الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسوله محمد، وآله وصحبه، وبعد:
معنى العفَّة، ومن أيِّ خُلُقٍ تتكَّون
فحديثنا أيُّها الإخوة في هذه الليلة عن خلقٍ جميلٍ جدَّاً من الأخلاق الإسلامية، ونحتاج إليه في هذا الزَّمان جدَّاً؛ ألا وهو: خُلقُ العفَّة، جاء في لسان العرب: العفة: هي الكفُّ عمَّا لا يحلُّ ويجمُلُ، عفَّ عن المحارم والأطماع الدَّنية، يعفُّ عفَّةً وعفَّاً وعفافًا وعفافةً فهو عفيفٌ، وعفٌ أي: كفَّ وتعفَّف واستعفف وأعفَّه الله، وفي التَّنزيل: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا[النور:33]. فسَّره ثعلبٌ فقال: "وليضبط نفسه بمثل الصَّوم فإنَّه وجاءٌ" والاستعفاف: طلب العفاف؛ وهو الكفَّ عن الحرام والسُّؤال من النَّاس، وقيل الاستعفاف: الصَّبر والنَّزاهة عن الشَّيء، وامرأةٌ عفيفةٌ عفَّة الفرج، ونسوةٌ عفائفٌ، وتعفَّف أي: تكلَّف العفَّة، أي: حمَّل نفسه عليها وتكلَّفها لتصبح خلقاً له[لسان العرب9/ 253]. فإذاً العفَّة: كفُّ النَّفس عن المحارم وعمَّا لا يجمُل بالإنسان فعله، ومن ذلك: العفَّة عن اقتراف الشَّهوة المحرَّمة، والعفَّة عن أكل المال الحرام وعن ممارسة ما لا يليق بمكانة المسلم، والتَّعفُّف عن الدَّناءات: كالجشع في الولائم والتَّسابق على الطَّعام، والجشع في التَّجارة ومزاحمة صغار الكسبة في مجالاتهم الحقيرة قليلة الموارد والأرباح، فإنَّ التَّاجر يتعفَّف عن مزاحمة هؤلاء الصِّغار، ويأتي في مقابل العفَّة: الدَّناءة والخسَّة، وصورها كثيرةٌ، فالعفَّة من مكارم الأخلاق والدَّناءة من رذائل الأخلاق.
وإذا أردنا أن ننظر إلى الخُلق الذي تتكَّون منه العفَّة وتتركَّب منه أساساً؛ فإنَّنا سنجد أنَّه الصَّبر، فالعفَّة أساساً مركَّبة من الصَّبر، وكذلك الطَّمع في ثواب الكفِّ والخوف من العاقبة؛ يحمل الإنسان على العفَّة، ولكنَّها أساساً ناشئةٌ من الصَّبر، والعفَّة لا تكون إلَّا إذا وجد الدَّافع إلى ما ينافيها، فإذا لم يكن هناك دافعٌ فلا يُسمى ذلك الشَّخص عفيفاً، فلو أنَّ رجلاً لا يشتهي أو به علَّة لا إرب له؛ فإنَّه لا يُسمى عفيفاً؛ لأنَّه عاجزٌ عن مواقعة الحرام واشتهائها، فلا يتعرَّض للامتحان حتى يعفُّ، وكُلِّما كانت الظُّروف الدَّاعية لارتكاب الحرام أعظم، كانت العفَّة في الصَّبر عن ارتكابه أعظم.
أعظم عفَّةٍ في التَّاريخ: عفَّة يوسف
ولما كانت عفَّة يوسف مستوفيةً كُلَّ شروطها وأركانها؛ كانت من أعظم أمثال العفَّة في تاريخ الإنسان، فقد لا يُعرف في تاريخ البشر أن شخصاً قد اجتمعت له الظُّروف المواتية لارتكاب فاحشة الزِّنا مثلما اجتمعت ليوسف ، فلو استعرضنا ما حصل من الظُّروف لوجدنا:
أولاً: أنَّ المرأة جميلةٌ، ثانياً: أنَّ المرأة ذات منصب، ثالثاً: أنَّ المرأة هي سيدته التي لها عليه الأمر والنَّهي، ويلزمه أن يطيعها، رابعاً: أنَّها قد استعانت عليه بكيد النُّسوة وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ [يوسف:33]. خامساً: أنَّها هددته بالسِّجن إذا لم يفعل، سادساً: أنَّ يوسف كان شابَّاً، وداعي الشَّهوة عند الشَّاب أكبر من الشَّيخ والطِّفل، وسابعاً: أنَّه كان أعزباً ليس بمتأهل ولا متزوِّج، ودافع الزِّنا عند العزب أكبر من المتزوج، ثامناً: أنَّه عبدٌ لا يستحي مثلما يستحي الحرُّ، ولذلك جعل على العبيد نصف ما على الأحرار من العذاب في الزِّنا فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ[النساء:25]. مراعاةً لهذه المسألة، فالعبد لا يستحيي ممَّا يستحي منه الحرُّ، تاسعاً: أنَّ يوسف كان غريباً عن البلد، والغريب لا يستحيي مثلما يستحيي ابن البلد؛ لأنَّه غير مشهورٍ ومعروفٍ في البلد، فلا يخشى الفضيحة مثل ابن البلد، وعاشراً: أنَّ زوج المرأة كان قليل الغيرة فإنَّه مع علمه بما حصل ورؤيته للوقود والنَّار معاً مع ذلك لم يبعد هذا من هذا، فقال ليوسف طالباً له ستر القضية والكفَّ عن الكلام في الموضوع، ومحاولاً لملمة المسألة يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَاولم يقل لزوجته إلَّا هذه الكلمة: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ[يوسف:29]. وأبقى الوضع على ما هو عليه، لا فصل هذا من هذه، ولا عزلهما ولا أبعدهما، فدلُّ ذلك على عدم غيرته، وماذا أيضاً في القصَّة من العوامل التي تزيد الشَّدَّة في المعاناة؟ أنَّها هي التي دعته وممَّا يسهل الزِّنا جدَّاً: أن تكون المرأة هي البادئة بالدَّعوة؛ لأنَّ الحواجز حينئذٍ تسقط كُلُّها، فإنَّ الشَّخص إذا أراد مواقعة امرأة بالحرام فيخشى أنَّه إذا دعاها أن ترفض، ويفكِّر عشرين مرَّة لو دعاها ما هي ردَّة الفعل، لكن إذا كانت هي التي بدأت وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ[يوسف:23]. معناه: أنَّ الحواجز كُلُّها قد سقطت، الثَّاني عشر: أنَّها قد غلَّقت الأبواب وغاب الرَّقيب وأمن يوسف من اقتحام المكان من أحدٍ، وهذا يزيد الدَّافع والدَّاعي ويجعل الجريمة تحصل في مأمن، دوافع متعدِّدةٌ حصلت في هذه القصَّة جعلت من صبر يوسف وعفِّته مثلاً ضربه الله تعالى في القرآن الكريم وذكره وقصَّه علينا؛ لنقتدي به من بعد ذلك النَّبيَّ الكريم، فترفَّع يوسف عن الخيانة وقاوم ودوافع المعصية ومغريات الفاحشة، وضبط نفسه بصبر منقطع النَّظير، فصارت قصته مضرباً للمثل، وقدوةً للأجيال التي من بعده، ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم في قوله: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَمراودةٌ وتصريحٌ بالدَّعوة قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ[يوسف:23]. ثُمَّ هرب منها ولم يبق في مكانه.
أمر الله بالعفَّة
وكذلك ذكر الله تعالى العفَّة آمراً بها للذين لا يجدون القدرة على النِّكاح حتى يغنيهم الله من فضله، ولم يأذن لهم بالتَّفريط مع حاجتهم الشَّديدة القائمة في نفوسهم، فقال تعالى في سورة النُّور: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ[النور: 33]. أيَّ: ليلزموا جانب العفَّة، ولا يفعلوا ما لم يأذن به الله، والذين لا يجدون نكاحاً من أعظمهم، وأكبر القطاعات فيهم الذين لا يجدون القدرة المالية على الزَّواج، ولذلك قال الله تعالى: حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهذا فيه إشارةٌ إلى أنَّ هؤلاء إذا التزموا جانب العفَّة، أغناهم الله من فضله، فيتهيأ لهم بعد ذلك زواجٌ مناسبٌ.
