الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فقد تكلمنا على أهمية علم المقاصد بالنسبة للمجتهد، وعلم المقاصد كما قلنا مهم بالنسبة للمسلمين عموماً.
أهمية علم المقاصد للمجتهد
فمن أهميته للداعي إلى الله : أنه يستطيع من خلاله عرض كمال الشريعة، ومحاسنها وضرورتها في حياة الناس، ويبين أن الشقاء هو بالعيش بخلاف هذه الشريعة.
وبعيداً عنها من خلال مقاصد الشريعة يستطيع الداعي إلى الله: أن يبين صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، وأنها جديرة بقيادة البشرية، وأنها هي الحل الأمثل لكل مشكلات البشرية، وأنه مهما اختلفت البيئات، والظروف والأحوال فإن الشريعة هي الوحيدة القادرة على إسعاد الناس، كذلك ترغيب غير المسلمين في الإسلام، ودعوتهم إليه.
ومعرفة المقاصد كذلك يعين الداعية على ترتيب أولوياته في الدعوة؛ لأنه إذا تضلع من مقاصد الشرعية، فإن ذلك يعينه على ترتيب سلم الأولويات، فيقدم مثلاً الضروريات على غيرها، ويقدم الأصل على التابع، يقدم ما فيه مصلحة عامة على المصلحة الخاصة.
كذلك: يحذر المدعوين من الضرر الأخطر قبل تحذيرهم من الضرر الأخف، ويخاطب الناس كذلك على قدر عقولهم، ويجعل غاية همه: جلب المصالح لهم ودفع المفاسد عنهم.
فالداعية إلى الله إذا فهم مقاصد الشريعة: يستطيع تيسير تطبيق الأحكام على الناس، ويتخذ مبدأ التبشير وليس التنفير، ويدعوهم إلى الإصلاح والصلاح، يحذرهم من الفساد والرذيلة والشر.
فإذن الداعية كالطبيب لابد له من معرفة المقاصد؛ لأنها الدواء الذي يقدم بالطريقة الصحيحة؛ لأننا قلنا: بأن علم المقاصد يمكن أن يُستغل استغلالاً سيئاً جداً، في ضرب النصوص والعدوان عليها، ونحو ذلك.
ولا يمكن لداعية يعرف مقاصد الشريعة، أن يأتي إلى قوم عند قبور يعبدونها مثلاً، ويسبلون في ثيابهم أن يقدم النهي عن الإسبال على النهي عن الطواف بالقبر.
فهذا اختلال يعتبر، لا يمكن لمن يعرف مقاصد الشريعة أن يفعل ذلك، بل سيقدم أمر التوحيد أولاً؛ لأن أعظم مقاصد الشريعة: تعبيد الناس لرب العالمين.
علم مقاصد الشريعة مفيد لعموم المسلمين
وعلم المقاصد مفيد لجميع المسلمين، وعامتهم، من جهة أنه يؤدي إلى زيادة الإيمان بالله ، وتبين حكم الرب ، فتزداد القلوب محبة له وإقبالاً على شرعه.
والله لما قال مثلاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ[المائدة: 90-91].
فهذه المعرفة للمقاصد من وراء تحريم الخمر والميسر ستجعل الناس يحبون هذا الشرع، وهذا الإله الحكيم الذي حرم عليهم هذه الأشياء التي توقع العداوة والبغضاء بينهم.
أيضاً لما يتبين للعامي مثلاً في قول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ[الأحزاب: 53].
فإن العامي سيتحرز في هذا الموضوع التحرز المطلوب، وكذلك سيراعي مسألة الحرمات، وعدم التساهل مع الأجنبيات، لأن الشرع يريد الطهارة لقلبه وقلبها، ولطهارة قلب ابنته وزوجته وأخته، كذلك فإن علم المقاصد: يشجع المسلم على تطبيق الشريعة كما قلنا، ويسهل ذلك.
المقصد من الزكاة
إخراج المال في الزكاة صعب على النفوس، خصوصاً أصحاب الملايين، لكن لما يعرف التاجر الذي هو من عامة المسلمين، أن هذه الزكاة في الحقيقة فيها مقاصد كبيرة شريفة عظيمة، مثل: تطهير النفس، مثل: البركة في المال.
البركة شيء محبوب، لو قلت للناس: ألا أدلكم على شيء فيه جلب البركة لأموالكم، بحيث يكفيكم القليل منها في عمل أشياء كثيرة، وإنجاز أشياء كثيرة، الناس يحبون هذا، فإذا تبين لهم أن الزكاة فيها تحقيق هذه البركة: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ: 39]. ما نقصت صدقة من مال [رواه مسلم: 2588].
سيجعل التاجر أحرص على إخراج الزكاة، ويسهل عليه عملية الإخراج مع أنها شاقة على النفس: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً[الفجر: 20].
كذلك عندما يعلن للناس أن الزكاة هذه تحارب الطبقية، وتزيل أشياء كثيرة من الشحناء في نفوس الفقراء على الأغنياء، فإن الأغنياء يحسون بالخطر على أموالهم، يحسون أن هنالك طبقة في البلد ربما تثور يوماً ما عليهم، وتأخذ أموالهم تفعل بهم الأفاعيل، وأن إخراج الزكاة يعالج هذا، ويمنع عنهم هذا الخطر، يمنع عنهم ثورة الفقراء عليهم وعلى ممتلكاتهم، وعلى مصانعهم، وعلى بيوتهم، وعلى أموالهم ومزارعهم.
