الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أهمية التعاون على الخير وفوائده
فإن من الأمور المهمة التي ينبغي للمسلم أن يربي نفسه عليها: المشاركة في الخير، والتعاون على البر والتقوى.
إن داء الفردية والسلبية الذي ابتلي به كثير من المسلمين؛ قعد بهم عن العمل للدين، وأفشل كثيرًا من الأمور التي ينبغي القيام بها شرعًا.
ومبدأ الإعانة على الخير، والمشاركة فيه؛ ذكره الله في كتابه، وأمر به بقوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة : 2].
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: "هو أن تعمل به، وتدعو إليه، وتعين فيه، وتدل عليه" [حلية الأولياء: 7/284].
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة: 2]، قال: "هو أن تعمل به: وتدعو إليه، وتعين فيه، وتدل عليه".
وهذه عبارة بليغة جامعة من هذا الرجل، من السلف، من العلماء المحدثين في تفسير هذه الآية.
وكذلك قال العلامة محمد بن أبي بكر، المعروف بابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه الذي سيره من تبوك في الثامن من محرم، سنة: 733 للهجرة، قال: "وبعد: فإن الله يقول في كتابه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2].
وقد اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، فيما بينهم بعضهم لبعض، وفيما بينهم وبين ربهم، قال: فأما ما بينه وبين الخلق، ومن المعاشرة والمعاونة والصحبة، فالواجب عليه أي على المسلم، فيها أن يكون اجتماعه بهم، وصحبته لهم تعاونًا على مرضات الله، وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه، ولا سعادة إلا بها، وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله" [الرسالة التبوكية لابن القيم: 1/6].
والتعاون على البر بر، والله قد أمر بهذا في كتابه الكريم، فلا بدّ للمسلم من أن يحقق أمر الله .
إن هناك فوائد متعددة وكثيرة في مسألة: التعاون على البر والتقوى، والمشاركة في الخير.
وكل إنسان يريد أن يربي نفسه، وأن يرتقي بنفسه لا بدّ أن يؤصل في نفسه هذا المعنى، وأن يحملها على هذا المبدأ الإسلامي الأصيل: المشاركة في الخير، والتعاون على البر والتقوى.
لماذا؟
أولاً: لأن الله أمر بذلك.
وثانيًا: لما في هذا الأمر القيام به من الأجر المضاعف، قال ابن القيم رحمه الله في كتاب: الروح: "فإن العبد بإيمانه، وطاعته لله ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله، كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله، فإن المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها، كالصلاة في جماعة، فإن كل واحد تضاعف صلاته إلى سبعة وعشرين ضعفًا؛ لمشاركة غيره له، مجرد اشتراك المسلمين مع بعض في عمل يضاعف الأجر، لو صلى وحده أجر معلوم، لما اشترك مع إخوانه في الصلاة، كلهم استفادوا، كل واحد سبعة وعشرين درجة، أو خمسة وعشرين درجة، بحسب أحوالهم.
فانظر يا أخي، كيف أن المشاركة في البر والخير قد رفعت درجاتهم جميعًا، الكل استفاد، الجماعة فيها بركة، وقد قال ﷺ: البركة في ثلاث: في الجماعة، والثريد، والسحور [معجم الطبراني الكبير: 6127، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1045].
قال رحمه الله: وكذلك اشتراكهم في الجهاد، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، ومعلوم أن هذا في أمور الدين، وهي أولى به من أمور الدنيا.
هذا يعلق على حديث: المؤمن للمؤمن كالبنيان [رواه البخاري: 2446، ومسلم: 2585].
فدخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام، مجرد الدخول في الإسلام، ويكون فردًا مع بقية المسلمين في الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه، في حياته، وبعد مماته" [الروح: 1/128].
ألا ترى أن كل مصلي يقول في صلاته: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين [رواه البخاري: 1202، ومسلم: 402].
وأن هناك أذكار عديدة فيها دعاء من المسلم الذاكر لكل المسلمين.
فإذًا كل أحد يدخل في الإسلام تصيبه دعوة كل المسلمين السابقين واللاحقين، لو واحد مسلم في عهد الصحابة قال: ربنا اغفر لنا: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِين [نوح: 28].
نوح قالها، لما تؤمن تدخل في الدعوة أي واحد يدعو بدعاء لعموم المسلمين أنت تدخل فيه، هذه بركة الإسلام والإيمان، الانضمام إلى هذا الكيان، وهذه الوحدة، وهذا المنهج، وهذا الطريق.
قال: "ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم، وقد أخبر الله -سبحانه- عن حملة العرش ومن حوله: أنهم يستغفرون للمؤمنين، ويدعون لهم، وأخبر عن دعاء رسله، واستغفارهم للمؤمنين، كنوح، وإبراهيم، ومحمد ﷺ" [الروح: 1/ 128].
لماذا نتكلم عن موضوع المشاركة في الخير، والتعاون على البر والتقوى؟
لأن الله أمر به، ولما في ذلك من الأجر العظيم، والفضل الكبير.