والعفَّة لها مجالاتٌ وليست فقط عن الفاحشة ومواقعة الحرام، وإنَّما أيضاً تكون عن المسألة والتَّرفُّع عن المغريات المالية، فقد أثنى الله تعالى على الفقراء المتعفِّفين، وأوصى بالبحث عنهم وتعاهدهم بالعطاء، فقال في سورة البقرة: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ[البقرة: 272-273]. فالإلحاف: هو شدَّة الإلحاح في المسألة والطَّلب، فيُقال: ألحف السَّائل إذا ألحَّ في الطَّلب، فمعنى: لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا: لا يُلحِّون في طلب الصَّدقة من النَّاس، هؤلاء درجاتٌ منهم من لا يسأل مطلقاً، ومنهم من رُبَّما يشير إشارةً إلى حاله ولا يُلحُّ ولا يمل أو لا يكثر على الآخر، هؤلاء الفقراء الحقيقيون، قال الله عنهم: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ فهناك علاماتٌ تظهر عليهم، كما يظهر عليه في ثيابه أو في حال أولاده أو في بيته أو في طعامه أو في مسكنه أو حالة جسمه ونحو ذلك تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ هذه العلامات في الجسم واللِّباس والطَّعام والأولاد والسَّكن، وما عنده من المتاع والأثاث، ونقول الآن: السَّيارة، فكُلُّ ذلك من الأشياء التي تعرِّفك بالمسكين الحقيقي تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًاولذلك لا بُدَّ من البحث عن هؤلاء الذين يتعفَّفون، فإنَّ النَّاس الآن يعطون السَّائل الملحف الذي يقوم ويخطب في المسجد خطبةً ويمدُّ صوته ويرفعه، ويتابع النَّاس ويلاحقهم، ورُبَّما أمسك بيد الواحد لكي يجبره على أن يتصدق عليه، ويترك في المقابل النَّاس العفيفين الذين لا يسألون ولا يلِّحون، وهذا من انقلاب الموازين في المجتمع الإسلامي، إذاً صارت المسألة بهذه الحالة.
التَّعفُّف عن كُلِّ ما وهب الله للآخرين
أيضاً يدخل في التَّعفُّف جانبٌ مهمٌّ؛ وهو توسيعٌ لمعنى التَّعفُّف: التَّعفُّف عن كُلِّ ما وهب الله للآخرين، فيعفُّ الإنسان نظره أن يتطلَّع لما وهب الله للآخرين من متاع الحياة الدُّنيا وأصنافها المختلفة، ولذلك يقول الله تعالى لنبيِّه ﷺفي سورة طه: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى[طه:131]. وهذا أمرٌ للنَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام أن يتعفَّف عمَّا في أيدي النَّاس: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ فهذا أمرٌ بالعفَّة وقوله : أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أزواجاً يعني: أصنافاً من زينة الحياة الدُّنيا، فيدخل في ذلك: المال والسُّلطان، والحدائق والبساتين، والمزارع، والخيل المسوَّمة والأنعام، والقصور، والزَّوجات، والجاه العريض، والجمال، والذُّرية ونحو ذلك، فإنَّ الإنسان لا يطمع فيما عند الآخرين، ولا يحسدهم على ما آتاهم الله، بل يكون عفيفاً لا يتابع بنظره ولا تتَّبَّع نفسه متاع الحياة الدُّنيا، فمجالات العفَّة إذاً يمكن أن تكون في الحرام، وكذلك في المال، وكذلك فيما عند الآخرين عموماً، ويتعفَّف عن سؤال النَّاس، فنريد أن نستعرض الآن بعض النُّصوص الشَّرعية الواردة في السُّنَّة النَّبوية عن هذه المسألة، يكفي أن نعرف أهمية هذه القضية، فالنَّبيُّ ﷺ بُعث بهذا الخلق، فدعا النَّاس إليه، ولذلك يقول عبد الله بن عبَّاس : "أن َّأبا سفيان قد أخبره أنَّ هرقل لما أرسل إليه وسأله: هذا النَّبيُّ الذي ظهر فيكم إلى ماذا يدعو؟ وبماذا يأمركم؟ يقول أبو سفيان قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصَّلاة والزَّكاة والصَّدقة والعفاف والصِّلة، فبعد أن تحقَّق هرقل: وسألتك بما يأمرك، فذكرت أنَّه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصَّلاة والصَّدقة والعفاف، فإنَّ كان ما تقول حقَّاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنَّه خارجٌ لم أكن أظنُّ أنَّه منكم، فلو أنِّي أعلم أنِّي أخلص إليه لتجشَّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه"[رواه البخاري7]. رواه البخاري. لكن المشكلة أنَّ جنود هرقل ومجتمعه والرُّهبان الذين عنده منعوه من الاستجابة للحقِّ والذَّهاب للنَّبيِّ ﷺ، فبقي على الكفر ولم يستجب، ثُمَّ هل مات عليه أو يحتمل أنَّه أسرَّ الدِّينَ في نفسه؟ أمره إلى الله، لكنَّه اقتنع فعلاً وقال: لو أنِّي أعلم أنِّي أخلص إليه، أي: لو أستطيع أنَّ أتخلَّص في ملكي هذا وجنودي وما عندي من الرُّهبان لقدمت وغسَّلت عن قدمه، لكن سلطانه صرفه عن اتباع الحقِّ، وكذلك في البخاري عن عبد الله بن عباس: أخبرني أبو سفيان أنَّ هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم فزعمت أنَّه أمركم بالصَّلاة والصِّدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال: وهذه صفةُ نبيٍّ[رواه البخاري 2535]. إذاً الأمر بالعفاف، وهو صفته ﷺ أنَّه كان عفيفاً، هذا صفة نبيٍّ، ثُمَّ إنَّ الأمر بالعفاف من دعوة الأنبياء، فهنا درسٌ للدُّعاة إلى الله : أنَّ مِن الأشياء التي يدعو إليها النَّاس العفاف مطالبتهم بالعفَّة، فالخطباء والعلماء والمناصحون للنَّاس عليهم دعوة النَّاس إلى العفَّة؛ لأنَّها من أساسيات دعوة النَّبيِّ ﷺ، وهذا الذي حصل لمَّا دعا قريشاً كانت قد فهمته تماماً أنَّ من مقاصد دعوته العفَّة والعفاف.
هل يمكن اكتساب خُلُق العفَّة
وهذا الخلق الكريم يمكن اكتسابه -كما قلنا في سائر الأخلاق- حتى لو لم يكن عند الإنسان منه كبيرُ شأنٍ، فإنَّه يستطيع اكتسابه، ومما يدلُّ على ذلك بالنَّص في موضوع العفَّة قوله ﷺ:ومن يستعفف يعفَّه الله[رواه البخاري 1361]. رواه البخاري من حديث حكيم بن حزام. وكذلك رواه عن أبي سعيد الخدري : أنَّ ناساً من الأنصار سألوا رسول الله ﷺ فأعطاهم، ثُمَّ سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده، فقال: ما يكون عندي من خيرٍ فلن أدَّخر عنكم أنا لا أحبس عنكم شيئاً، فلو عندي لأعطيتكم حتى يفنى ومن يستعفف يعفَّه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبَّر يصبِّره الله وماأُعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسعَ من الصَّبر[رواه البخاري1400]. فإذاً العفَّة شيءٌ يمكن اكتسابه بحمل النَّفس عليه، وأن يتكلَّف الإنسان العفَّة حتى يصبح عفيفاً، وكذلك فإنَّنا قد أمرنا بالعفَّة في اقتضاء الحقوق أن يكون الإنسان عفيفاً حتى في طلب حقِّه واقتضائه، قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: "باب: السُّهولة والسَّماحة في الشِّراء والبيع، ومن طلب حقَّاً فليطلبه في عفاف"[صحيح البخاري2/ 730]. فهذا في صحيح البخاري قد عُنوِن، وأمَّا الحديث فقد رواه ابن ماجه عن ابن عمر وعائشة، أنَّ رسول الله ﷺ قال: من طالب حقَّاً فليطلبه في عاف واف أو غير واف[رواه ابن ماجه2421، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه2421]. فإذاً حتى المطالبة بالحقوق العفَّة تكون فيها، ومن الأشياء التي يتعفَّف الإنسان عنها، وينبغي أن يفعل ذلك: قضية تولِّي أموال اليتامى، فإنَّه من المعلوم أنَّه يجوز للفقير إذا تولَّى على مال يتيمٍ أن يأكل منه بالمعروف، فإذا استغنى يتعفَّف عن مال اليتيم ولا يأخذ منه شيئاً، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ[النساء:6]. قالت: "أُنزلت في والي اليتيم الذي يقيم عليه، ويصلح في ماله إن كان فقيراً أكل منه بالمعروف"[رواه البخاري 2098]. رواه البخاري رحمه الله تعالى.
إذاً التَّعفُّف عن أموال اليتامى مسألةٌ حسَّاسةٌ جدَّاً ينبغي أن يكون حالها لليتيم إذا استغنى، العفَّة عن مال اليتيم لا يأخذ منه شيئاً أبداً وإذا كان فقيراً يأكل بالمعروف ولا يتعدَّى، يأكل بالمعروف ما يحتاجه ولا يزيد.
أمورٌ رغَّبنا فيها النَّبيُّ ﷺ لتحصيل العفَّة
ومن الأمور أيضاً التي رغَّبنا فيها النَّبيُّ ﷺ لتحصيل العفَّة عما في أيدي النَّاس من الأموال، أن نسعى في طلب الرِّزق، فإذا قال الشَّخص: كيف أحصل العفَّة عن أموال النَّاس؟ فنقول: اسع في التَّجارة وفي طلب الرِّزق، وممَّا يدلُّ على ذلك: حديث أبي هريرة أنَّ رسول اللهﷺ قال: الخيل لرجلٍ أجرٌ ولرجلٍ سترٌ وعلى رجلٍ وزرٌ ثلاثةُ أصنافٍ فأمَّا الذي له أجرٌ: فرجلٌ ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرجٍ أو روضةٍ يعني: الحبل طويلٌ فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الرَّوضة كانت له حسناتٍ، ولو أنَّه انقطع طيلُها فاستنَّت شرفاً أو شرفين وعدت وجرت كانت آثارُها وأورواثها حسناتٌ له، ولو أنَّها مرَّت بنهرٍ فشربت منه ولم ير أن يسقي كان ذلك حسناتٌ له فهي لذلك أجرٌ هذا جزاء الذي يعدُّ العُدَّة للجهاد، ويربط الخيل وقفاً في سبيل الله، يجاهد عليها هو أو يعطيها لمن يجاهد عليها، فهذا أجره حتى الرَّوث فيه أجرٌ، قال: ورجلٌ ربطها تغنِّياً وتعفُّفًا اتخذ الخيل تجارةً ربطها تغنِّياً وتعفُّفاً لتتوالد عنده وتتكاثر ويبيع منها لأجل أن يغتني ويعفَّ نفسه عن أموال النَّاس، قال: ورجلٌ ربطها تغنِّياً وتعفُّفاً ثُمَّ لم ينس حقَّ الله في رقابها ولا ظهورها وهذا من أدلَّة الذين احتجُّوا بزكاة الخيل، والمسألة فيها نقاشٌ لأهل العلم، وعلى أيَّة حالٍ: إذا جُعلت للبيع والشِّراء ففيها الزَّكاة؛ لأنَّها من عورض التَّجارة ثُمَّ لم ينس حقَّ الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك سترٌ هذه السِّتر، والسِّتر محمودٌ ورجلٌ ربطها فخراً ورياءً ونواءً لأهل الإسلام فهي على ذلك وزرٌ[رواه البخاري 2242]. رواه البخاري. وهو الذي يتَّخذها فخراً ورياءً ليرائي بها ويفاخر بها في مجامع النَّاس والمحافل والمسابقات، فهذا عليه وزرٌ، ورواية أحمد في هذا الحديث: عن أبي هريرة : عن النَّبيِّ ﷺ أنَّه قال في شأن الخيل: الخيل معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة، والخيل ثلاثة: وهي لرجلٍ أجرٌ وهي لرجلٍ سترٌ وهي على رجلٍ وزرٌ، فأمَّا الذي هي له أجرٌ الذي يتَّخذها ويحبسها في سبيل الله، فما غيَّبت في بطونها فهو له أجرٌ وإن استنت منه شرفاً أو شرفين كان له في كُلِّ خُطوة خطاها أجرٌ، ولو عرض له نهرٌ فسقاها منه كان له بكُلِّ قطرةٍ غيبت ببطونها أجرٌ حتى ذكر الأجر في أرواثها وأبوالها وأمَّا الذي هي له سترٌ: فرجلٌ يتَّخذها تعفُّفاً وتجمُّلاً وتكرُّماً ولا ينسى حقَّها في ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها، وأمَّا الذي عليه وزرٌ فرجلٌ يتَّخذها أشراً وبطراً ورئاءَ النَّاس وبذخاً عليه[رواه أحمد8965، وقال شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح على شرط مسلم" مسند أحمد8965]. رواه أحمد. هذا إذاً يدلُّ على من اتخذ الخيل ليتاجر بها وتتوالد وتتكاثر يعفُّ نفسه عن أموال النَّاس، أنَّ هذا الرَّجل أراد بها السِّتر وأنَّه محمودٌ على فعله.
العفَّة في المكسب
وكذلك فإنَّ النَّبيَّ ﷺ ندبنا إلى العفَّة في المكسب، حتى لا يسأل الإنسانُ النَّاسَ، فهذا يعطيه وهذا يمنعه، فلو أخذ حبلاً واحتطب وباع فخيرٌ له من أن يسأل النَّاس أعطوه أو منعوه[من حديث رواه البخاري 1402].
والعفَّة من الأشياء التي تطلَّب في الإنفاق على الأولاد؛ ليعفَّهم الله عن سؤال النَّاس، ووللوالد المنفق أجرٌ عظيمٌ في ذلك، كما دلَّ عليه حديثُ ثوبان، قال: قال رسول الله ﷺ: أفضلُ دينارٍ ينفقه الرَّجل: دينارٌ ينفقه على عياله، وديناره ينفقه الرَّجلُ على دابَّته في سبيل الله، ودينارٌ ينفقه على أصحابه في سبيل الله قال أبو قلابة: "وبدأ بالعيال" ثُمَّ قال أبو قلابة: "وأيُّ رجلٍ أعظم أجراً من رجلٍ ينفق على عيالٍ صغارٍ يُعفُّهم أو ينفعهم الله به ويغنيهم"[رواه مسلم 994]. رواه مسلم. فإذاً الإنسان بإنفاقه على عياله يتسبَّب في إعفافهم وعدم تعريضهم للسُّؤال، وعدم إراقة ماء وجوههم؛ فإنَّ الأولاد إذا لم يُنفق عليهم أبوهم يخرجون يسألون الناس، وتتطلَّع أنفسهم لما في أيدي النَّاس والطَّفل يريد، ولذلك فإنَّ نفقة الوالد على أولاده تتسبَّب في إعفاف الأولاد، فالإنسان قد يعمل تصرُّفاً يعفُّ به غيره، مثلما يطأ الرَّجل زوجته ويعفُّها عن الحرام، فإذاً الإعفاف يحصل في النَّفس، ويحصل أيضاً للشَّخص عملٌ يعفُّ به الآخرين، فيكون هو عفيفاً ويساهم في إعفاف الآخرين، وهذا لا شكَّ أنَّ أجره عظيمٌ.
العفاف من صفات الكرام
العفاف من صفات النَّبيِّ ﷺ
والعفاف من صفات الكرام، ولذلك جاء في وصف النَّبيِّ ﷺ أنَّه كان عفيفاً، والقصَّة معروفةٌ في وفادة المسلمين على النَّجاشي في الحبشة، حيث أرسلت قريشٌ وراءهم رجلين جلدين بهدايا، رشاوى لحاشية النَّجاشي وهديةٌ للنَّجاشي، وكان يعجبه الجلد من مكة ليطلبوا ردَّ اللاجئين والهاربين إليه، فقالوا له كلاماً في هؤلاء المسلمين الذين عنده، وأنَّهم تركوا دين قومهم، في محاولةٍ للإغراء بهم وتسليمهم إليهم، فالنَّجاشي استدعى المسلمين الذين عنده، وكان رأسهم جعفر بن أبي طالب، واتَّفق المسلمون على أن يقولوا الحقَّ ولا يبالوا، فسألهم النَّجاشي فكان الذي كلَّمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيُّها الملك كُنَّا قوماً أهل جاهلية: نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيئ الجوار، يأكل القوي منَّا الضَّعيف، فكنَّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده" إلى آخر الحديث. فبكى النَّجاشي واقتنع وقرأوا عليه صدر سورة مريم، ورفض أن يسلِّمهم إلى قومهم"[رواه أحمد1740]. فمن صفات النَّبيِّ ﷺ: العفاف.
العفاف من صفات عثمان رضى الله عنه
وكذلك من صفات عثمان رضي الله تعالى عنه، فقد كان غايةً في العفاف، وحتى قال عن نفسه: "والله ما أنكرت الله منذ عرفته، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام، وقد تركته في الجاهلية تكرُّهاً" وهذه هي الفطرة السليمة "وفي الإسلام تعفُّفاً"[رواه أحمد1402]. وهو العفاف الذي أمر الله به.
العفاف من صفات عبدالله بن الزبير
ومن صفات عبد الله بن الزُّبير كذلك: العفاف، فقد جاء في وصف ابن عباس له، وكان ابن عباس رُبَّما انتقد أشياء على ابن الزُّبير، قال ابن جريج: قال ابن أبي مليكة، وكان بينهما شيءٌ فغدوت على ابن عباس فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزُّبير فتُحلَّ حرَمَ الله؟ فقال: معاذ الله، إن الله كتب ابن الزُّبير وبني أمية محلِّين، وإنِّي والله لا أُحلُّه أبداً، قال قال النَّاس: بايع لابن الزُّبير، فقلت: وأين بهذا الأمر عنه أمَّا أبوه فحاوريُّ النَّبيِّ ﷺ، يعني: يريد الزُّبير، وأمَّا جدُّه فصاحب الغار، يريد أبا بكر، وأمَّا أمُّه فذاتُ النِّطاق، يريد أسماء، وأمَّا خالته فأمُّ المؤمنين، يريد عائشة، وأمَّا عمَّتُه فزوج النَّبيِّ ﷺ يريد خديجة، وأمَّا عمَّة النَّبيِّ ﷺ فجدته، يريد صفية، ثُمَّ عفيفٌ في الإسلام، قارئٌ للقرآن، والله إن وصلوني وصلوني من قريبٍ، وإن ربُّوني ربُّوني أكفاءٌ كرامٌ، فآثر التُّويتات والأسامات والحميدات، يريد ابن عباس بهذا الكلام أبطناً من بني أسد، بني تُويت وبني أسامة وبني أسيد، إلى آخر الحديث [رواه البخاري4388]. رواه البخاري. فوصف عبد الله بن الزُّبير بالعفاف: عفيفٌ في الإسلام، فهو أصلاً وُلد في الإسلام، وأول مولود وُلد بالمدينة، فالعفاف دائماً من سيما الصَّالحين.
من شروط القاضي أن يكون عفيفاً
وكذلك العفاف اشترطه العلماء في صفات القاضي من أهميته، فكيف يتولَّى القضاء بالأموال والفروج، وتدخل عليه النِّساء ولا يكون عفيفاً، رُبَّما يتطلَّع إلى المرأة أو يأخذ من أموال النَّاس، ولذلك من أهمِّ شروط القاضي: أن يكون عفيفاً، قال البخاري: "باب متى يستوجب الرَّجل القضاء" وقال الحسن: وقرأ: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ[الأنبياء:78-79]. قال: فحمد سليمان ولم يلم داود، ولولا ما ذكر الله من أمر هذين لرأيت أنَّ القضاة هلكوا، فإنَّه أثنى على هذا بعلمه وعذر هذا باجتهاده" من الذي فهَّمها سليمان وغابت عن داود؛ لأنَّ الرَّجل نفشت غنمه في بستان آخر فأتلفته، فكيف يكون الحكم؟ فهَّمناها سليمان، قال سليمان للرَّجل صاحب البستان: تأخذ غنم صاحبك سنةً تنتفع بها، وقال لصاحب الغنم تأخذ بستان صاحبك سنةً تعيده كما كان، قال مزاحم بن زفر: قال لنا عمر بن عبد العزيز: خمسٌ إذا أخطأ القاضي منها خصلةً كانت فيه وصمةٌ" ما هي هذه الخمس التي إذا فقد واحداً منها يكون موصوماً؟ "أن يكون فهماً حليماً" فهماً: حتى يستطيع أن ينظر ويستنبط الحكم، حليماً: فيتسع صدره لسماع كلام الخصوم والنَّاس "عفيفاً صليباً" وشديداً في الدِّين "عالماً سؤلاً"[صحيح البخاري6/ 2619- 2620]. عن العلم؛ لأنَّه لا يزال القاضي يتعرَّض إلى أشياء مستجدَّة يحتاج فيها الرُّجوع إلى الكتب أو سؤال غيره، فالعفَّة إذاً من أمثل صفات القُضاة وأهمها، وقد جاء في الحديث الصَّحيح أنَّ العفيف من أصناف النَّاس الذين يدخلون الجنَّة، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، عن عياض بن حمار المجاشعي أنَّ رسول الله ﷺ قال ذات يومٍ في خطبته: ألا إنَّ ربِّي أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم، ممَّا علَّمني يومي هذا: كُلُّ مالٍ نحلتُه عبداً حلالٌ، وإنِّي خلقت عبادي حنفاء كُلَّهم وإنَّهم أتتهم الشَّياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزِّل به سلطاناً، وإنَّ الله نظر إلى أهل الأرض يعني: قبل البعثة نظر الله إلى أهل الأرض والله ينظر، والنَّظر من صفات الله تعالى فمقتهم عربهم وعجمهم إلَّا بقايا من أهل الكتاب مثل ورقة بن نوفل ممَّن بقوا على التَّوحيد وقال إنَّما بعثتُك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرأه نائماً ويقظاناًالكتاب هو القرآن في صدر النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام وإنَّ الله أمرني أن أُحرِّق قريشاً، فقلت: ربي إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق ننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسةً مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك والشَّاهد قال: وأهل الجنَّة ثلاثة: ذو سلطانٍ مقسطٌ متصدِّق موفَّقٌ قوة منصبٍ عادلٌ يتصدَّق يوفَّق للخير ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلب، لكُلِّ ذي قربى، ومسلمٍ والثَّالث من هو؟ وعفيفٌ متعفِّفٌ ذو عيالٍ هذا الثَّالث ذو عيالٍ أي: عنده عيالٌ وهو فقيرٌ لكنَّه مع ذلك لا يجري وراء النَّاس ولا يسألهم إلحافاًوعفيفٌ متعفِّفٌ ذو عيالٍ[رواه مسلم2865]. فهذا من أهل الجنَّة، ولذلك النَّبيُّ ﷺ قال في الحديث الصَّحيح: ليس المسكين الذي تردُّه اللقمة أو اللقمتان أو التَّمرة والتَّمرتان؛ ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يُفطن به فيتصدق عليه[رواه البخاري1409]. لماذا؟ لعفَّته، فهذا الرَّجل من أهل الجنَّة، عفيفٌ متعفِّفٌ ذو عيالٍ.
تكفَّل الله بعون الذي يريد العفاف
وقد تكفَّل الله بعون الذي يريد العفاف؛ فجاء في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: ثلاثةٌ حقٌّ على الله عونهم، المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء العبد عند سيده الذي يعرض على سيده أن يشتري نفسه من سيده، فيقسط عليه أقساطٌ حتى يُعتق، فهذا المكاتب الذي يريد الأداء فالله يعينه؛ ليحرِّر نفسهوالنَّاكح الذي يريد العفاف [رواه الترمذي 1655، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي 1655]. وهذا الثَّالث، فالله يعين طالبَ العفاف، فيهيئ له من يزوِّجه ويهيئ له المال الذي يتزوَّج به، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وقد نصح النَّبيُّ ﷺ صاحبه أبا ذر أن يلزم العفاف إذا تكالب النَّاس على الدُّنيا ويلزم العفاف، إذا صار الجهد الشَّديد والمخمصة والجوع أن يتعفَّف مع وجود الجوع والمخمصة، فجاء في الحديث الذي رواه مرحوٌم وهو ثقةٌ حدَّثنا أبو عمران الجوني وهو ثقة، عن عبد الله بن الصامت وهو ثقة عن أبي ذر وهو صحابي، قال: ركب رسول الله ﷺحماراً وأردفني خلفه، وقال: يا أبا ذر أرأيت إن أصاب النَّاس جوعٌ شديدٌ حتى لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: تعفَّف متى أمره بالعفاف في الحالة التي أصاب النَّاس فيها جوعٌ شديدٌ لا يستطيع الرَّجل أن يقوم من فراشه إلى مسجده، ومع ذلك قال له: تعفَّف قال: يا أبا ذر أرأيت إن أصاب النَّاس موتٌ شديدٌ يكون البيت فيه بالعبد يعني: من كثرة الموتى لاتوجد قبور حتى يكون القبر مرتفع الثَّمن فيساوي قيمة عبدٍ، حتى تحصل على قبرٍ لا بُدَّ ان تشتريه بعبد، يعني: إذا قلنا مثلاً قيمة العبد اثنا عشر ألفاً فيصبح قيمة القبر اثنا عشر ألفاً إن أصاب النَّاس موتٌ شديدٌ مثل الطَّاعون أو غيره مما أصاب المسلمين يكون البيت فيه بالعبد كيف تصنع قلت: الله ورسوله أعلم، قال: اصبر قال: يا أبا ذر أرأيت إن قتل النَّاسُ بعضهم بعضاً حتى تغرق حجارة الزَّيت في الدماء قد أصاب المدينة أنواعٌ من الفتن وقُتل فيها ناسٌ كثيرون، وغرقت حجارة من الحراء صخور في الدِّماء حتى تغرق حجاة الزيت في الدماء إذا تقاتل المسلمون مع بعض كيف تصنع قال: الله ورسوله أعلم، قال: اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك قال أبو ذر: فإن لم أترك ما تركوني قال: فأت من أنت منهم فكن فيهم مع جماعتك، قال: فآخذ سلاحي؟ قال: إذاً تشاركهم فيما هم فيه ولكن إن خشيت يروعك شعاع السَّيف فألق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك[رواه أحمد21363، وابن حبان6685، وصححه الألباني في الجامع الصغير13777]. يعني: لا تشارك في قتال الفتنة بين المسلمين.
وصايا الصَّالحين لذراريهم بالعفاف
وبلغ بالعفاف أنَّ الصَّالحين كانوا يوصون به أهليهم ويكبتونه في وصاياهم، فهذا ابن سيرين من أوثق أصحاب أبي هريرة أوصى وقال في وصيته: هذا ذكر ما أوصى به محمد بن أبي عمرة بنيه وأهل بيته: "أن اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[البقرة:132]. وأوصاهم ألَّا يرغبوا أن يكونوا موالي للأنصار وإخوانهم في الدِّين، وأنَّ العفَّة والصِّدق خيرٌ وأبقى من الزِّنا والكذب" فهو يعرف ظروف المجتمع حيث كانت فيهم قضية الزِّنا والكذب، فأوصاهم بضدِّهما، فضدُّ الزِّنا والكذب هو العفَّة والصِّدق "وأنَّ العفَّة والصِّدق خيرٌ وأبقى من الزِّنا والكذب إن حدثَ بي حدثٌ في مرضي هذا قبل أن أُغيِّر وصيتي هذه" ثُمَّ ذكر حاجته[رواه الدارمي 3182]. مثلاً الثُّلث أو الرُّبع أو كذا في مصارف الخير، فهذه ممَّا كان في وصيته رحمه الله تعالى لمن بعده.