معنى ذلك أن الزكاة يحقق لهم أمناً، فهذا يدفعهم إلى إعطائها؛ لأن هذه مسألة ملموسة، لأنه يوجد في العالم أزمة غذاء يوجد في العالم أزمة فقر، يوجد في العالم ثورات، يوجد في العالم اعتداءات، فهذه قضية ملموسة مرئية، فعندما يربط بين إخراج الزكاة، وبين معالجة هذه المشكلة، فإنه حتى أصحاب الشأن وأولوا الأمر سيحرصون على تطبق هذه الفريضة؛ لأنه يحقق الأمن في المجتمع يهدأ النفوس، وأن إخراج الزكاة يجعل الناس أكثر هدوءً، وسكينة، وأمناً، بعيدين عن العدوان وخرق الأمن.
علم المقاصد تحصين لعقول الشباب
علم المقاصد يمكن أن يكون تحصيناً لعقول الشباب والفتيات، خصوصاً في عصر الانفتاح الاتصالاتي الموجود الآن، وعصر ما يسمى بمواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، التي أدخلت علينا أشياء كثيرة جداً من الشر، يعني إلحاد أفكار إلحادية.
علم المقاصد يعالج هذا؛ لأنه يجعل مثلاً الشباب والفتيات عندهم تبصر بعظمة الدين أهمية الدين، أهمية أحكام الدين مثلاً، هذه فيها علاج لقضية الإلحاد، هذا فيه رد على الشكوك، هذه فيها رد على الشبهات، هذه فيها كبت للوساوس؛ لأن النفوس التي تفقه مقاصد الشريعة لو ثارت فيها وساوس،أو أثيرت عليها شبهات فهناك ردود تؤخذ من علم المقاصد هذا.
العلاقة بين علم المقاصد والأدلة التفصيلية
ما هي العلاقة بين علم المقاصد والأدلة التفصيلية؟ الجواب: أن الطريق الصحيح لمعرفة المقاصد والحكم استقراء النصوص.
لو طرحنا سؤالاً فقلنا: لماذا نقول: علم المقاصد، ومقاصد الشريعة، من أين ستأتي المعلومات عن هذا الموضوع؟ من أين ستأتي جزئيات أو قواعد علم المقاصد؟ تفصيل علم المقاصد، بنود علم المقاصد من أين ستأتي؟
من الهوى هذه القواعد؟ أو هذه البنود، أو هذه المعلومات حول علم المقاصد ستأتي من النصوص قطعاً، من أين ستأتي بمقاصد الشريعة؟ من نصوص الشريعة.
فإذن في علاقة وثيقة جداً بين مقاصد الشريعة ونصوص الشريعة، وبالتالي نأمل من مسألة استخدام علم المقاصد في نسف النصوص، أو إبعاد النصوص، أو عدم العمل بالنصوص، أو الثورة على النصوص كما يريد الثوريين الجدد في عالم الإسلام الليبرالي؛ لأن من بنود الإسلام اللبرالي أو الإسلام العلماني تجوزاً نقول هذا كلام، نقول: إسلام علماني، هذان ضدان لا يجتمعان، لكن بعضهم يريد أن يسمي هذا، يقول: نحن أصحاب الإسلام الليبرالي، أو الإسلام العلماني أصحاب الثورة التجديدية.
علم المقاصد مأخوذ من نصوص الكتاب والسنة
نقول: يا أيها القوم إن علم المقاصد مأخوذ من النصوص، ومبني على النصوص، وبالتالي دعوتكم يا مَن تسمون أنفسكم بالإسلام العلماني، أو الإسلام الليبرالي، مبنية على محاربة النصوص، أنتم تثورون على النصوص.
تريدون تنحية وتحييد وإبعاد النصوص، النصوص الشرعية عدو لكم، أنتم إذا أتيناكم بنص قلتم: لا، لا نريد النص نريد روح الشريعة من أين هي مستنبطة؟ مقاصد الشريعة من أين هي مأخوذة؟ المصالح الشرعية من أين استخرجت؟ من النصوص.
فكيف تدعون أنكم تريدون العيش في روح الشريعة، ومقاصد الشريعة، ومصالح الشريعة، ثم تعادون النصوص وتكرهون النصوص، وتسموننا نحن الذين نسير على طريقة السلف بأننا نصوصيون جامدون على النص، متحجرون ، بل يسموننا: عبدة النصوص، يقولون: أنتم السلفيون عبدة النصوص، نقول: نحن نتعبد الله بالنص؛ لأن النص:الآية والحديث، فنعمت التهمة أن يقال: أننا نصوصيون، يعني أننا نتبع آيات الله، وأحاديث نبيه ﷺ، نعمت التهمة، لكن القوم لا يفقهون حديثه لا يفقهون حديثه.
فإذن مقاصد الشريعة لا تؤخذ من القانون الفرنسي والإيطالي والسويسري، مقاصد الشريعة لا تؤخذ من قوانين الأمم المتحدة.
مقاصد الشريعة لا تؤخذ من الهوى، لا بالهواء الممدودة، ولا بالهوى بالألف المقصورة، مقاصد الشريعة تؤخذ من نصوص الشريعة، كيف سنتعرف على مقاصد الشريعة؟ هات النصوص: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب: 53].
إذن هذا المقصد من وراء مخاطبة المرأة من وراء الحجاب، كيف عرفناها مخاطبة المرأة من وراء حجاب؟ ما المقصد منه؟ طهارة القلب.
الزكاة: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة: 103]. من مقاصد الشريعة تطهير القلوب، تطهير النفوس من الشح والبخل إلى آخره بدفع الزكاة، مقاصد الشريعة نعرفها من النصوص.
ولذلك فإن الارتباط بين علم المقاصد، وبين النصوص هو ارتباط حتمي جذري أساسي وثيق جداً ، هو نابع منه، فما هي علاقة المقاصد بالأدلة؟
فلنبدأ بالأدلة المتفق عليها القرآن والسنة والإجماع:
ارتباط علم المقاصد بالقرآن الكريم
إذا كان من المعلوم أن القرآن هو أساس الشريعة وأصل الشريعة، فإنه من الضروري للباحث عن مقاصد الشريعة، والطالب لحكم الشريعة، وروح الشريعة، ومصالح الشريعة أن يدرس القرآن.
قال الشاطبي رحمه الله: "إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه؛ لأنه معلوم من دين الأمة، وإذا كان كذلك لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة، وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها، أن يتخذه سميره وأنيسه" القرآن الكريم "سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي، نظراً وعملاً، لا اقتصار على أحدهما" ولا تقول: سأدرس القرآن دراسة نظرية! لا، ستدرس وتعمل "فيوشك أن يفوز بالبغية" [الموافقات: 4/144].
هذا الكلام الجميل للشاطبي في كتاب الموافقات، يدلنا على علاقة المقاصد بالنصوص، وكيف لإنسان أن يعيش مع روح الشريعة إذا ما عاش مع القرآن؟ كيف لإنسان أن يفهم مقاصد الشريعة، إذا ما عاش مع القرآن؟
والذي لا يفتح القرآن، ولا يكون القرآن أنيسه وجليسه، فلن يفقه مقاصد الشريعة، إذا أهمل النظر في القرآن سيترتب خلل كبير في معرفة مقاصد الشريعة؛ لأن نصوص الشرع هي الأصل في تفهيم مقاصد الشارع وتفهمها.
قال الشاطبي رحمه الله: "والأدلة الشرعية أقرب إلى تفهيم مقصود الشارع من كل شيء"[الموافقات: 4/144]. وقال أيضاً: "ونصوص الشارع أقرب إلى تفهيم مقصود الشارع من كل شيء، ونصوص الشارع مفهمة لمقاصده، بل هي أول ما يتلقى منه فهم المقاصد الشرعية" [الموافقات: 3/125].
يوجد أناس يتجهون إلى دراسة علم المقاصد من كتب الأصول، ولا يفرغون وقتاً من وقتهم لأن يحيوا مع القرآن، وهؤلاء مقصرون وفهمهم سيكون قاصراً؛ لأن المسألة ليست مسألة أكاديمية بحتة، في قضية فهم مقاصد الشريعة؛ لأن هذا موجود في كتب علم الأصول، الذين كتبوه في كتب علم الأصول من أين أخذوه؟ من كتب سابقة في علم الأصول، والكتب السابقة في علم الأصول من أين أخذوه لما كتبوا فيها مقاصد الشريعة؟ من كتب سابقة؟
فمقاصد الشريعة مأخوذة من القرآن والسنة، فالذي لا يعيش مع القرآن في تفسيره ومعانيه، تلاوة، تدبراً، مدارسةً، تفسيراً، فهماً، تلاوةً، حفظاً، الذي لا يعيش مع القرآن، سيكون فهمه لموضوع المقاصد فهماً قاصراً، وربما يأخذ القضية كقضايا نظرية باردة، موجودة في كتب الأصول.
لكن في الحقيقة لا توجد حيوية في فهم مقاصد الشريعة، فالذي كتبه في كتب الأصول من أين أخذه؟
"اذهب إلى الأصل تعيش، ويترافق معك العيش" مع المصدر، مع النتيجة التي تم التوصل إليها من علماء الأصول لما كتبوا المقاصد في كتب العلم علم الأصول، مع المصدر الذي أخذوا منه هذه المقاصد.
وهذه المعلومات والقواعد التي خرجوا بها، ارجع إلى الأصل وخذ القاعدة التي خرجوا بها، وارجع إلى الأصل التي خرجوا منه بهذه القاعدة، فيجتمع عندك الأمران هذا هو الطريق الصحيح لدراسة هذا الموضوع.
علاقة القرآن الكريم بعلم المقاصد الشرعية بعدة امور
تظهر علاقة القرآن الكريم بعلم المقاصد الشرعية من عدة جهات:
أولاً: من حيث إدراك هذا، لأن القرآن الكريم يعتبر أهم المصادر لإدراك علم المقاصد، ومعرفة قواعدها وتقريرها وبيان ضوابطها، وهكذا.
فمثلاً: من مقاصد الشريعة رفع الحرج، أن الله أنزل الشرع لرفع الحرج عن الناس، ورفع المشقة، ووضع الآصار والأغلال.
من أين عرفنا هذا المقصد؟ من الهوى؟ أم من كتب اليونان والرومان؟ من أين عرفنا؟ من قوله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة: 6].
مقصد الإخلاص في العبادة، أن الشريعة من مقاصدها: إخلاص العمل لله تربية المكلف تربية العباد على إخلاص العمل لله هذه من مقاصد الشريعة.
فهذا منصوص عليه: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[البينة: 5].
لما نقول: أن من مقاصد الشريعة: العدل والإحسان! هذا مقصد وهو منصوص عليه:إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ[النحل:90].
من مقاصد الشريعة: محاربة الفساد، بعض الناس إذا قلت الآن كلمة الفساد، يفهم الرشوة فقط، لا طبعاً الفساد كلمة أعم من ذلك بكثير، يعني لو تقول: فساد النيات، فساد الزروع والثمار، فساد البيئة، فساد الجو التلوث.
أي فساد، الشريعة تقصد من مقاصد الشريعة محاربة الفساد، أي فساد: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة: 205]،لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف: 56]. فالأدلة من القرآن نصت على ذلك.
من مقاصد الشريعة الألفة وعدم الفرقة
إذا قلت: أن من مقاصد الشريعة: تحقيق الائتلاف بين المؤمنين، أن الشرع يريد أن يوحد المؤمنين.
فلو قلت: هاتوا نصوص. كلٌ يقولل: الصف في الصلاة، يعني: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم [رواه مسلم: 432].
يجي آخر يقول: لا يبيع على بيع أخيه لا يخطب على خطبة أخيه [رواه البخاري: 2140، ومسلم: 1413]؛ لأن الخطبة على خطبة أخيه، والبيع على بيع أخيه سيؤدي إلى تنافر القلوب.
إذن هذه عملية ضد مقاصد الشريعة؛ لأن الشريعة من مقاصدها ائتلاف القلوب.
التعصبات عند الشباب تدعو الى الفُرقَة
وبالتالي أنتم على حتى على مستوى الشباب، مشجعي الرياضية، لو جلسوا كذا مجموعة شباب ليسوا في واد التفقه في الدين والتخصص في الشريعة، مجموعة شباب مشجعي أندية رياضية، لكن فيهم عقل يمكن أن يستنبطوا، أن يفهموا من آيات، لو عندهم فقط فهم صحيح لظواهر النصوص، يفهمون أن التعصب للأندية الرياضية ضد مقاصد الشريعة؛ لأن الشريعة تقول في نصوصها: وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال: 63]، كونوا عباد الله إخوانا [رواه أحمد: 9763، وصححه الألباني في الجامع الصغير: 13156]، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]. لا تختلفوا فتختلف قلوبكم [رواه مسلم: 432].
معناها التعصب للأندية مباشرة، الفهم الصحيح التعصب للأندية يخالف مقاصد الشريعة هذا واضح، وبالتالي أي شيء يؤدي للتعصب للأندية حرام؛ لأنه يخالف مقاصد الشريعة.
ما حكم الذهاب إلى شعراء أو أدباء أو أقل من ذلك، يعني مخترعوا الشعارات؟
الآن الأندية أو المشجعون يتجهون إلى أشخاص معينين وربما يدفع لهم مال، مثل صاحب العرس إذا أراد أن تنسج له قصيدة في العرس يذهب إلى شعراء بفلوس، مثل التجار إذا أرادوا ترويج السلع يذهبون إلى شركات دعاية وإعلان، يكون فيها ناس مهمتهم ماذا؟ اختراع العبارات الترويجية.
كذلك الأندية الرياضية، مشجعو النادي الفلاني يريدون عبارات يهتفون بها لصالح ناديهم، فإذا كان اسم النادي ينتهي بأي، أو آد، أو آل، أو لونهرإلى آخره، سيأخذون شعارات تنتهي بهذه النهاية حتى تنسجم ويكون ذلك من الترويج لهذا.
فإذا كان في عبارات فيها التعصب للنادي، والطعن على النادي الآخر، فما حكم العبارات هذه بناءً على مقاصد الشريعة؟ محرمة؛ لأنها تُفرق بين المسلمين، وتسبب التنافر، وتسبب بغض بعضهم لبعض، وكره بعضهم لبعض وهكذا.
وطبعاً هذه الآن صارت تتغلغل بوضوح، مررت بجانب مجموعة من الأطفال في العيد مروراً سريعاً، وأسمع واحداً يقول للثاني: أنا كذه، يعني على نادي محلي، وكذه على نادي عالمي.
كأن واحد يقول: أنا أهلاوي برشلواني، صارت الجنسية عند الأطفال لما يصنفوا بعضهم، يقول له: كذا وكذا، يقول له: لا أنا كذا مثلاً يجيب نادي آخر، ومن الداخل ونادي من الخارج، صارت هذه قضية الأندية جنسيات مركبة عند الأطفال، ليس جنسية محلية، ولا جنسية دولية، لا، مركبة يقول له: أنا كذا كذا.
كبريتات الصوديوم مركبين مع بعض، ففي مشكلة تحتاج إلى علاج في قضية التعصب للأندية المحلية والدولية، على مستوى الأطفال الصغار الشباب.
لما تأتي للعلاج تقول: هل هذه قضية هامشية وإلا قضية تستحق؟
ما هو الجواب؟ لا هذه قضية تستحق العلاج؛ لأن هذه قضية تتناقض مع مقاصد الشريعة، لأن من مقاصد الشريعة ائتلاف وجمع قلوب المسلمين، اتحاد المسلمين، وحدة المسلمين.
إذن أي شيء يفرق المسلمين من أي نوع تعصب لأندية، أو أي شيء آخر؛ لأن المفرقات كثيرة، يكون تعصب لنادي، تعصب لبلد مثلاً، تعصب لقرية، تعصب لقبيلة أي تعصب.
فأي ولاء وبراء على غير الشريعة، أوالي وأعادي على النادي، أو على القبيلة، أو على البلد، على غير الشريعة، معناها هذا يضرب مقاصد الشريعة.
فالارتباط بين مقاصد الشريعة والآيات ارتباط واضح جداً.
القرآن الكريم دليل على مراعات الشريعة للمصالح والمفاسد
كذلك ثانياً: القرآن الكريم يعتبر دليلاً على مراعاة الشريعة للمقاصد والمصالح، فقد ذكر بعض الأحكام الشرعية الخاصة وبين ثمرتها وفائدتها.
كما قلنا في الصيام: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، في الزكاة: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة: 103]. في الصلاة: تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ[العنكبوت: 45]فما الارتباط بين علم المقاصد والقرآن؟
أن بعض الآيات قد نصت على هذه المقاصد، بحيث أنها دليل عليها مباشر، ليس أنه يستنبط ويؤخذ، هي دليل مباشر عليها، سواءً كان دليلاً على مراعاة المقاصد، أو دليلاً على المقصد نفسه.
طريقة القرآن في بيان المقاصد الشرعية
ثالثاً: أن طريقة القرآن في بيان المقاصد لها كيفية معينة ينبغي دراستها، هذا علم هذه ملاحظات العلماء.
فمثلاً من طريقة القرآن في التعريف بالمقصد الشرعي: التنصيص على علة الحكم بطريقة من الطرق المعروفة.
لما قلنا: كلمة "لـ" لام التعليل، وكلمة: لأجل، وكلمة: كي وإلى آخره، أو الحروف كي لـ، كيلا، لأجل، من أجل، هذي إشارة طريقة يعرف منها العلماء أن هذا مقصد، فما هي الدلالة على أن هذا مقصد؟
أنه يوجد في النص أمر يحدد لنا أن هذا مقصد، فالعلماء درسوا هذا وخرجوا بنتائج.
قال ابن القيم رحمه الله: "والقرآن وسنة رسول الله ﷺ مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم، والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرعة تلك الأحكام، ولأجلها خلق الله تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها"، لو مائة أو مائتين كان يقول ابن القيم: عددناها واحد واحد "ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة"[مفتاح دار السعادة: 2/22].
ففي تقدير ابن القيم، وهو رجل من المجتهدين والعلماء وأهل القرآن، أن عدد المواضع التي ورد فيها النص على مقصد من المقاصد بطريقة معينة "كي، لـ ، لأجل" ليست مائة ولا مائتين بل تزيد على ألف، ولذلك عرضها صعب.
ولذلك اكتفى بأمثلة، يقول ابن القيم عن الطرق المتنوعة في دلالة الآيات على المقاصد: "فتارة يذكر لام التعليل الصريحة، وتارة يذكر المفعول لأجله، الذي هو المقصود بالفعل، وتارة يذكر من أجله". [مفتاح دار السعادة: 2/22].
هذه اللفظة من أجل ترد في النص "الصريحة في التعليل، وتارة يذكر أداة كي" كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر: 7] الفيء لماذا جعل له هذه المصارف المعينة؟
كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ[الحشر: 7]. يمتداولاً محصوراً دائراً بين الأغنياء منكم، لأن الشريعة تريد توزيع الأموال في المجتمع.
مقاصد الشريعة في الأقصتاد الإجتماعي
فأنت الآن لو جئت قلت لي: ما هو الأقرب إلى روح الشريعة، ومقاصد الشريعة أن شركة ديل يعني لو كانت إسلامية، يعني لو كانت تصنع الكمبيوترات، وترسلها مباشرة إلى المشترين، من المصنع إلى الزبون، أو أن المصنع يبيع على تاجر جملة، وتاجر الجملة يبيع على تاجر تجزئة، وتاجر تجزئة يبيع على الزبون أيها أقرب إلى روح الشريعة؟
الدخول في هذا الموضوع يجعل الساسة الاقتصاديين، لو في واحد يخطط للاقتصاد في البلد يوجه الدفة بتوجه معين؛ لأن الإجراءات والقوانين المفروض تخدم روح الشريعة ومقاصد الشريعة، فلو كان واحد يريد يمشي على مقاصد الشريعة، فإنه سيشجع المشاريع التي تقوم على تداول السلع في أكبر كمية من الأيدي في البلد؛ لأنه سيستفيد منها أكبر عدد من الناس في البلد، فيكوِّن منها أرزاق، ومصادر دخل لعدد كبير من الناس في البلد.
بينما المصنع يبيع للزبون مباشرة كل الطبقة التي كانت ستستفيد أو الفئات البينية بين المصنع والمستهلك ستسقط.
فالكلام هذا يحتاج إلى موازنة؛ لأنه قد يأتي واحد في المقابل يقول: أليست الشريعة تهدف إلى تنزيل الأسعار بحيث ما تكلف المستهلك مالاً، ثمناً كبيراً للسلعة، فيمكن لو حذفنا هؤلاء ينزل السعر، فالزبائن سيستفيدون؟
نعم، فالمسألة تحتاج موازنة إذن، نحن نريد أن تتداول السلع بين أكبر عدد من الناس، لكن ليست إلى درجة ترهق كاهل المستخدم النهائي، فتحتاج القضية إلى تجميع حتى تعرف مقاصد الشريعة.
من مقاصد الشريعة في التجارة:
نهى أن يبيع حاضر لبادي [رواه البخاري: 2140، ومسلم: 1413]. لماذا نهى أن يبيع حاضر لبادي، ولا يكون له سمساراً؟
واضح أن الشرع يقصد ماذا؟
تداول السلع في أكبر عدد من الأيدي، وكذلك أنها لا تباع بالسعر الأعلى للمستخدم النهائي مباشرة.
الحاضر هذا يعرف أسعار السوق، البادي يريد يأتي من البادية ويبيع بسرعة ويرجع، وراؤه أولاد وأهل، نهى أن يبيع حاضر لبادي[رواه البخاري: 2140، ومسلم: 1413].
لو الحاضر مسك سلعة البادي ليبيعها هو فسيبيعها بأعلى سعر.
ثم يقول: يا أخي هذه وصلت حدها، هذه بيعت السلعة، لا أحد يشتري من أحد، لكن لما يجيء البادي، يريدأن يبيع ويرجع قنوع، جاء من البادية ليس عنده تكلفة كبيرة مثل أهل الحضر.
ليس عنده محلات وإيجارات، ومصاريف تشغيلية، هذا هو زرعها والا ولدها، والا خض السمن في البادية وأتى به، فيمكن يبيع بمائة ويمشي، الحاضر الذي يعرف أنه هذه السلعة ممكن تصل إلى مائتين، لو استلم العملية هو وباع بالمائتين فالسلعة وصلت حدها.
لكن لما يجيء هذا البادي يبيعها بمائة، ويجيء واحد يأخذها منه بمائة سيبيعها بمائة وعشرين، وسيجيء يأخذ بمائة وعشرين يبيعها بمائة وخمسين، ويبيعها بمائة وسبعين حتى تصل إلى حدها، مالأعلى مائتين المستخدم النهائي كم واحد يكون استفاد؟
على أية حال، فالمقصود الآن ضرب المثال، أن مراعاة مقاصد الشريعة يمكن أن يوجه السياسات الاقتصادية في البلد.
مثال فقط السياسات الاقتصادية، وإلا إذا ذهبت إلى السياسات الاجتماعية فإنك ستجد أن مقاصد الشريعة، لو حرصنا عليها، ممكن نوجه السياسات الاجتماعية في البلد.
تأتي أحياناً إلى مظاهر معينة، مثلاً: المتاجرة بالديات، توصل الدية إلى خمسة وثلاثين مليون، أيها الناس ادفعوا ، الدية غداً، سيكون بعد أسبوع تقطع رقبة فلان، وكذا ساهموا، مواقع التواصل الاجتماعي تويتر الفيسبوك حملات لأجل واحد لإنقاذ رقبة "خمسة وثلاثين مليون".
ما هي مقاصد الشريعة هنا؟ وهل هذا الكلام صحيح؟
المقصود الآن تحقيق مقاصد الشريعة سيوجه السياسات الاجتماعية، والسياسيات الاقتصادية، والسياسات الخارجية إلى آخره.
يقول ابن القيم: "تارة يذكر من أجل الصريحة في التعليل، وتارة يذكر أداة كي، وتارة يذكر الفاء، وأن وتارة يذكر أداة لعل المتضمنة للتعليل، المجردة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق". [مفتاح دار السعادة: 2/22].
لأن لعل للترجي، ليست في مقاصد الشريعة، نحن نتكلم عن لعل التي تبين العلة، وليست لعل المفيدة للترجي المضاف للمخلوق، وتارة ينبه على السبب يذكره صريحاً: إنما جعل الاستئذان من أجل البصر[رواه البخاري: 6241].
النص الشرعي هو الموضح والمبين للمقصد الشرعي
النص الشرعي يبين المقصد مباشرة وبوضوح، ومنصوصة عليه، وتارة يذكر الأوصاف المشتقة المناسبة لتلك الأحكام، ثم يرتبها عليها ترتيب المسببات على أسبابها، وتارة ينكر على من زعم أنه خلق خلقه، وشرع دينه عبثاً وسدى؛ لأنه لما يقول الله: مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ما خلقهم باطلاً ولا سدى ولا عبثاً ما معناها؟إنه في حكمة، من وراء ذلك مقصد، ومن وراء ذلك غايات في مراد لله من وراء العملية هذه، ليست عبثاً، الكلام هذا في مفتاح دار السعادة. [مفتاح دار السعادة: 2/22].
أحياناً تورد النصوص الكثيرة حول المعنى المعين، وتنوع الأسلوب من أمر به، أو نهي عن ضده، أو مدح لفاعله، أو ذم لتاركه، أو ضرب الأمثال له، أو قصة معينة، وكل ذلك ينتظم معنى كلياً، كالدعوة إلى التوحيد وإلى العدل، وإلى الإصلاح مثلاً.
أهمية المقاصد في فهم القرآن وتفسيره
رابعاً: أهمية المقاصد في فهم القرآن وتفسيره، العنوان الرئيسي ما هو؟
علاقة المقاصد بالنصوص الشرعية، بدأنا بعلاقة المقاصد بالقرآن الكريم ذكرنا تحتها الآن ثلاث نقاط.
الرابعة: أهمية المقاصد في فهم القرآن وتفسيره، إذا تم الاعتناء بالمقاصد فسيكون فهم القرآن والتفسير
منسجماً مع المقاصد، وبيان ذلك من وجهين:
أولاً: أن القرآن الكريم مشتمل من الآيات على الحكم الواضح، والمتشابه الذي لم تتضح دلالته، أو ما احتمل أكثر من معنى، فوجب ردها إلى النصوص المحكمة، مثلاً: جاك واحد وقال: إِنَّا أَنْزَلْنَاهذه جماعة يتقول: لا، رده للمحكم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1].
فيكون الجمع للتعظيم وليس الجمع للكثرة، لأنه نصراني ممكن يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر: 9]. انظر كيف "إنا" قال: "إنا نحن"، يعني الأب والابن وروح القدس جماعة، فنقول: رده إلى المحكم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[الإخلاص: 1].
و"إن نحن" للتعظيم، وفي لغة العرب يقولها الشخص الذي عنده جنود وخدم وحشم يقصد نفسه وجنوده معروفة في لغة العرب، فلا تشوش علينا ما لك مدخل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1].
فيكون ردها إلى المحكم مبيناً للمعنى، والمقصد الشرعي المفهوم من نصوص الشريعة الأخرى مجتمعة، وبهذا نحمل النص المحتمل على ما يوافق نصوص الشريعة ومقاصدها.
إذن نصوص الشريعة تفيدنا في ماذا؟ في صحة تفسير النص، وفي حسم الاحتمالات، قد يكون النص يحتمل عدة احتمالات، لكن في احتمال منها يوافق مقاصد الشريعة، واحتمال آخر لا يوافق المقاصد.
فإذن أفادتنا المقاصد في حسم الاحتمال، أو في الترجيح على الأقل، وبذلك نتلافى التأويلات الباطلة، ونتلافى الاحتمالات الضعيفة، والمرجوحة في الآية.
علاقة المقاصد بالآيات القرآنية
فإن المقاصد ذكرت بكثرة، وبعضها مرتّب على بعض، ومنها الأصلي، والتابع، والكلي، والجزئي، والمقيد بالسنة، وبالتالي نحتاج في قضية المقاصد وعلاقتها بالآيات إلى ما يلي:
أولاً: جمع مقاصد الحكم الواحد في القرآن.
أنا ممكن أجيب لك الآن أكثر من آية في الزكاة كل آية فيها مقصد غير الأول، فإذا قلت: أنا أريد أن أعرف مقاصد الشريعة من خلال الآيات، واخترت موضوع الزكاة فنقول: يمكن يكون للشرع أكثر من مقصد، وأكثر من مصلحة، وأكثر من حكمة في الزكاة، فلكي تتعرف على مقاصد الشريعة من خلال نصوص القرآن الكريم ينبغي عليك أن تجمع مقاصد الحكم الواحد لتعرف الصورة الكاملة.
ثانياً: معرفة درجات ورتب المقاصد، لتعتني بالأهم.
هذا يفيد طالب الدراسات العليا الذي ضاق عليه الوقت في البحث، في مسألة الانطلاق في الأبحاث، إذا أردت أن تفتح المجال: إذا أنت مُحدد مثلاً سنتين للبحث تبغى تنطلق وراء كل جزئية، وكل تشعب ما تنتهي، تنتهي الفترة وما انتهى البحث.
فلما تقول: سأوجه عنايتي، واهتماماتي البحثية إلى الكليات، أو الأوليات، أو الأهم أو الأعم، هذا يضبط لك المسألة، وينجح البحث من جهة هذا ضربناه مثلاً، لكن من جهات أخرى المسألة ممكن تأخذ أبعاداً أخطر وأكبر.
مثلاً: المنافقون ممكن يثيروا الشُّبه علينا في قضية المقاصد، بزعمهم اتباع مقصد معين للشرع، بينما يكون في مقصد آخر أعلى منه.
مثال: لو جاء واحد من هؤلاء مثيري الشبهات، قال: الجهاد هذا ليس بصحيح، لماذا؟ قال: لأنه يخالف مقاصد الشريعة، كيف؟ قال: أليس من مقاصد الشريعة حفظ النفس ماذا ستقول؟ بلى.
فسيقول: الجهاد يفوت حفظ النفس؛ لأنك عندما تذهب للجهاد ممكن تقتل، والشرع جاء بحفظ النفس والإبقاء عليها، فإذن الجهاد هذا ضد مقاصد الشريعة.
فلما أنت تسير على قضية مراعاة الأولويات، والترتيب في المقاصد، ستقول: لا، إن مقاصد الشريعة فيها حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العرض، فالجهاد شرع لحفظ الدين، وحفظ الدين أعلى من حفظ النفس، وأنت ممكن تتحمل الضرر الأقل في سبيل المحافظة على المقصد، ممكن يفوت مقصد أدنى لتحقيق مقصد أعلى.
وبالتالي فإن قضية الترتيب والأولويات في دراسة المقاصد مهمة، حتى في الرد على هؤلاء الطاعنين، وتلافي إثارت، والفهم الصحيح، وتتجه الهمم لمراعاة المقصد الأعلى أو الأصلي، أو الأعم، وليس مراعاة المقصد الجزئي أو الأدنى أو الخاص.
في حالات أخرى نعم، مراعاة حفظ النفس واضح جداً، في تحريم المخدرات، القصاص، سنأتي في الأمثلة، لكن لا تشوش علي تأتي بمقصد أدنى من مقصد وتقول أنا أراعي هذا.
ثلاثة: ضم مقاصد السنة إلى مقاصد القرآن، ذكرنا جمع مقاصد الحكم الواحد، ومعرفة درجات ورتب المقاصد.
وسنذكر الآن: ضم مقاصد السنة إلى مقاصد القرآن؛ لأننا نحن في دراسة المقاصد ما نقتصر على القرآن فقط؛ لأن السنة أيضاً وحي تشرح وتبين وتزيد وتؤكد، فالسنة مفسرة للقرآن، وإذا نظرنا فقط إلى المقاصد في القرآن، وما تطرقنا وسبرنا وانتقلنا وشملنا المقاصد التي في السنة، فإن هنالك نقصاً سيكون حادثاً.
كما لو أن إنساناً قال: أنا سآخذ الأحكام من القرآن فقط: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ... [الأنعام: 145].
قال: لماذ الميتة، ولحم الخنزير والدم وكذا؟ لحم الحمار أليس منه؟ ليس في القرآن تحريم لحم الحمار.
إذن حصل النقص. لماذا؟ لأنه ما أخذ بالسنة، فالسنة فيها أحكام ليست في القرآن؛ لأنها تفسر وتبين، فيها زيادات، وحي هذا كله متكامل، فلابد من ضم المقاصد المذكورة في الأحاديث إلى المقاصد المذكورة في الآيات.
وفي دراسة المقاصد أو علاقة المقاصد بالقرآن: يعتبر القرآن ضابطاً من ضوابط المصلحة، بحيث يشترط في الكلام في المصالح ما يخالف أي آية من القرآن.
لأنك لو انطلقت للكلام من خلال المصالح والمقاصد، العقل ممكن يصور لك أن هذه مصلحة قد تكون مفسدة، أو قد تكون مصلحة متوهمة، أو قد تكون مصلحة قليلة جداً، الشرع مثلاً لم يعتبرها في أعلى منها.
فالشاهد: أنه لابد أن تكون آيات القرآن ضابطة للمصلحة والمقاصد، بحيث أي كلام أن هذا مقصد للشرع، وهذه مصلحة في الشرع معارض لآية سيكون كلاماً ساقطاً.
سادساً: تحديد القرآن لمقاصد المكلف، بحيث تكون على وفق القرآن ونهجه.
علاقة المقاصد الشرعية بالسنة النبوية
ما هي علاقة المقاصد بالسنة النبوية؟
الكلام سيشبه ما سبق، فنقول: لابد من استخراج المقاصد من السنة النبوية، وأن السنة النبوية مبينة للقرآن وموضحة له.
مقاصد في السنة ليست مذكورة في القرآن؟
مثلاً النكاح في في القرآن بيان مقاصد الشريعة في باب النكاح، لكن يوجد في السنة أيضاً: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء [رواه البخاري: 5065، ومسلم: 1400].
طيب، وهو قال في أشياء: أغض للبصر، وأحصن للفرج، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر [رواه البخاري: 6241].
يمكن لن تحصل هذه: إنما نجعل من أجل النظر منصوص عليها في القرآن.
فإذاً المقاصد في السنة تكمل، وأيضاً استقلت السنة في بيان بعض الأحكام، إذا كان القرآن أجاز تعدد الزوجات، والجمع بين أكثر من امرأة في وقت واحد، فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء: 3].
فهل يوجد في القرآن النهي، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها؟
إذا ما أخذت بهذا النص: لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها [رواه البخاري: 5109، ومسلم: 1408]. متفق عليه، وقلت: أنا فقط أمشي مع الآيات، معناه تتزوج المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، ويؤدي إلى قطع رحم،
بينما السنة منعت تعدد الزوجات: الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، وفي قصد من وراء النهي هذا، وهو ماذا؟
المحافظة على صلة الرحم، والشرع بهذا النص الذي في السنة راعى في قضية تعدد الزوجات حتى لايحصل قطيعة رحم، وعلى هذا جاء النص، قال: إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن[رواه ابن حبان: 4116، قال شعيب الأرنؤوط: حديث حسن، صحيح ابن حبان: 4116]. صحيح ابن حبان. فإذن هذا يؤكد على مسألة الرجوع للسنة في قضية المقاصد.
وأيضاً فإن حديث الآحاد يقدم على القياس والأصول عند التعارض، "أحاديث الآحاد الصحيح".
وأيضاً فإن ورود مقاصد في السنة يزيد توضيح المقاصد التي في القرآن، وقد يكون مذكور هنا وهنا، ولكن ضم هذا إلى هذا يفيدنا ماذا؟ مزيداً من الوضوح.
لا يتصور أيها الإخوة والأخوات: تعارض حديث صحيح من كل وجه، مع مقاصد الشريعة.
ولذلك الذين يقولون: هذا حديث، لا هذا ما نأخذه. لماذا؟
هذا يعارض مقاصد الشريعة. إذا كان حديثاً صحيحاً فلا يمكن أن يعارض مقاصد الشريعة، أنت تصورت شيئاً في المقاصد ثم قلت يعارض.
فالتقيد بالنص فيه محافظة على المصلحة، ونصوص الشرع يصدق بعضها بعضاً.
علاقة المقاصد الشرعية بالإجماع
ما هي علاقة مقاصد الشريعة بالإجماع؟
أن هذا الإجماع الذي هو مصدر صحيح للأحكام، والمقاصد تثبت بالإجماع أيضا، في مقاصد قد يكون مختلف فيها، وفي مقاصد مجمع عليها، فالمقاصد المجمع عليها لاشك هي المقدمة.
كذلك فإن من شروط الاجتهاد المعتبرة: معرفة مقاصد الشريعة، والإجماع إنما هو إجماع المجتهدين، يتوقف على فهم المجتهد لمقاصد الشريعة الخاصة والعامة، والإجماع لا يمكن إلا من المجتهدين، والمجتهد من شروطه معرفة مقاصد الشريعة، فهذه من علاقة قضية المقاصد بالإجماع.
وكذلك في موضوع القياس هناك علاقة بين المقاصد والقياس، لعلنا نأتي عليها في الدرس القادم غداً إن شاء الله، وندخل في الموضوع الذي يليه، وهو: الضروريات الخمس، من مقاصد الشريعة الضروريات الخمس: ماهي؟ تعريفها، أمثلتها، وشرحها بمشيئة الله تعالى.
وصلى الله على نبينا محمد.