الأربعاء 10 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 11 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

06- تربية النفس على العبادة


عناصر المادة
العلم بالعبادة
المسارعة إلى العبادة
الاستمرار على العبادة
الاجتهاد في العبادة
عدم إملال النفس من العبادة
قضاء الفوائت
رجاء القبول مع الخوف من الرد
تنويع العبادة
الإلمام بشيء من نصوص الترغيب الواردة في العبادة
نماذج من سير العباد والزهاد
البدء في التعود منذ سن مبكرة للسهولة والاستمرارية
مخالطة بالعباد
ترتيب أوقات العبادة

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1]. 
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وتحيةٌ في هذا المجلس الذي نسأل الله أن يكون زائدًا في إيماننا، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا.
أيها الإخوة: موضوعنا بعنوان: "تربية النفس على العبادة".
إن الله قد امتدح أقواماً بأنهم من العابدين، فقال : وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء: 73].
فأثنى عليهم لاجتهادهم في عبادة ربهم، وجعل الله الأجر للعابدين كاملاً موفوراً بما صبروا على عبادة ربهم، وضرب الله لنا الأمثال في القرآن من العابدين والعابدات، فذكر لنا من أنبيائه الذين كانوا يسارعون في مرضاته وعبادته، رغبًا ورهبًا، وكانوا لله من الخاشعين.
ولو أخذنا مثالاً واحداً على نموذج من النماذج، وهي مريم عليها السلام التي كانت قدوة للعابدين والعابدات في القديم والحديث، التي كانت تقنت وتركع وتسجد، مريم التي وصفها الله بأنها من القانتين: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً [آل عمران: 37].


هذه التي اتخذت مكاناً شرقياً، شرق بيت المقدس تعبد الله، وكانت أمها قد نذرتها لخدمة المسجد، فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [آل عمران: 35].
وأعاذتها وذريتها من الشيطان الرجيم.
ولذلك فما أحوجنا إلى التأسي بعبادة العابدين.
ولا شك أن العبادة شيء شاق، ويتطلب كثيراً من الجهد، والمجاهدة، لحمل النفس على العبادة.
نتكلم عن تربية النفس على العبادة من خلال بعض نقاط، ومنها:
أولاً: العلم بها.
ثانياً: معرفة فضلها.
ثالثاً: المسارعة إليها.
رابعاً: الاجتهاد فيها.
خامساً: تنويعها.
سادساً: الاستمرار عليها.
سابعاً: عدم إملال النفس منها.
ثامناً: استدراك ما فات.
وتاسعاً: رجاء القبول مع خوف الرد.
وكذلك من تربية النفس على العبادة: تعويدها من الصغر، وقراءة سير العباد والزهاد، والانخراط في الأوساط الإيمانية.

العلم بالعبادة

00:04:43

أما بالنسبة للعلم بالعبادة، فلا شك أنه ركن مهم لكي تصح؛ لأن العبادة تتحول إلى بدعة إذا كانت بناءً على جهل، فإنه لا يُعبد الله إلا بالعلم، وعلى العلم، وبنور من العلم، فإذا صارت العبادة من جاهل وقعت في البدع، وهذا هو سبب وقوع الكثيرين ممن أرادوا التعبد لله والتنسك، وقعوا في البدع، والسبب هو جهلهم، ولذلك: يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]؛ لأنهم علموا الشريعة، وعلموا العبادة، وطبقوا ذلك، وما رسوه، وهذا أمر بدهي ومعروف، لا يعبد الله إلا بما شرع، ولا يعبد بالبدع.

المسارعة إلى العبادة

00:05:38

وأما بالنسبة للمسارعة إليها، فإن الله يقول: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ[آل عمران: 133]. ومرة قال: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الحديد: 21].
فأنت ترى أن لفظة: المسارعة والمسابقة.
وكذلك قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] أي: السعي.
ووصف الله عباده الصالحين وهم زكريا وأهله، بـ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90].
وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود في سننه: التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة [أبو داود: 4810، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 1794]. وفي رواية: التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة [المستدرك: 213، وصححه الألباني صحيح الجامع:  3009].
فإنه لا تؤدة، ولا انتظار، وإنما هو مسارعة ومسابقة.
وهذه المسارعة والمسابقة تدل على عمق الإيمان في النفس، فإنه كلما تأصل الإيمان في النفس كان العبد إلى المسارعة في مرضاة ربه أكثر.
ولما دنا المشركون من المسلمين في غزوة بدر، قال النبي ﷺ: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض قال أنس راوي الحديث -والحديث في صحيح مسلم- قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم فقال عمير: بخ! بخ! -وهذه كلمة تطلقها العرب لتفخيم الأمر وتعظيمه- بخ بخ! فقال رسول الله: ما يحملك على قولك: بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها -ما قصدت بهذه الكلمة إلا وأنا أرجو أن أكون من أهل هذه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض- قال ﷺ: فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان من التمر، ثم قاتل حتى قتل " [رواه مسلم: 1901].
كانوا سراعًا إلى طاعة الله، فإذا نادى المنادي وأذن المؤذن وقد رفع أحدهم مطرقته، ألقاها وراء ظهره، ثم سارع إلى الصلاة.

الاستمرار على العبادة

00:09:10

ثم الاستمرار عليها، يقول النبي ﷺ في الحديث القدسي عن ربه : وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه [رواه البخاري: 6502].
وكلمة: ما يزال في هذا الحديث تدل على الاستمرارية.
ويقول النبي ﷺ: تابعوا بين الحج والعمرة [رواه الترمذي: 810، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 1200].
وهذه المتابعة تفيد القيام بالشيء تكراراً ومراراً.
وهذا المبدأ، وهو الاستمرار على العبادة مهم في تقوية الإيمان، وعدم إهمال النفس، حتى لا تركن وتأسن، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع؛ ذلك أن بعض الناس إذا سمع خطبة، أو شريطاً، أو موعظة، قد يتحمس للعبادة، ويستمر في هذا الحماس أياماً، ولكنه بعد ذلك ينطفئ حماسه، ويعود إلى سابق عهده، من الدعة والكسل عن العبادات، والتقاعس عن الأعمال الصالحة.
ولذلك فإن من التربية: أن يعود الإنسان نفسه على الالتزام بقدر من العبادة، يداوم عليه من الأعمال المشروعة.
أما الواجبات، فلا بد من القيام بها دائماً، لكن المستحبات، قراءة القرآن، وذكر الله، ونحو ذلك، لا بد أن يعود الإنسان نفسه على القيام بشيء منها، فلما سئل النبي ﷺ: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل [رواه البخاري: 6465].
يعني: أن المسلم مطالب بأن يستمر، وهذا معنى المداومة.
وروى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه: "أن النبي ﷺ كان إذا عمل عملاً أثبته" [رواه مسلم: 746]. فداوم عليه، واستمر عليه.

الاجتهاد في العبادة

00:11:34

أما الاجتهاد في العبادة، فإن الاجتهاد فيها من سيما الصالحين، وصفات عباد الله المقربين، وقد ذكر الله في كتابه من اجتهاد أوليائه في عبادته أحوالاً عدة، فمن ذلك: قوله : إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ۝ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة: 15-16]. بالإضافة إلى الصلاة والصيام: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة: 16].
وقال الله تعالى عن عباده الصالحين أهل الجنة: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ۝ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ۝ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 17-19].
والذي يطلع على حال السلف في تحقيق صفات العابدين، والاجتهاد في العبادات، فهو شيء يبعث على العجب والإعجاب، ويقود إلى الاقتداء من أصحاب النفوس السليمة، ألم تر أن رسول الله ﷺ لما سأل أصحابه مرة، فقال: من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا.
وجب أن يجيب؛ لأن النبي ﷺ سألهم، لا يريد المفاخرة بالأعمال ولا الرياء.
من أصبح اليوم منكم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع اليوم منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله ﷺ: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة [رواه مسلم: 1028].
وفي رواية: ما اجتمعن في امرئ في يوم إلا دخل الجنة [رواه البخاري في الأدب المفرد: 515، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 88].
فإذا كنا نستطيع في يوم من الأيام لنجرب ذلك أن نصبح صائمين، ونتبع جنازة، ونطعم مسكيناً، ونعود مريضاً، فإننا في هذه الحال نشعر -ولا شك- بنوع من السمو في الإيمان، والقوة في الدين، بسبب اجتماع العبادات، والاجتهاد فيها، ولا شك أن الصديق لما سئل لم يكن مخططاً بأن يقوم بهذه الأعمال من أجل السؤال، وإنما كان ذلك يوماً طبيعياً عادياً من أيام الصديق، وما سبق الصديق الأمة، وكان في الفضل بعد نبيها، إلا بأشياء من هذا القبيل.


وقد كان السلف رحمهم الله تعالى يجتهدون في العبادة، ويملئون أوقاتهم بها.
وهذه عبارة كانت تقال عن جماعة من السلف، ومنهم حماد بن سلمة على سبيل المثال، قال فيه الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: "لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً" [تذكرة الحفاظ وذيوله: 1/151].
فهو بالغ للغاية والنهاية في أعمال البر والعبادة، ولا يستطيع المزيد، فإنه مشبع، ويومه مشبع بأوقات الطاعات والعبادات. ومن الأمور -كذلك- التي تدل على أن السلف رحمهم الله كانوا مجتهدين في العبادة، ما نقرأ في سيرهم أنهم كان لهم سبع من القرآن يختمونه كل يوم.
هذا حال الصحابة، يختمون القرآن في أسبوع، سبعة أقسام معروفة، وكانوا يقومون الليل، وحالهم معروف في قيام الليل، وقراءتهم للقرآن القراءة الكثيرة المتواصلة، حتى إن بعضهم ربما إذا أصبح رفع رجليه على الجدار ليعود الدم إلى الجسم من طول القيام، لكن كانوا يقومون الليل أيضاً في ليالي الغزو، وفي الثغور، في الصباح قتال، وفي الليل صلاة وقيام، يذكرون الله ويتهجدون، حتى في السجن لو أدخلوهم قاموا يصلون، يصفون أقدامهم، وتسيل دموعهم على خدودهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، يخادع أحدهم زوجته، كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أنها نامت انسل من لحافها وفراشها لصلاة القيام، وكان بعضهم يقسم الليل على نفسه وأهله، فيوقظ بعضهم بعضاً، متتابعين للصلاة، ونهارهم في الصيام، والتعلم، والتعليم، واتباع الجنائز، وعيادة المرضى، وقضاء حوائج الناس.
فأوقاتهم كانت مملوءة بالطاعة، وهذا شيء مهم جداً أن تكون الأوقات ممتلئة بالطاعة، لو حصل هذا لو صلنا إلى منازل في غاية الرفعة والسمو.
وكان بعضهم يُنفق على عيال أخيه بعد موت الأخ لسنوات، فهؤلاء الذين كانوا يراعون جميع الجوانب من جهاد، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وعبادة، وصلاة، وقيام، وأمور اجتماعية، كالإنفاق على المحتاجين، وغيرهم، هؤلاء هم أهل للجنة فعلاً.

عدم إملال النفس من العبادة

00:19:04

ومن الأمور كذلك: عدم إملال النفس، ليس المقصود من المداومة على العبادات، والاجتهاد فيها إيقاع النفس بالسآمة، وتعريضها للملل، وإنما المقصود عدم الانقطاع عن العبادة والموازنة بين الأمرين، وذلك بأن يكلف المسلم نفسه من العبادة ما يطيق، ويسدد، ويقارب، فينشط إذا رأى نفسه مقبلة، ويقتصد عند الفتور، يقتصد، بمعنى: يمسك الواجبات، ويعمل ما تطيق نفسه من المستحبات، ولو كان أقل من أيام النشاط؛ لأنها لقط أنفاس ليتابع العمل بعد ذلك.
وقد قال النبي ﷺ: إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، واستعينوا بالغدوة، والروحة، وشيء من الدلجة [رواه البخاري: 39].
فلا بد من مراعاة النفس، إذا أقبلت أعطها المجال للزيادة؛ لأن النفوس لها إقبال وإدبار، لها ارتفاع وانخفاض، كما قال النبي ﷺ: لكل عمل شرة.
وفي رواية: لكل عامل شرة [مسند الشهاب: 1026]، يعني نهاية عظمى وقمة: ولكل شرة فترة تقابلها وتعقبها. وهكذا في ازدياد ونقصان، الإيمان يزيد وينقص، وارتفاع وانخفاض: فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى [رواه أحمد: 6764، وصححه الألباني صحيح الجامع: 2152].
فمن كان في حال فتوره متبع للسنة، موافق للسنة، بحيث إنه قائم بالواجبات، ممتنع عن المحرمات، فهذا مهتد: فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى من كان في حال فتوره قائم بالواجبات، تارك للمحرمات، فهذا على خير عظيم.


وقال النبي ﷺ: القصد القصد تبلغوا [رواه البخاري: 6463].
الاقتصاد في العبادة، بمعنى: أنه يراعي نفسه، فينشط وقت النشاط، ويرتاح في وقت الفتور والتعب؛ لأنه إذا حمل على نفسه حملة واحدة، شق عليها، وربما ترك العبادة، وانقطع به الحبل، لكن لو أنه يعمل الواجبات، ويترك المحرمات، والمستحبات، يأخذ ما استطاع منها، إذا نشط زاد، وإذا فتر ارتاح، هذه الطريقة المثلى في العبادة.
وقال البخاري رحمه الله: "باب ما يكره من التشديد في العبادة" عن أنس قال: دخل النبي ﷺ فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، تقوم وتصلي في الليل، وإذا أصابها الفتور والتعب تعلقت بالحبل لتبقى واقفة، وتظل قائمة.
فقال النبي ﷺ: لا رفض هذا العمل لا، حلوه أزيلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد [رواه البخاري: 1099].
هذه حكم وقواعد في العبادة مهمة، ولا بد من الانتباه لها، وإلا فإن عاقبة كثير من الذين يشدون على أنفسهم في فورة الحماس تكون إلى الانقطاع: لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد.
ولما علم النبي ﷺ أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل كله، ويصوم النهار، متتابعاً، سأله، فأخبره، وأقر أنه هذا ما يفعله، فنهاه ﷺ، وعلل ذلك بقوله: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك [رواه البخاري: 1102].


معناها: هجمت عينك يعني: غارت أو ضعفت من كثرة السهر: ونفهت نفسك أي: كلت وتعبت وسئمت، هذا التواصل المستمر، وقال النبي ﷺ: عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل [رواه البخاري: 5523].
نحن نقول: إننا لا نشتكي من قضية الذين يشددون على أنفسهم في العبادات بقدر ما نشتكي من المفرطين على أنفسهم، من الذين قصروا في العبادات، ومن تكاسلنا عن العبادات، ومن تراخينا في القيام بها، ومن تقاعسنا عن أدائها، ومن رغبتنا عنها، وعن مواسمها، وكأننا مستغنون عن الأجر، هذا الذي نشتكي منه أكثر، لكن من باب عرض الموضوع، فهذا من الشمولية فيه، وإلا فإن التقصير عندنا أكثر من الزيادة، الزيادة مضرة، لكن نحن نشتكي من التقصير أكثر، ونشتكي من الكسل، ليست المسألة عندنا زيادة اجتهاد، بقدر ما عندنا من نقص وتكاسل.

قضاء الفوائت

00:25:51

وكذلك من النقاط في هذا الموضوع المهم جداً؛ لأننا لا يمكن أن ننتصر على عدو، ولا أن نواجه بدون عبادة، من النقاط فيه استدراك ما فات منه، فعن عمر بن الخطاب أن النبي ﷺ قال: من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل [رواه مسلم: 747].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله ﷺ إذا صلى صلاة داوم عليها" [رواه البخاري: 1869].
وكان إذا غلبته عيناه من الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة" [رواه أبو داود: 1342، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 1193].
يعني: كان يشفع وتره الذي كان يريد يصليه في الليل، ويصليه في النهار ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر بعد ارتفاع الشمس، يصلي ما كان يريد أن يصليه في الليل زائد ركعة يشفع.
وفي رواية: "كان إذا نام من الليل، أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة" [رواه مسلم: 746].
ولما رأته أم سلمة رضي الله عنها يصلي ركعتين بعد العصر -والقصة في صحيح البخاري- أن أم سلمة جاءها ضيوف من الأنصار، النبي ﷺ بعد صلاة العصر دخل، وصلى ركعتين، وهي عندها ضيوف، فلم ترد أن تترك ضيوفها، فقالت للجارية: اذهبي إليه، فقومي بجانبه، فقولي له: تقول لك أم سلمة: إنك نهيت عن الركعتين بعد العصر، وأراك تصليهما، فإن أشار إليك، فتأخري عنه؟ فجاءت الجارية، ووقفت بجانب النبي ﷺ، وهو يصلي، فقالت له هذا الكلام، فأشار إليها، فتأخرت الجارية، وذهبت، وبعدما فرغ من صلاته، جاء إلى أم سلمة، فقال: يا ابنة أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس -يعني: بعد الظهر- فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر السنة الراتبة بعد الظهر فهما هاتان [رواه البخاري: 1176].
هل تركها النبي ﷺ؟
لا. صلاها.


وفي هذا الحديث فوائد، منها: جواز تكليم المصلي لحاجة، وأن الذي يكلم المصلي يقوم بجانبه، لا يتقدم ولا يتأخر. وجواز: الإشارة في الصلاة. وفوائد كثيرة أخرى، ذكرها الحافظ رحمه الله في الفتح [فتح الباري: 3/106].
الشاهد أنه قال لها: يا ابنة أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان [رواه البخاري: 1234].
وفي رواية: "وكان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعده".
إذا فاتته الأربعة قبل الظهر صلاهن بعد الظهر [رواه الترمذي: 426]، وهو حديث صحيح [حسنه الألباني صحيح وضعيف سنن الترمذي: 426].
وهذه الأحاديث تدل على مشروعية قضاء السنن الرواتب، وتدل على مشروعية قضاء صلاة الليل، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله في صومه ﷺ شعبان أكثر من غيره، لماذا كان ﷺ يصوم أكثر شعبان حتى قالت: بل كله؟
ذكر ثلاثة أسباب في تعليقه على سنن أبي داود، -وابن القيم له تعليق نفيس جداً عليه مطبوع مع شرح الخطابي، ليس فقه ابن القيم في زاد المعاد فقط، بل في هذا الكتاب فقه عظيم-
يقول: "من أسباب إكثار النبي ﷺ الصيام في شعبان: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فكان ربما شغل عن الصيام أشهراً، فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض" [حاشية ابن القيم على سنن أبي داود:  7/72].
يعني: يخرج في سفر، أو في جهاد، أو أنه قد يمرض، فلا يصوم ثلاثة أيام من الشهر التي كان يصومها، وهو متعود عليها، فمتى يقضيها؟
يقضيها في شعبان.


هذا من الأسباب.
وكان ﷺ يعتكف العشر الأواخر من رمضان -وهذا معروف-، فلما فاته الاعتكاف مرة لعارض السفر، اعتكف في العام المقبل عشرين ليلة" [رواه أبو داود: 2463, وصححه الألباني صحيح أبي داود: 2151].
ولذلك عنون عليه البخاري: "الاعتكاف في العشر الأواسط" [صحيح البخاري: 2/718].
يعني: أن الاعتكاف في العشر الأواسط، من رمضان -أيضاً- مشروع.
النبي ﷺ كان إذا فاته شيء ما يضيعه ويتركه لفواته، وإنما كان يستدركه، وهذا الاستدراك مهم في الاستمرار على العبادة.
والحمد لله أن الشريعة فتحت لنا باب الاستدراك، حتى يحس الإنسان أنه عوض شيئاً فاته.

رجاء القبول مع الخوف من الرد

00:32:24

وكذلك من الأمور المهمة في العبادة، وتربية النفس عليها، رجاء القبول مع الخوف من الرد، فإن بعض الناس إذا عملوا أعمالاً وعبادات، أصيبوا بنوع من الغرور، أو الاغترار بالعبادة، وشعروا أن فيهم صلاحاً عظيماً، وأنهم صاروا من أولياء الله، ولكن المسلم يخشى ألا تقبل عبادته، فهو يجتهد ويلتزم بالسنة، ومع ذلك يخشى على نفسه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله ﷺ عن هذه الآية: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60].
هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ يعني مثلاً: يعطون أشياء، ويخافون من الأعمال السيئة التي فعلوها، يعبدون الله، ويتصدقون ويخافون مما عملوا من شرب الخمر والسرقة مثلاً، قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون، ويصلون، ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات [رواه الترمذي: 3175]، وهو حديث صحيح [السلسلة الصحيحة: 1/162].
لا يا بنت الصديق ليس ما ظننتيه، ولكنهم الذي يسارعون في الخيرات منهم، ولكنهم: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60]، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [المؤمنون: 61].
الخشية هذه من رد العمل مهمة، والمؤمن يجب أن يعيش بين الخوف والرجاء، مهما كثرت العبادة يخشى على نفسه، لربما وقع في عجب أذهب أجرها؟ أو وقع في شيء من الرياء أو الاغترار؟
ثم إنه مهما عبد فلا يكافئ نعمة البصر، فأي شيء يظن في نفسه؟
ومن صفات المؤمنين: احتقار النفس أمام الواجب من حق الله، قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: لو أن رجلاً لاحظ -أيها الأخ- المسلم معنى الحديث هذا: لو أن رجلاً يُجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله لحقره يوم القيامة [رواه أحمد: 17649، وصححه الألباني صحيح الجامع: 5249].


كله عبادة متواصلة، لا نوم، ولا أكل، ولا شرب، كله عبادات متواصلة في مرضاة الله لحقره يوم القيامة، يعني: بجانب ما يرى من الواجب عليه في النعم، وحق الله يرى أن ما عمله طيلة حياته من يوم ولد إلى يوم يموت، يراه لا شيء بجانب حق الله، ولذلك لا يمكن أن يصيب الإنسان المسلم الغرور بالعبادة مهما كثرت عبادته؛ لأن من عرف الله وعرف النفس، يتبين له أن ما معه من البضاعة لا يكفيه، ولو جاء بعمل الثقلين، وإنما يقبله الله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيب عليه بكرمه وجوده وتفضله.
ومن اللفتات الجليلة: ما كان يقوله أبو الدرداء : "لئن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة، أحب إلي من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27].
لو علمت أن الله تقبل صلاة واحدة، لكان عندي شيئاً عظيماً، ولشعرت بطمأنينة، ونحن نعمل ولا ندري أيقبل منا أو لا يقبل، لكن يجب أن يكون عندنا حسن ظن بالله أنه يقبلها منا، إذا صليت وصمت يجب أن يكون عندك حسن ظن بالله أنه يقبلها منك، لكن هل تقطع لنفسك أنها قبلت؟
حسن الظن بالله أنه يقبل، ورجاءً أن يقبل، لا يعني: أنك تقطع لنفسك أنه قبلك، فإذا بقيت على هذا الشعور بين الرجاء، وحسن الظن بالله أنه يقبل، وبين الخوف من ردها عليك، وعدم قبولها، أو حبوطها، لكان المسلم يعمل ويعمل، وهو على خير عظيم.

تنويع العبادة

00:37:42

وكذلك من الأمور المهمة في تربية النفس على العبادة: التنويع في العبادة: من رحمة الله بنا: أن نوع علينا العبادات، فمنها: ما يكون بالبدن، كالصلاة، ومنها: ما يكون بالمال، كالزكاة، ومنها: ما يكون بهما معاً، مثل حج بيت الله الحرام، فإنه تجتمع فيه العبادتان المالية والبدنية، ومنها: ما هو باللسان، كالذكر والدعاء، وحتى النوع الواحد ينقسم إلى فرائض وسنن مستحبة، والفرائض تتنوع، والسنن تتنوع، هذه الصلاة فيها فرائض متنوعة في الوقت، وعدد الركعات، وسنن الصلاة متنوعة، فيوجد سنن رواتب، ويوجد ما هو أعلى منها، في قول بعض أهل العلم، وهو صلاة الليل، ويوجد ما هو أدنى منه، وهو مثل صلاة الضحى، والأربع التي قبل العصر، يعني: بين الأذان والإقامة، قال ﷺ فيها: رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً [رواه أبو داود: 1273، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 1132].
فهذه سنة، ولكن دون السنن الراتبة -الاثني عشر- في المرتبة.
وإذا التفت إلى هذا النوع من قيام الليل لوجدته أنواعاً متنوعة، فمنه تستطيع أن تصلي واحدة، وثلاثاً، وخمساً، وسبعاً، وتسعاً، وإحدى عشرة، تستطيع أن تصلي مثنى مثنى.
وفي قول بعض أهل العلم في رواية: "يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً" [رواه البخاري:  1096].
ووردت رواية: "أنه يصلي خمساً بتشهد[رواه مسلم:  737] ، وسبعاً بتشهد واحد، وتسعاً بتشهد واحد" [رواه مسلم: 738].
الكيفيات تتنوع، فالتحيات صيغها متنوعة، الصلاة الإبراهيمية صيغها متنوعة، ودعاء الاستفتاح، متنوع الصيغ.


هذا التنوع، يمنع الملل، وهذا من رحمة الله.
الصيام فيه معنى لا يوجد في الزكاة، والزكاة فيها معنى لا يوجد في الصلاة.
والحمد لله أن عبادات هذا الدين ليست نوعاً واحداً، ولا متماثلاً، وإنما هو متنوع تنوعاً كثيراً، ولذلك يحصل التجدد في النفس، فلا تمل، وتنجذب، وتستلذ بالعبادة.
وسبحان الذي جعل أبواب الجنة منوعة على أنواع العبادات، فقد قال النبي ﷺ والحديث في البخاري: من أنفق زوجين في سبيل الله من أي شيء؟ من الإبل، أو من البقر، أو من الغنم، أو من الذهب، أو من العبيد- نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله، هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة [رواه البخاري: 1897، ومسلم: 1027] الحديث.
أبواب الجنة منوعة، ومن أبواب الجنة: الوالد: الوالد أوسط أبواب الجنة [رواه الترمذي: 1900، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 914] كما جاء في حديث أبي الدرداء.
يعني: أن بر الوالدين، باب من أبواب الجنة.
فتنوعت أبواب الجنة على أنواع العبادات، وهناك من يدعى من هذه الأبواب، ومنهم: أبو بكر الصديق ، ولعله مما يفسر ذلك الحديث المتقدم، في عيادة المريض، والجنازة، وإطعام المسكين، والصيام.
ما المقصود بباب الصيام وباب الصلاة؟ هل معناها أن المصلين يدخلون من باب الصائمين والذين لا يصلون يدخلون من باب آخر؟


كل هؤلاء الذين يدخلون من هذه الأبواب يدعون -حسب الحديث- يدعون من الأبواب المختلفة، كلهم من القائمين بالواجبات الذين يدخلون الجنة ولا شك، لكن الذي يدعى من باب الريان المكثر من صيام النفل، والذي يدعى من باب الصلاة الذين يكثرون من صلاة النفل، والذي يدعى من باب الصدقة المكثر من صدقة النفل، وإلا فإنهم جميعاً يصلون الفرائض، ويصومون رمضان، ويؤتون الزكاة الواجبة.
ولكن؛ لأن بعض النفوس تستلذ عبادة دون أخرى، وتميل إلى نوع دون آخر، وقد تزيد فيه وتكثر منه، فالله جعل لهم باباً يدعون منه على حسب العمل الذي قد استكثروا منه في الدنيا، وإلا فجميع من يدعى ممن أدوا الفرائض بطبيعة الحال، وهناك أناس يتقنون فن الجهاد، ويحبون الجهاد، ولا يتركون سريةً ولا جيشاً إلا يخرجون فيه، وهكذا.
وأناس اشتهروا ببرهم لآبائهم وأمهاتهم، ملازمين لهم، طائعين لهم، بطاعة الله، هؤلاء لهم باب يدعون منه، لكن الجميع قائمون بالواجبات، تاركون للمحرمات، هذا واجب عليهم، لكن المكثر من نافلة من النوافل يدعى من بابه يوم القيامة.
وهذا التنوع الاستفادة منه في جذب النفس إلى العبادة؛ لأن بعض الناس -مثلاً- قد يكون له جسم قوي، ويصبر على الجوع، ولا يشعر بألم الجوع كثيراً، فيجد الصيام سهلاً بالنسبة له، وآخر عنده مال كثير، الصدقة سهلة بالنسبة له، إنسان لسانه سهل الحركة، وكل الألسنة سهلة الحركة، لكن عنده أن الذكر مهم، عنده أن الذكر له مرتبة خاصة، مكانة خاصة في نفسه، فهو يكثر منه، لا يمل لسانه من ذكر الله، ولا يفتر لسانه من ذكر الله، ولا يزال لسانه رطباً من ذكر الله، فهذا النوع عنده سهل.


فأقول: لا بأس أن الإنسان إذا وجد نافلة من النوافل سهلة عليه أكثر من غيرها، فالأفضل له أن يستزيد منها، وأن يكثر منها، وهو مبشر بهذا الأجر الوارد في حديث دعاء أصحاب النوافل من أبوب الجنة التي خصصت لهم، وهناك عبادات للإنسان لها طعم خاص، ولها أثر خاص في النفس، مثل قوله ﷺ في الثلاثة الذين يحبهم الله: الرجل يلقى العدو في الفئة، فينصب له نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم هذا الرجل معه ألم السفر، وتعب السفر مثلما أصابهم، لما أحبوا أن يمسوا الأرض، مسوا الأرض ليناموا، فإذا به يتوضأ، ويقوم للصلاة حتى يوقظهم لرحيلهم، هذا يحبه الله والرجل يكون له جار يؤذيه، فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ضعن [رواه أحمد: 21378، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3074].
إما أن يرحل هو عن جاره، أو أن يرحل الجار عنه، أو يموت واحد منهما، فهو صابر على أذى الجار، هذه عبادة لها لذة في النفس وأثر.
أتى النبي ﷺ رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له ﷺ: أتحب أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك؛ يلن قلبك وتدرك حاجتك [مصنف عبدالرزاق: 20029، وحسنه الألباني صحيح الترغيب والترهيب: 2544].
فتأمل هذا الاعتناء باليتيم عبادة لها أثرها في النفس، ولذلك قال: أتحب أن يلين قلبك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك.

الإلمام بشيء من نصوص الترغيب الواردة في العبادة

00:47:11

كذلك من الأمور المهمة في تعويد النفس وتربيتها على العبادة: الإلمام بشيء من نصوص الترغيب الواردة في العبادة. الشريعة لما فتحت الباب للعبادات، وحثت عليها، كان من وسائل الحث -أيها الإخوة-: ذكر أجور معينة للعبادات؛ لأن النفس تتحمس إذا ذكر الأجر، فلنأخذ على سبيل المثال بعض الأحاديث الواردة في أجور مرتبة على أداء بعض العبادات، ونتمعن فيها، لنجد أن ذكر الأجر يحمس النفس، ويشجع على العبادة، قال ﷺ: لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة [رواه أبو داود: 3669 ، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 2916].
أي: من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، تجلس معهم، يذكرون الله، ويقرؤون القرآن، ويقرؤون العلم، هذا أحسن من أن يعتق أربعة رقاب، مع أن عتق الرقبة فيه فضل عظيم: من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار، حتى الفرج بالفرج [رواه مسلم: 1509].
فقال: لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الفجر حتى تطلع الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة.
وقال ﷺ: من توضأ فقال بعد فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك -هذه كلمة مثل كفارة المجلس- كتب في رق، ثم جعل في طابع، فلم يكسر إلى يوم القيامة [سنن النسائي الكبرى: 9909، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 2651].
يجعل في مظروف مختوم لا يكسر إلى يوم القيامة.


وقال ﷺ لإحدى زوجاته: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لأنها من الفجر، وهي جالسة في مكانها تذكر الله حتى طلع النهار قال: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته رواه مسلم: 2726].
وفي فضل حفظ القرآن، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار [المعجم الكبير الطبراني: 498، حسنه الألباني صحيح الجامع: 5266].
الإهاب، هو الجلد، ويقصد به جسد الحافظ للقرآن.
يجئ القرآن يوم القيامة، فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق، ويزاد في كل آية حسنة [رواه الترمذي: 2915، وحسنه الألباني صحيح الترغيب والترهيب: 1425].
مثلاً: الاستعداد ليوم الجمعة: وهذا أمر فرطنا فيه كثيراً، فلا نتحرك إلا بعد النداء الأول بوقت: من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع، وأنصت، ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنة أجر صيامها وقيامها [رواه أبو داود: 345، وصححه الألباني صحيح الترغيب والترهيب: 690].


تكبيرة الإحرام مع الإمام: التي تفوت كثيراً من الناس: من صلى لله أربعين يوماً في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى، كتبت له براءتان، براءة من النار، وبراءة من النفاق [رواه الترمذي: 241، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 1979].
الجهاد: لقيام رجل في الصف في سبيل الله ساعة أفضل من عبادة ستين سنة [المعجم الأوسط الطبراني: 8708، وصححه الألباني سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1901].
موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود [ابن حبان: 4603، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 1068].
إماطة الأذى عن الطريق: لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس [رواه مسلم: 1914].
عيادة المريض: ما من امرئ مسلم يعود مسلماً إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وأي ساعات الليل كان حتى يصبح [رواه أحمد: 754، وصححه الألباني صحيح الجامع الصغير: 5687].
السواك للقيام من الليل: إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليستك فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملك فاه على فيه فم الملك على فم القارئ ولا يخرج من فيه شيء إلا دخل فم الملك [شعب الإيمان للبيهقي: 2117، وصحيح الجامع الصغير وزياداته: 720].


احتساب الأجر في الخطوات إلى المسجد، والتبكير إلى المسجد: قال ﷺ: إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة من أجل الصلاة كتب له كاتبه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه [المستدرك على الصحيحين: 766، وصححه الألباني صحيح الترغيب والترهيب: 298]، يعني الخطوات ليس فقط في الذهاب، حتى في الرجوع.

نماذج من سير العباد والزهاد

00:54:23

ومن الأمور أيضاً في تربية النفس على العبادة: قراءة سير العباد والزهاد، وهذا أمر مهم؛ لأن الإنسان لا بدّ له من قدوات يحركونه، قدوات حية، وقدوات مضت، أسلاف وخلف، وقد سطر العلماء، سير العباد والزهاد في كتبهم، كمثل كتاب "سير أعلام النبلاء" للحافظ الذهبي رحمه الله، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم، و"البداية والنهاية" لابن كثير، ولها مختصرات، إذا كان الإنسان يشق عليه أن يقرأ، فليقرأ مختصر "سير أعلام النبلاء"، أو "روضة الزاهدين" المنتقاة من "حلية الأولياء"، وقد سبقت محاضرة بعنوان: اجتهاد السلف في العبادة، في هذا الموضوع.
لا بدّ أن نقرأ في سير العباد والزهاد، كيف كانوا يعبدون الله، لتتشجع النفوس؛ لأن القصة من هذه القصص تولد في النفس معاني، وينبغي عدم الاستهانة بهذا الأمر.

البدء في التعود منذ سن مبكرة للسهولة والاستمرارية

00:55:31

ومن الأمور كذلك: البدء في التعود منذ سن مبكرة للسهولة والاستمرارية؛ لأن الإنسان كلما كبر كثرت شواغله، وعمت الصوارف، فإذا تعود مبكرًا، فإنه يسهل عليه، والآن هناك من كبار السن يعملون أعمالاً من العبادات، كالقيام الطويل، والتبكير إلى المسجد، ونحو ذلك، ولو نظرت في تاريخهم لوجدت أنهم قد تعودوا على هذه العبادة من سن مبكرة، وهذا ينادي علينا بأن نعود أطفالنا على العبادة منذ الصغر، حتى يألفوها، وتستمر معهم سهلة إذا كبروا، وكذلك الشاب عندما يكون طري العود حدث السن، فإن تشكيل نفسه سهل، فإذا تعود العبادة منذ بدء حياته صارت سهلة عليه في المستقبل.

مخالطة بالعباد

00:56:47

وكذلك من الأمور: الدخول في الأوساط الإيمانية، دع عنك قساة القلوب، والجدليين، وشلل الأنس، ولكن الذين امتلأت قلوبهم إيماناً، فإذا ذكر الله وجلت قلوبهم، يحبون القراءة في المصحف، شعارهم قيام الليل، قال ﷺ: إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين وأفصحها بضم الراء رُفقة بالقرآن حين يدخلون بالليل، إذا دخلوا إلى بيوتهم من المسجد، أو من شغل خارج البيت إذا دخلوا يعرفهم بأصواتهم بالقرآن: وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم بالنهار [رواه البخاري: 4232].
وهذا في فضل الأشعريين.
هذه الأوساط إذا أذن المؤذن، أوقفوا أعمالهم، وأنهوا ما لديهم، وهرعوا إلى الصلاة.
إن بقاء الإنسان فيها لا شك أن فيه تربية لنفسه على العبادة، أما أن يكونوا من المتخلفين عن صلاة الجماعة، ولو كانوا دعاة، فإنها نقيصة، وعيب من العيوب.

ترتيب أوقات العبادة

00:58:43

ومن الأمور كذلك: أنه لا بد من وجود أوقات للعبادة والأذكار في اليوم، لا تُشغل بأي شيء آخر، ولا تزاحم، ولا يصلح الاعتذار بأعمال الدعوة، وإنكار المنكر، وطلب العلم عن هذه الأوقات، والنصيب الذي يجعله الإنسان لنفسه من العبادة، ولا يصلح أن نزاحم الأذكار والنوافل بأعمال أخرى هي من العبادة، لكنها تؤدي إلى إسقاط الأذكار والنوافل بالكلية.
نعم قد يطرأ على الإنسان في بعض الأحيان شيء يشغله عن أذكار ما بعد الصلوات، أو أذكار النوم، أو يفوته شيء من قيام الليل، لكن أنه يشتغل بأشغال ولو كانت من باب الدعوة أو القراءة، بحيث إنها تشغله دائماً عن النوافل والعبادات والأذكار، دا