العفَّة عن أموال النَّاس سببٌ في رزقٍ عظيمٍ يؤتيه الله تعالى من يشاء
هل تكون العفَّة عن أموال النَّاس سبباً في رزقٍ عظيمٍ يؤتيه الله تعالى؟ الجواب: نعم، فقد قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا ابن عامر وهو ثقةٌ، أخبرنا أبو بكر وهو ثقةٌ لما كبر ساء حفظه وكتابه، صحيح عن هشام وهو ثقةٌ، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: "دخل رجلٌ على أهله فلمَّا رأى ما بهم من حاجةٍ خرج إلى البريَّة" دخل بيته وهو فقيرٌ فما وجد إلَّا الفقر "خرج إلى البرية يطلب، فلمَّا رأت امرأته قامت إلى الرَّحى، فوضعتها، وإلى التَّنُّور فسجَّرته، ثُمَّ قالت: اللهمَّ ارزقنا" وفي راوي: "أنَّ هذا الرَّجل رجع مجهداً جائعاً وهو فقيرٌ، فقال لامرأته: أعندك شيءٌ؟ فالمرأة من حسن ظنِّها ويقينها بالله قالت: بلى، فذهبت وسجَّرت التَّنوُّر، أوقدت الفرن وليس فيه شيءٌ، فسألها مرة أخرى قال: أين ما قلت أن عندنا؟ قالت سآتي به، اصبر ويأتي والثَّانية والثَّالثة، ثُمَّ قالت: اللهمَّ ارزقنا، فنظرت فإذا الجفنة قد امتلأت وذهبت إلى التَّنوُّر فوجدته ممتلئاً" وفي رواية: "وجدته ممتلئًا جنوب الغنم، فرجع الزَّوج قال: أًصبتم بعدي شيئاً؟ قالت امرأته: نعم، من ربنا، فالرَّجل بعدما رأى فيها هذا الرِّزق قام إلى الرَّحى الذي يطحن العجين، فذكر ذلك للنَّبيِّ ﷺ فقال: أما إنَه لو لم يرفعها الرَّحى هذه ليتوقف لم تزل تدور إلى يوم القيامة[رواه أحمد10667، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة5406]. شاهده: يقول أبو هريرة: "شهدت النَّبيَّ ﷺ هو يقول: والله لأن يأتي أحدكم صبيراً ثُمَّ يحمله يبيعه فيستعفَّ منه؛ خيرٌ له من أن يأتي رجلاً يسأله[رواه أحمد10668]. فهذا الشَّخص فقير فذهب إلى البريَّة من صدقه وصدق زوجته أعطاهم الله جنوب الغنم في التَّنُّور وما يأكلون به، نعم يرزق الله تعالى من يستعفُّ، لكنَّها تحتاج إلى صبرٍ.
العفَّة في جمع الأموال
ومن الأشياء التي ينبغي أن يتأكَّد فيها العفاف: أنَّ بعض النَّاس تحصل لهم حاجةٌ فيجمعون أموالاً فتنتهي حاجتهم، فلا يزالون يستمرون في جمع الأموال، أين العفاف؟ شخصٌ فقيرٌ يريد عمليةً جراحيةً، فيُجمع له مالاً فيغنيه الله كفايةً، فلا يزال يطلب المزيد، فهذا مجانبٌ للعفاف، ولذلك جاء في مسند الإمام أحمد: حدثنا يزيد وهو ثقةٌ، أخبرنا بهز بن حكيم وهو صدوقٌ، عن أبيه وهو صدوقٌ، عن جده وهو صحابيٌّ -هذا إسنادٌ حسنٌ-، قال: قلت: يا رسول الله إنَّا قومٌ نتساءل أموالنا، قال: يتساءل الرجل في الجائحة أو الفتق ليصلح به بين قومه ممكن أن تسأل في جائحةٍ كفقرٍ أو تتحمَّل دياتٍ ناسٍ حصل بين قومك مقتلة، أو إصلاح فتتحمَّل الأموال وتعجز عنها؛ فتسأل لأجل جمع مال للإصلاح بين النَّاس فإذا بلغ أو كرب استعفَّ[رواه أحمد20045، قال شعيب الأرنؤوط: "إسناده حسن" مسند احمد20045]. فإذاً يجب على الإنسان أن يكون عفيفاً، وبعض النَّاس رُبَّما يكلَّف أن يعمل شيئاً يضطر الآخرين إلى ترك العفَّة، مثل: بعض النَّاس الذين عندهم مكفولين فيأتي بعمالٍ ويقول لهم: آخر الشَّهر تعطوني ثلاثمائة ريال أو أربعمائة ريال أو ما شاء أن يطلب العامل هذا ذهب يعمل في البلد، قد لا يجد عملاً أو يقول للسَّائق خذ هذ المحل وهات لي في النِّهاية ثلاثة آلاف كُلَّ شهر مثلاً، وهذا لم يكسب ثلاثةَ آلافٍ فيضطر إلى أن يسرق، يغصب يغش من أجل أن يعطيه، وقد روى مالك رحمه الله في موطَّئه أنَّ عثمان بن عفان خطب وقال: لا تكلِّفوا الأمَةَ غير ذات الصِّنعة الكسب" الأمة التي تستطيع أن تغسل وتصنع كانوا العبيد والإماء مصدر دخلٍ للشَّخص، يقول له: اكسب اعمل وهات لي كذا؛ لأنَّه عبدٌ فهو ينفِّذ كلام سيِّده، قال عثمان : لا تكلِّفوا الأمَةَ غير ذات الصِّنعة الكسبة، فإنَّكم متى كلَّفتموها ذلك كسبت بفرجها" في النِّهاية بالزِّنا "ولا تكلِّفوا الصَّغير الكسب" الصغير لا يدبِّر ولا يحسن "فإنَّه إذا لم يجد سرق، وعفُّوا إذ أعفَّكم الله، وعليكم من المطاعم بما طاب منها"[موطأ مالك 1771]. فإذاً بعض النَّاس يدفعون –بتصرُّفاتهم- مَن عندهم من الموظفين أو المكفولين أو العبيد والإماء، إلى أن يجانبوا ويخالفوا العفاف ويقعوا في الحرام.
أمثلةٌ من عفاف السَّلف عن طلب المال
وقد حفظ لنا التَّاريخ أمثلةً من عفاف السَّلف عن طلب المال أو مدِّ اليد بل حتى لو عُرض عليه، فالآن نحن تكلَّمنا سابقاً في العفاف عن السُّؤال، أو إذا اغتنى يعفَّ ولا يستمر في الطَّلب، فالآن حالةٌ أخرى من العفاف: وهي حتى لو عُرض عليه، فقد دخل هشام -الخليفة- الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبد الله، وسالم بن عبد الله معروفٌ من كبار رجالات السَّلف، قال: "سلني حاجةً؟ قال إنِّي أستحيي من الله" أنا في الكعبة فكيف أسأل، فأنا الان أسأل الله ولا أسأل غيره، فلمَّا خرج من الكعبة قال: الآن قد خرجت فسلني؟ فقال له سالم: من حوائج الدُّنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال من حوائج الدُّنيا، لأنَّه أصلاً لا يمكن حوائج الأخرى حتى يعطيه منها، فقال: "والله ما سألت الدُّنيا من يملكها؛ فكيف أسألها من لا يملكها"[المجالسة وجواهر العلم1/ 384]. فالله هو الذي يملك الدُّنيا وأنا ما سألته مالاً ومتاعاً، فكيف أسأل واحداً لا يملك الدُّنيا، وهو سيموت ويخلفه ويتركها، وأن يستعفَّ الإنسان عن طلبٍ يطلبه من النَّاس، ولو كان ناولني كذا هو من أنواع العفاف وأمثلة هذا الخلق العظيم، ولذلك جاء عن ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ: من يتقبَّل لي بواحدة وأتقبل له بالجنَّة فقال ثوبان: أنا يا رسول الله، قال: لا تسأل النَّاس شيئاً تعفَّف عن سؤال النَّاس، فكان ثوبان إذا سقط سوطه من يده نزله فأخذه، ولم يسأل أحداً أن يناوله إيَّاه[رواه ابن ماجه 1837، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه1837]. وقال بعض الشُّرَّاح: إنَّ هذا المستوى لا يُناسب إلَّا الصَّحابة ذلك؛ لأنَّ المجموعة التي قال لهم تعهُّدوا له بألَّا يسألوا النَّاس شيئاً، ويكون لهم هذا الجزاء وإلَّا فلا يلزم من بعدهم، ويجب أن نعترف بأنَّ الوضع الاجتماعي الذي نعيش فيه المجتمع، فالآن كثيراً ما تقع فيه الحاجات أكثر بكثير من القديم، حيث كانت قديماً أمور النَّاس ميسورةً سهلةً، ولا أحد يموت من الجوع، رُبَّما في معظم أمصار المسلمين، إلَّا إذا صار مجاعةٌ أو شيءٌ غير العادة، فكان النَّاس يتعاهدون بعضهم بعضاً، وهذا يُوصل لهذا وهذا يتفقَّد هذا، فالمسألة سهلةٌ ولا يحتاج الإنسان إلى طلب يمكن أن يصبر عن أن يطلب شيئاً بشيءٍ من المجاهدة والمشقَّة، فالآن مع تعقُّد الأحوال وزيادة الطَّمع وزيادة الظُّلم؛ صارت أوضاع النَّاس في غاية التَّعقيد، بحيث أنَّ الإنسان لا يطيق أن يصبر في كثير من الأحيان، فإذاً لو سأل وهو محتاجٌ فإنَّ سؤاله جائزٌ، لكن الأفضل له أن يتعفَّف، ولو فعل الحاجة بنفسه خيرٌ له من أن يسألها غيره أن يفعل له تلك الحاجة، والنَّبيُّ ﷺ لما وعظ حكيم بن حزام يوم حنين أعطاه فاستقل العطاء، قال: سألت النَّبيَّ ﷺ فأعطاني، ثُمَّ سأل الثَّانية والثَّالثة، فقال له النَّبيُّ ﷺ: يا حكيم إنَّ هذا المال خضرةٌ حلوةٌ، فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بُورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفسٍ لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع قال: "فوالذي بعثك بالحقِّ لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدُّنيا" ما أطلب من أحدٍ شيئاً مطلقاً، فلم يقبل ديوان ولا عطاء حتى مات، فكان يعطيه أبو بكر الصِّدِّيق نصيبه من بيت المال فلا يقبله، وكذلك عمر كان يعطيه فلا يقبل، حتى أنَّ عمر كان يقول: "اللهم إنِّي أشهدك على حكيم أني أدعوه لحقِّه وهو يأبى" ومع ذلك مات حكيمٌ حين مات وهو له من أكثر قريشاً مالاً"[رواه البخاري1403]. لما قرَّر أن يتعفَّف ولا يطلب شيئاً البتَّة؛ أغناه الله ، فالنَّاس يأخذون من غير حقِّهم والصَّحابي حكيم يتعفَّف عن حقِّه. ونكمل بعد الأذان.
