجمع النَّاس عليه، فهناك محاولاتٌ من قبل وهذا الطَّرح الآن، يقول: الدِّين المشترك والعالمية والإنسانية، والماسونية طرحت نفسها بهذا، وأيضاً جنكيز خان طرح هذا الموضوع، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكذلك الأكابر من وزرائهم وغيرهم يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنَّصارى" يتكلَّم عن التَّتر: "وإنَّ هذه كُلُّها طُرقٌ إلى الله بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين، ثُمَّ منهم من يُرجِّح دين اليهود أو دين النصارى، ومنهم من يُرجِّح دين المسلمين، وهذا القول فاشٍ غالبٌ فيهم" يعني: في التَّتر "حتى في فقهائهم وعُبَّادهم لاسيما الجهمية من الاتحادية الفرعونية ونحوهم، فإنَّه غلبت عليهم الفلسفة"[مجموع الفتاوى28/523]. انتهى.
وكما وقع في ذلك بعض أهل البدع والضَّلال، حتى من المنتسبين إلى الإسلام، مثل: أصحاب وحدة الوجود، يعني: هذا المذهب المشترك الإنساني موجودٌ عند أهل وحدة الوجود من الصَّوفية الملاحدة الكُبار، يقول طاغوتهم الأكبر محي الدِّين بن عربي:
لقد صار قلبي قابلاً كُلَّ صورةٍ | فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبان |
وبيت لأوثان وكعبة طائفٍ | وألواح توراةٍ ومصحف قرآن |
أدين بدين الحب أنى توجهت | ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني |
ومثل هذا الكلام قاله بعضهم من العلمانيين المعاصريين وهو كاتبٌ في الصحف، حيث قال: أنا مذهبي الحبُّ وديني المحبَّة، لكن لا أقول أنا مسلمٌ ولا أنا غير مسلم، أنا ديني المحبَّة، هذا هو محي الدِّين بن عربي وهذا هو الكافر الملحد الذي قال هذا الكلام، وهو من ضُلَّال الصُّوفية الكُبار، فهذا مذهبه:
أدين بدين الحب أنى توجهت | ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني |
فالكنيسة والكعبة والتَّوراة الإنجيل والقرآن ودير الرَّاهب أو الشَّيخ أو القسيس كله واحد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومعلومٌ بالاضطرار من دين المسلمين وباتِّفاق جميع المسلمين أنَّ من سوَّغ إتِّباع غير دين الإسلام أو اتِّباع شريعةٍ غير شريعة محمَّد ﷺ، فهو كافرٌ"[مجموع الفتاوى28/ 524]. فالذي يسوِّغ ويقول: يجوز إتِّباع غير ملة الإسلام أو ممكن يبقون على دينهم ونقرِّهم على ذلك، فالذي يرضى بهذا كافرٌ بلا شكٌّ؛ لأنَّك ترضى ما لا يرضاه الله، فالله لا يرضى وأنت ترضى والله لا يقرُّ وأنت تقرُّ، والله لا يحبُّ وأنت تحب.
موقف المخالف من الله تعالى
وهناك قضيةٌ أساسيةٌ: ما موقفه المخالف من الله؟ هذا الآخر إذا كان يجحد وجود الله بالكُليَّة أو يقول: إنَّ الله ثالثُ ثلاثةٍ، أو يقول: إنَّ للهِ ولدٌ، أو يقول: إنَّ اللهَ بقرةٌ، أو يقول: إنَّ الله بوذا، أو يقول إن الله اثنان: خالق خير وخالق شر، فكيف تُقرُّه على هذا؟ وكيف ترضى منه هذا؟ وكيف تقبل ذلك؟ فالله لا يرضى بهذا بل ويكرهه، فلا منكرٌ ولا ظلمٌ ولا شيءٌ بشعٌ في العالم أشنعُ من هذا الجحد للإلهية، والشِّرك في الرُّبوبية والاعتداء على التَّوحيد، وهو أسمى وأعلى وأغلى شيءٍ في هذا العالم، وبعض النَّاس يستقبح الزِّنا والسُّكر والسَّرقة والاستيلاء على الأموال والاغتصاب، لكنَّه لا يستقبح الشِّرك ولا الملل الأخرى غير الإسلام، هذه أديانٌ باطلةٌ، فمثلاً: عبادة الشَّيطان الذين يقولون الشّيطان ربنا؛ كيف ستدخلهم في الملة الإنسانية أو في دين العالمية؟ وكيف ستفعل؟ لأنَّك لازمٌ تُدخل الكُلَّ حتى نعيش في ثباتٍ ونباتٍ، ونُخلف بنين وبنات في سلامٍ عالميٍّ، والمصيبة أنَّ بعض المسلمين يحاول التَّقارب ويقول: نحن في العالم لسنا لوحدنا؛ بل هناك أناسٌ آخرين، ونحن نعرف من أيَّام النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّه هناك أناسٌ آخرون، ويقول: والعالم هذا صار قريةً واحدةً، ووسائل المواصلات والاتصالات، والأوبئة المنتشرة لازم نتعاون في التَّخلص منها، نقول له: ما الذي تريده في الأخير؟ فأنت حدِّد موقفك، فهناك مللٌ ومذاهبٌ أخرى، فهل موقفك الإقرار أو الرَّفض الحب أو البُغض؟ ففي النِّهاية لابُدَّ أن نصل إلى مفترق طرق وإلى فاصل، فإمَّا كفرٌ أو إسلامٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ولا شيءٌ آخر، فقد حاول بعض هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام -مع الأسف- أن يتلاعب بأحكام الجهاد والسِّير والإمامة والخلافة والسِّياسة الشَّرعية ودار الإسلام ودار الكفر والأحكام الشرعية وطال العبث بذلك؛ لأجل الاتِّفاق والوصول إلى صيغة توفيقية مع قضية وحدة الأسرة البشرية العالمية الإنسانية، وإنَّه دينٌ واحدٌ.
مسألة دار الإسلام ودار الكفر، والرَّد على منكريها
وإذا جئت إلى قضيةٍ في الأحكام في كتب الشَّريعة الإسلامية، مثل: دار الإسلام ودار الحرب فهذه لها أحكام، يقول: هذه ليست هي في القرآن؛ بل هذه من ابتكارات بعض الفقهاء المسلمين في قرونٍ ماضية، حيث كان فيها تشدُّد، وهل أنت الفقيه الأكبر حتى تحكم على هؤلاء الفقهاء أنَّهم كانوا متشدِّدين؟ هذه الفكرة أيُّها الإخوة هي ما انبثقت عنه توصيات أو مقرَّرات لما يُسمى بمؤتمر ماردين دار السلام، حضروا بعض الدُّعاة مع الأسف ممن يُسمُّون أنفسهم دعاةٌ، ويقدِّمون برامج في قنوات فضائية وإسلامية، دعاة مؤتمر ماردين هذا الذي خرجوا به لا دار إسلام ولا دار كفر، واستهلُّوا بيانهم بالتَّأكيد على الأخوة الإنسانية، وإنَّه لازمٌ ننظر إلى هذا الرَّأي في سياقٍ تاريخيٍّ، لما كان المغول على أراضي المسلمين، هذا في قضية دار الحرب ودار الإسلام، وزعموا أنّ الذي حضر مؤتمر ماردين علماء وأنَّهم مسلمون، وغرض هذا المؤتمر أن يتجاوز قضية تقسيم دار الكفر ودار الإسلام، وإعادة تفسير الإسلام في ضوء الظُّروف المتغيرة السِّياسية العالمية الحالية، وهنا المصيبة: لما يخرج أحدهم بقضية إعادة تفسير الآيات والأحاديث، وإعادة صياغة كُتب الفقه، فهذا اسمه دينٌ جديدٌ، فلما يقولون: إعادةٌ يعني ذلك دينٌ جديدٌ، لاحظ ما هي قضية إعادة تفسير الإسلام هذا من مقرَّرات مؤتمر ماردين، وأكدُّوا أنَّ ظهور الدُّول المدنية التي تحمي الحقوق الدِّينية والعرقية والقومية، وإعلان العالم كُلُّه كما كان التَّسامح والتَّعايش بين جميع الفصائل والجماعات الدِّينية، فهذه الخلاصة التي انبثق مؤتمر ماردين عن التَّوصيات بها، فهذا كفرٌ صريحٌ بلا شك، وتطاولٌ على الأحكام الفقهية التي اجتمع عليها علماء الإسلام، ومحاولاتٌ لنسف عقيدة الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين وتهوين الشَّريعة، وإضعاف أحكامها، مثلاً: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام: ما حكمها شرعاً؟ منسوخة أو باطلة أو ملغية أو باقية؟ يعني: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا[النساء:97]. فهل هذا الحكم منسوخٌ أو باطلٌ أو غلطٌ؟ حكم الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واجبةٌ باقيةٌ محكمةٌ، لا منسوخةٌ ولا ملغيةٌ، وهؤلاء في مؤتمرهم يسعون إلى إلغاء أحكام الهجرة، فنحن على الأرض والكُلُّ سواء، وكُلُّ الأديان والملل صحيحة تتعايش مع بعض، وبالتَّالي قضية الجهاد في سبيل الله انتهت من منذو زمن عندهم وقضية مفروغ منها، الله يقول عن الهجرة: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[النساء:97]. هؤلاء يقولون ليس مأواهم جهنم، ولا يجب عليهم الهجرة، قال ابن رشد الفقيه المالكي رحمه الله: "وجب بالكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمَّة على من أسلم ببلد الحرب أن يُهاجر ويلحق بدار المسلمين، ولا يثو يعني لا يبقى ولا يقيم بين المشركين ويقيم بين أظهرهم لئلا تجري عليه أحكامهم"[فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك2/456]. انتهى.
وقال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة عامَّة في كُلِّ من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادرٌ على الهجرة" فابن كثير في أيِّ قرنٍ عاش؟ في القرن الثامن، ويقول: "وليس متمكِّناً من إقامة الدِّين؛ فهو ظالمٌ لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع"[تفسير ابن كثير2/389]. انتهى.
وأورد الونشريسي في رسالته "أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب وطنه النَّصارى ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزَّواجر" النَّصوصَ الشَّرعية في تحريم الموالاة الكفرية، ووجوب الهجرة إلى دار الإسلام، فكان مما قال: "فلا تجد في تحريم هذه الإقامة وهذه الموالاة الكفرانية مخالفاً لأهل القبلة المتمسكين بالكتاب العزيز، فهو تحريمٌ مقطوعٌ به من الدِّين، ومن جوَّز هذه الإقامة واستخفَّ أمرها واستسهل حكمها فهو مارقٌ من الدِّين مفارقٌ لجماعة المسلمين ومسبوقٌ بالإجماع الذي لا سبيل إلى مخالفته"[أسنى المتاجر1/9]. انتهى. فهو يتكلَّم على مسلمٍ يقيم مختاراً وليس مكرهاً في دار حربٍ، ولا يستطيع إقامة شعائر الدِّين الظَّاهرة، وهذا هو كلامنا ولا نتكلَّم عن رجلٍ ذهب لتجارةٍ أو لعلاجٍ ثم يرجع، أو ذهب للدَّعوة إلى الله بين الكفَّار، الآن كلامنا واضحٌ عن دار الإسلام ودار الحرب وحكم الهجرة ومن أقام في دار حرب لا يستطيع إقامة شعائر الدِّين الظَّاهرة من المسلمين وهو يستطيع الهجرة، فلا شك أنَّه آثمٌ وعاصي، وإذا استحلَّها يكفر، فالاستحلال هذا شيءٌ آخرٌ، وما أجمل ما سطَّره الأستاذ الشَّيخ الدَّكتور محمد محمد حسين رحمه الله قبل أكثر من ثلاثين عاماً بشأن هذه الخدائع، فقال: "ولو تتبَّعنا الدَّعوة المبتدعة المعاصرة إلى العالمية؛ لوجدنا أنَّها دعوةٌ هدَّامةٌ من وجوه، منها: أنَّها تُخالف سنةً ثابتةً من سنن الله في الأرض، وهي: دفع النَّاس بعضهم ببعض، وضرب الحقِّ بالباطل" قال: "وأكثر النَّاس تأثُّراً بدعوة العالمية هم الخاملون من الضُّعفاء الذين تقصر همهم عن الطُّموح إلى وسائل النُّهوض والأخذ بأسباب القوَّة والجهاد في سبيلها، فيركنون إلى أحلام العالمية التي تمنِّيهم بسلامٍ يعطف فيه القوي على الضَّعيف، وليس أضرَّ بالأمة الضَّعيفة من هذه الأحلام؛ لأنَّها تزيدها ضعفاً على ضعفها، وتقضي على البقية الباقية من معالم شخصيتها" قال: "وقد جربَّنا الكلام عن الإنسانية والتَّسامح والسَّلام وحقوق الإنسان في عصرنا فوجدناه كلاماً يصنعه الأقوياء في وزارة الدِّعاية والإعلام؛ لينفق ويروج عند الضُّعفاء، فهو بضاعةٌ معدةٌ للتَّصدير الخارجي، وليست مُعدَّةٌ للاستهلاك الدَّاخلي، لا يستفيد منها دائماً إلَّا القوي" قال: "ثُمَّ إنَّ الأحلام العالمية لن تُغيِّر سُنَّة الله في خلقه، ولن يكون من نتائجها إلَّا أن تذوب بعض جماعات ضعيفة متهافتة كتب عليها الفناء؛ لأنَّها لا تستحقُّ البقاء" هذا الكلام الرَّائع كأنَّه يتكلَّم على عصرنا، أو على هذه السًّنوات الأخيرة، الأستاذ الشَّيخ محمد حسين رحمه الله في كتابه "الإسلام والحضارة الغربية".
الأصل الرَّابع: أنَّ المنافقين مع الكفَّار
الأصل الرَّابع: المنافقون وإن كانوا في الظَّاهر مع المسلمين لكنَّهم في حقيقة أمرهم مع الكفَّار، فلا يخرج المنافقون عن القسمين الأوَّلين الذين ذكرناهما آنفاً، فهم وإن كانوا في الدُّنيا يُعاملون معاملة المسلمين إلَّا أنَّ حقيقة حالهم أنَّهم من الكافرين، وأنَّ مآل أمرهم إلى أسفل سافلين، والنِّفاق كما قال ابن القيم رحمه الله: "هو الدَّاء العُضال الباطل، فلَّلهِ كم من معقلٍ للإسلام قد هدموه! وكم من حصنٍ له قد قلعوا أساسه وخرَّبوه! وكم من علم له قد طمسوه! وكم من لواءٍ مرفوع قد وضعوه! وكم ضربوا بمعاول الشُّبه في أصول غراسه ليقلعوها! فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سريةٌ بعد سرية، ويزعمون أنَّهم بذلك مصلحون أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ[البقرة:12]. اتفقوا على مفارقة الوحي فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا[الأنعام:112]. ولأجل ذلك اتخذوا هذا القرآن مهجوراً، لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزَّيغ والخسران والغل والكفران، فالظَّواهر ظواهر الأنصار، والبواطن قد تحيَّزت إلى الكفَّار، فألسنتهم ألسنة المسالمين وقلوبهم قلوب المحاربين، ويقولون آمنَّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، يُعجب السَّامع قولُ أحدهم؛ لحلاوته ولينه، قد أعرضوا عن الكتاب والسُّنَّة استهزاءً بأهلهما واستحقاراً، وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحاً بما عندهم من العلم، الذي لا ينفع الاستكثار منه أشراً واستكباراً، فنراهم أبداً بالمتمسِّكين بصريح الوحي يستهزئون اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ[البقرة:15]. إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين، وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسُنَّة رسوله رأيتهم عنه معرضين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا[النساء:61]. يتربصون الدوائر بأهل السُّنَّة والقرآن، فإن كان لهم فتحٌ من الله قالوا ألم نكن معكم، وأقسموا على ذلك بالله جهد أيمانهم، وإن كان لأعداء الكتاب والسُّنَّة من النُّصرة نصيبٌ قالوا ألم تعلموا أنَّ عقد الإخاء بيننا محكمٌ، وأنَّ النَّسب بيننا قريبٌ، أسرُّوا سرائر النِّفاق فأظهرها على صفحات الوجوه وفلتات اللِّسان، ووسمهم لأجلِّها بسيماء لا يخفون بها على أهل البصائر والإيمان، كاد القرآن أن يكون كُلُّه في شأنِّهم لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئِلا يستوحش المؤمن في الطُّرقات، وتتعطَّل بهم أسباب المعايش، سمع حذيفة رجلاً يقول: اللهمَّ أهلك المنافقين، فقال: يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلِّة السَّالك"[ رواه ابن ابي شيبة بلفظ "لَوْ هلكُوا ما انتَصَفتُم مِن عدُوِّكم" 38548]. انتهى باختصار وتصرُّف من "كتاب مدارج السالكين" لابن القيم رحمه الله"[مدارج السالكين1/349-358].
كيف نتعامل مع أهل النِّفاق
فإن قال قائلٌ: إنَّنا عرفنا كيف نتعامل مع أهل الكفر فكيف نتعامل مع أهل النِّفاق؟ الجواب: أنَّ هؤلاء المنافقين يُعاملون معاملة المسلمين في الظَّاهر ما لم يظهر منهم ما يدلُّ على كفرهم ونفاقهم صراحةً، فإذا ظهر ذلك أي: نفاقهم بالأدلَّة الواضحة فيُعاملون معاملة الكفَّار، ويُقام عليهم حكم الرَّدة، ولذلك كان خطأً بيِّناً واضحاً ما يقوله بعضهم من ترك الحرِّية لكُلِّ منافقٍ فاسدٍ وشيطان مارد، أن يقول ما شاء بحجَّة أنَّ النَّبيَّ ﷺ كفَّ عن المنافقين، فيقول بعضهم: دعوهم يتكلَّمون في الشِّعر وفي الرِّواية وفي القصَّة وفي البرنامج وفي المقالة، بحجَّة أنَّ النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام لم يقتل ابن أبي سلول وإخوانه من مردة المنافقين، فأين الخطأ في هذا الاحتجاج؟ أنَّ هؤلاء المحتجِّين قد خفي عليهم أنَّ النَّبيَّ ﷺ كفَّ عن المنافقين في زمانه؛ لأنَّهم كانوا يكتمون نفاقهم وما ظهر منهم من فلتات اللَّسان، وأنَّ هذا ما قامت عليه بيَّنةٌ وحجَّةٌ واضحةٌ، فإنَّه كانت تصل إلى النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام منهم الكلمة بعد الكلمة، فإذا سألهم عنها حلفوا بالله أنَّهم ما قالوها، واتخذوا أيمانهم جُنَّةً ووقايةً من إقامة حدِّ الرِّدة، وإلَّا كان دماؤهم ستُسفك، قال الإمام الشَّافعي رحمه الله: "قد علم رسول الله ﷺ أنَّ المنافقين كاذبون، وحقن دماءهم بالظَّاهر"[الأم4/ 250]. فإذاً ما ثبت القضاء حجَّةً وبيِّنةً وإلَّا كان قتلهم وسفك دماءهم، قال شيخ الإسلام: "فإن قيل فلم لم يقتل النَّبي ﷺ مع علمه بنفاق بعضهم، ولماذا قبل علانيتهم؟ قلنا: إنَّما ذلك لوجهين، أحدهما: أنَّ عامتهم لكن يكن يتكلَّم بالكفر صراحةً ولم تثبت بذلك البيِّنة؛ بل كانوا يظهرون الإسلام، ونفاقهم يعرف تارةً بالكلمة يسمعها الرَّجل المؤمن فينقلها إلى النَّبيِّ ﷺ، فيحلفون بالله أنَّهم ما قالوها، واتخذوا أيمانهم جُنَّةً، وإذا كانت هذه حالهم فالنَّبيُّ ﷺ لم يكن يقيم الحدود حتى يثبت الموجب للحدِّ بالبيِّنَّة وإقرار فعلم أنَّ الكفر والرِّدة لم تثبت على واحد بعينه من هؤلاء المنافقين ثبوتاً يوجب أن يُقتل كالمرتد، ولذلك قبل علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فلا يجيء أحدٌ يقول اترك المنافقين يتكلَّموا الآن بالكفر الصَّريح في المقالات وفي البرامج، ولا تفعلوا لهم شيئاً لأنَّ النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام ترك عبد الله بن أبي، نقول: عبد الله بن أبيِّ وأشكاله أنَّه لم يثبت عنده شرعاً بالحجَّة البيِّنَّة الواضحة التي يقتل عليها النَّاس، لو ثبتت البيِّنَّة على كفرهم وإلَّا لو ثبت كان ما وفرهم قال الوجه الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كان يخاف أن يتولد من قتلهم من الفساد أكثر مما في استبقائهم وقد بين ذلك حين قال: لا يتحدث النَّاس أن محمدًا يقتل أصحابه[رواه البخاري 3330، ومسلم 2584].
فحاصله: أنَّ الحدَّ لم يقم على واحدٍ منهم -يعني من المنافقين- بعينه؛ لعدم ظهوره بالحُجَّة الشَّرعية التي يعلم بها الخاصُّ والعامُّ، أو لعدم إمكان إقامته إلَّا مع تنفير أقوامٍ عن الدُّخول في الإسلام وارتداد آخرين عنه، وإظهار قومٍ من الحرب والفتنة ما يربى فساده على فساد ترك قتل هذا المنافق"[ الصارم المسلول5/57-60]. هذا معنى كلامه من الصَّارم المسلول رحمه الله.
تطوُّر النِّفاق بعد العهد النَّبوي
روى البخاري في صحيحه عن حذيفة ، قال: "إنَّما كان النِّفاق على عهد النَّبي ﷺ، فأمَّا اليوم فإنَّما هو الكفر بعد الإيمان"[رواه البخاري 6697]. وفي رواية: "فإنَّما هو الكفر أو الإيمان" قال الحافظ ابن حجر: "والذي يظهر أنَّ حذيفة لم يرد نفي الوقوع، وإنَّما أراد نفي اتفاق الحكم؛ لأنَّ النِّفاق: إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كُلِّ عصرٍ" فحذيفة لم يرد أن يقول ليس هناك نفاقٌ بعد النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام لا، "وإنَّما اختلف الحكم؛ لأنَّ النَّبيَّ ﷺ كان يتألَّفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأمَّا بعده فمن أظهر شيئاً فإنَّما يؤاخذ به ولا يترك لمصلحة التَّآلف؛ لعدم الاحتياج إلى ذلك"[فتح الباري13/ 74]. انتهى كلام ابن حجر. إذاً يقول: مقصد حذيفة ليس إنَّه لا يوجد نفاقٌ بعد العهد النَّبوي بل يحصل نفاق في كُلِّ زمن، فنحن الآن عندنا منافقون كُثُر، وإذا جئت على فلتات اللِّسان لتعرفنَّهم في لحن القول في مقالاتهم وبرامجهم وأكثر من لحن القول، لكن قصد حذيفة أن يقول: إذا كان نبيُّكم ترك قتلهم تألُّفاً لقلوب العرب، ولئِلا يقول العرب: محمدٌ يقتل أصحابه هؤلاء الذين آمنوا معه، ونحن إذا آمنا فلا أمان، فترك قتل المنافقين المحسوبين على المسلمين في الظَّاهر تألُّفاً للعرب، ولأنَّ المنافقين ما ثبت عليهم شيءٌ يدينهم بالبيِّنَّة من إقرار؛ لأنَّه كانت تُنقل الكلمة فيحلف المنافق عشرين مرةً أنَّه ما قالها، فإذاً معنى كلام حذيفة أن لو ثبت نفاقُ واحدٍ يقتل، ولذلك قال العلماء بقتل الزِّنديق وهو المنافق نفاقاً أكبر، وفي رواية أن حذيفة قال: "إنَّ المنافقين اليوم شرٌّ منهم على عهد النَّبيِّ ﷺ، كانوا يومئذٍ يُسرِّون واليوم يجهرون"[رواه البخاري 6696]. انظر ما أصدق كلمة حذيفة على واقعنا الآن، فالمنافقون في العهد النَّبوي يُسرِّون، والمنافقون اليوم في المقالات والبرامج يجهرون، قال ابن بطَّال: "إنَّما كانوا شرَّاً ممن قبلهم؛ لأنَّ الماضين كانوا يُسرِّون قبلهم فلا يتعدى شرُّهم إلى غيرهم، وأمَّا الآخرون فصاروا يجهرون ويقعون الشَّرَّ بين الفرق، فيتعدَّى ضررهم لغيرهم، قال ابن حجر ويشهد لما قال ابن بطال: ما أخرجه البزَّار من طريق عاصم عن أبي وائل، قلت لحذيفة: النِّفاق اليوم شرٌّ أم على عهد رسول الله ﷺ؟ قال فضرب بيده على جبهته، وقال: أوه هو اليوم ظاهرٌ إنَّهم كانوا يستخفون على عهد رسول الله ﷺ"[فتح الباري13/ 74]. إذا حذيفة في عصره قال إنَّه نفاقٌ ظاهرٌ فكيف بعصرنا؟ قال ابن التِّين: "أراد أنَّهم أظهروا من الشَّرِّ ما لم يظهره أولئك، غير أنَّهم لم يُصرِّحوا بالكفر وإنَّما هو النَّفث يلقونه بأفواههم، فكانوا يعرفون به"[فتح الباري13/ 74]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمنافقون ما زالوا ولا يزالون إلى يوم القيامة والنِّفاق شعبٌ كثيرةٌ، وكان النَّبيُّ ﷺ أولاً يُصلِّي عليهم ويستغفر لهم حتى نهاه الله عن ذلك، فقال: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ[التوبة:84]. وقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80]. فلم يكن يُصلِّي عليهم ولا يستغفر لهم، ولكن دماؤهم وأموالهم معصومة، فكان حكمه ﷺ في دمائهم وأموالهم كحكمه في دماء غيرهم، لا يستحل منها شيئاً إلَّا بأمرٍ ظاهرٍ، مع أنَّه كان يعلم نفاق كثيرٍ منهم، وفيهم من لم يكن يعلم نفاقه؛ لأنَّ الله قال: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ[التوبة:101]. قال: ولهذا لما كشفهم الله بسورة براءة بقوله: وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ صار يعرف نفاقَ ناسٍ منهم لم يكن يعرف نفاقهم قبل ذلك، فإنَّ الله وصفهم بصفاتٍ علمها النَّاس منهم، يعني: الصَّحابة سمعوا من بعضهم هذه الكلمات التي أثبتها الله للمنافقين على أنَّهم من أهل النِّفاق في كتابه، قال: "ولهذا لما نزلت سورة براءة كتموا النِّفاق" يعني: بعد سورة التَّوبة تغيَّر وضع المنافقين؛ لأنَّه تكتَّموا، قال: "وما بقي يمكنهم من إظهاره أحياناً ما كان يمكنه قبل ذلك، وأنزل الله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ يعني: سنأمرك بقتلهم ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:60-62]. قال شيخ الإسلام: "فلمَّا تُوعِّدوا بالقتل إذا أظهروا النِّفاق كتموا، فعلموا أنَّه إن أظهروه كما كانوا يظهرونه قُتلوا فكتموا"[مجموع الفتاوى7/212-215]. انتهى.
وقال الحسن: "أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النِّفاق" يعني: يتجرؤوا "فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموا وأسرُّوا"[الصارم المسلول5/50-51]. وحاصل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنَّ هؤلاء ما كانوا يجاهرون بكفرهم ونفاقهم؛ إنَّما يظهرون الإيمان الذي يحقن دماءهم، وما يظهر منهم هو لمزٌ وغمزٌ وأماراتٌ لا ترقى لمستوى البيِّنة التي يهدر بها دين المسلم ولو في الظَّاهر، ولما اشتدَّ الأمر عليهم في سورة براءة الكاشفة الفاضحة أخفوا ولم يُصرِّحوا بشيءٍ، ولهذا قال النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام: إنَّي لم أُؤمر أن أنقب عن قلوب النَّاس ولا أشقَّ بطونهم [رواه البخاري4094، ومسلم 1064]. رواه البخاري ومسلم. وقال عمر: "من أظهر لنا خيراً أمنَّاه وقرَّبناه، وليس إلينا من سريرته شيءٌ السَّرائر إلى الله الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نُصدِّقه وإن قال إنَّ سريرته حسنةٌ"[رواه البخاري2498].
إختلاف المنافقين اليوم على منافقي الماضي
فإذاً المنافقون اليوم يجهرون وينادون بالزَّندقة والإنحلال والإلحاد وترك الأحكام الشَّرعية ويطعنون فيها باسم: حُرِّية الرَّأي وحرية التَّعبير وحقوق الإنسان وحقوق الكلام، حتى قال قائلهم أمام كُلِّ هذا الهامش الواسع لحُرِّية الكلمة في مجتمع الرَّسول ﷺ، هذا واحدٌ ضالٌ منحرفٌ زائغٌ من رموز هذه المدرسة، يقول إنَّه كان حرية رأي في عهد النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام لدرجة إنَّه جهر بعضهم بالكفر وما قتلهم، فيقال: خذ كلام العلماء، ولا شكَّ أنَّ كلامه شرعاً عن الفساد وتأصيل الزَّندقة والإلحاد ضرب معاول الفساد في البلاد والعباد، ولما راسل شخصٌ الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله متعذراً له بترك عُبَّاد القبور على حالهم: بأنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام ترك المنافقين، ردَّ عليه الشَّيخ: ولكن العجب من دلائلك التي ذكرت كأنَّها أتت ممن لا يسمع ولا يبصر، أمَّا استدلالك بترك النَّبيِّ ﷺ ومن بعده تكفير المنافقين وقتلهم فقد عرف الخاصُّ والعامُّ ببديهة العقل أنَّهم لو يظهرون كلمةً واحدةً أو فعلاً واحدًا من عبادة الأوثان أو مسبَّة التَّوحيد؛ أنَّهم يُقتلون شرَّ قتلة، فإنَّ كنت تزعم أنَّ الذين عندكم أظهروا اتِّباع الدِّين ولم يبق إلا أشياء خفيَّة تظهر على صفحات الوجه أو فلتة لسان في السِّرِّ، وقد تابوا من دينهم الأول وقتلوا الطَّواغيت وهدموا البيوت المعبودة، فقل لي إذا صار عندكم للدرجة هذه قل لي"[ عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب1/ 14]. انتهى.
الزِّنديق هو المنافق وما حكمه
ويوجد في كُتب الفقه: حكم الزِّنديق، وهل تقبل توبة الزِّنديق أم لا؟ الزِّنديق هو: المنافق على الرَّاجح، لماذا قال بعضهم لا تُقبل توبة الزِّنديق؟ قالوا الزِّنديق هو الذي يُظهر الإسلام ويبطن الكفر، فلو عثرنا عليه واكتشفنا أنَّه زنديقٌ فلمَّا جئنا لنقتله قال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله، قلنا له: قد كنت تقولها، فلذلك قالوا يقتل وأمره إلى الله، وقال بعضهم تُقبل توبة الزِّنديق، وإذا قال: أتوب إلى الله وأنا راجعٌ عما كنت فيه وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله، فأنَّه تُقبل توبته ويخلى حتى يثبت عليه شيءٌ آخرٌ، فإذاً العلماء الفقهاء في الزِّنديق على رأيين، بعضهم قال يُقتل لو عثرنا عليه، يقول أنا تبت، نقول: أنت من قبل تشهد، فما فائدة شهادتك؟ وما هي قيمة شهادتك الجديدة؟ وبعضهم قال: لا، هذه التَّوبة تُقبل ونمسك حتى يظهر منه شيءٌ آخرٌ، وهذا النِّزاع إنَّما هو في حكم توبته إذا ظهر منه الكفر وليس في إقراره على الكفر إذا ثبت عليه، روى البخاري في صحيحه عن عكرمة قال أتي علي بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أُحرِّقهم لنهي رسول الله ﷺ: لا تعذبوا بعذاب الله، وعذاب الله هو النَّار، ولقتلتهم" يعني: ما قال ابن عباس: أنا لا أقتلهم؛ قال أقتلهم بالسَّيف لا بالنَّار لقول رسول الله ﷺ: من بدل دينه فاقتلوه[رواه البخاري 6524].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومعنى الزِّنديق الذي تنازع الفقهاء في قبول توبته هو معنى المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ولهذا قال الفقهاء إنَّ الزِّنديق هو المنافق وتنازعوا في قبول توبته"[جامع المسائل لابن تيمية4/ 133]. جامع المسائل لابن تيمية. وقال الشَّيخ محمد رشيد رضا في تفسير المنار: "فإن قيل إنَّ مقتضى حُرِّية الدِّين التي امتاز بها الإسلام في معاملة أهل الكتاب أن يسمح للمنافقين بأن يظهروا كفرهم، قلنا: إنَّ الجمع بين إظهار كفرهم وحسبانهم من المسلمين لهم ما لهم من الحقوق، وليس عليهم ما عليهم من الواجبات؛ تناقضٌ لا يقول به عاقلٌ، فإن قيل إنَّ القرآن قد فضح بعض المنافقين في هذه السُّورة وحكم بكفرهم ولم يُنفذ النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أحكام المرتدِّين، قلنا: إنَّ ما بيَّنه الله تعالى من حال المنافقين إنَّما كان وصفاً لأناسٍ غير معيَّنين بأشخاصهم، وكان الذي عرف النَّبيُّ ﷺ وبعض أصحابه أشخاصاً قليلين جداً"[تفسير المنار11/111-112]. بالإضافة إلى الأجوبة المتقدِّمة.
تعامل الخلفاء مع الزَّنادقة
ولهذا كان بعض خلفاء المسلمين عنده عنايةٌ خاصَّةٌ بتتبُّع الزَّنادقة، ولهم جهود مشكورةٌ وأعمالٌ مبرورةٌ في هذا الموضوع، خصوصاً لما سقطت مملكة فارس بأيدي المسلمين؛ أين ذهب المجوس؟ هذا المسألة تحتاج إلى تركيز: لما سقطت مملكة النَّصارى -هرقل ومن معه- تراجعوا، لما سقطت دولة النَّصارى في الشَّام أين ذهبوا؟ أسلم من أسلم منهم، والباقون بعضهم بقي على أحكام أهل الذِّمة، ولكن أين دولتهم؟ تراجعت إلى القسطنطينية، إخوانهم في أُوربا وبعدها جاءت الحملات الصَّليبية مرَّة ثانية، ودولة المجوس –الفرس- لما سقطت أين ذهب المجوس؟ الذي أسلم منهم أسلم، والباقون قام المجوس بأكبر حركة نفاق في تاريخ الإسلام فأنشؤوا الباطنية، فالفرق الباطنية الموجودة الآن هي امتدادٌ للمجوس، وهذه حقيقةٌ مهمَّة؛ لأنَّ المجوس لما أسقط المسلمون دولتَهم ما انحسروا إلى لهند، أرادوا الانتقام فقُتِل عمر بن الخطَّاب، حيث أرسلوا أبا لؤلؤة المجوسي وعملوا تجمُّعاتٍ خاصَّة استمرت، فكُلُّ فرق الحشَّاشين والإمامية وغيرهم هي حركاتٌ باطنيةٌ امتدادٌ لدولة المجوس التي سقطت، وانتقامٌ من المسلمين قاموا بتأسيس فِرق الباطنية؛ لهدم الدَّولة الفاطمية العبيدية وغيرهما، وهذه حقيقةٌ مهمَّة جداً لا بُدَّ أن تعرف، فمن يُقال عنهم الشُّعوبيون والصَّفويون وإلى آخره: هؤلاء المجوس الذين دخلوا في حركة الزَّندقة، وكان من الجهود المشكورة والأعمال المبرورة لخلفاء المسلمين ما فعله المهدي والهادي في تتبُّع الزَّنادقة، فكثيرٌ من حركة الزَّندقة أصلها مجوسيٌّ، ومن انضمَّ إليها بعد ذلك من المنافقين في كُلِّ عصر ومصر، لكن المقصود إنَّه جزءٌ كبير من حركة الزَّندقة في التَّاريخ الإسلامي الزَّنادقة كانت قد تكونت بعد سقوط دولة الفُرس المجوس في بلاد فارس بين المسلمين، وكُلُّ هذا انتقاماً من هذا الإسلام -إسلام محمَّد بن عبد الله ﷺ وأصحابه- ذكر ابن كثير في حوادث سنة 167 وفيها تتبُّع المهدي جماعة من الزَّنادقة في سائر الآفاق فاستحضرهم وقتلهم صبراً بين يديه، ووصَّى المهدي ابنه موسى الهادي الخليفة من بعده، وقد أنفذ الهادي تلك الوصية، يقول ابن كثير في حوادث سنة 169 للهجرة: "وسَّع الهادي في تطلب الزَّنادقة من الآفاق، فقتل منهم طائفةً كثيرة واقتدى بذلك بأبيه"[البداية والنهاية10/ 159]. البداية والنِّهاية لابن كثير. قهل بعد ذلك يُقال: يظهر المنافقون ويتكلَّمون بالكفر الصَّريح ويُتركون؛ لأنَّ عبد الله بن أبي ترك؟ لا يمكن.
الأصل الخامس: مراعاة اختلاف أحوال المخالفين من الكفَّار
الأصل الخامس: مراعاة اختلاف أحوال المخالفين من الكفَّار، نعم نحن نكره الكفَّار ونبغضهم؛ لكن الكفار ليسوا سواءً، فنحن أُمَّة العدل، فهناك كفَّارٌ محارِبون وكفَّار مسالمون وهناك أهل ذمة وأهل عهد، فلا بُدَّ أن نُفرِّق فالشَّريعة شريعة عدل، ونحن نعرف أن الكفَّار في الآخرة كُلُّهم مخلَّدون في النَّار، ولكن أحكامهم في الدُّنيا تختلف بحسب أحوالهم، فلا بُدَّ من مراعاة ذلك.
فالكفَّار ينقسمون إلى قسمين أساسيين: إمَّا أهل حرب، وإمَّا أهل عهد، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان المشركون على منزلتين من النَّبي ﷺ، والمؤمنين كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه"[رواه البخاري 4982]. رواه البخاري. فأهل الحرب هم الكفَّار الذين بينهم وبين المسلمين حربٌ يحاربون المسلمين يخرجونهم من ديارهم ويظاهرون على إخراجهم، هؤلاء أهل حربٍ.
وأمَّا أهل العهد من الكفَّار: هم الذين بينهم وبين المسلمين موادعةٌ ولا يحاربونهم، وأهل العهد على ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان، أولاً: أهل الذِّمة: وهم الكفَّار المقيمون تحت حكم المسلمون ويدفعون الجزية مقابل تأمينهم، ثانياً: أهل الهدنة، ويُقال لهم المعاهدين أيضاً: هم الكفَّار الذين بينهم وبين المسلمين عهدٌ ومهادنةٌ، حيث صالحهم إمام المسلمين على إنهاء الحرب مُدَّةً معلومةً لمصلحةٍ يراها، هؤلاء أهل هدنة داخلين في أهل العهد، ثالثاً: أهل الأمان: هم الكفَّار الحربيون الذين أُذن لهم بالإقامة في بلاد المسلمين إقامةً مؤقتةً لسببٍ.
ماهو الفرق بين أمان الذِّمي ويبن المستأمن والمعاهد؟ الآن قلنا: الكفَّار أهل حربٍ وأهل عهدٍ، وقسَّمنا أهل العهد إلى: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان، وعرفنا كُلَّ قسمٍ، فهناك فرقٌ بين أهل الذِّمة وأهل الهدنة وأهل الأمان، يعني: أهل الذِّمة أيضاً نوعٌ وأهل الأمان والهدنة نوعٌ آخر، ففي أيِّ شيءٍ يفترقان؟ أنَّ أهل الذِّمة أمانهم مؤبَّد، فإذا أُعطي الذِّمي أماناً فهو إلى أن يموت، أمَّا الأمان للمعاهد والمستأمن فأمانه مؤقتٌ، فمثلاً: يُعاهد إمام المسلمين مثلاً كفَّارًا معيَّنين عشرَ سنواتٍ فقط، فالأمان عليهم عشر سنين فإذا اتنتهت العشر فلم يعودوا من أهل العهد ولا من أهل الأمان، وليسوا معاهدين بعد ذلك، هذا هو الفرق، إذاً التَّعامل مع كُلِّ صِنفٍ من الأصناف يختلف: فالذِّمي له حقوق وواجبات وطريقة في التَّعامل ليست لغيره، وكذلك للمعاهد والمستأمن له ما ليس لغيره من الكفَّار الحربيين، وقد جاء في الحديث: أنزلوا الناس منازلهم[رواه أبو داود4844، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود1032]. ومع ضعف إسناده لكن معناه صحيح.
القواعد العامَّة في التَّعامل مع الكفَّار غير الحربيين
ومن القواعد العامَّة في التَّعامل مع غير الحربيين:
أولاً: العدل، قد أمر الله تعالى عباده بذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[المائدة:8]. فأمر الله بالعدل مع الكفَّار وإن كُنَّا نبغضهم، فلا تحملنَّكم شدَّة بغضهم على الجور، حتى في الحرب لا نمثل بجثثهم مثلاً، ولا نقتل صبيانهم الصَّغار والرُّضع، ونعدل ونطبِّق قيم الشَّرع، ومن هذا ما قاله عبد الله بن رواحة لليهود لما بعثه النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام إلى خيبر ليخرص الثَّمار حين حاولوا أن يدفعوا له رشوةً ليترك لهم أشياءً يجب عليهم أن يؤدُّوها لبيت مال المسلمين، قال: "والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير"[18851 السنن الكبرى]. ومع ذلك يقول: وما يحملني حبي إيَّاه وبغضي لكم على ألَّا أعدل فيكم، فقالوا بهذه قامت السَّموات والأرض، إذاً لا بُدَّ من العدل فيهم وإعطائهم حقوقهم، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة[ٍرواه أبو داود3052 ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود3052]. رواه أبو داود وحسَّنه ابن حجر والعراقي. وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنَّة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما[رواه البخاري 2995]. رواه البخاري. من هو المعاهد؟ مَن بينه وبين المسلمين عهدٌ، سواءً عهد جزية أو هدنة من سلطان، أو أمان من مسلم"[فتح الباري12/ 259]. فتح الباري.
بعد العدل أيضاً: الإحسان إلى المحتاج منهم بالصَّدقة إذا كان غير محاربٍ، قال الله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ[الممتحنة:8]. فإذاً ممكن أن نزوره، فإذا كان جارك كافراً ممكن تُقدِّم له هديةً، غير قضية الأعياد، إن جاء له مولودٌ فنهنئه أو احتاج مساعدة نساعده، أو شفاعةً حسنة لتسهيل معاملة، ممكن ذلك إذا كان غير محاربٍ، ولكن لا يجوز لنا أن نجاملهم على حساب ديننا، فلا يجوز أن نشاركهم في أعيادهم، ولا أن نخالف حكماً شرعياً، مثلاً: لا نبدؤهم بالسَّلام، نعم لهم أحكامٌ ونحن نعدل فيهم، ولكن لا نخالف أحكام الله فيهم، والمسلم لو قتل كافراً لا يُقتل به ولو كان معتدياً، عند الله يأثم يعذِّبه وقد يدخل النَّار هذا المسلم الذي قتل كافراً، ولا يُرح رائحة الجنَّة؛ لكن في الدُّنيا لا يُقتل مسلمٌ بكافرٍ لكن يُعزَّر، فإذاً هناك أحكامٌ وفروقاتٌ فإذاً نرفق بضعيفهم ونسدُّ خلة فقيرهم ونطعم جائعهم ونكسو عاريهم وندعو لهم بالهداية ونحفظ أهاليهم في غيبتهم ونصون أموالهم ونمنع الظَّلم عنهم، هذا إذا كانوا غير محاربين، لماذا: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ولكن لا يمكن أن نُقرَّهم على باطلٍ كأن يقول مسلمٌ: مجاملةً له سأذهب معه إلى الكنيسة وأشاركه في عيد كذا لا، هذا حرامٌ حتى أحمد رحمه الله لما سأله ولدٌ مسلمٌ أمُّه نصرانية تطلب منه أن يذهب بها إلى الكنيسة، قال: "لا يوصلها ولكن يردُّها" هذا فقه؛ لأنَّك إذا أوصلتها معناه أنت تعينها على الشِّرك، لكن تُرجعها من مكان الشِّرك للبيت هذا إخراجٌ لها من ذلك المكان، ولما جاءت أسماء بنت أبي بكر تسأل النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام أنَّ أمَّها المشركة جاءت من مكة؛ هل تصلها؟ نعم[شعب الإيمان 7555]. أهدى عمر أخاً له مشركاً في مكة ثوباً من الحرير[رواه البخاري 846]. مع كُلِّ هذا يجب بُغض هؤلاء؛ لأنَّهم كفَّار، فهو حسب موقفه من الله سيكون موقفي منه، هو يقول أنَّ للهِ ولدٌ، فلا بُدَّ أن أكرهه على هذا الكفر، أعوذ بالله من شرك النَّصراني واليهودي والسِّيخي والهندوسي والبوذي، فمستحيلٌ أحبُّه ولا بُدَّ أن أبرأ من شركه وكفره، وَأَذَانٌ إعلانٌ: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ[التوبة:3]. أيضاً بريءٌ من المشركين، فإذاً لا بُدَّ من التَّبرُّؤ جملةً وتفصيلاً.
التَّبرُّؤ من الكفَّار لا يعني ظلمهم
التَّبرُّؤ من الكفر لا يعني الاعتداء عليه وظلمه، أنا أتبرأ من كفره وأبغضه على كفره وأكرهه على كفره؛ ولا أظلمه أو أعتدي على ماله أو أضربه أو أسفك دمه بغير حقٍّ، فلا تناقض ولا تعارض: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ[المجادلة:22]. ماذا قال إبراهيم ومن معه لقومه من الكفَّار: إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ[الممتحنة:4]. وأيضاً لا لمشابهتهم وتجب مخالفتهم، فإذاً: العدل فيهم شيءٌ والبرُّ بهم شيءٌ والتَّشبُّه بهم شيءٌ آخرٌ ومشاركتهم في أعيادهم شيءٌ آخر ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم [رواه ابو داود 4033، وحسنه الألباني في صحيح ابي داود 4031].
وأيضاً لا بُدَّ أن نُراعي درجات وأحوال المخالفين بعد ذلك من أهل الإسلام كما قلنا؛ لأنَّ الموضوع كان عامَّاً في الكافر والمبتدع والفاسق، وكيف يُعامل المخالف يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة:73]. وهؤلاء الكفَّار المحاربين والمنافقون المندسون بين المسلمين، لا شكَّ أنَّهم سيُعاملون بالغلظة والانتهار، ولا مجال للرِّفق مع هؤلاء ولا للمسامحة والنِّفاق، كما عرفنا كيف يُعامل المنافقون ومنهم بعض هؤلاء الذين يتكلَّمون اليوم، ويطعنون في أحكام الشَّريعة في مقالاتهم وبرامجهم، فالعاصي من المسلمين يجتمع في قلبك له أمران: حبُّ وبُغضٌ، تحبُّ ما هو عليه من الإيمان والدِّين، وتبغض ما هو عليه من المعصية والفسق، فهو مسلمٌ عاصيٌ، لكن ما هو موقفك القلبي منه؟ تُحبُّ وتبغض؛ تحب ما فيه من الإيمان والتَّوحيد والدِّين، وتبغض ما فيه من الفسق والعصيان والفجور، وهذه منازلٌ وهذا الموضوع يحتاج إلى تفصيلٍ آخرٍ، لكن سنكتفي بهذا القدر وبالتَّالي أنهينا عشرة دروس في سلسلة الاستدلال وتمييع الموقف من الخلاف والمخالف لدين الله وأحكامه.
أسأل الله لي ولكم: الاستقامة، والهداية، والتَّوفيق، والإخلاص، وحسن الخاتمة، وصلَّى الله على نبينا محمد.