الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
مفهوم الرَّحمة
فحديثنا -أيُّها الإخوة- في هذه الليلة عن خلقٍ أصليٍّ تعود إليه أخلاقٌ كثيرةٌ، وهذا الخلق: هو خلق الرَّحمة، والرَّحمة من صفات الله تعالى، ويدلُّ على عظم هذه الصِّفة: كثرة اشتقاقاتها لأسماء الله وصفاته، فالله من أسمائه: أنه الرَّحمن الرَّحيم، ومن صفات الله : أنَّه أرحم الرَّاحمين، كما قال نبيُّ الله أيوب: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[الأنبياء:83]. ورحمته وسعت كُلَّ شيءٍ، وكذلك فإنَّ رحمته سبقت غضبه، ولذلك كان جبريل يأخذ من طين البحر يدسُّه في فم فرعون مخافةَ أن تدركه رحمة الله؛ لأنَّ رحمته تعالى واسعةٌ وجعل الله تعالى الجنَّة دار رحمته، وتفتح أبواب الرَّحمة في رمضان كما جاء في بعض ألفاظ الحديث، وكذلك فإنَّ رحمته تغشى أهل مجالس ذكره، نسأل الله أن يجعلنا ممن تغشاهم الرَّحمة، والله يتلقى برحمته كُلَّ مسيئٍ وتائب، كما جاء في حديث الرَّجل الذي حدَّثنا عنه النَّبيُّ ﷺ بقوله: أن رجلاً كان قبلكم رغسه الله مالاً فقال لبنيه لما حضر: أيُّ أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أبٍ، قال فإنِّي لم أعمل خيراً قط، فإذا متُّ فأحرقوني ثُمَّ اسحقوني ثُمَّ ذروني في يومٍ عاصف، ففعلوا وكان الرَّجل يظنُّ من جهله أنَّه إذا صار رماداً سينجو من العذاب ولا يقع عليه، ولكنَّه رجلٌ يخاف الله، وهذا هو الحامل على هذه الوصية لبنيه، ثُمَّ ذروني في يومٍ عاصف ففعلوا فجمعهم الله ، فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك فتلقَّاه برحمته[رواه البخاري3291]. رواه البخاري.
جعل الله الجنَّة دار رحمته، كما قال سبحانه للجنَّة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي[رواه البخاري4569]. رواه البخاري. وجعل الله للرَّحمة ملائكةً مختصين بها، كما جاء في قصَّة قاتل المائة لما نصحه العالم الصَّالح بالهجرة من بلده إلى بلد خير يعبد فيها الله، ويبدأ فيها حياةً جديدةً، فلمَّا نصف الطَّريق قبض الله روحه واختصمت فيه ملائكة الرَّحمة وملائكة العذاب، ثُمَّ كان الرُّجحان لرأي ملائكة الرَّحمة في النِّهاية، بعدما تداركه الله برحمته، فرحمة الله صفةٌ من صفاته، وصفات الله غير مخلوقة، ولكن الله خلق رحمةً غير الرَّحمة التي اتَّصف بها، فهذه الرَّحمة خلقها وجزَّأها مائة جزءٍ كما جاء في حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: جعل الله الرَّحمة مائة جزءٍ، فأمسك عنده تسعةً وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه[ رواه البخاري 5654]. رواه البخاري. وعن سلمان قال: قال رسول الله ﷺ: إنَّ الله خلق يوم خلق السَّماوات والأرض مائةَ رحمة كُلُّ رحمةٍ طباق ما بين السماء والأرض كُلُّ رحمةٍ من المائة حجمها تملأ ما بين السَّماء والأرضفجعل منها في الأرض رحمةً فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطَّير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرَّحمة[رواه مسلم 2753]. فهذه الرَّحمة التي خلقها الله هي التي توجد في قلوب عباده، وهو الخُلق العظيم الذي نتحدَّث عنه، والرَّحمة متوزِّعةٌ موجودةٌ في الأرض، وموجودةٌ في قلوب العباد المستقل منها والمستكثر، هذه خِلقةٌ وطبيعةٌ وغريزةٌ موجودةٌ في النَّفس البشرية، وموجودةٌ كذلك في البهائم والطَّير والوحش.
من آثار الرحمة: رقة القلب
إنَّ هذه الرَّحمة لها آثار، فمن آثارها: رقةُ القلب ومشاركة الغير آلامه وكذلك مسرَّاته، وهي منبع يفيض بالعطاء، وهذه الرَّحمة التي نشاهد بها الأم تحنو على طفلها الرَّضيع، وتستيقظ في الليل فتطعمه على حساب راحتها، هذه الرَّحمة ذات المراتب والدَّرجات التي نزلت في قلوب العباد، وكانت قلوب العباد لها كالآنية، ففيها رحمة قليلة أو كثيرة بحسب ما وهب الله ، تتجلَّى في أحيان دون أحيان، أو في أشخاص أكثر من أشخاص، كما تكون رحمة الأب للولد والأم للولد والزَّوج للزَّوجة والأخ لأخيه والصَّديق لصديقه والقريب لقريبه، وقد حرم الله منها أناساً، فصارت قلوبهم قاسيةً لا يحسون بشعور أحد، ولا يرحمون أحداً، فهم يؤذون ويقتلون ويقسون ويجرمون في الأرض.
وهذه الرَّحمة لا شكَّ أنَّها من أكبر وأعظم ما اتَّصف به الأنبياء؛ لأنَّ الأنبياء من خلق الله تعالى، فيستأثرون بالنَّصيب الأعظم ممَّا جعل الله في الأرض من الرَّحمة،
من مشاهد رحمته عليه الصَّلاة والسَّلام
وكان نبيُّنا ﷺ من خلقه الرَّحمة، من أسمائه: نبيُّ الرَّحمة، ووصفه الله تعالى بقوله:لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة:128]. ومن مشاهد رحمته ﷺ هذا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عمران بن حصين، وهذا نموذجٌ من رحمته ﷺ بأعدائه، فكيف رحمته بأصحابه؟ وكيف رحمته بالصِّغار؟ وكيف برحمته بالنِّساء والضَّعفة والمساكين؟ فعن عمران بن حصين قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسر ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله ﷺ، وأسر أصحاب رسول الله ﷺ رجلاً من بني عقيل حلفاء ثقيف، وأصابوا معه العضباء، وهي ناقةٌ نجيبةٌ كانت لرجلٍ من بني عقيل، ثُمَّ انتقلت إلى رسول الله ﷺ، وكانت لا تسبق، فأتى عليه رسول الله ﷺ على هذا الأسير وهو في الوثاق، فقال: يامحمَّد. فأتاه فقال: ما شأنك؟قال: بم أخذتني وبم أخذت سابقة الحاجِّ؟ بناءً على أيِّ شيءٍ أسرتموني وأخذتم العضباء التي لا تسبق؟ فقال إعظاماً لذلك: أخذتك بجريرة حلفائك ثقيفتحمل أنت من حلفائهم أنت معهم وهم أعداؤنا وأنتم معهم، ثُمَّ انصرف عنه النَّبيُّ ﷺ فناداه فقال: يا محمد يا محمد، وكان رسول الله ﷺ رحيماً رقيقاً -كما يقول الرَّاوي- فرجع إليه، فقال: ما شأنك؟ فقال: إنِّي مسلمٌ، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك يعني: لو قلتها وأسلمت من قبل أن تُؤسر أفلحتَ كُلَّ الفلاح لأنَّك لو أسلمت من قبل لا يجوز أسرك، وكنت قد فزت بالسَّلامة والإسلام، وما أُخذ مالك غنيمةً، لكن الآن أسلمت بعد أن صرت رقيقاً، ثُم انصرف فناداه في الثَّالثة، فقال: يا محمد يا محمد، فأتاه فقال: ما شأنك؟ قال: إنِّي جائعٌ فأطعمني وظمآنٌ فاسقني، قال: هذه حاجتك ففُدي بالرَّجلين، فاداه بالرَّجلين المسلمين من ثقيف وأعاده الحديث[رواه مسلم1641]. رواه مسلم. فإذا كانت هذه رحمته ﷺ بأعدائه، فكيف رحمته ﷺ بإخوانه؟ وكذلك الأنبياء كانوا رحماء كما قال الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا[النساء:125]. قال عن إبراهيم: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ[هود:75]. قال أبو ميسرة معنى أواه: الرَّحيم بلسان الحبشة[تفسير الطبري12/ 38].
من مشاهد رحمة الصَّحابة رضوان الله عليهم
ولأنَّ الصَّحابة الصِّدِّيقين والأولياء من أتباع الأنبياء وهم بمنزلة التي تلي الأنبياء؛ لا شكَّ أنَّه سيكون فيهم رحمةٌ بالغةٌ، من هو رأس الصِّدِّيقين؟ أبو بكر ، وهو الذي قال فيه النَّبيُّ ﷺ: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر[رواه الترمذي3790، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3790]. وفي رواية: أرأف أمتي بأمتي أبو بكر[رواه أبو يعلى5763، وصححه الألباني في صحيح الجامع 870]. يبيِّن النَّبيُّ ﷺ رحمة الصِّدِّيق بالأمَّة، وكان ذلك من شواهده العظيمة: خلافة الصِّدِّيق ، لكن نجد أنَّ الشَّخصيات إذا تبوأت مواقع المسئولية تتغير أو تظهر فيها أشياء لم تكن واضحة من قبل، فالصِّدِّيق لما تولَّى الخلافة برز فيه جانب لم يكن واضحاً جداً من قبل: القوَّة في الدِّين، فكان موقفه في حرب المرتدين أشجع الصَّحابة وهو أصوبهم فيما فعل عمر الفاروق كان معروفاً بالشِّدَّة في دين الله، فلما تولَّى الخلافة ظهر فيه من مشاهد الرَّحمة بالرَّعية ما لم يكن مثله من قبل، فالشَّاهد أنَّ المسئوليات التي ليست مسئوليات تشريفية ولا تكليفية، بل مسئولياتٌ حقيقيةٌ يقوم بها صاحبها لله تعالى، مسئوليات فيها سهرٌ وتعبٌ ومشقَّة، وفيها خدمة المسلمين إذا تبوأها الإنسان ظهرت فيها صفاتٌ وخصائصٌ واتضحت لم تكن ظاهرة لهذه الدَّرجة من قبل، وهكذا حصل لعدد من النَّاس الذين تبوأوا الخلافة أو الإمرة، ومنهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، فالصَّحابة رضوان الله عليهم هم سادات الأولياء، ولذلك فإنَّ الرَّحمة في قلوبهم من أعظم ما يكون، وقد وصفهم الله تعالى بالقرآن بهذه الصِّفة، فقال : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ الذين هم الصَّحابة أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[الفتح:29]. يرحم بعضهم بعضاً وعلى الكفَّار أشدَّاء، فداخل المجتمع الإسلامي رحماءُ فيما بينهم، وعلى المجتمع الكافر أشداء، وهكذا ينبغي أن تكون صفات المسلم الحقِّ على أعداء الله شديدٌ، وعلى إخوانه رفيقٌ رقيقٌ رحيمٌ.
ومن المشاهد التي تبيِّن لنا رحمة الصَّحابة رضوان الله عليهم لبعضهم البعض هذه القصَّة المؤثرة، التي روتها عائشة رضي الله تعالى عنها كما في مسند الإمام أحمد قالت في قصة الخندق: لما رُمي سعد بن معاذ وجُرح وحكم في بني قريظة حكم الله، فوافق حكمُ سعدٍ حكمَ الله من فوق سبع سماوات، فقال ﷺ: لقد حكمت فيهم بحكم الملك[رواه البخاري2878]. بعد هذا قال سعدٌ : "اللهمَّ إن كنت أبقيت على نبيِّك ﷺ من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك" قالت فانفجر كَلمُه وكان قد برأ حتى ما يُرى منه إلَّا مثل الخرص، وهو الشَّيء اليسير كان الجرح قارب أن يلتئم فلمَّا دعا سعدٌ بذلك؛ لأنَّ الجرح كانت نتيجة المعركة ليحصل أجر الشَّهادة، فدعا بذلك لا يأساً ولا جزعاً، فالجرح كاد أن يندمل فانفجر الجرح ورجع إلى قُبته التي ضرب عليه رسول الله ﷺ في المسجد، كان النَّبيُّ ﷺ يعود سعداً لتكون على طريقه من اهتمامه بسعد ، ولمنقبة سعد وسابقته ومكانته في الإسلام، فيومٌ من الأيام انفجر الكلم وازداد الجرح سيلاناً ونزف ونزل من الخيمة حتى وصل إلى بعض النَّاس قالوا: يا أهل الخيمة ويا أهل المسجد: ما هذا الدَّم الذي يأتينا من قبلكم؟ كما جاء في رواية أخرى، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله ﷺ، قالت عائشة: "فحضره" يعني: نزل به الموت فحضره رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر، فوالذي نفس محمدٍ بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال الله : رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ قال علقمة قلت: أي أمه: فكيف كان رسول الله ﷺ يصنع؟ قالت: "كانت عينه لا تدمع على أحدٍ" يعني: لا يبكي أو أنَّ البكاء الذي فيه شدَّة، ولكنَّه كان إذا وجد فإنَّما هو آخذ بلحيته"[رواه أحمد25140، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة67]. وجوَّد الحديث الألباني في السَّلسلة. وذكر ابن كثير أيضاً جود إسناده في البداية والنِّهاية[البداية والنهاية4/ 142]. الحديث يبيِّن رحمة الصَّحابة لبعضهم، وإذا نزلت المصيبة أو الموت بأحدهم ماذا تكون مشاعر الآخرين؟ أمَّا دمع عين النَّبيِّ ﷺ فمعروفٌ في مشاهد كثيرة يدلُّ على رحمته كما سيأتي.
الرَّحيم مِن صفات مَن يدخل الجنَّة
والرحيم من صفات الذي يُدخل الجنَّة، الرَّحيم هو من أهل الجنَّة، كما جاء في حديث مسلم عن عياض أنَّ رسول الله ﷺم قال ذات يومٍ في خطبته: ألا إنَّ ربِّي أمرني أنَّ أُعلِّمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا ثُمَّ قال: وأهل الجنَّة ثلاثةٌ ذو سلطانٍ مقسطٍ متصدِّقٍ موفَّق، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكُلِّ ذي قربى ومسلم يعني: رحمته عامَّة للقرابة وللمسلمين جميعاً، وهذا هو الشَّاهد من الحديث: أنَّ الرَّجل الذي يتَّصف بهذه الصَّفة هو من أهل الجنَّة، فالذي عنده رقَّة ورفعة منبعهما الرَّحمة والرَّفق ينبع من الرَّحمة كما قلنا: بعض الأخلاق تعود إلى الصَّبر وبعض الأخلاق تعود إلى الرَّحمة، فالرَّحمة خلقٌ أصليٌّ تنبع منه أخلاقٌ كثيرةٌ، رجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب لكُلِّ ذي قُربى ومسلم ورجلٌ عفيفٌ متعفِّفٌ ذو عيال[رواه مسلم2865]. الحديث رواه مسلم. ولا شك أنَّ الذي يرحم النَّاس يرحمه الله ، كما قال النَّبيُّ ﷺ: الرَّاحمون يرحمهم الرَّحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السَّماء قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن صحيح"[رواه الترمذي1924، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الترمذي1924]. لأنَّ الجزاء من جنس العمل، وهل جزاء الإحسان إلَّا الإحسان؟ فما دام أنَّهم رحموا خلقه أليسوا جديرين برحمته! ولذلك فإنَّهم مرحومين برحمة الله : الرَّاحمون يرحمهم الرَّحمن ارحموا من في الأرض يعني: أنَّ الرَّحمة عامَّةٌ للمسلم والكافر والبهيمة والعاقل، والذي يفهم والذي لا يفهم، والكبير والصَّغير، فينبغي أن تكون الرَّحمة عامة لجميع الخلق، ويدخل في الرَّحمة: التَّعاهد بالإطعام والسَّقي والتَّخفيف في الحمل، وترك التَّعدِّي بالضَّرب، كما نقل الحافظ رحمه الله تعالى في الفتح[فتح الباري10/ 440]. إذاً الرَّحمة عامَّة، والرَّحمة بالكافر هي أنَّ الإنسان يعلِّمه الدِّين يدعوه إلى الإسلام، ولو تركته رُبَّما دخل النَّار، فرحمةً به تدعوه إلى الإسلام حتى إذا هداه الله يكون قد أُنقذ بك من نارٍ جهنم، فدعوته والتَّلطُّف معه بالدَّعوة حتى يقبل، فإذاً الرَّحيم من أهل الجنَّة.
مآل من يفقد الرَّحمة
والذي يفقد الرَّحمة فإنَّ وضعه خطيرٌ جدَّاً، فقد روى جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: لا يرحم الله من لا يرحم النَّاس[رواه البخاري6941]. رواه البخاري. فهذا الشَّخص الذي يُهين النَّاس أو يذلِّهم أو يوقفهم في صفٍّ طويلٍ تحت الشَّمس ونحو ذلك أو يعطِّل أو يعتدي على مصالحهم؛ ليس فيه رحمةٌ، ولو كانت فيه رحمة لقضى حاجاتهم وعجَّل قضاءها وقام على شئونهم، والذي يعتدي على حقِّ إخوانه الصِّغار أو يعتدي عليهم إخوانه؛ عنده نقصٌ في الرَّحمة، والذين يضربون ويجلدون ويعذِّبون النَّاس -وكثيرٌ ما هم- بصورٍ مختلفةٍ ومتنوعةٍ، فهناك في هذا العصر طائفةٌ من المعذَّبين ممَّن لم يرهم النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام، ألم يقل: صنفان في النَّار، وذكر منهم: وأناسٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون بها النَّاس[رواه مسلم2128]. من الكرابيج وغيرها يضربون بها النَّاس، فرُبَّما خرج إليهم بين صفين فلا يرحمون بالضَّرب وعلى أيِّ مكانٍ من جسده، فإذاً: هناك ناسٌ نُزِعت من قلوبهم الرَّحمة لن يرحمهم الله يوم القيامة؛ لأنَّ النَّبيَّﷺ قال: لا يرحم الله من لا يرحم النَّاس مظاهر نزع الرَّحمة في هذا العصر كثيرة جداً ومتنوِّعة، تسبب منها ظلمُ وعذاب للنَّاس بسبب أنَّ هؤلاء لا يرحمون الخلق، هؤلاء أشقياء كما قال النَّبيُّ ﷺ: لا تُنزَع الرَّحمة إلَّا من شقيٍّ[ رواه الترمذي1923، وحسنه الألباني صحيح الجامع7467]. رواه الترمذي قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع. فأيُّ خيرٍ فيمن نُزعت منهم الرَّحمة؟ فإذاً: هناك ناسٌ نُزِعت منهم الرَّحمة، قسا قلبه فهو كجلمود صخرٍ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ[البقرة:74]. الحجارة فيها فوائدٌ وقد تهبط الحجر من أعلا إلى أسفل خشيةً من الله تعالى، لكن هذا قلبه أقسا من الحجر، وهؤلاء الصنف كان يستعيذ منهم النَّبيُّ ﷺ لخطورتهم، وأنَّ البلاء بهم شديدٌ، إذا ابتلي الإنسان بأناسٍ لا يرحمون فهي مصيبةٌ، فلذلك كان ﷺ يقوم من مجلسه حتى يدعو بهؤلاء الدَّعوات: اللهمَّ اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك إلى أن قال في آخر الحديث: ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا[رواه الترمذي 3502، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي 3502]. لأنَّ الإنسان لو ابُتلي أحياناً من قريبٍ، كأن يصبح يتيماً فيأخذ عمُّه أو خاله التَّركة ولا ينفق عليه، ويقسو عليه ولا يرحمه.
وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضةً | على النَّفس من وقع الحسام المهند |
فالنَّبيُّ ﷺ كان يستعيذ من تسلُّيط من لا يرحم، كما قال: ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا قال أبو عيسى: "هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ"[سنن الترمذي3502]. هذه الرَّحمة مستوياتٌ ودوائرٌ تتسع وتضيق كما قلنا، وهي من كمال فطرة الإنسان، وتكمن أهمية الرَّحمة بأشياء، فمنها: الحديث عن هذا الخُلُق العظيم؛ لأنَّ بعض النَّاس رُبَّما لا يتصوَّر فضل هذا الخلق واتساعه ومجالاته، فإذا عرف فضله ومجالاته ونحو ذلك؛ صار ينتبه ويتفطَّن إلى هذا الخلق من نفسه، فيحاسب نفسه إذا لم يرحم أو قصَّر في الرَّحمة، وبالتَّالي يتدرَّج به الأمر إلى أن يحصل الرَّحمة في مستواها العظيم، فإذاً الرَّحمة يمكن تحصيلها مثلما قلنا في الأخلاق، وهناك شيءٌ له علاقةٌ باليتيم يمكن أن يكسب به الرَّحمة، ذكره النَّبيُّ ﷺفما هو؟ مسح رأس اليتيم، جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ ﷺ يشكو قسوة قلبه، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: أتحبُّ أن يلين قلبك وتُدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك[رواه البيهقي7345، وحسنَّه الألباني في صحيح الجامع1410]. فإذاً هناك صنفٌ معيِّنٌ من الخلق الاحتكاك أو التَّعامل معهم بالإحسان ينمِّي صفة الرَّحمة في النَّفس، وهم اليتامى، فاليتامى أعظم الأصناف الذين إذا عاملهم الإنسان بإحسان يكتسب رحمةً ويلين قلبه؛ لأنَّ الرَّحمة عكسها قسوة القلب.
من الأمور التي تُفقِد الرَّحمة
ومن الأمور التي تؤثِّر في الرَّحمة وتجعل الإنسان يفقد الرَّحمة أن يغرق في ملذات الدُّنيا والتَّرف فلا يحس بالفقير ولا بالمسكين؛ لأنَّه معزولٌ عنهم في أمواله وزرعه ورجاله، فمن أين تأتيه الرَّحمة ويحسُّ بها إذا كان لا يخالط الفقراء الذين تستدعي رؤيتهم الشَّفقة والرَّحمة في النَّفس، فمن أسباب ضعف الرَّحمة: التَّفاخر بالدُّنيا والانغماس في ملذاتها، ولا شكَّ أنَّ ممَّا يقوِّي الرَّحمة: أن يسمع الإنسان القصص عن الرَّاحمين كيف كانوا يرحمون ويعرف فضل هذا الخلق ،كما مرَّ معنا في بعض النُّصوص المتقدِّمة، فإذاً التَّمعُّن في سيرة السَّلف رحمهم الله تعالى يكسب الإنسان مزيداً من الرَّحمة، وإذا رأى قصص بعض السَّلف كيف كانوا يعطفون على الفقراء ويساعدون المحتاجين ويكسبون المعدوم؛ تحصل الرَّحمة في النَّفس وتزداد، بعض العلماء أتته امرأةٌ بثوبٍ لينفق ثمنه في بناء الجامع، يساوي نصف دينار فاشتراه منها بألف دينار وخبَّأ الثَّوب كفناً له، يرجو رحمة الله برحمته لهذه المرأة المسكينة التي تتصدَّق ببناء الجامع، فاشترى منها الذي يساوي نصف دينار بألف واتخذ الثَّوب كفناً له، وكذلك ما كان عليه زين العابدين من سلالة النَّبيِّ ﷺ وأحفاده كان يضع الطَّعام على أبواب المساكين وينقل قرب الماء إلى الأرامل بالليل، فلمَّا مات وغسلُّوه وجدوا في كتفه أثر حمل قرب الماء، ولمَّا مات فقد الطَّعام من بيوت بعض الفقراء الذي كانوا يجدونه في اللِّيلة، فعرفوا من الذين كان يأتيهم بالطَّعام، ومن الذي كان يحمل لهم قرب الماء في الليل، وكذلك فإن تتبُّع قصص هؤلاء مما يزيد الرَّحمة في النَّفس.
من جوانب الرَّحمة: رحمة العالِم بطلبة العلم
ننتقل الآن إلى ذكر بعض مجالات الرَّحمة فأعظم من يجب أن يرحم العالِم، كيف تكون رحمة العالِم بطلبة العلم؟ أن يصبر عليهم؛ لأنَّ الطَّالب قد يؤذي بالسُّؤال وقد يلِّح ويثقل، ويأتي الشَّيخ في غير وقتٍ مناسب ونحو ذلك، والنَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام دخل عليه سائلاً فقطع خطبته وأتى بكرسي ونزل وجلس وعلَّم الرَّجل مسألته، ثُمَّ رجع وأتمَّ الخطبة؛ لأنَّ الرَّجل لا يدري ما دينه فجاء يسأل، فرحمه ﷺ وقطع الخطبة من أجله ونزل وعلَّمه ورجع فأتم الخطبة، وكذلك من رحمة العالم بالطَّلبة: ألَّا يثقِّل عليهم بالتَّكليف، مثلاً: في الحفظ، فيعطيهم النِّصاب الذي يطيقونه، ولا شكَّ أنَّهم يتفاوتون فيراعي كُلَّ واحدٍ بحسب ما يطيق فيعطيه، كذلك رحمة المدرِّس بالطُّلاب تقتضي ألَّا يعطيهم واجباتٍ أكثر مما يطيقون، ويثقِّل عليهم أو أنَّه مثلاً يغمطهم حقَّهم، فبعض المدرِّسين رُبَّما حرم بعض الطُّلاب من أشياء أو عاقب واحداً عقاباً كبيرًا على ذنبٍ يسير، فهذا منافٍ للرَّحمة، من الرَّحمة: قبول العذر، إذا جاء معتذراً منكسراً ألَّا يتجبَّر عليه، فيقبل من الأشخاص الذين يجب أن تتجلَّى فيهم الرَّحمة بشكلٍ واضحٍ وجليٍ جداً، وقريب من العالم وحول المعلِّم: المربِّي عموماً؛ وقد تجلَّت رحمة النَّبيِّ ﷺ وهو المعلِّم والمرِّبي بمن كان يعلِّمهم ويربِّيهم تجلياً عظيماً، كما جاء في هذه القصَّة التي رواها مالك بن الحويرث كما جاء في صحيح البخاري، قال مالك: أتيت النَّبيَّ ﷺ في نفرٍ من قومي فأقمنا عنده عشرين ليلةً، وكان رحيماً رفيقاً، فلمَّا رأى شوقنا إلى أهلينا قال: ارجعوا فكونوا فيهم وعلِّموهم وصلُّوا فإذا حضرت الصَّلاة فليؤذِّن لكم أحدُكم وليأمُّكم أكبركم[رواه البخاري602]. في رواية أخرى للبخاري: عن مالك بن الحويرث قال: "أتينا إلى النَّبيِّ ﷺ ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلةً، وكان رسول الله ﷺ رحيماً رفيقاً، فلمَّا ظنَّ أنَّا قد اشتهينا أهلنا" أو قد اشتقنا فهؤلاء وفدٌ جاؤوا وهم عشرون، شباب، ولا شكَّ أنَّ الشَّاب إذا كان صغيراً يحنُّ إلى أهله، اسأل الذين يأتون إلى الجامعات من بلادٍ أخرى، أول ما يأتي إلى الجامعة ويترك أهله فماذا يكون شعوره؟ يقول مالك: "فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلةً، وكان رسول اللهﷺ رحيماً رفيقاً، فلمَّا ظنَّ أنَّا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمَّن تركنا بعدنا فأخبرناه، فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلُّموهم ومروهم [رواه البخاري605]. الحديث رواه البخاري. إذاً المربِّي يدرك أنَّ هذا الشَّخص الذي جاءه ليتربَّى على يديه أو يتعلَّم يحتاج إلى شفقةٍ وإلى رحمة، لقد انقطع عن أهله وترك أباه وأمَّه، أو ترك زوجته وأولاده، فإذاً هذا يحتاج إلى تعجيلٍ بالعودة،
من جوانب الرَّحمة: رحمة العمال والموظَّفين
انظر إلى هؤلاء أصحاب الأعمال الذين لا يرحمون العمَّال فقد يكون عاملاً ما رأى أهله وأولاده وزوجته لسنوات، يقول: امكث في الدُّكان من سيقوم في الدُّكان إن سافرت، وهل هذا ليس عنده أهل ولا زوجة ولا أولاد؟ ألم يترك أباً أو أماً وأقارباً في بلده، فرُبَّما حجزه سنواتٍ، وبعضهم يمسكون الخدم والسَّائقين سنوات عدَّة، ويقول نحتاجك، فبعض النَّاس لا يشعر بشعورٍ الآخرين وهذه هي المشكلة، فمسألة الرَّحمة والمصائب التي نُبتلى بها في قضية عدم وجود الرَّحمة وعدم الإحساس بمشاعر الآخرين، فلو كانت هناك رحمة كان الواحد تفقَّد الشَّخص وما انتظر حتى يقول اشتقت لأهلي وضاق عليَّ الأمر، فالمربِّي هو الشَّخص الرَّحيم الذي يتلمَّس في نفوس من معه الحاجة، فهذه قصة مالك قصةٌ عظيمةٌ، فالمربِّي يتلمَّس بنفسه ولا يحتاج إلى أحدٍ يخبره، هو يتلمَّس ذلك ويتفرَّسه في وجوه من معه، ويعرف من أحوالهم أنَّهم يحتاجون إلى العودة إلى أهاليهم، وهذا من صفات الرُّحماء أنَّه لا يقطع الصِّلة بين القريب وقريبه لعن الله من فرَّق بين والدة وولدها [رواه ماجه2250، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع4693]. كان في السَّبي يُؤخذ الأولاد والأمهات فتُباع الأمُّ في جهةٍ والولد في جهةٍ، فأين الرَّحمة؟ فقال: لعن الله من فرَّق بين والدةٍ وولدها ومن رحمته ﷺ وهو المعلِّم أنَّه كان يخشى لو أنَّ أصحابه فعلوا شيئاً استمروا عليه أن يفرض عليهم، فتكون مشقَّةً على الأمَّة كُلِّها، ولذلك نهى عن الوصال، فقال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب الوصال، ثُمَّ روى حديثَ عائشة رضي الله عنها قالت: "نهى رسول الله ﷺ عن الوصال رحمةً لهم" منعهم من الوصال قال: لا تواصلوا صيام يومٍ بالثَّاني دون إفطار بينهما، فقالوا: إنَّك تواصل فقال: إنِّي لست كهيأتكم إنِّي يطعمني ربي ويسقين[رواه البخاري1964]. فإذاً نهاهم رحمةً لهم، كان يخشى أن يفرض على الأمَّة شيءٌ بسببٍ منه أو من غيره، فرُبَّما لم يواظب هو ﷺ، فهو ترك أشياء من العبادات كان يريد أن يستمرَّ عليها لكن خشية أن تفرض على الأمَّة فتتحوَّل من نافلة إلى فريضة.
ومن جوانب الرَّحمة العظيمة: رحمة الإخوة، هذه يدلُّ عليها حديث النَّبيِّ ﷺ: ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عوضاً تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى[رواه البخاري5665]. أو اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر رواه البخاري، وهذا يبيِّن صورةً للمجتمع الإسلامي كيف يجب أن تكون الإخوَّة فيما بينهم، النَّبيُّ ﷺ بيَّن أنَّهم يجب أن يكونوا رحماء: في تراحمهم وتعاطفهم وتوادِّهم فلو قال قائل: ما هو الفرق بين هذه الأشياء؟ قال ابن حجر رحمه الله ناقلاً عن ابن أبي جمرة: "الذي يظهر أنَّ التَّراحم والتَّوادد والتَّعاطف وإن كانت متقاربةً في المعنى؛ لكن بينها فرقٌ لطيفٌ؛ فأمَّا التَّراحم فالمراد أن يرحم بعضهم بعضاً بإخوة الإيمان لا بسبب شيءٍ آخرٍ"[فتح الباري10/ 439]. ما هو الباعث على الرَّحمة؟ إخوةُ الإيمان، إذاً إخوة الإيمان منبعٌ للرَّحمة، ولذلك عقد الشَّارع آصرتها ووثَّقها إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10]. فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]. قال: "فأمَّا التَّراحم فالمراد به: أن يرحم بعضهم بعضاً بإخوة الإيمان لا بسبب شيء آخر، وأمَّا التَّوادد فالمراد به التَّواصل الجالب للمحبَّة، كالتَّزاور والتَّهادي، وأمَّا التَّعاطف فالمراد به: إعانة بعضهم بعضاً كما يعطف الثَّوب عليه ليقويه" فإذاً الشَّاهد: أنَّ الإخوَّة يجب أن تكون بينهم علاقة تراحم، وأنَّ الأخوة منبعٌ للرَّحمة وتقدَّم ذكر شيءٍ من حال الصَّحابة رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ[الفتح:29].
من جوانب الرَّحمة: رحمة الفقير
ومن مجالات الرَّحمة: رحمة الفقير، وهذا جانبٌ عظيمٌ جدَّاً من جوانب الرَّحمة، وقد حدثت أحداثٌ وقصصٌ في هذا على عهد النَّبيِّ ﷺ وهي كثيرةٌ، وحتى لا نطيل بالمقام نختصر بشيءٍ يسيرٍ من هذا، مثلاً: حادثة أبي هريرة لما جاءه الشَّيطان في صورة رجلٍ فقيرٍ يحثو من الطَّعام، وكان النَّبيُّ ﷺ قد وكَّله بحفظ الزَّكاة، وكانت الزَّكاة عبارة عن طعامٍ مجموعٍ، وهذا الرَّجل يحثو في الليل فأخذته وقلت: والله لأرفعنَّك إلى رسول الله ﷺ، قال: إنِّي محتاجٌ وعليَّ عيالٌ ولي حاجةٌ شديدةٌ، قال: فخلَّيت عنه فأصبحت، فقال النَّبيُّ ﷺ: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله شكى حالةً شديدةً وعيالاً، فرحمته وخلَّيت سبيله، قال: أمَّا إنَّه قد كذبك وسيعود فعرفت أنَّه سيعود لقول رسول الله ﷺ إنَّه سيعود، فرصدته فجاء يحثو من الطَّعام فأخذته، فقلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله ﷺ، قال: دعني فإنِّي محتاجٌ وعليَّ عيالٌ لا أعود، فرحمته فخلَّيت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله ﷺ: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله شكى حاجةً شديدةً وعيالاً فرحمته فخلَّيت سبيله، قال: أمَّا إنَّه قد كذبك وسيعود إلى آخر الحديث[رواه البخاري2187]. فهذا أبو هريرة رحمه مجرَّد أنَّه اشتكى وعرض وقال: عندي وعندي، ولم ينكر عليه النَّبيُّ ﷺ رحمته إيَّاه، والرَّجل لم يأخذ شيئاً من الصَّدقة، فقد كان أبو هريرة حارساً أميناً لم يدع أحداً ينقص منها شيئاً، فكيف وهذا الشَّيطان كان بصورة الرَّجل، فكيف بالإنسان المحتاج حقيقة الذي لا يشتكي فقط؟ بل أنت تعلم من حاله من أنَّه محتاجٌ، والإنسان إذا كان قد ابُتلي بفقرٍ سابقٍ يرحم الفقراء أكثر من الغني الذي لم يبتل بفقرٍ سابقٍ؛ لأنَّ الذي اكتوى بنار الفقر عنده رصيدُ مشاعرٍ ليست عند الغني، ولذلك تجد أنَّ الغني الذي سبق غناه فقرٌ أرحم بالمساكين الذي ورثها أباً عن جد، فهذا مشاهدٌ من الواقع، ولكن لا يمنع من وجود الرَّحمة حتى في بعض الأغنياء الذين ورثوها هذه نعمة، لكن قابلة للاكتساب والزِّيادة.
من جوانب الرَّحمة: رحمة الولد الصَّغير
من المجالات أيضاً المهمة: رحمة الصَّغير والولد: عن أنس بن مالك قال: "ما رأيت أحداً كان أرحمَ بالعيال من رسول الله ﷺ، كان إبراهيم مسترضعاً له في عوالي المدينة" النَّبيُّ ﷺ وكَّل بإبراهيم من يرضعه في منطقة العوالي في المدينة فكان من رحمته ﷺ بولده قال أنس: "كان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنَّه ليدَّخن وكان ظئره قيناً" الظِّئر: المرضعة التي كانت ترضعه، أمة "فيأخذه فيقبِّله ثُمَّ يرجع، فلمَّا توفي إبراهيم قال رسول الله ﷺ: إنّ إبراهيم ابني وإنَّه مات في الثَّدي يعني: أثناء الرِّضاع وإنَّه له لظِئرين تكمَّلان رضاعه في الجنَّة[رواه مسلم2316]. رواه مسلم. فالآن النَّبيُّ ﷺ يقتطَّع من وقته الثَّمين جدَّاً ويذهب ومعه أصحابه إلى العوالي مسافةً ليأخذ الولد ليقبِّله ويرجع، فلا بأس تعلِّم المشاهد هذه، والاقتداء غرضٌ شرعيٌّ عظيمٌ يستحقُّ أن تقتطع له الأوقات ويأخذ له الأًصحاب، ولم لا؟ فإذاً: رحمة الولد شيءٌ عظيمٌ، بعض الآباء اليوم لا يرحمون أولادهم، ويتجلَّى ذلك في طبيعة العقوبات التي يوقعونها عليهم، كأن يضربهم بسلكٍ أو يقيِّده بالأسلاك، حتى أنَّ أحدهم فقد يديه انحبس الدَّم فقطَّعوا اليدين وهو صغيرٌ يتوسَّل، يقول: يا أبي أعد إليَّ يداي وأطيعك في كُلِّ شيءٍ، لكن بعد ماذا! وأحدهم علَّق ولده حتى اختنق فمات في المروحة، فبعضهم في أقرب النَّاس إليه وفي الذين خرجوا من صلبه وظهره وهم أولاده لا يرحمهم، وبعض الأمَّهات تُلقي بالولد دون رضاع وتذهب للسَّهرات والولد في السَّرير يجوع يعطش ويقع من السَّرير ويختنق والمهم السَّهرة، بعض جوانب الرَّحمة الحقيقية في الأمهات غابت في هذا الزَّمان نتيجة العوامل المادية والتَّرف وزينة الحياة الدُّنيا والمجاراة في السَّهرات والأطعمة، فرحمة الأولاد من الأمور التي ينبغي الترَّكيز عليها في هذا الزَّمان، وهل نريد أن نبقى حتى نصل إلى ما وصل إليه الكفَّار من جعل هواتف خاصَّة عند الشَّرطة يعلنون على شاشات التَّلفزيون يدعون بها الأولاد الذين يعانون من ظلمٍ او يقع عليهم عذابٌ من الأبوين أن يتَّصلوا بهذه الهواتف، فالشَّرطة تأتي وتنقذ الأطفال من براثن الآباء والأمهات، وأحاديث تعذيب الغربيين لأطفالهم طويلةٌ وذكروا فيه مشاهد عجيبة تدلُّ على أنَّ الله نزع من قلوب أولئك الرَّحمة، ولذلك بعضهم يطفئ السَّجائر في ولده أو في ولد زوجته من رجل آخر، أو يرميه من النَّافذة؛ لأنَّه أزعجه في اللَّيل بالصِّياح وأشياء ونحوه، النَّبيُّ ﷺ يذهب إلى العوالي ليقبِّل ولده ويرجع، وروى أبو هريرة قال: قبَّل رسول الله ﷺ الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التَّميمي جالساً، فقال الأقرع: إنَّ لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله ﷺ، يعني: هذه نظرةُ توبيخٍ، ثُمَّ قال: من لا يرحم لا يُرحم[رواه البخاري5651]. يعني: الجواب على هذا الكلام الذي تقوله إذا كنت تظنُّ أن تقبيل الأولاد ينافي الرَّجولة فالذي لا يرحم لا يُرحم، رواه البخاري. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ ﷺ فقال: تقبِّلون الصِّبيان؟ فما نقبلهم، فقال النَّبي ﷺ: أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرَّحمة[رواه البخاري5652]. إذا نزع الله من قلبك الرَّحمة فماذا أفعل لك؟ رواه البخاري. وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما كان رسول الله ﷺ يأخذني فيقعدني على فخذه ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثُمَّ يضمَّهما ثُمَّ يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما[رواه البخاري5657]. فعلاقة الرَّحمة بيني وبينهما حاصلةٌ وموجودةٌ، يدعو للحسن ولأسامة رواه البخاري. وعن أنس بن مالك قال: جاء شيخٌ يريد النَّبيَّ ﷺ فأبطأ القوم أن يوسعوا له، هذا شيخٌ كبيرٌ في السِّنِّ جاء وما أحد وسَّع له وهو يريد أن يتكلَّم مع النَّبيِّ ﷺ وحول النَّبيِّ ﷺ أصحابه، فما أحدٌ آثر هذا الرَّجل بمكانه كُلُّهم ضن بمكانه، فقال النَّبيُّﷺ لما رأى هذا المشهد: ليس منَّا من لم يرحم صغيرنا ويوقِّر كبيرنا[رواه الترمذي2043، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي1919]. من لم يرحم صغيرنا وهو الشَّاهد ويوقِّر كبيرنا حتى الرَّحمة بالكبير والشَّيخ والضَّعيف، وهذا الحديث رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
ومن جوانب الرَّحمة: رحمة النِّساء
ومن مجالات الرَّحمة أيضاً أيُّها الإخوة: رحمة النِّساء لضعفهنَّ؛ لأنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: إنِّي أُحرِّج عليكم حقَّ الضَّعيفين: المرأة واليتيم[رواه الحاكم211، وصححه الألباني في الجامع الصغير4212]. فالمرأة ضعيفةٌ وقد عنون بعض المصنِّفين رحمهم الله تعالى في مصنَّفه الحديث: باب رحمة النَّبيِّ ﷺ للنِّساء، وأمر السَّواق مطاياهن بالرِّفق بهن، فأمر أنجشة أن يرفق بالحداء؛ لأنَّ الإبل تسرع مع الحداء فأمره أن يخفِّف رحمةً بالنِّساء اللاتي فوق الإبل، وكذلك الزَّوج يجب أن يرحم زوجته في أعمال وأشغال البيت وفي عدد الولائم، فبعض النَّاس لا يرحمون زوجاتهم بكثرة الولائم، فيجعلها تعمل دائماً وباستمرارٍ، ولا يرحمها براحةٍ أو يمنُّ عليها بنفسٍ تتنفَّسه عند أهلها من العمل أو تغيير الجو، فهذا ممَّا ينبغي به الرَّحمة، ورحمة الزَّوج لزوجته من أعظم الأشياء نظرةً لكثرة طول عيشه معها، فالإنسان أحياناً يرحم شخصاً لقيه لساعةٍ من نهار، لكن هذه المرأة معك كُلَّ الأيام في البيت، فرحمتها من أوجب ما يكون؛ لئلَّا يكلِّفها فوق طاقتها، وأن يعطيها حقَّها وأن يرحمها، ومن رحمتها مثلاً: يذهب بها إلى العلاج فقد تتأوَّه وتتألَّم فتحتاج إلى علاج، فلا يهمل الإنسان زوجته ولا يكون عنده رحمة بها، فتبقى مريضةً تتألَّم وهو بين سهراته وأصحابه، ولا يدري عن حال المسكينة، وكان النَّبيُّ ﷺ يرحم النِّساء فيرحم التي يموت لها قريبٌ خصوصًا إذا مات قتلاً في سبيل الله، وهذا هو السَّبب في زيارة النَّبيِّ ﷺ لأم سليم، كما جاء عن أنس أنَّ النَّبيَّ ﷺ لم يكن يدخل بيتاً في المدينة غير بيت أم سليم إلَّا على أزواجه، فقيل له؟ فقال: إنِّي أرحمها قتل أخوها معي[رواه البخاري2689]. فمن باب حسن العهد والصِّلة وإبقاء المعروف في أهله: يجري حفظ المعروف في مثل هذا، فهذا قُتل في سبيل الله فيتعاهد أهله، ولذلك كان من أفضل أبواب البرِّ أنَّ الإنسان يسعى على أهل المجاهد في سبيل الله، فيأتي لهم بما يحتاجون ويتفقَّد أحوالهم دون ريبةٍ ولا خلوةٍ ولا فتنةٍ، وإنَّما قضاء حاجات هؤلاء من رحمته، والنَّبيُّ ﷺ رحم جابر بن عبد الله قُتل أبوه فخلَّف له تركةً ثقيلةً سبع بنات، أخوات جابر وكان جابر فقيراً ، فالنَّبيُّ ﷺ كان في غاية الرَّحمة معه، فقد روى التِّرمذي رحمه الله تعالى عن جابر قال: استغفر لي رسول الله ﷺ ليلة البعير، وقصَّة البعير معروفةٌ في البخاري، فمن أكثر الأحاديث التي فرَّقها البخاري في صحيحه وكرَّر قصَّة جمل جابر أكثر من عشرين مرَّة، يقول الترمذي في روايته: استغفر لي رسول الله ﷺ ليلة البعير خمساً وعشرين مرَّةً، قال أبو عيسى: "هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ" ثُمَّ قال الترمذي: وكان جابر قد قُتل أبوه عبد الله بن عمرو بن حرام يوم أُحدٍ وترك بناتٍ فكان جابر يعوِّلهنَّ وينفق عليهنَّ، وكان النَّبيُّ ﷺ يبرُّ جابراً ويرحمه بسبب ذلك"[رواه الترمذي3852]. فإذا وُجد أبناء الشَّهداء وأبناء المقتولين في سبيل الله يحتاجون إلى رحمةٍ فقد تكون التَّركة ثقيلةٌ، وقد يكون الذين خلَّفهم يحتاجون إلى رعايةٍ إذ ليس عندهم من ينفق فهنا تبرز الرَّحمة في أوقات الشِّدَّة.
من جتونب الرحمة: رحمة البهيمة
كذلك من مجالات الرَّحمة في الإسلام: رحمة البهيمة، كما قلنا آنفاً: رحمة البهيمة ألَّا يحملها أكثر ممَّا تطيق، فالجمل جاء يشكو إلى النَّبيِّ ﷺ يهمس في أذنه، فالنَّبيُّ ﷺ سأل عن صاحبه؟ قال: إنَّه شكى إليَّ أنَّك تجيعه وتدئبه[رواه أبو داود2551، وصححه الألباني في صحيح وضعيف أبي داود2549]. أي: تواصل عليه العمل وتجيعه ولا تعطيه، فإذا أنت جعلته يعمل باستمرار أعطه طعاماً واجعل له راحةً، فحتى البهيمة تحتاج إلى رحمةٍ ولا تُضرب الضَّرب الشَّديد الذي فيه تعدٍّ، فإذاً: ينبغي تخفيف الأحمال وترك التَّعدِّي في الضَّرب وتزويدها وتعهدها بالطَّعام والشَّراب، وحتى في ذبحها لابُدَّ برحمة، قال رجل للنَّبيِّ ﷺ: يا رسول الله إنِّي لأذبح الشَّاة وأنا أرحمها، فقال ﷺ: والشَّاة إن رحمتها رحمك الله [ رواه أحمد 15630، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 26]. رواه أحمد. فإذاً: من رحمتها أن يسقيَها قبل ذبحها، وألَّا يذبح أخرى بحضرتها؛ فلا تُذبح شاةٌ أمام شاةٍ أخرى، أين الرَّحمة؟ من رحمتها ألَّا تحدُّ الشَّفرة أو السَّكين وهي تنظر إليك، أتريد أن تميتها موتات؟ وحتى طريقة الذَّبح أن تحد الشَّفرة؛ لأنَّ عدم حدِّ الشَّفرة يؤدِّي إلى تعذيب الذَّبيحة.
وهناك من عباد الله تعالى من يواسي ويرحم الخلق، والمواساة لا تنتج إلَّا من الرَّحمة، فهذا الإنسان المتخلِّق بهذه الصِّفات العظيمة لا بُدَّ أن تكون بعد هذه الصِّفات الرَّحمة كما قال الله لنبيِّه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ فإذاً: اللِّين من أين جاء؟ من رحمة اللهوَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[آل عمران:159]. فعكسُ الرَّحمة: قسوةُ القلب والفظاظة والغلظة، وقد تشتبه بعض الأشياء على بعض النَّاس في هذا الجانب، فمثلاً: قتل الكفَّار في سبيل الله وقد يكون أحياناً يلزم في الجهاد قصفهم وقد تقع هذه المقذوفات على بيوتهم، فهذا شرعاً يجوز؛ لأنَّك لا تتقصَّد الطِّفل والمرأة لكنَّه من لوازم الجهاد في الهجوم على الكفَّار إطلاق ذلك عليهم، وهذا له دليلٌ من السُّنَّة في الغارات التي كان يقوم بها الصَّحابة رضوان الله تعالى عليهم على الكفَّار ليلاً، فقد تقع مقتلةٌ في أناسٍ لا يجوز تقصُّدهم بالقتل، ولو أنَّك رأيت طفلاً أو امرأةً وميَّزتهم فلا يجوز أن تتقصَّدهم بالقتل، فالمرأة إذا حملت سلاحاً أو الشَّيخ الكبير إذا كان ذو تجربةٍ يفيد الكفَّار ويغذيهم بخبراته في قتال المسلمين؛ هذا شأنٌ آخر، لكن من يتقصَّد طفلاً أو امرأةً بقتلٍ حتى من الكفَّار مخالفٌ للرَّحمة، لكن لو حصل ذلك في الشِّيء الذي ليس بمتقصِّد كما هو وضع المقذوفات في الحروب الآن فلا يكون ذلك مخالفاً أو إثماً، ما دام لا يستطيع تجنبُّه، وهذه طبيعة الحروب.
من جوانب الرحمة: الحدود وإقامة شرع الله
أيضاً قتل الكافر إقامةً للحدِّ فبعض النَّاس قد يقول: قطع يد السَّارق أو أن نأتي بالحجارة لرجم الزَّاني المحصن، وكُلُّ مسلمٍ يرجم بالحجر عليه، فحَجرٌ يصيب رأسه وحَجر يصيب عينه وحَجرٌ يكسر أنفه وحَجرٌ يجعل الدَّم ينفر وحَجر يكسر عظمه، فأين الرحمة؟ نقول: هذه عين الرَّحمة، انظر إلى الجانب الآخر من القضية فلو ما قُتل ولا قُطعت يدُ السَّارق ولا رُجم الزَّاني فماذا يحدث لنفوس النَّاس وأموالهم وأعراضهم؟ تضيع، فالرَّحمة بنفوس النَّاس بأعراضهم وبأموالهم أن يُقتل القاتل ويُرجم الزَّاني المحصن وتُقطع يدُ السَّارق، ثُمَّ هذا الرَّجل إذا أُقيم عليه الحدُّ كان الحدُّ كفَّارةً له، فهؤلاء الغربيون الذين يقولون: الإسلام فيه وحشيةٌ وما عندكم رحمة وتقطعون الأيدي وتقتلون وترجمون، نقول: أنتم ليس عندكم رحمة، انظروا ما فعلتم! فأنتم رحمتم المجرمين وهذا ظلمٌ في الحكم على الأشياء، يأتون إلى المجرمين فيرحمونهم ويخفِّفون عنهم الأحكام ويخرج بالبراءة، وبعد سنةٍ أو سنواتٍ يخرج المجرم ليقتل ويسرق مرَّات أُخر وهكذا، فأين رحمتهم بالمجتمع ككُلٍّ؟ نظروا إلى الرَّحمة بالمجرمين وتركوا رحمة المجتمع الأبرياء! من رحمة المجتمع أن يُقتل هؤلاء المجرمين، فإذاً هؤلاء الكفرة أو أصحاب الرِّفق يقولون: جمعية الرِّفق بالحيوان، والمسلمون عندهم وحشية في ذبح الأضاحي! وهل من رحمتها عندكم صعقها بالكهرباء وتغريقها بالماء وضربها بالمسدس؟ ما هذا؟ هذه أسهل وأريح طريقةٍ في إزهاق الرُّوح فالذَّبح ليخرج الدَّم وتبقى الذَّبيحة طيبةً حلالاً، وكُلُّ الطُّرق الأخرى: إمَّا فيها تعذيبٌ أو يقتلها بطريقة فيها ضرر على آكلها، وهذا إذا كان رحمته صحيحةً بالذَّبيحة، ولكن الرَّحمة الصَّحيحة بالبهيمة أن تُذبح، والرَّحمة بالآكلين أن يخرج الدَّم مع الذَّبح حتى لا يكون فيها ضررٌ، والآن رُبَّما يرجعون عن بعض أقوالهم وبعض عقلائهم من كبرائهم يخرجون بدراساتٍ توافق الشَّريعة، لكن بعد خراب البصيرة، فإذاً لو قال قائلٌ: أين الرَّحمة في المجرمين؟ وأين الرحمة في الحدود الشَّرعية؟ نقول هذا هو الجواب: لما قال المعرِّي الملحد:
يد بخمس مئين عسجدٍ وديت | ما بالها قُطعت في ربع دينار |
خمسمائة دينار من الذَّهب تضعون دية اليد، فلو اعتدى على يد شخصٍ أو أن يداً أُتلفت بفعل فاعلٍ، تضعون عليها خمس مئين، خمسمائة عسجد من الذَّهب ثُمَّ تقطونها في ربع دينار إذا سرق! فأجابه الشَّاعر الإسلامي:
عزُّ الأمانة أغلاها وأرخصها | ذلُّ الخيانة فافهم حكمة الباري |
لما كانت أمينةً كانت عزيزةً وديتها بخمسمائة دينار، ولما خانت هانت صارت لا تُساوي شيئاً وتُقطع، وعقابها أنَّها تستحقُّ القطع، فالعبرة بأنَّها ثمينةٌ؛ لأنَّ ذلك بحسب حال الشَّخص الذي هذا اليد عضوٌ منه، فإذاً لا يمكن أن يدخل من هذا الجانب في القضية، والنَّبيُّ ﷺ أغلظ على بعض الكفَّار في سبيل الله وفي الحدود وحد الرِّدَّة، والذين سبُّوا النَّبيَّ ﷺ أمر بقتلهم كابن خطل حتى وهو متعلِّقاً بأستار الكعبة، وقال: يا محمد من للصِّبية قال: النَّار[رواه أبو داود2688، وقال الألباني: "حسن صحيح" صحيح وضعيف سنن أبي داود2686]. إرغاماً لأنف ذلك الكافر وتبكيتاً وإخزاءً له، وإلَّا فإنَّ النَّبيَّ ﷺ لا يقتل الأطفال، ولما رجم الزَّانية أولاً أخذ ولدها عند رجلٍ من المسلمين يكفله، ولما حملت الزَّانية ولأنَّ الولد لا علاقة له بالإثم هذا وهو بريءٌ فكان لا بُدَّ من إطعامه وإرضاعه، وما رجم المرأة أولاً حتى تلد حتى لا يقتل الجنين في بطنها، وما رجم الجنين حتى تُرضع الولد وتفطمه؛ لأنَّه لا ذنب له في قطعه عن رضاع أمه المفيد له، ثُمَّ أعطاه لأحد المسلمين يكفله، فإذاً: الرَّحمة لمن يستحقُّ الرَّحمة، والذي لا يستحقُّ الرَّحمة وهو مجرمٌ أو مرتدٌّ يسبُّ الله والرَّسول ويعادي الدِّين ويقتل أولياء الله الصَّالحين فهل نرحمه؟ رحمته جنونٌ وخلافُ العقل والدِّين وخلاف كُلِّ شيءٍ سليمٍ.
من جوانب الرَّحمة: الرَّحمة بالمرضى وأصحاب العاهات
ومن جوانب الرَّحمة التي لا ننساها أيضاً أيُّها الإخوة: الرَّحمة بالمرضى وأصحاب العاهات، فقد يحتاج إلى توسعةٍ في المكان وقد يحتاج إلى إعانةٍ وحملٍ وإزالة نجاسة؛ لأنَّه لا يستطيع أن يزيلها بنفسه، وقد يحتاج إلى دواءٍ والدَّواء في أوقاتٍ معيَّنةٍ يحتاج إلى التزام بإعطائه، وقد يكون أعمى فيحتاج إلى قيادة، وقد يكون أعرجاً يحتاج إلى حملٍ أو إلى أن يرفق يسندٍ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17]. لماذا رخَّص لهم في الجهاد لحالهم؟ رحمةً من الله بهم، وعفا عنهم في موضوع الجهاد، وأنّ الأعمى والأعرج ومن على حالهم من أصحاب العاهات والأمراض لا يجاهدون، فالرَّحمة بهم ونحن نتخلَّق بأخلاق الله تعالى، ونأخذ من صفات الله وأسمائه مما يليق بالبشر، نأخذ منها: أنَّ الله رحيمٌ فنحن نكون رحماءً، والله كريمٌ فنحن نكون كرماءً، فالله رحم هؤلاء وعذرهم في الجهاد فنحن نرحم المرضى أيضاً، فنتفقدهم بالزِّيارة وإعطاؤهم الدَّواء ونحو ذلك من إعانتهم، وكُلُّ ذلك من مواطن الرَّحمة.
ومن مواطن الرَّحمة أيضاً: رحمة الخدم وذكرنا طرفاً من ذلك، وألَّا يكلَّفون ما لا يطيقون من الأعمال، ولا يُضرَبون ويعاقبون بأكثر ممَّا فعلوا، فبعض النَّاس رُبَّما يضرب الخادم عن خطـأ أخطأه، لكن يضرب أكثر مما يستحقُّ الخادم، فيوم القيامة ماذا يحصل عند الله؟ ميزان قسط عدل يحسب خطأ الخادم في حقِّ المخدوم، وتحسب العقوبة عند الله ويوزن بينهما، إذا كان الخطأ أكثر من العقوبة فيُعطى المخدوم الفرق، وإذا كانت العقوبة مثل الخطأ لا لك ولا عليك، وإذا كانت العقوبة أكثر من الخطأ فيأخذ من حسنات صاحب البيت وتُعطى للخادمة أو تعطى للخادم، قصاصٌ عند الله تعالى.
جوانب الرَّحمة: سقي الحيوانات
ومن جوانب الرَّحمة بعض النَّاس قد يستهينون بها ويقول: سقيت كلباً عطشاناً أو أطعمت هرَّةً، ماذا سيكون فيها من الأجر؟ فنقول: إنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ اشتدَّ عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثُمَّ خرج وإذا كلبٌ يلهث يأكل الثَّرى من العطش، فقال الرَّجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خُفَّه ماءً ثُمَّ أمسكه بفيه فسقى الكلب فشكر الله تعالى له فغفر له فقالوا: يا رسول الله وإنا لنا في البهائم لأجراً؟ قال: في كُلِّ ذات كبدٍ رطبةٍ أجرٌ [رواه البخاري5663]. وفي رواية: أنَّ امرأةً بغيَّاً زانيةٌ عاهرةٌ رأت كلباً في يومٍ حارٍّ يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها أي: خفها، وخفٌّ من جلدٍ يحمل الماء فنزعت له بموقها فغفر لها[رواه مسلم2245]. فقد قام بقلب هذه المرأة من الرَّحمة ما غطَّى على جرمها، وهذه حالةٌ خاصَّةٌ بهذه المرأة، توفَّر فيها رحمةٌ عظيمةٌ وليس أيِّ زانيةٍ تسقي كلباً يغفر لها، لا، كما ذكر ذلك الشُّرَّاح والعلماء، فإذاً: كان الشَّاهد أن رحمة الكلب ورحمة الهرِّ تفعل هذه الأعاجيب، فإذاً: مسألة الرَّحمة هذه شيءٌ عظيمٌ، ولذلك فينبغي الحرص عليها، وتلك المرأة دخلت النَّار بسبب هرَّة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، حبس البهائم وقتلها عبثاً لا يدلُّ على رحمةٍ، فرجلٌ يقتل دابةً عبثاً كما مرَّ ابن عمر على قومٍ جعلوا طيراً مصبوراً وقيدوه ويرمون عليه بالسِّهام من يصيب قال: "لعن من فعل هذا إن رسول الله ﷺ لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا"[رواه مسلم1958]. فالطَّير يتألَّم ويشعر ويحسُّ ويرى، وأنت تضعه هدفاً للسِّهام وهو سرى ماذا يأتي عليه؟ أين الرَّحمة؟ فمن فقد الرَّحمة: تعذيب الحيوانات والبهائم وعدم إطعامها، ولو أنَّ إنساناً وقع له شيءٌ من هذا حبس طيراً أو عصفوراً أو دجاجةً أو حبس هرَّةً أو دهسها بسيارته ولم يكن يقصد ولم يكن يريد الاساءة ولا تعمَّد؛ فعند ذلك لعل الله لا يؤاخذه؛ لأنَّه لم يتعمد وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ، فهذا خطأ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ[الأحزاب:5].
فهذه بعض الجوانب المتعلِّقة بموضوع الرَّحمة، ويتمُّ التَّأكيد على رحمة النَّاس الذين يحتاجون للرَّحمة أكثر من الآخرين، فهذه مسألةٌ مهمَّةٌ مثل: أجر رحمة اليتيم ليس مثل أجر رحمة الآخرين؛ لأنَّه منكسرٌ دون أب ولا عائل ولا سند، فالولد يعتزَّي بأبيه سنده في الحياة، إذا فقد السَّند يشعر أنَّه كالضَّائع والتَّائه يفقد شيئاً عظيماً، ولذلك كانت كفالة الأيتام أجرها عظيمٌ، وليست القضية فقط أن نأخذ بضع مئات الرِّيالات ونعطيها ونقول كفلنا يتيماً؛ كفالة اليتيم الحقيقية هي تربيته قبل تغذيته وتأديبه وحمله على الدِّين قبل لباسه وشرابه، ولكنَّها تتجزأ: فإذا أطعمته تُجزى خيراً، وإذا ألبسته تُجزى خيراً وإذا علَّمته وأدَّبته وكفلته وضممته إليك فهذا هو الأجر العظيم، فإذاً بعض النَّاس يعني يظنُّون أنَّ القضية فقط بالنُّقود ولكن المسألة أعظم من ذلك، نعم فالنُّقود فيها أجرٌ لكن ليست أكبر من تربية اليتيم وضمه إليك وتعاهده وتربيته والإنفاق عليه، وهذا الموضوع الطَّويل الذي ذكرنا فيه تعريف الرَّحمة وبعض آثار الرَّحمة ومجالاتها نسأل الله أن يجعل في قلوبنا الرَّحمة لكُلِّ من يستحقها.
يقول : كيف يجمع الزَّوج بين الرَّحمة وهجر الزَّوجة؟ رُبَّما يهجرها رحمةً بها حتى تتأدَّب ولا تزداد إثماً وتدخل النَّار: فقسا ليزدجروا فقد تكون القسوة من باب الرَّحمة، مثلاً: تأديب الولد فيه إيلامٌ للولد فتأديبٌ بالشَّريعة لا ضرب كف ولا جرح ولا كسر فهذا فيه إيلامٌ، لكن الإيلام رحمة بالولد لئلا يخرج منحرفاً أو يخرج مترفاً أو لئلا يضيع، فالعقوبة من باب الرَّحمة فلا يتخيَّل أو يتوَّهم التَّعارض هجر الزَّوجة بحسب الشَّريعة فيه رحمةٌ بها، إذا كانت فعلاً تستحقُّ الهجر، لكن المشكلة أنَّ بعض الرِّجال يهجرون لسبب تافهٍ جدَّاً أو بدون سبب كأن يتأخر الغداء خمس دقائق فلا يكلِّمها أسبوعاً فإذاً: العقوبة إذا كانت صحيحةً فهي من الرَّحمة.