العفَّة مهمَّةٌ لطالب العلم
وإنَّ من الأمور المهمَّة لطالب العلم: العفَّة، ويقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: "اعلم أنَّ الآدمي قد خُلِق لأمرٍ عظيمٍ وهو مطالب بمعرفة خالقه بالدَّليل" إلى أن قال: "فأسعد النَّاس من له قوتُ دار بقدر الكفاية، لا من منن النَّاس وصدقاتهم، وقد قنع به، وأمَّا إذا لم يكن له قوتٌ يكفي فالهم الذي يريد اجتماعه في تلك الأمور يتشتت ويصير طالباً للتَّحيل في جمع القوت، فيذهب العمر في تحصيل وقت البدن الذي يريد من بقائه غير بقائه، ويفوت المقصود ببقائه، ورُبَّما احتاج إلى الأنذال، قال الشَّاعر:
حسبي من الدَّهر ما كافاني | يصون عرضي عن الهوان |
مخافة أن يقول قومٌ | فضل فلان على فلان |
فينبغي للعاقل أن إذا رُزق قوتاً أو كان له مواد أن يحفظها ليتجمع همُّه، ولا ينبغي أن يبذر في ذلك؛ فإنَّه يحتاج فيتشتت همُّه" لأنَّ طالب العلم يحتاج إلى همٍّ مجتمع وليس متفرِّق لطلب العلم، فيقول: اكتسب وحافظ على ما عندك حتى لا تحتاج إلى الناس "والنَّفس إذا أحرزت قوتها اطمأنَّت، فإنَّ لم يكن له مال اكتسب بقدر كفايته، وقللَّ الغلو ليجمع بين همِّه وضرورته، وليقنع بالقليل؛ فإنَّه متى سمت همتُه إلى فضول المال، وقع المحذور من التَّشتُّت؛ لأنَّ التَّشتُّت يذهب بالعمر، وافهم هذا يا صاحب الهمَّة في طلب الفضائل، فإنَّك ما لم تعزل قوت الصِّبيان شتَّتوا قلبك، وطبعك طفلك، ففرغ همُّك من استعانته، واعرف قدر شرف المال الذي أوجب جمع همك وصان عرضك عن الخلق، وإيَّاك أن يحمل الكرم على فرط الإخراج، فتصير كالفقير المتعرِّض لك بالتعرُّض لغيرك، ولما آيس الإمام أحمد بن حنبل نفسه من قبول الهدايا والصِّلات اجتمع همُّه، وحسن ذكره"[صيد الخاطر101]. ثُمَّ قال رحمه الله أيضاً في مسألة الهمِّ بالرِّزق، وكيف يؤثِّر ذلك على طالب العلم: "الآدميُّ موضوعٌ على مطلوبات تشتُّت الهمِّ، العين تطلب المنظور، واللِّسان يطلب الكلام، والبطن يطلب المأكول، والفرج منكوح والطَّبع يحبُّ جمع المال، وقد أمرنا بجمع الهم لذكر الآخرة" حتى لا تتشتَّت الهم في أودية الدُّنيا "والهوى يشتِّته، فكيف إذا اجتمعت إليه حاجاتٌ لازمةٍ من طلب قوتٍ البدن وقوت العيال، وهذا يبكِّر إلى دكَّانه ويفتكر في التَّحصيل، ويستعمل آلة الفهم في نيل ما لا بُدَّ منَّه، فأيُّ همٍّ يجتمع منه خصوصاً إن أخذه الشَّره في صورة فيمضي العمر فينهض من الدُّكان إلى القبر" يعني: في النِّهاية الإنسان إذا صار يسعى كُلَّ التَّفكير في العمل والوظيفة والتِّجارة وطلب الرِّزق، أيُّ همٍ يجتمع للعبادة؟ وأيُّ فكرٍ يجتمع لطلب العلم؟ قال: "فكيف يحصل العلم أو العمل أو إخلاصُ القصد أو طلب الفضائل، فمن رُزق يقظةً فينبغي أن يصابر لنيل الفضائل، فإنَّ كان متزهِّداً بغير عائلة اكتفى بسعيٍّ قليل، فقد كان السِّبتي يعمل يوم السَّبت فيكتفي به طول الأسبوع" يعني: يومٌ واحدٌ يعمل به فيكتفي طول الأسبوع،
وكان بعض علمائنا المعاصرين -وهو الشيخ حمود بن عبد الله التُّويجري رحمه الله وجعل الجنَّة مأواه- من العلماء الأجلَّاء والمهتمين بالسُّنَّة والحديث، ومن المتعفِّفين حتى رفض وظائفَ قد عُرضت عليه، ترك القضاء تعفُّفاً وعفَّة وكان يتاجر ما بين رمضان إلى الحجِّ، ويذهب إلى جدَّة بسيارة نقل يشتري بضائع فيعود بها إلى القصيم، ويبيعها بين رمضان والحجِّ، وهذا قوت السَّنة، وبقية السَّنة كُلُّها يصرفه في طلب العلم رحمه الله تعالى، فليس بلازمٍ أنَّ الواحد يعمل دائماً لأجل الأموال، نعم إنَّ الناس قد لا يجدون مثل هذه الفرص، ويحتاجون إلى الوظائف، والوظائف ليس أن مثل ما قال ابن الجوزي من أن السِّبتي يعمل السَّبت لكُلِّ الأسبوع، فلا تعمل أنت كُلَّ الأسبوع لأجل يوم الجمعة تأخذ إجازة، وتطلب العلم يوم الجمعة وستة أيام، لكن الظَّرف قد يجبر الإنسان على شيءٍ، لكن بعض النَّاس عنده مجالٌ للتَّحرُّك الحركة، فلا يلزم أن يعمل طول الأيام حتى يكسب إذا استطاع يفعل ذلك، قال: "وإن كان له عائلةٌ جمع همَّه في نية الكسب عليهم، فيكون متعبِّداً" يعني: أن تكون نيتك في الصَّرف على العائلة والأولاد؛ فأنت تعبد الله وتُؤجر عليها "أو يكون قنية مالٍ كعقار ناصفه في نفقته ليكفيه دخله" فإذا صار عنده عقاراتٌ تأتيه بإيجاراتٍ فهذا خيرٌ عظيمٌ ولا يحتاج إلى تعبٍ، ولكن عليه أن يقتصَّد وعليه أن يوزِّعه توزيعاً جيِّداً، بحيث أنَّه يتفرَّغ بعد ذلك للعبادة والعلم "وليقلِّل الهمَّ على مقدار ما يمكنه من حذف العلائق جهده ليجمع الهم في ذكر الآخرة، فإن لم يفعل أخذ في غفلته وندم في حفرته، وأقبح الأحوال حال عالم فقيه، كُلَّما جمع همَّه بذكر الآخرة شتَّته طلبه القوت للعائلة، ورُبَّما احتاج إلى التَّعرُّض للظَّلمة، وأخذ الشُّبهات وبذل الوجه، فيلزم هذا التَّقدير في النَّفقة" فهنا يحتاج إلى العفَّة، ولو اختار بين التَّوفير وبين التَّعرُّض للخلق يختار التَّوفير، فالتَّوفير أهون من التَّعرُّض للخلق، قال رحمه الله: "ولا ينبغي أن يحمله قصرُ الأمل على إخراج ما في يده، فقد قال ﷺ: لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكفَّفون النَّاس[رواه البخاري 6352]. وأذلُّ من كُلِّ ذلك: التَّعرُّض للبخلاء والأمراء، فليدبِّر أمره، وليقلِّل العلائق" يعني: العلاقات الكثيرة مع النَّاس "ويحفظ جاهه، فالأيام قلائل، وقد بعث إلى الإمام أحمد رحمه الله مال فسأله ابنه قبوله، قال: يا أبي اقبل المال، الذي جاءنا نحن محتاجين إليه، قال: يا صالح صني" أين الصِّيانة؟ "ثُم قال: أستخير الله، فأصبح فقال: يا بني قد عزم لي ألَّا أقبله"[صيد الخاطر151-152]. فالشَّاهد: أن طالب العلم يحتاج إلى الحرص وإلى العفَّة وإلى القناعة وإلى الاقتصاد وحسن التَّدبير، حتى يستطيع أن يواصل طلب العلم دون أن تشتت همومه الدُّنيا.
حاجتنا في هذا العصر إلى العفَّة
أمَّا مسألة الجزء الأخير من هذا الموضوع: فموضوع العفَّة نحتاجه اليوم حاجةً شديدةً جداً، لماذا؟ لأجل ما شاع في النَّاس من الخنا والفجور، فانظر الآن المجالات التي نتعرَّض فيها نحن ونساؤنا إلى الحرام دخول السَّائق، الكشف على الخادمة، ودروس خصوصية من أساتذة أجانب للنِّساء في البيوت عبر الدُّش وصحن الاستقبال، ومشاهدة الأفلام وما يجلبه، ولعلَّكم سمعتم قريباً بما حصل من عرض لفلم دعارة وفاحشة على الملأ، فالبنت لها تلفون خاصٌّ، والنِّساء يذهبن إلى السُّوق بحاجة وبغير حاجة، والحجاب سيئٌ، والسَّفر بالأهل إلى الخارج، ودخول الرِّجال على النِّساء في الأعراس والحفلات، والتَّبرُّج في الأماكن العامَّة، والخروج مع سيارة الأجرة بمفردها، وكشف الأقارب من غير المحارم وبعضهم يسلِّم على بعض، فيسلِّم على بنت عمِّة وزوجة أخيه، وعمل المرأة في أماكن الاختلاط، والزِّيارات العائلية المختلطة، ودخول المجلات الفاسدة إلى البيت، والعُري على الشُّواطئ، وملابس البنات القصيرة، والنِّقاب الواسع، والمطاعم المختلطة، وعرض الملابس في المحلَّات الدَّاخلية للنِّساء، والأندية الصِّحيَّة أو تخسيس الوزن وما يحصل فيها، وعند مزيِّنات الشَّعر، والتَّبرُّج في المستشفيات، وفي أقسام النِّساء؛ فهذه الأشياء الكثيرة التي تحدث الآن تودِّي إلى ثوران الشَّهوة، وشيءٌ طبيعيٌّ جدَّاً متوقَّعٌ ولا ينكر ولا يمكن أن يحجب أبدًا، وهو ثوران الشُّهوة، إذاً نحن الآن في عصر العُري والتَّفسُّخ والانحلال، وثوران الشَّهوات، فما هو الحل؟ الخلق الذي نتحدث عنه الآن، وهو قضية العفَّة، فإذاً نحن الآن في أحوج الأوقات التي نحتاج فيها إلى طرق هذا الموضوع، والكلام عن مسألة العفَّة عن الحرام، وقد ضربنا مثلاً من الأشياء التي ينبغي أن تطرح وتُكرَّر في هذا الزَّمان: قصة يوسف من السَّبعة الذين يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: رجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ، فقال: إنِّي أخاف الله ربَّ العالمين [رواه البخاري629]. وقصة أصحاب الغار: الرَّجل الذي جلس من المرأة مجلس الفاحشة، وأعطاها مالاً، فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقِّه، فقام وانصرف عنها وترك المال الذي أعطاها، فانفرجت الصَّخرة[رواه البخاري2102]. بسبب ذلك العمل ثلاثة لا ترى أعينهم النَّار عين حرست في سبيل الله وعين بكت من خشية وعين كفت عن محارم الله[رواه الطبراني16347، وضعفه الألباني في الجامع الصغير6338].
من قصص العفيفين عن الزِّنا
وقد كانت هناك قصصٌ متعدَّدةٌ في عهد من مضى، تشجِّع في مسألة التَّعفُّف عن الحرام؛ لأنَّ قضية التَّعفُّف عن النِّساء في هذا الزَّمان -كما قلنا- من أشدِّ ما ينبغي أن يطرح على النَّاس، فمن هذه الأشياء التي حصلت: قصة ذلك الصَّحابي مرثد بن أبي مرثد، لما كان يحمل الأسرى تهريباً من مكة إلى المدينة، وكانت امرأةٌ بغيٌ بمكة، يقال: لها عناق، وكانت صديقةٌ له في الجاهلية، من الأخدان الذي يسمُّونه في هذا الزَّمان: الصَّديق والصَّديقة، وهذا شيءٌ معروفٌ من أيام الجاهلية، ولذلك قال الله تعالى الذي يريد الرَّد على من يتخذ هذا في قول الله: وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ[النساء:25]. فاتِّخاذ الخدن هو الذي يسمُّونه الصَّاحب والصَّديق والصَّديقة بالحرام، وهو الذي ذكره الله تعالى وحرَّمه ونهى عنه، وكانت صديقةٌ له في الجاهلية، وإنَّه واعد رجلاً من أسارى مكة يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظلِّ حائطٍ من حوائط مكة في ليلةٍ مقمرةٍ، فجاءت عناق فأبصرت سوادَ ظلي تحت الحائط، فلمَّا انتهت إليَّ عرفتني، فقال: مرثد؟ فقلت: مرثد، فقالت: مرحباً وأهلاً هلمَّ فبت عندنا اللِّيلة، على عادة الجاهلية من القديم، فقلت: يا عناق حرَّم الله الزِّنا، فقالت: يا أهل الخيام هذا الرَّجل يحمل أسراكم، الآن هذا مسلمٌ داخل مكة خفيةً ليحمل من مكة أناساً يهرِّبهم إلى المدينة، فلمَّا رفض الوقوع مع المرأة بالحرام على حسب ما كان أيَّام الجاهلية فضحته، ونادت بأعلى صوتها، ليأتي كفَّار قريش ويأخذوه، قال: فتبعني ثمانيةٌ ودخلت الحديقة فانتهيت إلى غارٍ أو كهفٍ، فدخلت فيه فجاء حتى قاموا على رأسي فبالوا، فظلَّ بولهم على رأسي فأعماهم الله عني، يعني: جاءوا وقاموا عنده وما رأوه وأعماهم الله عنه، ثُمَّ رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته، وكان رجلاً ثقيلاً حتى انتهيت إلى الإذخر، موضع خارج مكة ففكته عنه أكبله، فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة، فأتيت رسولَ الله ﷺ فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً؟ أتزوج فأمسك رسول الله ﷺ فلم يردَّ عليَّ شيئاً، بعد أن سأله مرَّتين حتى نزلت: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]. فقال رسول الله ﷺ: يا مرثد الزَّاني لا ينكح إلا زانيةً أو مشركةً فلا تنكحها[رواه الترمذي 3177، والنسائي3228، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي3177]. وهذا حديثٌ صحيحٌ رواه الترمذي وأبو داود والنسائي.
فالرَّجل هذا كان مهدَّداً بأنَّهم إذا عثروا عليه رُبَّما قتلوه، ومع ذلك ما رضخ ولا واقع المرأة بالحرام، فأعماهم الله عنه.
قصة أخرى للعفيفين عن الزِّنا
وكذلك شخصٌ آخرٌ انصرف ليلةً من صلاة العشاء فتمثَّلت له امرأةٌ بين يديه، فعرضت له بنفسها ففُتن بها، ومضت فاتبعها حتى وقف على بابها، في هذه اللحظة حضرته آيةٌ من كتاب الله، وهي: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[الأعراف:201]. فخرَّ مغشياَ عليه من هول الموقف، فنظرت إليه المرأة فإذا هو كالميت فألقته هي والجارية على باب الدَّار على باب داره، فخرج أبوه فرآه مُلقى على باب الدَّار فحمله فأفاق فسأله، فلم يخبره فلم يزل به حتى أخبره فلمَّا تلا الآية شهق شهقةً خرجت فيها نفسه، وهو الذي تُلي عند قبره: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ[الرحمن: 46].[روضة المحبين1/451]. وقال إبراهيم النَّخعي: "كان بالكوفة فتى جميلُ الوجه شديد التَّعبُّد والاجتهاد، فنزل في جوار قومٍ من النَّخع، فنظر إلى جاريةٍ منهم جميلة، فهويها وهام بها عقله، ونزل بالجارية ما نزل بالفتى، فأرسل يخطبها من أبيها، فأخبره أبوها أنَّها مسمَّاةٌ لابن عمِّ لها، فلمَّا اشتدَّ عليهما ما يقاسيان من ألم الهوى أرسلت إليه الجارية خطاباً: قد بلغني شدَّةُ محبتِّك لي وقد اشتدَّ بلائي بك، فإن شئت زرتك وإن شئت سهلَّت لك أن تأتيني في بيتي، فقال للرَّسول: ولا واحدةٌ من هاتين الخلَّتين إنِّي أخاف إن عصيت ربِّي عذاب يومٍ عظيمٍ، أخاف ناراً لا يخبو سعيرها ولا يخمد لهيبها، فلمَّا أبلغها الرَّسول قوله، قالت: وأراه مع هذا يخاف الله، والله ما أحد أحقُّ بهذا من أحدٍ، وإنَّ العباد فيه لمشتركون، ثُمَّ انخلعت من الدُّنيا وألقت علائقها خلف ظهرها، وجعلت تتعبَّد[روضة المحبين1/324].
من قصص العفيفين عن الزِّنا في هذا العصر
إذاً العفَّة رزقٌ يرزقه الله من يشاء: بآيةٍ أو بتذكيرٍ أو يستحضر شيئاً أو يرى مشهداً أو حادثٍ يُرزق به العفَّة، وهذه قصَّة حصلت في أيَّام الاستعمار الإنجليزي لمصر، كان رجلٌ يعمل ترزيا في المعسكر الإنجليزي، فدعته زوجة أحد كبار الضُّباط لبعض الأعمال الخارجية بمهنته، لتنفرد به في المنزل، وتغريه بكُلِّ أنواع المغريات، فيعظها وينصح لها، ثُمَّ يخوِّفها ويزجرها فتهدِّده بأن تتَّهمه هو أنَّه اقتحم عليها، وبتصويب المسدس إلى صدره تارةً، وهو مع ذلك لا يتزحزح عن موقفه، ويقول: إنِّي أخاف الله ربَّ العالمين، ثُمَّ هي تقول له بأنَّها قرَّرت بأن تقتله، وتخبر النَّاس بأنَّه هو الذي هجم في منزلها، فتصوِّب المسدس إلى رأسه فيغمض عينيه ويقول: لا إله إلا الله محمَّدٌ رسول الله، ففجأتها الصَّيحة بهذه الكلمة وسقط المسدس على الأرض، فدافعها حتى خرج وهرب منها، وظلَّ يعدو إلى أن وصل إلى إخوانه، فالإنسان لا يعدو في هذه الحياة لا يخلو من أن يقع في موقف مثل هذا، قد يكون عاملاً في مطعم فتطلب امرأةٌ منه طلباً فإذا جاء به وقرع الباب قالت: ادخل وضعه، فإذا دخل أغلقت الباب، فإذا به لا يُوجد في البيت أحدٌ، والمرأة بثياب النَّوم، وهذه حالات تقع الان في المجتمع مع انتشار الرَّذيلة والفساد، ما الذي يخلِّص من هذا؟ العفَّة، أيُّها الإخوان، وإذا ثبَّت الله الإنسان فإنَّه لا ينحرف، إذا رُزق عفَّةً وذكَّره الله تعالى: لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [القصص:10]. لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ[يوسف:24].
العفَّة عن اللِّواط
ومن القصص أيضاً: أنَّ الإنسان قد يُبتلى ويُفتن بالفاحشة من جهة اللِّوط، فيكون عفيفاً فيصبر، كما حصل للخليفة المعتضد رحمه الله تعالى وكان رجلاً شجاعاً عفيفاً، دخل عليه القاضي مرَّةً وحوله غلمانٌ أحداث من الرُّوم، جميلةٌ وجوههم، فنظر القاضي إلى الأحداث حول هذا الخليفة وكرَّر النَّظر، كأنَّه يفكِّر في شيءٍ، فعرف الخليفة ماذا يفكِّر القاضي، يعني: فهم أنَّ القاضي يقول إنَّني أخشى عليك من هؤلاء لا تكن قد فعلت بهم شيئاً، فحلف له بالله وقال: والله لم أحلل سراويلي على حرامٍ قط[سير أعلام النبلاء25/ 472]. وهكذا حصل أيضاً لشخصٍ آخرٍ ممَّن ذكرهم الذَّهبي رحمه الله في سير اعلام النُّبلاء: عن رجلٍ أُعجب بمملوكه، حتى همَّ أن يقع في الفاحشة فيه، وقعد منه مقعد الخنا، ثُمَّ ذكر الله تعالى، فقام إلى سريةٍ له -أمة له فعصمه الله بها عن الوقوع في فاحشة اللوط، وكان الملك الأشرف مظفر الدِّين ممن حصل له موقفٌ مثل هذا، فقال سبط الجوزي: كان الأشرف يحضر مجالسي بحرَّان وخلاط ودمشق، وكان ملكاً عفيفاً، قال لي: ما مددت عيني إلى حريم أحدٍ، ولا ذكرٍ ولا أنثى، ما عدا موقفٌ حصل له، قال: جاءتني عجوزٌ من عند بنت صاحبي خلاط شاه أرمن، بأنَّ الحاجب عليَّاً أخذ لها ضيعةً وغصبها، استولى عليها وأنَّها تشكو الآن إليك، فكتبت بإطلاقها وترجع إليها الضَّيعة، فقالت العجوز: تريد أن تحضر بين يدك، أي: المرأة هذه، فقال: بسم الله، فجاءت بها فلم أر أحسن من قوامها ولا أحسن من شكلها، فقمت لها وقلت: أنت في هذا البلد وأنا لا أدري؟ فسفرت عن وجهها فافتتن بها، ولكنَّه وقع في قلبه شيءٌ ما هو؟ قال: وقع في قلبي تغيُّر الزَّمان وأنَّ خلاط -البلد التي هو يملكها- يملكها غيري، وتحتاج بنتي أن تقعد هذه القعدة، فقلت: معاذ الله، قال: فكَّرت أنِّي ذهبت ومتُّ وبنتي صارت عند شخصٍ فقعد منها هذه القعدة، فكيف يكون؟ فتركتُ المرأة هذه، وقمت وقلت: معاذ الله، فقامت الشَّابة باكيةً واتعظت هي الأخرى، فقالت: صان الله عواقبك[سير أعلام النبلاء 22/125].
عفَّة الجار عن جاره في عصرنا
نحن الآن بطبيعة المعيشة في المساكن والشُّقق الموجودة في العمائر لا يخلو الإنسان أن يطَّلع على النِّساء الغاديات والرَّائحات والصَّاعدات والنَّازلات، وقلنا إنَّ كثيراً من النِّساء فيهنَّ شيءٌ من التَّسيُّب في مسألة الحجاب، ولذلك ينبغي على الإنسان أن يكون عفيفاً بالذَّات الجار يعفُّ عن نساء جاره، فهذه قضيةٌ مهمَّة؛ لأنَّ هذا شيءٌ متكرِّرٌ، وقد يعرف متى يغيب جاره ومتى يحضر، ولذلك إذا لم يُرزق الجار العفَّة فإنَّه رُبَّما يحصل من وراء ذلك حرامٌ عظيمٌ، ولذلك قال بشار بن بشر:
وإني لعفٌّ عن زيارة جارتي | وإنِّي لمشنوءٌ إليَّ اغتيابها |
إذا غاب عنها بعلُها لم أكن لها | زءوراً ولم تأنس إليَّ كلابها |
ولم أك طلَّاباً أحاديث سرِّها | ولا عالماً من أيِّ حوك ثيابها |
وإن قراب البطن يكفيك ملؤه | ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها |
إذا سُدَّ بابٌ عنك من دون حاجةٍ | فذرها لأخرى ليكن لك بابها |
وقال بعض المحدِّثين:
عودَّت نفسي الضِّيق حتى ألفته | وأخرجني حسنُ العزاء إلى الصَّبر |
ووسَّع قلبي للأذى الأنس بالأذى | وقد كنت أحياناً يضيق بها صدري |
وصيَّرني يأسي من النَّاس راجياً | بسرعة لطف الله من حيث لا أدري |
فإذاً الإنسان إذا صبر واستعفَّ أعفَّه الله تعالى، ودائماً ينبغي علينا أن نتذكَّر هذا الحديث: ومن يستعفف يعفَّه الله[رواه البخاري 1361]. وأنَّ المسألة تُكتسب، وأنَّ العفَّة هي سبيل الحياة الزَّوجية السَّعيدة، وسبيل راحة البال، وأنَّ العفَّة فيها نجاةٌ من الفواحش، وفيها طهارةٌ للفرج ونقاءٌ للمجتمع، وأنَّ العفيف في ظلِّ الله كما جاء في حديث السَّبعة، وأنَّه يُضاعف له الثَّواب ويتحقَّق لديه الإيمان، ويصرف الله عنه السُّوء والفحشاء، فهذا ما تيسَّر من الحديث عن هذا الخلق العظيم: خُلق العفَّة، وأنَّه لا يصلح المجتمع ولا النَّاس إلَّا بالعفَّة، والشَّباب في هذا الزَّمان بالذَّات لا يصلحون إلَّا بالعفَّة، فمن ذلك كان هذا الخلق عظيماً.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا العفَّة والعفاف، وقد ثبت أنَّه ﷺمن عظم هذا الخلق كان يدعو به ويقول: اللهم إني أسألك الهدى والتُّقى والعفاف والغنى[رواه مسلم2721]. فنسأل الله تعالى العفَّة، والعفاف، والغنى، والهدى، والتُقى، وأن يرزقنا الجنَّة، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد.