الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسوله محمد، وآلة وصحبة، وبعد:
معنى الغيرة
فحديثنا في هذه الليلة عن خلقٍ جليلٍ، فما هو الخلق الذي سنتحدث عنه في هذه الليلة ؟ خلقٌ يتعلَّق حتى بشيءٍ موجودٍ معنا في المسجد، فماذا تتوقع أن يكون هذا الخلق؟ إنَّه خُلق الغَيرة.
أمَّا الغَيرة بفتح الغين: فهي مصدر غار الرَّجل يغار غيرة، وغيرا، وكما ذكر الحافظ رحمة الله نقلاً عن القاضي عياض: "مشتقةٌ من تغيُّر القلب، وهيجان الغضب؛ بسب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشدُّ ما يكون ذلك بين الزَّوجين هذا في حقِّ الآدمي"[فتح الباري9/ 320].
وقيل الغَيرة في الأصل: الحميَّة، والأنفة، فإذاً: هناك علاقةٌ بين الغيرة وبين الغضب، والغيرة الحمية، والأنفة يقال: غار الرَّجل على امرأته، وغارات المرأة على زوجها، والرَّجل المغيار: شديد الغَيرة.
ويعرِّف البعض الغيرة بقولة: "ثوران الغضب حمايةً عن الحرم"[ معجم مقاليد العلوم1/ 203]. أي: الحرمات.
الله يغار
والغيرة من أخلاق الله تعالى، ومن أخلاق رسول الله ﷺ، ومن أخلاق المؤمنين، وهي منزلةٌ شريفةٌ عظيمةٌ من منازلإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5]. فأمَّا أنَّ الغَيرة من أخلاق الله تعالى: فالله تعالى مُتَّصفٌ بها، كما قال النَّبيُّ ﷺ: لا شيءٌ أغير من الله [رواه مسلم 2762]. رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحة. وروى كذلك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرَّم الله[رواه مسلم2761]. وعُنون عليه في صحيح مسلم: باب غيرة الله تعالى، وتحريم الفواحش، وعن المغيرة ابن شعبه قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسَّيف غير مصفحٍ عنه، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: أتعجبون من غيرة سعد؟ فو الله أنا أغير منه والله أغير منِّي، ومن أجل غيرة الله: حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله ولا شخص أحبُّ إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشِّرين ومنذرين، ولا شخص أحبُّ إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الله الجنَّة[رواه مسلم 2755]. رواه مسلم. فإذاً: قوله ﷺ: لأنا أغير منه والله أغير مني فالله تعالى لا أحد أغير منه ، وغيرته سبحانه صفة من صفاته نثبتها له دون تحريفا، ولا تشويه، ولا تعطيل، فإذا كان الله يغار فنحن نثبت له، فغيرة الله ليست كغيرة البشر الذين رُبَّما يفقد الواحد منهم صوابه إذا اعترته الغيرة، وإنَّما غيرةٌ تليق بجلاله وعظمته، ومن آثار غيرة الله تعالى: أنَّه حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فتحريمه سبحانه للفواحش؛ لأنَّه يغار، والله يغار أن تنتهك حراماته، ومن غيرة الله تعالى: أنَّه يصرف عن آياته الذين يستكبرون، فلا يدعهم يتدبَّرون بها،ولا يرزقهم الاعتبار بها، سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]. وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا[الأسراء:45].
الغيرة عند البشر
وأمَّا الغيرة بالنُّسبة للبشر: فهي كما قلنا حميَّةٌ وأنفةٌ، وقد تكون هذه الغَيرة محمودةٌ، وقد تكون مذمومة، ولها مواضع، وبعض النَّفسانيين يقولون: أن الغَيرة مرضٌ من الأمراض النَّفسية تفتك بصاحبها، فيختل توازنه، ويبطل حبل شخصيته، وتنحط قواه العقلية، ويقل انتاجه، وهي شعورٌ بالنَّقص، ولكن هذا الكلام ليس بصحيح على إطلاقة؛ فإنَّ الغيرة منها ما هو محمودٌ، ومنها ما هو مذمومٌ، فالغيرة التي فيها انفعالُ النَّفس إذا رأت حرمةً من حرامات الله تنتهك، أو منكراً يرتكب، وهذه الغيرة واجبة، وأمَّا إذا كانت غيرة من الوسوسة، وفيها اتِّهام الأبرياء، ودون دليلٍ فهذه غيرة محرَّمة، ولا يجوز للإنسان أن يتمادى معها، ولذلك يقول النَّبيُّ ﷺ: إنَّ من الغيرة: ما يحبُّ الله ، ومنها ما يبغض الله ، ومن الخيلاء: ما يحبُّ الله ، ومنها ما يبغض الله ، فأمَّا الغيرة التي يحبُّ الله ، فالغَيرة في الرَّيبة إذا حصلت الرَّيبة، وحصلت القرائن، وأمَّا الغيرة التي يبغض الله فالغَيرة في غيرة ريبةٍ لا شيء يدعو للغَيرة، ولا افتراء، لا ريبة ولا قرائن على فساد ثُمَّ تعتريه الغيرة، والاختيال الذي يحبُّه الله : اختيال الرَّجل بنفسه عند القتال، وعند الصَّدقة، والاختيال الذي يبغض الله : الاختيال في الباطل[رواه أبو داود2659، وأحمد2350، والنسائي2558، وحسنه الألباني في صحيح الجامع2221]. رواه أحمد والنسائي وأبو داوود وحسنه الألباني في صحيحه الجامع، فإذاً: الغَيرة لها مجالاتٌ: منها ما هو محمودٌ، ومنها ما هو مذمومٌ، ولها علاقةٌ بالغضب، وهي نوع من الانفعال، وكذلك تكون في بعض الأحيان التي تحصل فيها منافسةٌ على شيءٍ واحدٍ اشترك فيه أكثر من شخصٍ، فهي خوفٌ من صاحبها أن يحتلَّ مزاحمٌ مكانه فيغار، وهي أنفةٌ مع الحميَّة، وكره شركة الغير، هذا يكون واضحا عندما نتكلَّم عن غيرة النِّساء، أو غيرة الضَّرائر فيما بينهنَّ.
أنواع الغيرة
والغيرة نوعان: غيرةٌ من الشَّيء، كما يقول ابن القيم رحمه الله، وغيرة على الشَّيء، فالغيرة من الشَّيء: هي كراهة مزاحمته ومشاركته لك في محبوبك، إذا أنت تُحبُّ شيئاً فتكره أن يزاحمك أحدٌ أو أن يشاركك فيه. والغَيرة على الشَّيء: هي شدَّة حرصك على هذا المحبوب حتى لا يصل إليه أحدٌ، أو يشاركك في الفوز به، والغيرة أيضاً نوعان باعتبار آخر: غيرة العبد من نفسه على نفسه، كغيرته من نفسه على قلبه، فهو إذا كانت غيرته صحيحة يغار أن يشتغل قلبه بغير ذكر الله، ويغار على الإقبال من الإعراض، لا يريد أن يحدث الإعراض، ويريد الإقبال هو الذي يبقى، فهو يريد أن يبقى قلبه مقبلاً على الله، غير معرضٍ عن الله، فغيرته على قلبه من الإعراض، يريد الإقبال ولا يريد الإعراض، وكذلك يغار على صفاته المحمودة: الكرم، الحياء، الصَّدق، الأمانة، يغار عليها من أيِّ شيءٍ من الصِّفات المذمومة، مثل: الكذب، والخيانة، ونحو ذلك.
فإذاً: ينبغي أن يغار العبد على الصِّفات المحمودة من الصِّفات المذمومة، بحيث يأبى ويرفض ويمانع ويقاوم أن تزاحمها أو تحل محلَّها، وهذه الغيرة خاصية النَّفس الشَّريفة، الزَّكية، العلوية، وأما النَّفس الدَّنيَّة المهينة فإنَّها لا تغار، وتترك الحبل على غاربة، وأيُّما خُلقٍ سيءٍ أو صفةٍ مذمومةٍ استولت على القلب، أو زاحمت في النَّفس، وتبوأت في النَّفس فهو لا يبالي.
غيرة الله تعالى على عبده
ثُمَّ الغَيرة أيضاً نوعان باعتبار ثالث: غيرة الحقِّ تعالى على عبده، وغيرة العبد لربه لا عليه، فأمَّا غيرة الرَّب على عبده: فالله يغار على العبد، فهي: أن لا يجعله للخلق عبداً، بل يتخذه لنفسه عبدا، فلا يجعل له فيها شركاء متشاكسين، بل يفرده لنفسه، ويضنُّ به على غيره، وهذه أعلى الغيرتين، فإذا غار الله على عبد فإنَّه يصطفيه، ويجتبيه، ويحميه من شياطين الإنس، وأن يكون عبداً لغيره، فالله يريده سالماً كاملاً له ، ولذلك اصطفى إبراهيم الخليل، واصطفى محمداً ﷺ كذلك، غيرة على العبد، ولا شك أن هذا الاصطفاء أعظم أنواع التَّكريم، ولذلك قالوا: أنَّ الله لما أُعجب إبراهيم بإسماعيل أمره بذبحه، وإنَّه من غيرته على يوسف أنَّه لما قال للرَّجل: اذكرني عند ربك لبث في السَّجن ما لبث، فإذا أراد الله أن يكون هذا العبد سالماً؛ سلَّما لله تعالى، فإنَّ الله يقطعه عن الدُّنيا، ويقطعه عن الشَّواغل القلبية، وعن كُلِّ ما يشغله عن الله؛ ليكون هذا العبد متوجهاً، كاملاً لله تعالى.
غيرة العبد لربِّه
وغيرة العبد لربه على نوعين: غيرةٌ من نفسه، وغيرة من غيره، فكيف يغار العبد من نفسه؟ الجواب: ألَّا يجعل شيئاً من أعماله وأقواله وأوقاته وأنفاسه، لغير الله، فهذه غيرة العبد من نفسه، ينبغي على المسلم المؤمن أن يغار من أن يزاحم قلبه شيءٌ لغير الله، أو تسكن نفسه لغير الله، أو تنصرف أوقاته أعماله لغير الله .
وغيرة العبد من غيره: أن يغضب لمحارم الله إذا انتهكها المنتهكون وتهاون بها المتهاونون، وهذه الغيرة حثَّ الإسلام على تأجيجها؛ لأنَّ إنكار المنكر لا يتمَّ إلا بها، فهي التي تبعث إنكار المنكر، ما الذي يبعث على إنكار المنكر؟ الغيرة على حرمات الله أن تنتهك، ومن تأمَّل أحوال الرُّسل مع أممهم وجد أنَّهم كانوا قائمين بالإنكار خير قيام، وأشد قيام لغيرتهم على حرمات الله تعالى، وغيرتهم على أوامر الله تعالى أن تنتهك أو تخالف حتى لقوا الله ، فإذاً هذه الغيرة التي ينفعل بها القلب لإنكار المنكر لا بُدَّ منها، ولا بُدَّ أن تكون عندنا غيرة فلا نسمح بها بقوع المنكر مطلقاً، فإذا ترحَّلت هذه الغيرة من القلب فقرأ ؛ لأنَّ النَّبيُّ ﷺ أخبر أنَّه ليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان لمن لا يكون في قلبه إنكار للمنكر، وكيف سيكون في قلبه إنكار للمنكر إذا لم يكن في قلبه غيرة تدفع وتهيج إلى الإنكار، ويحمر الوجه، وتنفعل النفس، ويغضب الإنسان إذا رأى منكراً يُرتكب، فهذه الغيرة التي يجب أن تزيد في نفس المؤمن، وأن تكون من القلب بمكان[ مدارج السالكين3/43-44].
أشدُّ النَّاس غيرةً بعد الرُّسل: المؤمنون
وأشدُّ النَّاس غيرةً بعد الرُّسل: المؤمنون، أشدَّاء في الحقِّ، وفي الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والانتقام لله ، فما الذي يدفعهم للانتقام لله ؟ غيرتهم، ولذلك كانوا لا يرضون بمنكرٍ أبداً، وقد شهد التَّأريخ بقيامهم بإنكار المنكر من غيرتهم، وكان ذلك مبنياً على شعور بالمسؤولية وصبر وشجاعة وحمية لله ، ولذلك كان بعض العلماء يدخل على السَّلاطين فيعظه وعظاً عجيباً، وكان ذلك نابع من غيرة، منكرٌ يرتكب، فيدخل على السُّلطان فيزجره، ورُبَّما يلقي الله في قلب السُّلطان المهابة للعالم حتى أن القضية تنعكس بالخطاب، فهذا العزُّ ابن عبد السلام رحمه الله تعالى دخل على سلطان مصر نجم الدِّين أيوب، وكان في مجلسٍ حافلٍ برجاله من حوله، فقال: يا أيوب، فقال: نعم يا سيِّدي، انعكست الألفاظ، قال: الحانة الفلانية يباع فيها الخمر، وتستباح فيها المنكرات، وأنت تتقلَّب في نعمة هذه المملكة، فقال السُّلطان نجم الدِّين أيوب: أنا لم أعمل هذا، بل هذا من زمان أبي، وأنا غير مسؤولٍ عنه، قال العزُّ ابن عبد السلام: أأنت من الذين يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ[الزخرف:22]. فرسم السُّلطان وأصدر أمره بإبطال تلك الحانة وإغلاقها، فقد أظهر العلماء العاملون غيرتهم على الدِّين، ووقفوا في وجه المنحرفين والمرتدَّين غير هيَّابين ولا وجلين، وقاموا بالمطلوب خير قيام، ذكر ابن القيم رحمه الله في روضة المحبِّين بحثاً عن الغيرة، وذكر مثالاً لطيفاً فيه: كيف يغار العبد على ربِّه؟ فقال: "ومن علامات الغيرة المحمودة والمحبَّة: كره من يدخل بين المحبِّ الصادق، وبين محبوبه، ولهذا السِّر -والله أعلم- أمر النَّبيُّ ﷺ بردِّ المارِّ بين يدي المصلِّي حتى أمر بقتاله، وأخبر أنَّه لو يدري ما عليه من الإثم لكان وقوفه أربعين خيراً من مروره بين يديه، ولا يجد ألم المرور وشدته إلا قلبٌ حاضرٌ بين يدي محبوبه مقبل عليه، وقد ارتفعت الأغيار بينه وبينه، فمرور المارِّ بينه وبين ربِّه بمنزلة دخول البغيض بين المحب ومحبوبه"[روضة المحبين281].
من أمثلة غيرة العبد على ربِّه
فإذاً: من اللَّطائف في منع المار بين يدي المصلي: غيرة قلب العبد الذي يحبُّ الرَّب من أن يأتي شخصٌ ويخل بينه وبين محبوبه؛ لأنَّه معلومٌ أنَّ النَّبي ﷺ قد أخبر أنَّ الله ينصب وجهه لوجه عبده في الصَّلاة مالم يلتفت، وأنَّ الله قبل وجه العبد في الصلاة، فإذاً هذه الأنواع من الغيرة: الغيرة المحمودة، كذلك فإنَّ الإنسان يغار على نفسه من الشَّيطان، ولا يرضى أن يترك للشَّيطان، أو يدع للشيطان سبيلاً عليه، ومن الغيرة كذلك: غيرة العابد على ضائع يسترد ضياعه، ويستدرك فواته، فمن هذا: قضاء ما فات من العبادات، فإنَّ الذي عنده غيرة لو فاته شيءٌ فإنَّه يريد أن يعوضه بأيِّ طريقةٍ، ولا يتركه يمضي دون تعويض، فالذي عنده غيرةٌ دينيةٌ لو فاتته عبادة: وردٌ، أو قيام ليل، أو نافلة، فإنَّه يسارع إلى قضائه، ويجبر ما فاته من الأوراد والنوافل أو أنواع القرب بفعل أمثالها من جنسها وغير جنسها، فيقضي ما ينفع فيه القضاء، ويعوِّض ما يقبل العوض، ويجبر ما يمكن جبره، ومن الأمثلة على ما يكون فيه القضاء: الصَّوم، والزَّكاة فلو أنَّه أخَّرها سارع على إخراجها مع التَّوبة إذا كان عامداً، وكذا الحجُّ إذا فاتته في صفاتها وفي سنة سارع إليه في السَّنة التي بعدها، كيف ضاعت منه العبادة، أو ذهبت منه هذه السَّنة؟ يغار فيستدرك، فإذا استدركه بعينه كالحج يسترده بعينه، لم يكتب له الحج هذه السَّنة، فاستردَّه بعينه، والفائت يستدرك بنظيره، مثل: الشَّيء إذا فات وقته قضاه في وقت آخر، وأحياناً لا يمكن قضاء الشَّيء فماذا يفعل؟ مثل: تفويت الصَّلاة المكتوبة، فلو ترك صلاةً عمداً فالرَّاجح أنَّه لا سبيل إلى قضائها؛ لأنَّ هذا وقتٌ فرضه الله، فالصَّلاة فرضها الله في وقتٍ معينٍ، فإذا خرج الوقت وضاع فلا يمكن أن تعود به مرَّةً أخرى لتُصلِّي به الصَّلاة، انتهى، فما هو الحل؟ الإكثار من النَّوافل لتعويض الفريضة الضَّائعة، فإذاً هناك أشياء يمكن أن تسترد هي نفسها، وأشياء تُقضى، وأشياء ليس إلَّا أن تعوِّضها بأشياء أخرى، أو تجبر ما يمكن جبرانه، وهكذا مبعث هذه الأعمال كُلُّها الغيرة، كيف ضاعت العبادة؟ لا بُدَّ أن نعمل شيئاً، فالنَّفس إذا كانت تغار كيف ضاعت العبادة؟ فلا بُدَّ أن تعمل شيئاً من قضاء، أو تعويض ونحو ذلك.
الغيرة على الوقت
ومن مجالات الغيرة المهمَّة جداً: الغيرة على الوقت، فإن الوقت أبيُّ الجانب بطيء الرُّجوع، والوقت أعزُّ شيءٍ في حياة الإنسان المسلم يغار عليه أن ينقضي دون أن يصرف في عبادة، فإذا فاته وقته لا يمكن استدراكه البتَّه ولا سبيل لإدراكه؛ فإنَّه يغار غيرة تدفعه إلي النَّدم والتَّوبة على ما فات، ومحاولة التَّعويض في المستقبل، الوقت منصرم فالآن هذه السَّاعة التي نحن فيها إذا ذهبت هل يمكن أن تعود مرَّةً أخرى؟ لا، وهكذا يمرُّ العمر ويذهب وينتهي ولا يمكن أن يعوَّض، فإذا كان عنده غيرة على وقته فإنَّه يكون محاسبٌ لنفسه اشدَّ المحاسبة في ذهاب الأوقات، ويكون حسابه عسيراً، فلا يفوت وقت بدون فائدة، وأمَّا إذا كان غافلاً تصرَّمت أوقاته، وعظم فواته، وأشدت حسراته، وطلب الرَّجوع فلا رجوع، رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا[المؤمنون:99-100]. وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ[سبأ:52]. وكيف يرد الأمس في اليوم الجديد؟ وأصعب الأحوال: انقطاع الأنفاس، ولا شك أن الإنسان المغتنم لوقته يكون ممدوحاً وداخلاً في قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]. فلأنَّهم استفادوا من الوقت، وعمَّروه بالطَّاعات، فلذلك كافئهم الله وقيل لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ . فالإنسان يجب عليه أن يغار في هذه المجالات التي تكون الغيرة محمودة ونافعة.
أمثلةً من غيرة بعض الأنبياء
ونأخذ أمثلةً من غيرة بعض الأنبياء: فقد ذكرنا أنَّ النَّبيَّ ﷺ كان يغار، وأنَّه أغير البشر، والله أغير منه، ومن مجالات الغيرة، الغيرة على النساء، وقد جاء حديث رواه الإمام أحمد رحمه الله وفي سنده ضعف، لكن نذكره للفائدة، يقول: حدَّثنا قتيبة حدثنا يعقوب ابن عبد الرحمن ابن محمد، يعني: القاري، عن عمر ابن أبي عمر عن المطلب عن أبي هريرة، وكُلُّ هؤلاء الرَّجال ثقاتٌ إلَّا المطلب بن حنطب فإنَّه لم يسمع من أبي هريرة كما ذكر ذلك البخاري رحمه الله في تاريخ الأوسط، وأبو حاتم في المراسيل، وبقي رجال، رجال الشيخين، عن أبي هريرة أنَّ رسول اللهﷺ قال: كان داوود النَّبي فيه غيرةٌ شديدةٌ، وكان إذا خرج أُغلقت الأبواب فلم يدخل على أهله أحدٌ حتى يرجع، قال: فخرج ذات يوم وغُلِّقت الدَّار، فأقبلت امرأته تطَّلع إلى الدَّار فإذا رجلٌ قائمٌ وسط الدَّار، فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرَّجلُ الدَّارَ والدَّار مغلقة؟ والله لتفتضحن بداوود، فجاء داوود فإذا الرَّجل قائمٌ وسط الدَّار فقال له داوود: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أهاب الملوك، ولا يمتنع مني شيءٌ، فقال داوود: أنت والله ملك الموت، فمرحباً بأمر الله، فرمل داوود مكانه حيث قبضة روحه حتى فرغ من شأنه، وطلعت عليه الشَّمس، فقال سليمان للطَّير: أظلِّي على داوود، فأظلَّت عليه الطَّير حتى أظلمت عليهم الأرض فقال لها سليمان: اقبضي جناحاً جناحاً قال أبو هريرة: "يرينا رسول الله ﷺ كيف فعلت الطَّير، وقبض رسول الله ﷺ، وغلبت عليه يومئذ المصرخية"[رواه أحمد9422، وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده ضعيف لانقطاعه"]. وضبط في بعض الطبعات في مسند أحمد المصرحية" اسم فاعل من التَّصريح" أي: غلبت عليه صفة التَّصريح، والإيضاح في البيان، حيث أوضح بالإشارة وبالكلام، استعان بإشارة اليد على التَّوضيح ما المرام، وقد ذكر العلماء أنَّ بني إسرائيل كان ملك الموت يأتيهم فيرونه، يأتي عندهم لقبض الرَّوح.
غيرة النَّبيِّ ﷺ وغيرة الصَّحابة
وغيرة النَّبيِّ ﷺ كما ذكرنا أنَّه كان أغير البشر، وكان إذا راى المنكر احمرَّ وجهه، وغضب ﷺ، أو إذا سمع كلاماً منكراً احمرَّ وجهه وغضب ﷺ، كُلُّ ذلك غيرةً للحقِّ، وفي سبيل الله تعالى، والأمثلة كثيرة.
وأمَّا غيرة الصَّحابة رضوان الله تعالى عليهم فهي غيرةٌ عظيمة، ونذكر بعض الأمثلة: فعن أبي هريرة قال: "بينما نحن عند رسول الله ﷺ جلوسٌ، فقال رسول الله ﷺ: بينما أنا نائمٌ رأيتني في الجنَّة فإذا امرأةٌ تتوضأ إلى جانب قصرٍ فقلت: لمن هذا؟ قالوا: هذا لعمر، فذكرت غيرتك وولّيت مدبراً فبكى عمر وهو في المجلس، ثُمَّ قال: أو عليك يا رسول الله أغار[رواه البخاري 3070]. رواه البخاري، وفي رواية له عن جابر قال رسول الله ﷺ: دخلت الجنَّة فإذا أنا بقصرٍ من ذهب فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لرجل من قريش، فمنعني أن أدخله يا ابن الخطاب إلَّا ما أعلمه من غيرتك قال: "وعليك أغار يا رسول الله"[رواه البخاري 6621]. رواه البخاري. وروى مسلمٌ عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: بين أنا نائم إذاً: هذا الكلام في رؤيةٍ، بين أنا نائم إذا رأيتني في الجنَّة، فإذا امرأةٌ توضأ إلى جانب قصر ولا مانع أنَّ الحور العين يتوضأن، وليس عن تكليف، ولكن طبع الحور العين تتوضأ، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا، قالوا: لعمر ابن الخطاب، فذكرت غيرة عمر فوليت مدبراً قال أبو هريرة: فبكى عمر ونحن جميعاً في ذلك المجلس مع رسول الله ﷺ، ثُمَّ قال عمر: "بأبي أنت يا رسول الله أعليك أغار"[رواه مسلم 2395].
وفي رواية لأحمد: عن أنس أنَّ رسول الله ﷺ قال: دخلت الجنَّة فرأيت قصراً من ذهبٍ، فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لفتى من قريش، فظننته لي فإذا هو لعمر ابن الخطاب فقال رسول الله ﷺ: ما منعني يا أبا حفص أن أدخله إلَّا ما ذكرت من غيرتك قال يا سول لله: من كنت من أغار عليه فإنِّي لم أكن أغار عليك"[رواه أحمد 13006، قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم]. وفي روية لبريدة: أصبح رسول الله ﷺ في الصَّباح ثُمَّ قال: إني دخلت البارحة الجنَّة فأتيت على قصر من ذهب مرتفع مشرف، فقلت: لمن هذ لقصر؟ قالوا: لرجل من العرب، قلت: أنا عربي، لمن هذا القصر؟ قالوا: لرجلٍ من المسلمين من أمَّة محمد، قلت: فأنا محمد، لمن هذا لقصر؟ قالو: لعمر ابن الخطاب فقال رسول الله ﷺ: لولا غيرتك يا عمر لدخلت القصر فقال يا رسول الله: "ما كنت لأغار عليك"[رواه الترمذي 3689، وصححه الألباني في صحيح وضعيف الترمذي 3689]. غيرة الصَّحابة رضوان لله تعالى عليهم كانت عظيمة، وكانت الغيرة على النِّساء فيهم شديدة، وبعضهم كانت الغيرة عنده زيادة عن الحدِّ، كما كان من طبيعة سعد ، وروي أحمدٌ رحمه الله عن ابن عباس لما نزلت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا[النور:4]. قبل أن يخصَّ الزَّوج بحكم، كان الحكم على من يرمي امرأةً بدون أربعة شهود يجلد حدَّ القذف، ثمانين جلدةً، لم يكن هناك حكمٌ خاصٌّ بالزَّوج، فالزوج لو رأى مع زوجته رجلاً، وما أتى بأربعة شهداء، واتَّهم زوجته فإنَّه يجلد، فالنَّبيُّ ﷺ قرأ عليهم الآيات، قال سعد ابن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا نزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ: يا معشر الأنصار ألا تسمعون على ما يقول سيدكم؟ يقول: هكذا نزلت، وهل أنا في شكٍّ في تبليغي قالوا يا رسول الله: لا تلمه، فإنَّه رجلٌ غيورٌ، والله ما تزوَّج امرأةً قط إلَّا بكراً، وما طلَّق امرأةً له قط، فاجترئ رجلٌ منَّا على أن يتزوجها، من شدَّة غيرته، فقال سعدٌ: والله يا رسول الله إنِّي لأعلم أنَّها حقٌّ، وأنَّها من الله تعالى، ولكني قد تعجَّبت أنَّي لو وجدت لكاعاً" يقصد زوجته "تفخذها رجلٌ لم يكن لي أن أهيجه، ولا أحركه، حتى آتي بأربعة شهداء، فو الله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته" هذا وجه الاستغراب، فما لبثوا إلَّا يسيراً حتى جاء هلال ابن أمية، وهو أحد الثَّلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاءً، فوجد عند أهله رجلاً، عند زوجته، فرآه بعينيه، وسمع بإذنيه، فلم يهجه، حتى أصبح فغدى على رسول الله ﷺ، فقال يا رسول الله: إنِّي جئت أهلي عشاءً فوجدت عندها رجلاً فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله ﷺ ما جاء به، واشتدَّ عليه، فالآن حسب الآية التي أُنزلت ما هو حكم هلال؟ حدَّ القذف، واجتمعت الأنصار، فقالوا: قد ابتلينا بما قاله سعد ابن عباده، هذا الكلام الذي قاله قد حدث فينا، الآن يضرب رسول الله ﷺ هلال ابن أمية، ويبطل شهادته؛ لأنَّ الآية فيها: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، ويبطل شهادته بالمسلمين.
قصة هلال ابن أمية وزوجته
فقال هلال: والله إنِّي لأرجوا الله أن يجعل لي منها مخرجاً، فقال هلال يا رسول الله: إنِّي قد أرى ما اشتدَّ عليك مما جئت به، والله يعلم أنِّي لصادقٌ، يقول الرَّاوي: ووالله أنَّ رسول الله ﷺ يريد أن يأمر بضربه إذا أنزل الله على رسول الله ﷺ الوحي، وكان إذا نزل عليه الوحي، عرفوا ذلك في تربِّد جلده، فأمسكوا عنه، حتى فرغ من الوحي، فنزلت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ[النور:6]. وصار حكم خاصٌّ بالرَّجل إذا قذف زوجته، الذي هو الملاعنة، فإذا وافق الملاعنة تلاعن هي أيضاً، إذا أبى الملاعنة فحدُّ القذف، وإذا أبت الملاعنة هي تُرجم، فسريا عن رسول الله ﷺ فقال: أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً فقال هلال: قد كنت أرجوا ذلك من ربِّي ، فقال رسول الله ﷺ: أرسلوا إليها فارسلوا إليها، فجاءت فقرأها رسول الله ﷺ عليهما، وذكَّرهما، واخبرهما أنَّ عذاب الآخرة أشدُّ من عذاب الدُّنيا، يعني: لو الكلام صحيحٌ اعترف أنت أو تعترف هي، ولو أنت جُلدت حدَّ القذف، أو هي رُجمت فعذاب الدُّنيا بالجلد أو الرَّجم أهون من عذاب الآخرة، فقال هلال: والله يا رسول الله لقد صدقتُ عليها، فقالت: كذب، فقال رسول الله ﷺ: لاعنو بينهم فقيل لهلال: اشهد، فشهد هلالٌ أربع شهاداتٍ بالله إنَّه لمن الصَّادقين، فلمَّا كان في الخامسة قيل يا هلال: اتق الله فإنَّ عذاب الدُّنيا أهون من عذاب الآخرة، وإنَّ هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، أي: الخامسة، فقال: والله لم يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، ما أنزل الآية بشأني إنقاذاً لي، فشهد بالخامسة أنَّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثُمَّ قيل لها: اشهدي أربع شهاداتٍ بالله إنَّه لمن الكاذبين، فلمَّا كانت الخامسة، قيل لها: اتق الله فإنَّ عذاب الدُّنيا أهون من عذاب الآخرة، فإنَّ هذه الموجبة التي تُوجب عليك العذاب فتلكأت ساعةً، ثُمَّ قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت في الخامسة أنَّ غضب الله عليها إن كان من الصَّادقين.
إذاً حصلت الملاعنة فما هي الخطوة الثَّانية؟ ففرَّق رسول الله ﷺ بينهما، وقضى أنَّه لا يدعى ولدها لأب، ولا ترمى هي به، هو الآن انتفى من الولد فلا ينسب به الآن، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فلعيه الحدُّ، وقضى أنَّه لا بيت لها عليه ولا قوت، من أجل أنَّهما يتفرقان من غير طلاق، ولا متوفى عنها، ثُمَّ ذكر النَّبيُّ ﷺ أوصافاً للمولود، ووصف شكلاً معيناً، قال: إن جاءت به أصيهب أريسح حمش السَّاقين فهو لهلال، ولده وهو كذَّابٌ وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج السَّاقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت بهولد الزاني، فجاءت به على النَّعت المكروه، يعني: فجاءت به به أورق جعداً جمالياً خدلج السَّاقين سابغ الأليتين، فتبيَّن أنَّ هلالاً صادقٌ، والمرأة كاذبة، لكن الملاعنة قد حصلت، فقال ﷺ: لولا الأيمان يعني: الخمس الملاعنات، لكان لي ولها شأن يعني: لرجمتها، لكن نزل الحكم فطبَّق الحكم بالملاعنة، والملاعنة الآن تنفي عن المرأة حدَّ الرَّجم، وحسابها عند الله، قال عكرمة: "فكان بعد ذلك أميراً على مصر وكان يُدعى لأمِّه ولا يدعى لأبيه"[رواه أحمد 2131، وقال شعيب الأرنؤوط : حسن].
غيرة سعد ابن عبادة
فالشَّاهد منه: أنَّ سعد ابن عبادة رضي الله تعالى عنه من شدَّة غيرته، قال: لا يمكن إذا رأيت رجلاً أن أتركه وأذهب أبحث عن أربعة شهداء، وقد نزل الحكم بعد ذلك بأنَّ تكون بالملاعنة، وانتهت المسألة بهذه الطَّريقة شرعاً، وحصلت قصةٌ أيضاً تُبيِّن غيرة أحد الصَّحابة الأنصار ، غيرة على زوجته، فقال أبو السَّائب -والرِّواية هذه لمسلم- أنَّه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلِّي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكاً في عراجين في ناحية البيت، فالتفت فإذا حيَّةٌ، فوثبت لأقتلها، فأشار إليَّ أن أجلس" أشار إليَّ وهو في الصَّلاة أن اجلس لا تفعل شيئاً، وهذا يُؤخذ منه أنَّه يجوز للمصلِّي أن يشير بإشارةٍ للمصلحة والحاجة، "فلمَّا انصرف من صلاته، أشار إلى بيت في الدَّار، فقال: أترى هذا البيت، فقلت: نعم، قال: كان فيه فتى منَّا حديث عهدٍ بعرس" حديث عهد بعرس: متزوج حديثاً "قال: فرجنا مع رسول الله ﷺ إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله ﷺ بأنصاف النَّهار فيرجع إلى أهله، يطمئن" فاستأذنه يوماً، فقال له رسول الله ﷺ: خذ عليك سلاحك فإنِّي أخشى عليك قريظه يعني: ينقضوا العهد ويحاربوا المسلمين، فأخذ الرَّجل سلاحه، ثُمَّ رجع إلى بيته، فإذا امرأته بين البابين قائمةٌ" خارج بيته "فأهوى إليها بالرُّمح ليطعنها به، أصابته غيرةٌ لمَّا رأى المرأة خارج البيت، فأهوى إليها بالرُّمح، فقالت له: اكفُف عليك رمحك وأدخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحيةٍ عظيمةٍ منطوية على لفراش، فأهوى إليها بالرُّمح فانتظامها به، ثُمَّ خرج فركزه في الدَّر، فاضطربت عليه" اضطربت عليه الحيَّة ولسعته، "فما يدرى أيُّهما أسرع موتاً الحيَّة أم الفتى، قال: فجئنا إلى رسول الله ﷺفذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله أن يحيه لنا فقال: استغفروا لصاحبكثُمَّ قال: إنَّ في المدينة جنٌّ قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئاً فأذنوه ثلاثة أيَّام فإن بد لكم بعد ذلك فقتلوه فإنَّما هو شيطان[رواه مسلم 2236]. وفي رواية لأبي السَّائب قال: دخلنا على أبي سعيد الخدري فبينما نحن جلوسٌ إذ سمعنا تحت السَّرير حركةً فنظرنا فإذا حيَّةٌ، وساق الحديث، وقال فيه: وقال رسول الله ﷺ: إنَّ لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئاً منها فحرِّجوا عليها ثلاثاً، فإن ذهب وإلَّا فتلوه فإنَّه كافرٌ وقال لهم: اذهبوا فدفنوا صاحبكم[رواه مسلم 2236]. فهذا الرَّجل الذي أدركته الغَيرة لما رأى زوجته في الخارج همَّ أن يطعنها، فهناك من النَّاس مَن عنده غيرةٌ شديدةٌ من جهة النِّساء، والمطلوب من الإنسان أن يغار على زوجته في حدود الشَّرع، فيلزمها مثلاً: بالحجاب، ولا يتركها تذهب بغير محرمٍ في السَّفر، ولا يتركها تذهب في غير خلوة داخل البلد، ولا يتركها تذهب إلى أماكن السُّوء والمختلطة، وإلى أعراس المنكر التي يدخل فيها المصوِّرون، ويدخل فيها الزَّوج أمام النِّساء، إذاً: الغيرة الشَّرعية على النِّساء تقتضي أن يراعي الإنسان زوجته وأهله ونسائه وأخواته، وأن يراعي هذه الجوانب فلا يسمح بمنكرٍ بالنُّسبة لأهله، أمَّا بالنُّسبة لقضية الحيَّات: فإنَّ بعض العلماء قالوا: هذا خاصٌّ بالمدينة؛ لأنَّ فيها جنٌّ أسلموا ولا يعم بقية البلدان، وقال بعضهم: يعمُّ بقية البلدان، وإذا وجدنا في البيت حرَّجنا عليها بالله، والتَّحريج عليها بالله لا يعني أن نتركها في البيت، فإنَّه يمكن إخراجها دون قتل، فيمكن إخراجها يخرجها بشيءٍ يلقيها بعيداً دون قتل، ثُمَّ إنَّهم تكلَّموا في الثَّلاث: يعني ثلاث مرَّات أو ثلاث أيام؛ لأنَّ نصَّ الحديث فيه ثلاثة أيَّام، على آية حال ليس هذا موضوعنا، بل موضوعنا الأصلي هو الغيرة على النساء.
ماذا تفعل المرأة إذا كان زوجها ذا غيرة شديدة
إذا كان الرَّجل صاحب غيرةٍ شديدةٍ فماذا ينبغي على المرأة أن تفعل؟ نحن ضربنا أمثلةً على أُناسٍ غيرتهم شديدةٌ من الصَّحابة رضوان الله عليهم، فالمرأة إذا كان زوجها صاحب غيرةٍ شديدةٍ يجب عليها أن تحسن التَّعامل معه، وتجتنب أشياء من أجل راحته النَّفسه؛ لأنَّ بعض الرِّجال الذين عندهم حساسية زائدة يحتاجون إلى نوع خاصِّ من التَّعامل، فرُبَّما مثلاً: لا يريدها مطلقاً أن تُكلِّم البائع، تُكلِّم زوجها وزوجها يكلِّم البائع، فعليها أن تفعل ذلك، فقد يكون كلامها مع البائع إذا لم تخضع بالقول جائزٌ، لكن حيث أن زوجها عنده غيرةٌ شديدةٌ فعليها أن تُراعي غيرة زوجها، وتكون حكيمةً، وهذا الشَّاهد لهذه المراعاة: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قال: "تزوَّجني الزُّبير، وماله في الأرض من مالٍ ولا مملوكٍ ولا شيءٍ غير ناضح وغير فرسه" ليس عنده إلَّا النَّاضح والفرس، وهو رجلٌ مجاهدٌ منطلقٌ في الجهاد في سبيل الله "فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء، وأخرز غربه" وترِّقع الدَّلو وتصلح له متاعه "وأعجن ولم أكن أُحسن أخبز، وكان يخبز جاراتٌ لي من الأنصار، وكن نسوةَ صدقٍ، وكنت أنقل النَّوى من أرض الزُّبير الَّتي أقطَعَه رسولُ الله ﷺ على رأسي، وهي منِّي على ثُلُثَي فرسخ" يعني: مسافة يمكن ثلاثة كيلو تنقل على رأسها "فجئت يوماً والنَّوى على رأسي فلقيت رسول الله ﷺ ومعه نفرٌ من الأنصار، فدعاني ثُمَّ قال: اخ اخ، يعني: هذه كلمةٌ تُقال للنَّاقة لكي تنزل "ليحملني خلفه فاستحيت أن أسير مع الرِّجال" ليحملني خلفه: هذا فهمها، وإلَّا فمن المحتمل أن يكون النَّبيُّ ﷺ أراد أن يرُكبها ويركب هو شيئاً آخراً، قالت: "فاستحيت أن أسير مع الرِّجال وذكرت الزُّبير وغيرته، وكان أغير الناس" هل هناك بأسٌ أن تركب المرأة على ناقة النَّبيِّ ﷺ؟ النَّبيُّ ﷺ هو من يدعوها لذلك رأفةً بها، وشفقةً عليها، فلا بأس إذا ركبت على ناقة النَّبيِّ ﷺمطلقاً، مع ذلك أسماء حكيمة، ذكرت الزُّبير وغيرته، ورُبَّما يصل إليه الخبر أنَّها صارت على النَّاقة مع الرِّجال، فامتنعت "فعرف رسول الله ﷺ أنِّي قد استحييت فمضى" تركها ومضى، إذاً قولها: وذكرت الزُّبير وغيرته وكان أغير الناس، وفي رواية: وكان أغير النَّاس، فراعت هذه المسألة، مع أن الذي يدعوها للرُّكوب هو النَّبيُّ ﷺ، وغير هذا: فالنَّبيُّ ﷺ زوج أختها فهذه المرأة محرَّمة عليه تحريماً مؤقَّتاً، ثُمَّ إنَّها متزوجة، فحتى لو فارق عائشة فلا يستطيع أن يأخذ أسماء؛ لأنَّ أسماء متزوجةٌ، فالمسألة لا تستدعي الغَيرة من جهة أنَّ النَّبيَّ ﷺ هو الذي دعاها، ثانياً: أنَّه زوج أختها، وهي متزوجةٌ فأين الرَّيبة؟
قصة أسماء بنت أبي بكر وغيرة زوجها الزبير
ومع ذلك قالت: ذكرت غيرتك، وخشيت أن تركب على البعير، ورُبَّما ينكشف منها شيءٌ أو تحدث مزاحمةٌ أثناء الطَّريق، ففضلت أن تستمرَّ بالنَّوى محملةً على رأسها من مكان بعيد ولا تركب، فهذه امرأةٌ حكيمةٌ التي تُراعي غيرة زوجها، قالت: "فاستحيت أن أسير مع الرِّجال، وذكرت الزُّبير وغيرته، وكان أغير النَّاس، فعرف رسول الله ﷺ أنِّي قد استحييت فمضى، فجاءت الزُّبير، فقلت له: لقيني رسول الله ﷺ وعلى رأسي النَّوى، ومعه نفرٌ من أصحابه فأناخ لأركب فاستحيت منه، فعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النَّوى كان أشدَّ عليا من ركوبك معه، يعني: الرَّجل أيضاً كان لطيفاً مع زوجته، فقال: حملك النَّوى أشدَّ عليَّ فلو ركبت لكان أسهل؛ لأنَّه كان يرحمها من هذا العمل الشَّاق، لكن ليس باليد حيلةٌ، وزوجها وأبوها -أبو بكر الصِّدِّيق- مشغولان بالجهاد، فما الذي يبرِّر أنَّ الزَّبير لم يكن نفسه يعمل العمل هذا؟ هو الذي يحمل، ويترك المرأة تعمل لماذا؟ اضطراراً؛ لأنَّه كان في غاية الشُّغل بالجهاد، وغيره من أوامر النَّبيِّ ﷺ؛ لأنَّ الزُّبير من أقرب النَّاس للنَّبيِّ ﷺ، وأبو بكر كذلك، فلا أبوها ولا زوجها يستطيعان المساعدة في هذا الموضوع، وما كان عنده مالٌ يستأجر خادماً، أو يأتي بخادم أو يشتري شيئاً، فلضيق ذات اليد انحصر العمل في امرأته فعملت اضطراراً وحاجة، إلى أن جاء فرج بعد ذلك من الله تعالى، قالت: "حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادمٍ تكفيني ساقة الفرس فكأنَّما أعتقني"[رواه البخاري 4823، ومسلم 2182]. فهذا الحديث في الصَّحيحين يُعطينا نموذجاً عن تعامل المرأة إذا كان زوجها شديد الغَيرة، حيث أنَّ بعض الرِّجال ليست القضية عنده قضية معقولة؛ بل إنَّها تصل إلى الوسوسة، غيرةٌ سيئةٌ لا يمكن أن تُوصف بأنَّها محمودةٌ، فتكون زوجته معه في عذاب، فإذا خرج من البيت وضع شريطاً لاصقاً على الباب من الخارج فإذا فتح الباب انقطع، ويتصوَّر أنَّه إذا فتح الشَّبك أنَّ كُلَّ الجيران يتآمرون عليه وعلى زوجته، وإذا حصل أنَّه رأى الشَّخص الذي أمامه ينظر في مرآة السَّيارة أوقفه على جنب ويصرخ عليه: لماذا تنظر في مرآة السَّيارة؟ مع أنَّ هذا الرَّجل قد يكون ينظر لمرآة السَّيارة نظراً طبيعياً لحادث القياقة، فبعض النَّاس عندهم مرضٌ في هذا الجانب.
من صور ضياع الغيرة في عصرنا
ونحن الآن في هذا العصر بين طائفتين، الطَّائفة الأكبر: هي الطَّائفة المضيِّعة، فبعضهم زوجته تسرح وتمرح في المعاصي، وهو ديِّوث لا يقيم لحرمات الله وزناً، فهو تارك الزَّوجة مع السَّائق الأجنبي، ومع الحفلات المخترقة، وهناك طائفةٌ أخرى عندهم وسوسةٌ شديدةٌ جداً، ولو جلسنا نتكلَّم في الموضوع سيطول المقام في حالات المرض، فلا يمكن أن يسمَّى إلا مرض نفسي.
والوسط ما هو؟
أنَّ الإنسان يغار في موضع الغيرة ، ولا يعني: كما قال الشاعر:
ما أحسن الغيرة في حينها | وأقبح الغيرة في غير حين |
من لم يزل متهماً عرسه | متبعاً فيها لقول الظَّنون |
يوشك أن يغريها بالذي | يخاف أن يبرزها للعيون |
حسبك من تحصينها وضعها | منك على عرض صحيح ودين |
فإذاً: الإنسان يجب أن تكون غيرتُه على زوجته في موقعها الصَّحيح، قال سالم بن عبد الله ابن عمر: كان عمر رجلاً غيوراً فكان إذا خرج إلى الصَّلاة اتبعته عاتكة ابنت زيد تريد أن تأتي المسجد، فكان يكره خروجها، ويكره منعها"[رواه أحمد283]. لماذا يكره خروجها؟ هذا واضحٌ، ويكره منعها؟ لحديث: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله[رواه البخاري 858، ومسلم 442]. فتقيَّد بالشَّرع، والمرأة إذا كانت حكيمة ولاحظت أنَّ زوجها لا يريد أن تخرج للمسجد فتقلِّل الخروج، فلا بُدَّ من مراعاة الطَّرفين، وأن تكون المسألة عند حدود الشَّرع، وإذا خرجت المسجد تخرج في غاية الحشمة.
فلا بُدَّ أن يكون الزَّوج وقَّافاً عند حدود الله، ويغار على زوجته الغيرة الشَّرعية؛ فيمنعها من الوقوع في الحرام والمنكر، ولا يزيد إلى حدِّ الوسوسة، ويجب أن تكون تربيته لزوجته تربيةً صحيحةً فإنّها إذا لم تكن ذات دين، أو لم يحسن انتقائها، و لم يحسن تربيتها؛ فالغيرة لا تفيد في جميع الأوقات؛ لأنَّها رُبَّما تعمل شيئاً من خلفه، لذلك كان النَّصارى الافرنج في القرون الوسطى عندهم شيئٌ يُسمَّى بحزام العفَّة: وهي أحزمةٌ حديديةٌ ذات أقفال، لا يأمن زوجته إذا ذهب للحرب فيلبسها هذا الحزام ويقفل عليها بالقفل حتى يتأكَّد أنَّه لا يأتي أحدٌ في غيابه، ولذلك قال الشاعر:
وإنِّي امراءٌ لا آلف البيت قاعداً | إلى جنب عرسي لا أفارقها شبرا |
إذا هي لم تحصن أمام فنائها | فليس تنجِّيها بنائي لها قصرا |
فإذا كانت المرأة ليست بذات عفَّة، فكُلُّ الاحتياطات رُبَّما لا تفيد، فمثلاً: تحتاج إلى حلٍّ من الأصل.
غيرة النساء
01:00:11
أمَّا بالنُّسبة لغيرة النِّساء فهو أمرٌ شديدٌ جداً، فقد عنون البخاري رحمه الله: باب غيرة النِّساء ووجدهن، والنَّسائي رحمه الله تحت باب المرأة الغيرى في سننه، قال: روى حديث أنس، قالوا يا رسول الله: ألا تتزوج من نساء الأنصار؟ قال: إنَّ فيهم لغيرةٌ شديدةٌ [رواه النسائي 3233، وصححه الألباني في صحيح وضعيف النسائي 3233]. وصححه الألباني في صحيح سنن النَّسائي، وقد كانت أمُّ سلمة رضي الله عنها فيها غيرة شديدة، فعن أمِّ سلمة قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من مسلمٍ تصيبه مصيبةٌ فيقول ما أمره الله: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهمَّ أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، إلَّا أخلف الله له خيراً منها قالت: فلمَّا مات أبو سلمة قلت: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمة، أوَّلُ بيتٍ هاجر إلى رسول الله ﷺ، ثُمَّ إنِّي قلتُها؛ فأخلف الله لي رسول الله ﷺ، قالت: أرسل إليَّ رسول الله ﷺ حاطبَ ابن أبي بلتعه يخطبني له، فقلت: إنَّ لي بنتاً وأنا غيورٌ، فقال: أمَّا ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعوا الله أن يذهب بالغيرة[رواه مسلم 918]. رواه مسلم. وفي رواية: فيها ابن عمر ابن أبي سلمة مقبول، أنَّ أمَّ سلمة قالت: قال أبو سلمة: قال رسول الله ﷺ: إذا أصاب أحدكم مصيبةٌ فليقل: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهمَّ عندك احتسبت مصيبتي وأجرني بها وأبدلني ما هو خير منها فلمَّا احتضر أبو سلمة قال: اللهمَّ أخلف لي في أهلي خيراً منِّي، فلمَّا قبض، قلت: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهمَّ عندك أحتسب مصيبتي فأجرني فيها، قالت: وأردت أن أقول: وأبدلني خيراً منها، قالت: ومن خير من أبي سلمة؟ فما زلت حتى قلتها، أجبرت نفسها، وقالت: مادام أنَّ الشَّريعة جاءت لأقولها سأقولها: فما زلت حتى قلتها فلمَّا انقضت عدتها خطبها أبو بكر فردته، يطمع لدينها أمَّا من ناحية السِّنِّ فهي كبيرةٌ، ثُمَّ خطبها عمر فردته، فبعث إليها رسول الله ﷺفقالت: مرحباً برسول الله ﷺ وبرسوله، أخبر رسول الله ﷺ أنِّي امرأة غيرى، فلمَّا بلغه ﷺ، فقال: أمَّا قولك: أنَّك غيرى فسأدعو الله أن يذهب غيرتك[رواه أحمد26711]. ثُمَّ إنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام تزوَّجها.
غيرة عائشة رضي الله عنها
وتقول عائشةٌ رضي الله عنها، وعندما نتكلَّم عن غيرة عائشة لا بُدَّ من إجراءات، أولاً: لا بُدَّ من معرفة قدر عائشة رضي الله عنها، وأنَّها التي أنزل الله براءتها من فوق سبع سموات، وأنَّها السَّيدة الجليلة الجميلة التي نقلت إلينا أكثر ما فعله ﷺ في بيته من نسائه، وروت لنا أحاديث ما كان يطَّلع عليها إلَّا هي، فنحن مدينون لهذه المرأة السَّيِّدة أم المؤمنين بشيءٍ عظيمٍ جداً، والكلام في فضل عائشة يقول: لا بُدَّ قبل أن يستمع الإنسان لأحاديث غيرة عائشة أن يستمع أو يعرف أشياء عن فضل عائشة؛ لأنَّ بعض النَّاس رُبَّما إذا استمع أحاديث غيرة عائشة يقول: ما هذا؟ إالى هذه الدَّرجة، ورما في نفسه ينتقد عائشة رضي الله عنها، فلا بُدَّ أن نعرف مناقبها قبل أن ندخل في شيءٍ من الأمور التي رُبَّما يجد أحدهم انتقاداً فيه على عائشة، لكن حيث أنَّ موضوعنا: غيرة النِّساء، وأنَّ عائشة رضي الله عنها كانت امرأةٌ غيرى، وأنَّ الأحداث التي حدثت مع النَّبيِّ ﷺ في مواجهة الغيرة كانت مع عائشة أكثرها، فلا بُدَّ من التَّطرُّق لهذه الأحاديث: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على أحدٍ من نساء النَّبي ﷺ ما غرت على خديجة، وما رأيتها، فخديجة ماتت، ومع ذلك عائشة تغار من الاسم، ولكن كان النَّبيُّ ﷺ يكثر ذكرها، ورُبَّما ذبح الشَّات يقطع أعضاء ثُمَّ يبعثها إلى صدائق خديجة، وصاحباتها، ورُبَّما قلت له: كأنَّه لم يوجد في الدُّنيا امرأةٌ إلَّا خديجة، فيقول: إنَّها كانت، وكانت وكان لي منها ولد[رواه البخاري3607]. رواه البخاري. وفي رواية: عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت هالة بنت خويلد على رسول الله ﷺ، من هي هالة؟ أخت خديجة، فعرف استئذان خديجة، شبَّه له الصَّوت حيث أنَّ هذه أختها والصَّوت متقاربٌ، فارتاع لذلك، قال: اللهمَّ هالة قالت: فغرت، فقلت: "ما تذكر من عجوزٍ من عجائز قريش حمراء الشِّدقين هلكت في الدَّهر، قد أبدلك الله خيرا منها"[رواه البخاري3610].
كيف نتعامل مع غيرة النِّساء
أيضاً من الأشياء التي لابُدَّ أن نراعيها في عائشة رضي الله عنها: أنَّها لما تزوَّجها النَّبيُّ ﷺ كانت صغيرة، إذ بعض الأشياء لا بُدَّ أن تُعزى إلى صغر السِّنِّ، وإلى شدَّة الغيرة أشياء أخرى.
والغيرة قد تحمل المرأة فعل مالا ينبغي، هذا هو لبُّ القصيد في موضوع ذكر الكلام على غيرة النِّساء، هذا يحتاج إلى درس لوحده، كيف نتعامل مع غيرة النِّساء؛ لأنَّ قضية الغيرة عند النِّساء شديدةٌ وأمرٌ جُبلت عليه، طبعت وخلقت عليه، ولا تكاد توجد في الدُّنيا امرأةٌ ليست عندها غيرةٌ بالذَّات إذا تزوَّج عليها زوجها، أو كانت مع ضرائر فعند ذلك لا بُدَّ أن يتحمَّل ما يأتيه.
فعن أنس قال كان النَّبيُّﷺ عند بعض نساءه فأرسلت إحدى أمَّهات المؤمنين بصحفةٍ فيها طعام، فضربت التي النَّبيُّ ﷺ في بيت هذا الخادم، فسقطت الصَّحفة فانفلقت، كانت تقول: يعني ترسل طعام في بيتي وعندي، ترسل طعام، فانفلقت فجمع النَّبيُّ ﷺ فلق الصَّحفة، فلا تكلَّم ولا زمجر ولا غضب ولا عيَّر ولا عاب، ثُمَّ جعل يجمع فيها الطَّعام، في هذه الفلقة المكسورة الذي كان في الصَّفحة ويقول: غارت أمُّكموأثبت أنَّها أُمُّنا أمُّ المؤمنين، ثُمَّ حبس الخادم حتى أُوتي بصحفةٍ من عند التي هو في بيتها، لا بُد من القصاص والتَّعويض، فدفع الصَّحفة الصَّحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت[رواه البخاري 4927]. رواه البخاري، وعن أمِّ سلمه أنَّها أتت بطعام في صحفةٍ لها إلى رسول الله ﷺ وأصحابه، فجاءت عائشةٌ متَّزرة بكساء ومعها فهر، يعني: حجرٌ، ففلقت به الصَّحفة، فجمع النَّبي ﷺ بين فلقتي الصَّحفة ويقول: كُلُّوا غارت أمُّكم مرتين، ثُمَّ أخذ رسول الله ﷺ صحفة عائشة فبعث بها إلى أمِّ سلمة، وأعطى صحفة أمِّ سلمة عائشة رضي الله عنها[رواه النسائي 3956 وصححه الألباني في صحيح النسائي 3956]. هذا الذي رواه النِّسائي.
حكم من يستدلُّ بغيرة عائشة
وحتى لا نتجاوز الحادثة بدون أن نذكر أنَّ عائشة ندمت، فلا بُدَّ أن نذكر الرِّواية التي حسَّن إسنادها ابن حجر عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة قالت: ما رأيت صانعة الطَّعام مثل صفية، أهدت إلى النَّبيِّ ﷺ إناءً فيه طعامٌ فما ملكت نفسي أن كسرته، فسألت النَّبيَّ ﷺ عن كفارته، فقال: إناءٌ كإناءٍ وطعامٌ كطعامٍ[رواه أحمد 25196، وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده حسن" مسند أحمد25196]. فهذا معناه أنَّها ندمت وأنَّها سألت عن الكفَّارة.
وهناك نقطة مهمَّة أيضاً: وهي أنَّ بعض النِّساء لا يصلح لهنَّ أن يسمعن هذه القصص؛ لأنَّه إذا سمعت القصص، وأراد زوجها وعظها، قالت: عائشة، فكوني مثل عائشة بالفضل والتُّقى والعبادة، يذهب من عندها ابن أختها إلى السُّوق وهي تقرأ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27]. وتبكي، ويذهب ويتعالى النَّهار في السُّوق، ويرجع بعد ذلك ويجدها واقفةً، وهي تقرأ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ وتبكي، ويأتيها العطاء بعشرين ألف دينار وتُوزِّع في مجلس واحد، حتى تقول لها مولاتها أبقي لنا شيئاً نحن مساكين.
فإذاً بعض النِّساء لا يصلح أن يسمعنَا مثل هذا؛ لأجل كأنَّك تعطيها السَّلاح الذي تحتجُّ به عليك، لكن النِّساء الاتي عندهنَّ عقلٌ ودينٌ تعرف القضية، وتعرف أنَّها إذا كان عائشة عندها حسناتٌ كثيرةٌ جداً، هذه تغمر في بحر فضائلها، فرُبَّما هي لا تكون عندها بحر حسنات.
نماذج من غيرة عائشة رضي الله عنها
وعن عائشة قالت: دخل عليَّ رسول الله ﷺ في اليوم الذي بدأ فيه، يعني: بدأ فيه مرض الموت، فقلت: وا رأساه، فقال: وددت أن ذلك كان وأنا حيٌّ، يعني: إذا اشتكيت وأصابك شيءٌ وددت أنَّه صار وأنا حيٌّ فهيأتك ودفنتك، إذا أصابك شيءٌ وأنا حيٌّ هيأتك ودفنتك، فما هي ردت الفعل؟ قالت: فقلت غيرةً، أصابتها غيرةٌ، كأنِّي بك في ذلك اليوم عروسٌ لبعض نسائك، إذا أنا متُّ وغسلتني ودفنتني في ذلك اليوم ستجدك مضاجعاً امرأةً من نساءك، وفي رواية قالت: "وا رأساه" فقال رسول الله ﷺ: لو كان وأنا حيٌّ فاستغفر لك وأدعوا لك فقالت عائشة: وثكلاه والله أنِّي لأظنُّك تحبُّ موتي، ولو كان ذاك لظننتك آخر يومي معرساً ببعض أزواجك، فقال النَّبيُّ ﷺ: بل أنا وآ رأساه[رواه البخاري 5342]. الحديث رواه البخاري، حصل أيضاً من الأشياء أنَّ بعض أزواج النَّبيِّ ﷺ اجتمعنَ عليه من الغَيرة كما روى البخاري، فأنزل الله تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ[التحريم"5]. اجتمعن عليه من الغَيرة، يعني: بسبب الغيرة، فحصلت مؤامرةٌ من بعض أزواج النَّبيِّ ﷺم ضدَّ بعض، وكان نساء النَّبيِّ ﷺ حزبين، فحزب فيه عائشةٌ، والحزب الآخر حزب من؟ أم سلمة، فحصل منافسات بين الحزبين، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ يحبُّ العسل والحلوى، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نساءه فيدنوا من إحداهنَّ، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس أكثر ما كان يحتبس فغرتُ لماذا مكث طويلاً عندها؟ فقيل لي: أهدت لها امرأةٌ من قومها عكَّةً من عسل، فسقت النَّبيَّ ﷺ منه شربةً، فقلت: أما والله لنحتالنَّ له، فقلت لسوده بنت زمعة: إنَّه سيدنو منك، فإذا دنى منك فقولي: أكلت مغافير، يعني: نبات صمغي حلو المذاق كريه الرَّائحة، والنَّبيُّ ﷺ كان من أشدِّ الأشياء عليه أن يُوجد منه رائحةً كريهة، فإنَّه سيقول لك: لا، فقولي له: ما هذه الرِّيح الذي أجد منك، فإنَّه سيقولك: سقتني حفصة شربةَ عسل، فقولي له: جرست نحله العُرفُط، يعني: النَّحل التي أنتجت العسل قد أكلت من نبات الرَّائحة الكريهة فانعكس أثرٌ في العسل، فمن ذكاء عائشة رضي الله عنها أنَّها تتوقَّع الحوار بالنَّص وكلمة كلمة، وسأقول ذلك، وقولي أنت يا صفية ذاك، هذه المؤامرة التي تُحبَك، قالت تقول سودة: فو الله ما هو إلَّا أن قام على الباب فأردت أن أباديه بما أمرتني به فرقا منك، يعني: قبل أن يدخل تشم، من خوفها من عائشة كانت ستعترف، أو تقول الكلام الذي لقنته عائشة قبل أن يأتي موقعه المناسب، فلمَّا دنى منها قالت سودة: يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال:لا قالت: فما هذه الرَّيح التي أجد منك، قال:سقتني حفصة شربةَ عسل فقالت: جرست نحله العُرفُط، فلمَّا دار إليَّ قلت له نحو ذلك، فلمَّا دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلمَّا دار إلى حفصة قالت: يا رسول الله ألا أسقيك منه، قال: لا حاجة لي فيه قالت تقول سودة: والله لقد حرمناه، قالت لها: اسكتي"[رواه البخاري4967، ومسلم 1474]. رواه البخاري، فسبب المؤمرة هذه نزل قول الله تعالى: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ[التحريم:5]. اجتمعن عليه وصارت من جهات أخرى وقضية تحريم مارية وقضية العسل، وأكثرن عليه بالنَّفقة، فهجرهنَّ شهراً، ونزلت آية التَّخيير والقصة معروفة.
نماذج آخر من غيرة عائشة رضي الله عنها
ومن غيرة عائشة رضي الله عنها أيضاً أنَّها قالت: كان رسول الله ﷺ إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة على عائشة وحفصة، فخرجتا معه جميعاً في السَّفر، وكان رسول الله ﷺ إذا كان باللَّيل سار مع عائشة يتحدَّث معها، يسامر أهله في اللَّيل مسامرةَ المسافر لأهله، فقالت حفصة لعائشة: ألا تركبين اللَّيلة بعيري وأركب بعيرك فتنظرين وأنظر؟ قالت: بلى، فركبت عائشةُ على بعير حفصة، وركبت حفصة على بعير عائشة، فجاء رسول الله ﷺ إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلَّم ثُمَّ صار معها حتى نزلوا، إذاً: الرَّسول ﷺ سامر التي على البعير، ولم يسأل عن عائشة، فافتقدته عائشة فغارت، أدركتها الغيرة، فلمَّا نزلوا جعلت تجعل رجلها بين الإذخر، وتقول: "يا رب سلِّط عليَّ عقرباً أو حيَّةً تلدغني، رسولُك ولا أستطيع أن أقول له شيئا"[رواه مسلم 2445]. يعني: هو رسولك ولا أستطيع أن أنتقده بشيءٍ. رواه مسلم. لو قال قائلٌ: ما الذي حملها على ذلك؟ وكيف تدعو على نفسها وهو لا يجوز الدُّعاء على النَّفس؟ صحيح، لكن لا بُدَّ أن نعلم أنَّ الغيرة تُخرج المرأة عن طورها، فإذاً تُعذر بأشياء لا يعذر فيها الشَّخص العادي.
وعن عائشة زوج النَّبيِّ ﷺ أنَّه ﷺ خرج من عندها ليلةً قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: مالك يا عائشة أغرتِ فقلت: ومالي لا يغار مثلي على مثلك، فقال رسول الله ﷺ: أقد جاءك شيطانك قالت يا رسول الله: أو معي شيطانٌ؟ قال: نعمقلت: ومع كُلِّ إنسان؟ قال: نعم قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: نعم ولكن ربِّي أعانني عليه حتى أسلم[رواه مسلم 2815]. الشيطان هذا أسلم. رواه مسلم.
وهناك قصَّةٌ أيضاً في صحيح مسلم: أنَّ قيس ابن محمد ابن مخرمة ابن المطلب قال يوماً: ألا أُحدِّثكم عنِّي وعن أمِّي؟ قال: فظننَّا أنَّه يريد أمَّه التي ولدته، قال: قالت عائشة: "ألا أُحدِّثكم عنِّي وعن رسول الله ﷺ؟ قلنا: بلى، قال: قالت: "لما كانت ليلتي التي كان النَّبيُّ ﷺ فيها عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه ووضعها عند رجليه، وبسط طرفي إزاره على فراشه فاضطجع فلم يلبث إلَّا ريثما ظنَّ أنِّي قد رقدت، فأخذ رداءه رويداً وانتعل رويداً، وفتح الباب فخرج ثُمَّ أجافه رويداً" أي: أغلقه، "فجعلت دِرعي في رأسي" عائشة أتاها ظنٌّ: أين سيذهب وهذه اللَّيلة ليلتي، قالت: "فجعلت دِرعي في رأسي واختمرت وتقنَّعت إزاري، ثُمَّ انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام، ثُمَّ رفع يديه ثلاث مرَّات، ثُمَّ انحرف فانحرفت فأسرع فأسرعت فهرول فهرولت فأحضر فأحضرت" وهو عدو فوق الهرولة "فسابقته فدخلت، فليس إلَّا أن اضطجعت فدخل، فقال: مالك يا عائشة حشيا رابيةً قالت: قلت: لا شيء، قال: لتخبريني أو ليخبرنِّي اللطيف الخبير قالت: قلت يا رسول الله: "بأبي أنت وأمي فأخبرته" اعترفت أنَّها ظنَّت أنَّه أين سيذهب في ليلتها؟، قال: فأنت السَّواد الذي رأيته في أمامي قلت: "نعم فلهدني في صدري لهدةً أوجعتني" ضربة لأجل الزَّجر، ثُمَّ قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله يعني: أنا رسول الله أظلمك وأذهب إلى غيرك في ليلتك؟ ما هذا الظَّنُّ؟ قالت: "مهما يكتم النَّاس يعلمه الله" قال: نعمثُمَّ أخبرها أنَّ جبريل أتاه وأمره من أن يذهب إلى أهل البقيع، ويستغفر لهم[رواه مسلم 974].
كيفية التَّعامل مع الزَّوجات إذا صارت في حال الغيرة
وهناك حديثٌ في سنده ضعفٌ، لكن نذكره لفائدة التَّعامل مع الزَّوجات إذا صارت في حال الغيرة: عن إسحاق ابن سعيد عن أبيه قال: "بلغني أنَّ عائشة" هذا بلاغ رواه أحمد والحديث منقطعٌ هنا، أو فيه مجهولٌ، ولا ندري من الذي وكيف بلَّغه؟ ومن هو المبلَّغ؟ قال: "بلغني أنَّ عائشة قالت: ما استسمعت على رسول الله ﷺم إلَّا مرَّةً، فإنَّ عثمان جاءه في نحر الظَّهيرة، فظننت أنَّه جاءه في أمر النِّساء، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه، فسمعته يقول: إنَّ الله ملبسك قميصاً تريدك أُمتي على خلعه فلا تخلعه فلمَّا رأيت عثمان يبذل لهم ما سألوه إلَّا خلعه علمت أنَّه من عهد رسول الله ﷺ الذي عهد إليه"[رواه أحمد 25348].
فإذاً الغيرة قد تحمل المرأة على التَّجسس على زوجها، هذا الحديث في سنده ضعف، لكن الفائدة هي: أنَّ الغيرة قد تحمل المرأة على التَّجسُّس على زوجها، والتَّنقيب في أوراقه ودفاتره، وأماكن خروجه، وأين يذهب، وهواتفه ومكالماته، ومن عنده في البيت، إذاً: ينبغي أن يكون الزَّوج حكيماً في التَّعامل ويقدِّر الغيرة الموجودة، وإذا وعظ يعظ بما تتحمَّله الزَّوجة، لا بُدَّ من موقف، لكن ليكن موقفاً تتحمَّله الزَّوجة ولا يسكت.
أمَّا بالنُّسبة لكون النَّبيُّ ﷺ أمر عثمان إذا قمَّصه الله قميصاً لا يخلعه فقد ثبت في الحديث الصَّحيح الآخر، ولذلك عثمان ما خلع نفسه من الخلافة، مع أنَّهم حاصروه لأجل هذا.
يجب على المرأة أن تحذر من أذية زوجها الصَّالح
ولا بُدَّ للمرأة أن تحذر من أذية زوجها الصَّالح؛ لأنَّ الحادثة التي حصلت فيها اجتماع نساء النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام عن غيرة، ثُمَّ نزل فيهنَّ التَّأنيب من الله تعالى؛ يدلُّ على أنَّه يجب على المرأة أن تحذر من أذية زوجها الصَّالح لغيرتها، والغيرة بالنُّسبة للنِّساء يقول ابن حجر رحمه الله معلقاً على فوائد أحاديث جمعها البخاري في الغيرة، قال: "فيه إشارةٌ على عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها؛ لأنَّها في تلك الحالة يكون عقلها محجوباً بشدَّة الغضب الذي أثارته الغيرة" هذا كلامٌ مهم؛ لأنَّ الإنسان إذا عرف الظَّرف المقابل سهل عليه التَّعامل معه "وقد أخرج أبو يعلى بسندٍ لا بأس به عن عائشة مرفوعاً: إنَّ الغيراء لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه الوادي الغيراء لا تبصر أسفل الوادي وكبره من أعلاه من شدَّة الغيرة.
"وعن ابن مسعود مرفوعاً: إنَّ الله كتب على النِّساء فمن صبر منهنَّ كان لها أجر شهيد أخرجه البزَّار وأشار إلى صحته ورجاله ثقات، ولكن اختلف في عُبيد ابن الصباح منهم"[فتح الباري9/ 325]. هذا كلام ابن حجر رحمه الله تعالى.
وقال الطَّبري وغيره من العلماء كما نقل ابن مفلح في كتاب الآدب الشَّرعية: "الغيرة مسامحٌ للنِّساء فيها لا عقوبة عليهنَّ لما جُبلنَ عليه من ذلك، ولهذا لم يزجر عائشة رضي الله عنها، وقال القاضي عياض: "عندي أنَّ ذلك جرى من عائشة لصغر سنِّها وأول شُبيبتها، ولعلَّها لم تكن بلغت حينئذٍ"[الآداب الشرعية1/ 265]. فنريد أن نقول: أنَّ الغيرة صحيحٌ مركبَّةٌ في طبع النِّساء، لكن ليس معنى ذلك أنَّ المرأة تتعدَّى، وكُلَّما ظلمت زوجها تقول: غيرةٌ ومركبةٌ فيَّ، لا، يجب عليها أن تجاهد، ولذلك هذا العالم لما قال هذا الكلام كان يريد أن يقطع الطَّريق على من تحتجُّ لغيرة عائشة ومن يلوم عائشة، ويقول: أنَّ عائشة يمكن ما بلغت ودون سن البلوغ لمَّا كثير من الأحكام؛ لعدم انفكاكهنَّ منها، حتى قال مالك وغيره من علماء المدينة: يسقط عنها الحدُّ إذا قذفت زوجها بفاحشةٍ على جهة الغيرة" أمَّا من غير جهة الغيرة تحد، ومغاضبة النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام حرامٌ لا يجوز، ومن أكبر الكبائر، وعائشة غاضبته، وكانت تهجر اسمه، والنَّبيُّ ﷺ كان يحسُّ بذلك[الآداب الشرعية1/ 265]. فقال النَّووي في شرح مسلم: "هذا الذي فعلته وقالته حملها عليه فرط الغيرة على رسول الله ﷺ، وقد سبق أنَّ أمر الغيرة معفو عنه"[شرح النووي15/210]. وقلنا أنَّ الغيرة لها علاقةٌ بالغضب، والغضب مع وجود العقل لا يسامح بسببه في الانفعال ونحوه، لكن إذا ذهب العقل في الغضب عند ذلك لا يحصل تحمُّل المسؤولية؛ بسبب غياب العقل.
فإذاً: ينبغي أن يقدِّر الزَّوج طبع الغيرة الموجود في زوجته، ويجب على الزَّوجة أن لا تتمادى في التَّصرُّفات السَّيئة محتجَّة بقضية الغيرة، فلذك إذا زال العقل في شدَّة الغيرة فرُبَّما لا تتحمَّل ويعفى عنها، والله يسامحها، لكن إذا عقلها موجود فإنَّها تتحمَّل كُلَّ ما فعلته.
إلى ماذا الغيرة المفرطة عند المرأة
وما أشقى المرأة الغيورة! وما أتعس حياتها!، تقول إحدى النِّساء: كانت لي صديقة كثيرة الشُّكوك شديدة الغيرة، فإذا خرج زوجها، أو ضرب موعداً، أو تكلَّم في الهاتف، أو حرَّر رسالةً، أو أطرق مفكراً، أو بدى منسرحاً، أو أرسل ابتسامةً أيقنت أنَّ هناك امرأةٌ وعجزت هذه الحمقاء عن أخذ نفسها بالحكمة، ولذلك في مثل هذه الحالة تحرم من نعمة الزَّوج؛ لأنَّه في النِّهاية ستنتهي للطَّلاق، هذا إذا كان الزَّوج بريئاً، إنَّما إذا كان الزَّوج فاسقاً، فاجراً، فالظَّنُّ السَّيئ به يستحقُّه، ويستحقُّ أن يتتبع ليُزجر؛ لأنَّ بعض النِّساء عاقلة، ولكن زوجها خائنٌ، فلذلك إذا شكت فيه سبب تصرفاتهن بسبب أفعاله، بسبب القرائن السَّيئة التي ظهرت منه، والأماكن السَّيئة التي يذهب إليها، فإذا إذا كان الرَّجل سليماً في تصرفاته، متقي بأوامر الله فالظَّنُّ فيه على هذه القضية في أي كلامٍ، أو هاتف، أو رسالة، وهذا ظلم تتحمَّله المرأة، وإذا كان رجلا فاجراً فظنُّ السُّوء فيه هو الذي جلبه، فيستحق ظنَّ السُّوء.
ونعود ونقول: إنَّ المسألة تعود إلى القرائن، فالغيرة المحمودة في الرَّيبة، والمذمومة بغير ريبة، وهذا الضَّابط الذي ذكره النَّبي ﷺ، وقال معاوية: "ثلاث من خصال السُّؤدد، الصَّلع، واندحاق البطن، وترك الإفراط في الغيرة"[عيون الأخبار1/ 95]. ونزل قيس ابن زهير في بعض العرب، وقال لهم: "أنا غيورٌ فخور ضجور، ولكن لا أغار حتى أرى شيئاً بعيني"[العقد الفريد2/421]. أرى بعيني السُّوء، أو قرينة أو أثر يدلُّ على سوء، فهذا دليل إتهام، ودليل سوء فسأغار، أمَّا أن أ غار مجرَّد الشَّك والوسوسة، لا، وهذا الذي قلنا: أنَّه في غاية العيب، وهذا الذي تكون زوجته معه في جحيم، أن يشك بها بدون أيِّ مبررٍ ولا دليلٍ، ولا قرينٍ، وكذلك تشكُّ فيه دون أيِّ شيءٍ.
وختاما فإنَّنا نسأل الله أن يوفِّقنا إلى كُلِّ خيرٍ، وصلَّى الله وسلَّم على سيِّدنا محمد.