وكذلك، فإن التعاون والمشاركة يشيع في نفوس المسلمين المتعاونين المتكاتفين روح الألفة والمحبة، ويجعلهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
أسباب التعاون على الخير
ثم يا إخوان، هناك قضايا كثيرة لا يمكن القيام بها على الطريقة الفردية، أنت ممكن تقوم الليل وحدك، وهذا هو الأصل، ولا يشرع الاجتماع إلا في رمضان، لكن الجهاد، وصلاة الجماعة، إزالة عدد من المنكرات، وتعليم العلم وتعلمه، في عدة جوانب لا بدّ فيه من مشاركة، لا بدّ فيه من اجتماع، كما نجتمع نحن الآن في هذه الدورة، درستم من الفقه والأمور الشرعية ما اشتركتم به في هذه القضية، ولذلك في بركة في الاجتماع للتعلم.
هناك أمور ما تتم على المستوى الفردي لا بدّ فيها من روح جماعية، روح الفريق من التعاون، ومن طبيعة الفرد، وهذا كلام نقوله لكل واحد عنده نزعة فردية، وعنده نوع من الحب: الأنا، والذات، الذي يمنعه من المشاركة، يريد أن يعمل وحده، ويأنف من الاشتراك مع إخوانه، هذا حال بعض الشخصيات توجد فيها النزعة الفردية القاتلة البغيضة.
هل يمكن أن تغير العالم وحدك؟
لا يمكن.
أحيانًا أعمال من الخير في المدرسة، في الدائرة، في الوظيفة، لا تستطيع أن تفعل وحدك كل شيء، لا بدّ من مجهود مشترك.
ثم من طبيعة الفرد النقص، والإنسان ظلوم جهول، ومحدود الطاقة والإنتاج، فيحتاج إلى معاونة إخوانه في تكميل الجهد، المرء ضعيف بنفسه، قوي بإخوانه، وهناك أحيانًا بعض الحالات إذا عجز فيها الفرد أكملها فرد آخر، وكان للفرد الأول أجر البدء، ومساعدة غيره، ومن بعده في إكمال المشوار.
روى مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن أنس بن مالك: أن فتى من أسلم قال: يا رسول الله، إني أريد الغزو، وليس معي ما أتجهز به؟ قال: اذهب إلى فلان الأنصاري فإنه كان قد تجهز فمرض، فقل له: إن رسول الله ﷺ يقرئك السلام، وقل له: ادفع إلي ما تجهزت به، فأتاه، فقال: أنت مرضت ما عد عندك قدرة على الخروج، أنا أكمل المشوار، وعدتك التي جمعتها أنا سأقاتل بها، فقال هذا المريض لزوجته: يا فلانة، أعطه الذي تجهزت به، ولا تحبسي منه شيئًا، فوالله لا تحبسي منه شيئًا فيبارك الله فيه" [رواه مسلم: 1894].
سبب آخر للمشاركة والتعاون: وضع المسلمين اليوم في الذلة والضعف، لا يمكن انتشالهم مما هم فيه، وتغيير هذا الحال، إلا بعمل جبار وضخم، يشترك فيه أعداداً كبيرة جداً من المسلمين؛ لكي يتغير هذا الوضع، وننتقل إلى مستوى أعلى، ونخرج من هذا الذل الذي نعيش فيه، وتيارات الكفر متعاونة، محيطة، وموجهة على المسلمين، والله قال في كتابه في تعاون الكفار بعضهم مع بعض: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال: 73].
هذه تستثير الحمية في نفس المسلم، إذا عرف أن الكفار أعداء الله، أعداء الدين أولياء: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ فكيف لا يجب أن يكون المسلم مع المسلم؟
ثم إن الاشتراك في الخير والبعد عن الفردية: يبعدك عن الخطأ أكثر، وعن الانحراف والشطط، والله لما أمر بالعمل الذي فيه مشاركة بقوله: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر [العصر: 3] وصف به المؤمنين، وأخبر عنهم، خبر معناه الأمر: أي تواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.
وكذلك، فإن المسلم إذا اشتدت الجاهلية يحتاج إلى قوة إضافية، وسند ومدد، وموسى لما بعثه الله لمقاومة دولة فرعون كلها، ماذا طلب؟
طلب عونًا: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه: 29 - 32].
إذًا، الجهد كبير يحتاج إلى مشاركة.
والذي عرف حال المسلمين وما هم فيه الآن، يعرف أهمية المشاركة، فيبتعد عن قضية الاعتزال، والسلبية، والفردية التي كثيرًا ما تورد الأخطاء والمهالك.
وكذلك -أيها الإخوة- فإن الله يحب القائمين بالأعمال، يجتمعون على الخير: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتباذلين فيّ، والمتزاورين فيّ [المستدك للحاكم: 7314، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 2581].
يقومون مع بعض بعمل واحد.
وكذلك: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: 4].
والإعانة من الأعمال التي تكون صدقة لصاحبها، كما قال عليه الصلاة والسلام في أنواع الصدقات: تعين صانعًا، وتصنع لأخرق [رواه البخاري: 2382، ومسلم: 84].
تعين صانعًا، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه [رواه مسلم: 2699].
والله يهب البركة لهؤلاء المتعاونين.
وسائل التعاون على الخير ومجالاته
ووسائل المعاونة أيها الإخوة، متعددة، فمن المعاونة: ما يكون بالجاه، ومنها: ما يكون بالبدن، ومنها: ما يكون بالنفس، ومنها: ما يكون بالمال.
حتى التفكير يمكن الإنسان أن يعاون بتفكيره، ويشارك برأيه، وكثيرًا ما تكون الآراء الصائبة في غاية الأهمية، بل قد يكون الرأي الصائب أحيانًا أهم من الجهد المبذول، الجهد العضلي، أو الجهد الجسماني.
وهناك عدة مجالات للتعاون قد وردت في السنة النبوية، لتأصل هذه المفهوم من الناحية الشرعية؛ فمثلاً:
التناصح:
المؤمن مرآة أخيه [رواه البخاري في الأدب المفرد: 238، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 106].
لا يتم إلا بالتعاون من الأخ لأخيه.
وسبق قصة سلمان مع أبي الدرداء.
طلب العلم، والتفقه في الدين:
ونعرف قصة عمر مع جاره من الأنصار، لما كان ينزل هذا يومًا، ويعمل الآخر، وينزل ذاك اليوم الآخر، ويعمل الأول، للجمع بين مصلحتي الدين والدنيا.
هذا تعاون نجحا بسببه هذان الرجلان في الجمع بين مصلحتي الدين والدنيا، ولولا التعاون ستفشل، إما أن يزرع ويشتغل، وإما أن يذهب ويتعلم، فتفوته إحدى المصلحتين.
التعاون في الدعوة إلى الله عزوجل
وقد قال ابن كثير رحمه الله تعالى في "البداية والنهاية" تعليقًا على قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ[الصف: 14] قال: "ثم حرض تعالى عباده المؤمنين على نصرة الإسلام وأهله، ونصرة نبيه، ومؤزرته ومعاونته على إقامة الدين، ونشر الدعوة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه [الصف: 14].
قال ابن كثير: "أي من يساعدني في الدعوة إلى الله؟ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّه [الصف: 14]، [البداية والنهاية: 2/101].
إذًا تعاون المسلم مع أخيه في الدعوة يشد من عضده: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص: 35].
وقال ورقة بن نوفل للنبي ﷺ: "وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا" [رواه البخاري: 3، ومسلم: 252].
هو يعرف أنه لا بدّ من أن يقوم بالنصرة، ويشارك في الدعوة، والدفاع عن النبي ﷺ.
التعاون في الدلالة على الحق، والدلالة على الخير
وكذلك، فإن من مجالات التعاون: التعاون في الدلالة على الحق، والدلالة على الخير، فواحد تختطر بباله فكرة لمصلحة أخيه المسلم الآخر، فيخبره بها، فيدله على الخير، فيؤجر على ذلك، كما روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه تحت عنوان في كتاب: "الإمارة"، وعنون عليه: "باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافة أهله بخير" فالحديث عظيم، قال أبو مسعود الأنصاري: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: إني أبدع بي، يعني هلكت دابتي، فاحملني، فقال: ما عندي أي لا يوجد ما أحملك عليه، فقال رجل: يا رسول الله، أنا أدله على من يحمله؟ -الآن هذا رجل ما عنده لكن عنده رأي، عنده فكرة- قال: أنا أدله على من يحمله، فقال رسول الله ﷺ: من دل على خير فله مثل أجر فاعله [رواه مسلم: 1893].
سليمان دله الهدهد على قوم سبأ، فكانت هذه الدلالة سبب في دخول الإسلام في بلد كبير، وجاء أهله ودخلوا في دين الله أفواجًا.
التعاون في النصرة على الحق
انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا [البخاري: 2444]. والرسول ﷺ أمره بنصرة المظلوم، وهو فرض كفاية، وحتى الإنسان لو أنه وجد معتديًا يريد أخذ ماله، قال ﷺ: استعن بمن حولك من المسلمين [سنن النسائي: 4081، وصححه الألباني في أحكام الجنائز: 41]. فهم يعينونك في الدفاع عن مالك، وانقاذك من الظلم.
التعاون في بناء المساجد
والبخاري رحمه الله عنون: "باب التعاون في بناء المسجد"، وروى حديث: يا بني نجار ثمانوني بحائطتكم؟ قال: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، قال أنس: "فكان فيه ما أقول لكم قبور المشركين، وفيه خرب، أبنية متهدمة، وفيه نخل، فأمر النبي ﷺ بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت، وبالنخل فقطعت" كل هذا من الذي فعله وقام به؟ مجهود جماعي، مشاركة معاونة في الخير، فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة، وجعلوا ينقلوا الصخر، وهم يرتجزون والنبي ﷺ معهم، وهو يقول: اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة [رواه البخاري: 428].
وعمار -كما قال أبو سعيد- "كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين".
إذًا المجهود الجماعي هذا، والعمل المشترك كلما زاد فيه الفرد بالمشاركة، زاد أجره.
والنبي ﷺ لما رأى عمارا يحمل لبنتين لبنتين، أكبر ذلك فيه، ونفض التراب عنه، وقال: ويح عمار وهذه: ويح طبعًا غير: "ويل" ويح كلمة للتوجع، فيها إظهار الشعور بالرحمة بهذا الشخص، أما: "ويل" فهي كلمة تهديد ووعيد، قال: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار قال عمار: أعوذ بالله من الفتن" [رواه البخاري: 447].
ومن المساجد التي بنيت وذكرت في كتب التاريخ كما ذكر صاحب "فتوح البلدان" في وصف مسجد الكوفة، لما بني على أربعة أساطين ضخمة، لم يحدث فيها خلل ولا عيب، وأمر بها "زياد" فقال:
بنى "زياد" لذكر الله مصنعة | من الحجارة لم تعمل من الطين |
لولا تعاون أيدي الإنس ترفعها | إذًا لقلنا من أعمال الشياطين |
[معجم البلدان لياقوت الحموي: 1/312].
التعاون على العبادة في الليل:
العبادات، حتى قيام الليل الذي هو عمل فردي، ممكن أن يكون فيه تعاون من جهة: إيقاظ بعضهم بعضًا، وأهل البيت الواحد كانوا يتوزعون الليل بحسب عددهم، في حالات وردت في حياة السلف، كما قال صاحب "حلية الأولياء": "كان الحسن بن صالح، وأخوه علي يقرأان القرآن وأمهما، يتعاونون على العبادة في الليل، فلما ماتت أمهما تعاونا على القيام والصيام عنهما وعن أمهما، فلما مات علي قام الحسن عن نفسه وعنهما، وكان يقال له: حية الوادي؛ لأنه لم يكن ينام الليل، أو لم يكن ينام منه إلا قليلاً" [حلية الأولياء: 3/310].
أبو هريرة هو وامرأته وخادمه ثلاثة، يقوم أول واحد ثلث الليل، ثم يوقظ الثاني، فيقوم الثلث الثاني، فيوقظ الثالث، فيقوم الثلث الثالث [تذكرة الحفاظ وذيوله: 1/31].
تعاون كل واحد، يوقظ الآخر.
التعاون على طلب العلم
وكذلك، طلبة العلم يتعاونون فيما بينهم في حضور الدروس، مثل هذه الدورة التي أنتم فيها، لو قيل لكل واحد منكم وحده: خذ شريطا واسمعه في بيتك وحدك، أو اقرأ الكتاب هذا وحدك، مدة ساعتين بعد الفجر، قليل الذين سيفعلون ذلك، هذا نعرفه من أنفسنا، لكن عندما يقال: اجتماع للعلم أو دورة يجتمع فيها طلبة العلم، كل واحد شجع الآخر، وعندما يكثر الحضور كل واحد، يقول: أنا واحد من هذه المجموعة، ينبغي أن أتحمل وأجلس وأصابر.
لو كان وحده، كان قال: نأخذ رقدة، نأخذ راحة، يذهب لشيء من طعام، أو كلام، مع واحد، صوارف.
اجتمعوا فانقطعوا للمهمة، كان هذه الاجتماع والجلوس تعاونًا منهم على طلب العلم، كل واحد يشارك الآخر.
فكانت هذه المشاركة تشجيعًا من بعضهم لبعض.
التعاون في تأليف الكتب
من مجالات التعاون: تعاون في تأليف الكتب: وقد جاء في ترجمة الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي رحمه الله "أنه ولع بتخريج أحاديث: "الإحياء"، ورافق الزيلعي الحنفي في تخريجه أحاديث "الكشاف"، وأحاديث: "الهداية"، فكانا يتعاونان" انتهى [طبقات الشافعية: 4/30].
تعاون العراقي مع الزيلعي في تخريج أحاديث: "الكشاف"، وأحاديث: "الهداية"، والعراقي خرج أحاديث: "الإحياء"، كان كل واحد يدل الآخر على مواضع حديث، ويبحث له، ويبحث الآخر مجالات التعاون، فاستفدنا من العملية هذه: تخريج ثلاثة كتب، حتى صارت هذه الثلاثة من أهم كتب التخاريج لطلاب الحديث.
التعاون في الجهاد في سبيل الله
أما التعاون في الجهاد في سبيل الله، فهذا أمر أوضح من أن يذكر.
ومعلوم ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من التعاون، ويكفي مثالا حفر الخندق، كيف النبي ﷺ وزع المهمة، وجعل لكل مسافة عدد من الأشخاص، وحفر بمواصفات معينة في العمق والعرض، وحفروه في أسبوع.
مع أن قطعة من نفس المنطقة، تكسرت فيها آلات المقاولين، حتى جاء مقاول عملها في شهر، في رصف طريق، تعبيد طريق.
فشتان بين تعاون المؤمنين الذين يؤيدهم الرب وهم ينصرون دينه، وبين عمل ناس من أهل الدنيا، أو ناس كفرة في شيء دنيوي.
فتجد البركة والإعانة من الله في الأمور التي يقصد بها وجه الله، وينصر بها دينه.
تجد العون عظيم من رب العزة، فيكون الإنجاز كبيرًا، فتح المسلمون بلادا بالتعاون، حاصروا بلدانا، وكانوا يشتركون في وضع الخطط، ولما حاصروا مثلاً مدينة دمشق، وكان لها سور، رقى جماعة من المسلمين إلى أعلى السور، ونزلوا إلى الباب، فتعاونوا عليه، وقاتلوا من عنده، وفتحوه.
وكذلك اجتمعوا وتعاونوا في قتال مدعي النبوة.
وجاء في ترجمة: "زياد بن حنظلة التميمي": أنه تعاون مع "قيس بن عاصم" و"الزبرقان بن بدر" على "مسيلمة"، وطليحة"، و"الأسود"، و"سعيد بن البارد"، ترجمته في: "الإصابة" [الإصابة في تمييز الصحابة: 2/583].
أحد الخمسة الذين كتب لهم أبو بكر الصديق، بمعاونة "فيروز" على "الأسود العنسي"، أنجزت مهمات اغتيال أشخاص، مثل القصة التي حدثت للصحابي الذي أرسله النبي ﷺ لقتل اليهودي الذي كان يؤلف، أو يقول الشعر في سب النبي ﷺ، فأخذ رأسه فشمه، ثم أشم أصحابه، وهذه خطة كانت موضوعة سلفًا، فلما استمكنوا منه قتلوه [رواه البخاري: 3811].
نفذت مهمات، ونُصر الدين، وقامت جيوش، وفتحت بلدان، وانتصر المسلمون على الأعداء، ب"التعاون".
وفي إنكار المنكر -ولا شك- تعاون عظيم.
تعاون الزوجين على العبادة
ومن مجالات التعاون أيضًا: تعاون الزوجين على العبادة: وليس المقصود دائمًا في الجيوش، وإنما حتى على مستوى اثنين وثلاثة، تعاون في مهمات، تعاون الزوجين على العبادة، والرسول ﷺ أوصى المسلم بأن يتخذ زوجة تعينه على أمر الآخرة.
هناك إعانة من الطرفين لبعضهما البعض.
أهمية العمل الجماعي
فينبغي أن نوقن بأهمية هذا الموضوع، وأن نسعى في تحقيقه، وأن يكون هناك تطبيق عملي لهذا المبدأ الإسلامي العظيم، ولو قلت: الآن العمل عمل المشاريع، العمل الجماعي هو العمل الناجح في الغالب، نظرًا لضخامة المهمات، وتعقد الحياة، طبيعة الحياة الموجودة طبيعة معقدة، وإذا أردت أن نقول: نريد مشروعًا لكفالة أيتام، نريد مشروعًا لدلالة الشباب في الزواج، أو لإعانتهم، نريد مشروعًا لنشر العلم.
واحد يقول: هذا شيء غير عادي، ولا يكاد يوجد، فالوقت وقت العمل الجماعي، حتى الكفرة الكفار تجدهم في أعمالهم متعاونين، والشركات التجارية تدخل في عمليات اندماج ضخمة، لماذا؟
ليكون لها الهيمنة والقوة.
يعرفون أن الاندماج يولد مزيدا من الهيمنة والقوة.
وما هو الاندماج؟
وحدة جماعية، لهدف مشترك، عمل مجموعة، حتى على الصعيد التجاري الغربيون ما عادوا يؤمنون بقضية التاجر الذي يفتح دكان يعمل وحده.
الآن هذا المبدأ تقريبًا ذهب، فالقضية قضية أعمال كبيرة ضخمة، لتهيمن وتسيطر، الآن تحالفات عند الكفار، لماذا؟
تتحد دول ألمانيا الشرقية والغربية؟ لتؤلف دولة عظمى.
إذا نحن كنا نرى الكفار بهذه العقلية يهيمنون ويسيطرون، والمبدأ أصله مبدأ إسلامي: قضية التعاون المشاركة.
فبعد ذلك يقول واحد: أنا أشتغل وحدي، أنا أعمل وحدي، ما أحتاج إلى أحد، منهم من يقولها كبرًا، ومنهم من يقولها غرورًا، ومنهم من يقولها اعتداد بنفسه اعتداد ليس له حقيقة من جهة الإنتاج والثمرة.
ثم الأعمال الفردية أعمال ضعيفة، أعمال هشة، لا تصمد أمام الشر الكثير المتعاظم الذي يتعاون أهله على المسلمين، فكيف نحن نواجه هذه الأشياء بأمور فردية؟
فلذلك يا إخوان، لا بدّ من إرغام النفس على الدخول في هذا العمل، وحملها على المشاركة.
والإنسان إذا رأى المنجزات كيف تحدث بالاشتراك يتشجع، وتعرفون قصة ذي القرنين: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ [الكهف: 93 - 94].
اشتكوا إليه: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ [الكهف: 94].
وعرضوا عليه مالاً: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا [الكهف: 94 - 95].
واستطاع بعقليته المنظمة، وهذا المستوى الرفيع من التفكير الذي آتاه الله إياه: أن يجعل من أمة متخلفة مقهورة شعبًا منتجًا، في إنجاز سد يبقيه الله إلى قيام الساعة: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا [الكهف: 95 - 96].
عمل جماعي، مشاركة: قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [الكهف: 96].
نحاس مذاب على حديد يطلع سبيكة محصنة لا يمكن اختراقها إلا بعد الجهد الجهيد الذي سيبذله يأجوج ومأجوج: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف: 97 - 98].
تأمل كيف أن الاشتراك أنجز هذا السد الذي بقي هذه الفترة الطويلة؟
أو الشخص قد يعرض له شدة، يقع لكل واحد من الناس شدة، شدائد تصيب الإنسان، أو الأشخاص في العيش، كانت مواجهة الأزمات في العصر الأول، والوقت وقت النبي ﷺ يتم أيضاً بالمشاركة الجماعية، والنبي ﷺ قال: إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة سواء كان في الغزو أو في البلد: جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد، بالسوية، أثنى عليهم في هذا المبدأ، وهذا التعاون: فهم مني وأنا منهم [رواه البخاري: 2486].
إذًا، المساواة كانت نتيجة اشتراك المجموعة، كل واحد يضع ما عنده، ثم يقسم على الجميع.
والإشارة من شخص صادق بالأمر الخير يوجه الإنسان نحو الخير: من ولي منكم عملاً فأراد الله به خيرًا جعل له وزيرًا صالحًا، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه [سنن النسائي الكبرى: 7827، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 489].
ضرورة التعاون على الخير
لا بدّ أن نفهم أيها الإخوة، جيدًا: أن أصحاب المسؤوليات لا بدّ أن يتعاونوا فيما بينهم، فأحيانًا يستلم شخصًا مهمة، ويستلم آخر مهمة، وثالث مهمة، لا بدّ أن يكون هناك تعاون، تنسيق، اجتماع، تبادل آراء، تبادل خبرات، إعادة دراسة للوضع، تعديل في الخطة، الرسول ﷺ بعث أبا موسى ومعاذًا إلى اليمن، فقال: يسرا ولا تعسرا، وبشرا، ولا تنفرا، وتطاوعا فانطلقا، فقال معاذ لأبي موسى: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائمًا، وقاعدًا، وعلى راحلتي، وأتفوقه تفوقًا، قال: أما أنا فأنام وأقوم، فاحتسب نومتي كما احتسب قومتي، وضرب فسطاطًا، وجعلوا يتزاورون، ربما يتجه هذا إلى جهة من اليمن، وهذا إلى جهة أخرى من اليمن، واليمن كبيرة، ثم يجتمعان مرة أخرى في مكان محدد، متفق عليه، يتزاوران ويطبقان الوصية النبوية: وتطاوعا فزار معاذ أبا موسى، فإذا رجل موثق، فقال: ما هذا؟ فقال أبو موسى: يهودي أسلم ثم ارتد، فقال معاذ: لأضربن عنقه، ولم ينزل معاذ حتى ضربت عنق المرتد. [رواه البخاري: 4086، ومسلم: 1733].
وكان معاذ عالمًاً فقيهًا، يأتي يوم القيامة يتقدم العلماء برتوة [الحاكم في المستدرك: 5170، وصححه الألباني صحيح الجامع الصغير وزياداته: 5880]، رمية، مسافة الرمية.
وهكذا تعاون هذا الرجلان في الإشراف على الدعوة في اليمن، فنشر الله الإسلام في اليمن باثنين تعاونا على الخير والحق، واحد يسدد الآخر، ويخبره بالحكم الشرعي، لا بد يقتل الآن، وينفذ الحكم الشرعي.
وقد عقد الله بين المهاجرين والأنصار عقد الأخوة على يد نبيه ﷺ، فصارت عملية بناء ضخمة، وأُنشئ المجتمع الإسلامي الأول في المدينة بهذا التعاون الكبير بين المهاجرين والأنصار.
الأسس الشرعية للتعاون
أيها الإخوة: لا بد أن يكون التعاون قائمًا على أسس شرعية، يكون قائمًا على: الإخلاص لله تعالى، لا بدّ أن يكون قائمًا: على فقه وعلم، وإلا يمكن يتعاون جهلة على عمل يفسدون فيه ولا يصلحون، لا بدّ أن يكون تعاونًا على الحق، وليس على ظلم، ولا على معصية: من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي فهو ينزع بذنبه سقطت في بئر [رواه أبو داود: 5119]، بإسناد صحيح، كما حققه العلامة الألباني رحمه الله [صحيح الجامع الصغير: 2251].
البعير سقط في البئر، ووقع فيها، فصار يجر بذنبه، ولا يقدر على الخلاص، مثال على السوء الذي يبلغه الشخص الذي يعين على غير الحق، لا بدّ أن يكون التعاون على شيء شرعي، الناس في هذا الوقت يتعاونون في شفاعات غير شرعية، تسقط حقوقًا لمظلومين، أو تجلب أشياء لا يستحقها المشفوع لهم.
إن التعاون يجب أن يشمل الجنسين الرجال والنساء، وكان بعض النساء يقدمن العون، حتى في مجال الجهاد في سبيل الله بالشروط الشرعية، وقالت امرأة، أو قالت نسوة: يا رسول الله، أردنا أن نخرج معاك، نداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا؟ [كنز العمال: 11588].
فهذا دور قامت به بعض النسوة في الجهاد.
وذكر ابن حجر شروط التمريض في شرح حديث المرأة المسلمة التي خرجت لمداواة الجرحى، وعائشة ومن معها كن ينقلن قرب الماء.
فالمقصود: أن التعاون يشمل طبقات المجتمع الإسلامي، وأجناسه ذكورًا وإناثًا.
حتى كان هناك مجالات لتعاون الأطفال في المجتمع الإسلامي، كان للطفل المسلم في المجتمع دور يؤديه، وزيد بن أرقم على أنه غلام كان يفهم أنه لما سمع الخبر المنكر أنه يجب أن ينقله، ولذلك ذهب وبلغ، ما اعتبر القضية عارضة، وخبر لا دخل له فيه، لا يفهم عنده وعي أن هذا كلام خطير، فعنده وعي يصل إلى درجة أنه ينقله، ويثني الرسول ﷺ عليه بعد أن أنزل الله تصديقه من فوق سبع سماوات [رواه البخاري: 4617].
التعاون بين الآباء والأبناء في البيت الواحد
هناك تعاون بين الآباء والأبناء أيضاً، يجب أن يكون في البيت الواحد، وضرب لنا إبراهيم وإسماعيل المثل، قال إبراهيم: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني، قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن ابني ها هنا بيتًا، وأشار إلى أكمة مرتفعة، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة : 127] فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [رواه البخاري: 3364].
تعاون بين الجيران أحيانًا، يكون هناك درس في الحي، بعض النساء تكون مثلاً معذورة في الصلاة، وهناك درس في المسجد، فتمسك أطفال النساء الأخريات ليتمكن من حضور الدرس، وهي ترعى أطفالهن حتى يعدن، نوع من التعاون، أمساك الأطفال يمكن واحد يظن أنه عمل تافه، كيف هذه المرأة تعين أختها في الله على طلب العلم، بأن ترعى أولادها لها حتى ترجع؟!
والغازي في سبيل الله إذا خلفه واحد بخير في أهله، وكذلك الذي خرج لطلب العلم، فله أجر عظيم من أعانه وخلفه بخير.
ومن النقاط أيضاً في هذا الموضوع: أننا ينبغي أن نقاوم المتعاونين على الشر، ونفسد عملهم، ونمنعهم ما استطعنا، وكتب أحد أهل العلم أبياتًا يشكو فيها عاملاً عاون أشخاصا على بناء معبد للكفار في عقبرى، فقال:
أردتكم حصنًا حصينًا لتدفعوا | نبال العدا عني فكنت لصالها |
فياليتها إذ لم تحفظوا لي مودتي | وقفتم فكنتم لا عليها ولا لها |
فيا سيف دين الله لا تنب عن هدى | ودولة آل هاشم وكمالها |
أعيذك بالرحمن أن تنصر الهوى | فتلك لعمري عثرة لن تقالها |
أفي حكم حق الشكر إن شاؤوا | بيعة النصارى لتتلو كفرها وضلالها |
يشيد موذين الدمشقي بيعة | بأرضك تبنيها له لينالها |
وينفق فيها مال حران والرها | وتفتيحها قسرًا وتسبى رجالها |
وترغم أنف المسلمين بأسرهم | وتلزمهم شنآنها ووبالها |
أبى ذاك ما تتلوه في كل سورة | فتعرف منها حرامها وحلالها |
ويركب في أسواقنا متبخترًا | بأعلاج روم قد أطالت سبالها |
فخذ ماله واقتله واستصف حاله | بذا أمر اللَّه الكريم وقالها |
ولا تسمعن قول الشهود | فإنهم طغاة بغاة يكذبون مقالها |
ويوفون دنياهم بإتلاف دينهم | ليرضوك حتى يحفظا منك مالها |
[طبقات الحنابلة: 1/442].
فهذا يستفزع بوالي المسلمين على هدم ما عاون ذلك الظالم الكفرة على إنشائه.
شروط التعاون على الخير
مسألة التعاون أيها الإخوة، مسألة كبيرة تحتاج إلى تحقيق شروط النجاح فيها، ولذلك لا بدّ أن نفكر مليًا في مسألة: ما هي شروط نجاح العمل المشترك؟
نحن الآن قررنا قضية التعاون، وأكدنا عليها، وأخذنا الأمثلة، وعرضنا المجالات، لكن ينبغي أيضًا أن نفكر جيداً في هذا الأخ المسلم الذي اقتنع بأهمية التعاون، ووجوب المشاركة، وأن هذا حتم لا بدّ أن يكون في كل الأعمال الخيرية، في أعمال البر والتقوى، فإذا صارت القناعة موجودة عندنا، سنتوجه بعد ذلك لقضية إنشاء أعمال البر والخير، لكن هذا الإنشاء تعوقه عوائق، أحيانًا تحدث فيه مشكلات، كما يعاني ذلك بعض الدعاة وهم يتعاونون في الدعوة، أو الذين يتعاونون في التربية، ومجالات التربية، أو في حلق العلم، وإقامتها، تحدث مشكلات، فما هي شروط نجاح العمل المشترك؟
أولاً: يجب أن يتوفر صدق النية؛ لأن الشخص لو دخل في العمل المشترك ونيته فيها دغل، وفيها فساد، يخرب على غيره، وربما يهزم الجمع بأشخاص من أصحاب النوايا الخبيثة المندسين، يكونون وبالاً: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَال [التوبة: 47].
فمن المهم عندما تكون هناك مشاركة أن يتوفر صدق النية، وإذا عرفنا أشخاصا نواياهم سيئة، فينصحون، ويوعظون، استجابوا ما استجابوا، يبعدون، هذه المسألة لا بدّ، إذا كان واحد داخل يريد عرضًا من الدنيا، ممكن يفسد العمل الخيري، ممكن يسرقه، ينهبه، يوجهه في وجهة سيئة، يدهوره، وهذا حصل، في حالات متعددة، حصل.
ثانياً: وحدة الهدف، إذا اتفقنا على أن نقيم مثلاً درسا، اتفقنا مثلاً أن نتعاون في طلب العلم، ماذا سنفعل؟ نقيم درسًا.
إذًا الهدف هو: إقامة درس، نتوحد إذًا نعمل لأجل هذا الهدف، ثم ندخل في قضية التفاصيل، وما هو موضوع الدرس؟ وأين يقام؟ ومتى يقام؟ من الذي سيتولاه؟ ما هي الكتب؟ ما دور الحاضرين؟ هل سيحفظون؟ هل سيحضرون الدرس؟ من يلقيه إلى آخره؟
ثالثًا: لا بدّ من معرفة دور كل شخص يساهم.
وهذه المسألة مبنية على القدرات، ومعرفة القدرات، فأنت كيف تعرف دور شخص إذا لم تعرف قدراته، ومعرفة دور كل شخص على أساس قدرات الأشخاص.
ورابعًا: توصيف المهمة لكل واحد. توصف المهمة التي يقوم بها، وكثير ما تنشأ مشكلات، ومصادمات، وتترتب شحناء وبغضاء، من عدم توصيف المهمة لكل شخص، فيظن هذا أن هذا من شأنه، والآخر يظن أن هذا من شأنه، وهذا يقول: أنت دخلت عليّ، وهذا يقول: دخلت عليّ.
فعندما توزع الأدوار، وتحدد الأدوار، وتوصف المهمات توصيفًا جيدًا يحدث النجاح.
لا بدّ أن يكون هناك أخلاق ضرورية لإنجاح العمل المشترك، فمثلاً: التواضع، إذا كانوا غير متواضعين لبعضهم لا ينجح العمل المشترك، مثلاً يتمسك كل واحد برأيه، ويرفض أن يتنازل عن رأيه لأخيه، مع أن القضية قد تكون متقاربة، لكن الكبر يسبب الإصرار على الرأي، وبالتالي يحدث التفرق.
مثلاً: قضية الائتلاف، وعدم التنازع، والله قال: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46].
لا بدّ أن يكون هناك ائتلاف، ولذلك أحيانًا لا بدّ من انتقاء الأشخاص للمهمات، قد يكون بينهم تقارب، محبة، تفاهم معين، يؤدي إلى إنجاح المشروع.
ثم من توابع الإخلاص: أن ينكر الإنسان ذاته في هذا العمل المشترك، ولا ينسب الفضل إلى نفسه، ولا يقول: عملت، وعملت، ويذكر منجزاته، وإنما هذا عمل الجميع، وجهد الجميع، وإنتاج الجميع، فينسب الفضل لله تعالى، ثم لإخوانه، للدعوة لمجتمع البر هذا الذي قام.
وهذه العملية تحتاج إلى مزيد من التفصيل، وقد يوجد حتى عند بعض الكفرة في بعض الجوانب الإدارية أشياء مهمة ينبغي الاطلاع عليها في مسألة إنجاح العمل المشترك: والحكمة ضالة المؤمن [رواه الترمذي: 2687، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي: 506].
فهذا أيها الإخوة، عرض لمبدأ مهم يجب أن يربي المسلم نفسه عليه: المشاركة في الخير، والمعاونة، ونبذ الفردية، والسلبية المقيتة.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى، وأن يرزقنا التمسك بالعروة الوثقى، وأن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين.