الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسول الله، محمد خاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
ملخص الدرس السابق
فقد تقدم الكلام -أيها الإخوة- عن القسم الأول من آداب حضور المساجد، في هذه السلسلة سلسلة الآداب الشرعية المجموعة الثانية.
وتقدم في الجزء الأول من آداب حضور المساجد: الخروج على أحسن هيئة، من جمال الثياب، وستر العاتقين، وتغطية الرأس، وطيب الرائحة، والسواك، والتبكير إلى المسجد، والمشي إليه بسكينة، والدعاء عند دخوله، وتحصيل الصف الأول، وميمنة الصف خير من شماله، والدعاء بين الأذان والإقامة، والترديد مع المؤذن إذا أقام، والخشوع في الصلاة، والذهاب ماشيًا، وعدم التشبيك بين الأصابع، وتعاهد النعلين، وتقديم اليمنى عند الدخول، والتقدم للصف الأول، وكانت هذه هي آخر ما توقفنا عندها في الحديث الماضي، نتابع اليوم في ذكر آداب المساجد.
السلام على المصلين عند دخول المسجد
ومن آداب حضور المساجد: السلام على المصلين عند دخول المسجد، ولو كان الإنسان يصلي فإنه لا بأس أن تسلم عليه، والسلام على المصلي مشروع، وهو مذهب جمهور أهل العلم، وقد ورد عن ابن مسعود ، قال: كنت أسلم على النبي ﷺ وهو في الصلاة، فيرد علي، فلما رجعنا سلمت عليه، فلم يرد علي، وقال: إن في الصلاة شغلاً [رواه البخاري: 1216، ومسلم: 1229].
فيدل هذا على جواز السلام على المصلي، ولما حرم الكلام في الصلاة، ورجع المسلمون من الهجرة الثانية من الحبشة، سلم ابن مسعود على عادته، ففوجئ أن النبي ﷺ لم يرد عليه باللفظ، وإنما رد عليه بالإشارة، وأخبره أن سبب امتناعه عن الرد عليه لفظاً انشغاله بأمر عظيم وهو الصلاة؛ وفيها مناجاة لله تعالى التي يصلح فيها الكلام مع البشر.
ولو كان السلام على المصلي غير مشروع لقال النبي ﷺ لابن مسعود -مثلاً-: لا تسلم علي وأنا في الصلاة، لكنه لم ينكر عليه تسليمه عليه وهو في الصلاة، وإنما أشار إلى أنه لا يتلفظ بالرد فقط.
وقد ثبت الرد بالإشارة، فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله ﷺإلى قباء يصلي فيه، فجاءه الأنصار فسلموا عليه، وهو يصلي -هكذا في الحديث- قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله ﷺ يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟
قال: يقول: هكذا.. وبسط كفه، وبسط جعفر بن عون كفه -راوي الحديث- وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره فوق [رواه أبو داود: 928، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 860].
إذًا، لو سلم عليك إنسان وأنت في الصلاة فارفع كفك، وبطنه إلى الأسفل، وظهره إلى الأعلى.
وقد فسره الشيخ ناصر الدين الألباني عمليًا، فكنا معه، وكان يصلي فدخلت عليه فسلمت، فرفع يده هكذا..
فلا يشترط معنى بطن الأسفل، يعني يجعل البطن هكذا، وإنما عموما الإنسان إذا رفع كفه، تبقى البطن إلى الأسفل، والظهر إلى لأعلى.
وقد وردت كيفية أخرى أيضاً، وهي الرد بالإشارة بالأصبع، والأظهر أنها السبابة؛ لأنها أيسر؛ ولأن العادة جرت برفعها، كما جاء في حديث صهيب قال: "مررت برسول الله ﷺ وهو يصلي، فسلمت عليه فرد إشارة" قال: ولا أعلمه إلا قال إشارة بأصبعه" [رواه أبو داود: 926، والترمذي: 367، وقال: "حديث حسن صحيح"، والنسائي: 1186، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 858].
أما الشوكاني رحمه الله فقد جمع بين الحديثين، بأن لا اختلاف بينهما، فقال: فيجوز أن يكون أشار مرة بإصبعه، ومرة بجميع يده، ويحتمل أن يكون المراد باليد الإصبع، حملا للمطلق على المقيد". [نيل الأوطار: 2/376].
ولكن تفسير الراوي لمَّا جعل بطن الكف إلى الأسفل ليس هذا، لا يحتمل هذا الوجه الذي ذكره في آخر كلامه رحمه الله.
وقد روى البيهقي رواية في الإيماء بالرأس عن ابن مسعود، وحينئذٍ قال الشوكاني: "ويجمع بين الروايات أن النبي ﷺ فعل هذا مرة، وهذا مرة، فيكون جميع ذلك جائزاً". [نيل الأوطار: 2/376].
الخلاصة: أن الرد بالإشارة وعدم الكلام.
ولو أخره إلى بعد السلام من الصلاة، فرد عليه باللفظ، فلا بأس، لكن قد يخشى الإنسان أن ينصرف المُسلِّم، يسلم ويمشي، فعند ذلك السنة أن يرد عليه بالإشارة، ولا يتعارض هذا مع النهي عن السلام بالإشارة، وأنه من صنع أهل الكتاب الذين أمرنا بمخالفتهم؛ لأن ذاك سلام بدون سبب، مع القدرة على الكلام، أما هذا رد مع وجود الحاجة، لأجل الصلاة.
صلاة تحية المسجد
من آداب المسجد أن الإنسان إذا دخل المسجد لا يجلس مباشرة دون أن يفعل شيئاً، وإنما أمر يعظم به بيت الله تعالى، ويكرم موضع العبادة ألا وهو تحية المسجد؛ لأن الداخل يبتدئ بهما كما يبتدئ الداخل على القوم بالتحية، ولذلك سميت تحية المسجد: إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين[رواه البخاري: 1167، ومسلم: 1688].
-طبعًا- هذا الأدب يتعلق به أحكام فقهية -مثلاً-: هل التحية سنة أو واجبة؟
وجمهور العلماء على الاستحباب، واحتجوا بحديث الأعرابي: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع[رواه البخاري: 46، ومسلم: 109].
الصلوات الخمس.
وذهب بعضهم إلى الوجوب.
وعلى أي حال، فإن الإنسان لا يفوت هذا الأدب.
وكذلك مسألة تحية المسجد وقت النهي، وليس هذا موضوعنا، ولكن باختصار، الشافعي رحمه الله وغيره ذهب إلى أن تحية المسجد وقت النهي لا بأس بها؛ لأنها صلاة ذات سبب.
وأما بالنسبة إلى قطعها إذا أقيمت الصلاة، إذا كان الإنسان في آخر الصلاة أتمها خفيفة، وإذا كان في أولها أو وسطها قطعها، وحتى لو كان في خطبة الجمعة والإمام يخطب، فإن المأموم يصلي تحية المسجد إذا دخل المسجد، والمسجد الحرام إذا دخله للطواف كان طوافه هو التحية، وإذا دخله للصلاة كان تحيته كبقية المساجد صلاة ركعتين، لكن صلاة ركعتين في المسجد الحرام تحية ضعف تحيات بقية المساجد، بمائة ألف، ضعف، فكل صلاة مشروعة في المسجد الحرام تضاعف، ولو كانت الركعتين الطواف، أو صلاة ركعتين بعد طلوع الشمس، أو تحية المسجد، أو الجنازة، وغير ذلك.
عدم الخرج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر
وكذلك فإن من الآداب عند حضور المسجد: ألا يخرج بعد الأذان إلا لعذر؛ لأن الخروج إعراض عمَّا يقتضيه الأذان؛ الأذان يقول: "حيّ على الصلاة"، وهذا يريد أن يخرج من المسجد الذي صلَّى فيه.
إن في الأذان طلباً للإقبال على الصلاة، وحضور المساجد للصلاة، وهذا الخروج ينافي ذلك، ثم لعله يكون ذريعة إلى الاشتغال عن الصلاة، والتأخر عنها.
ثم إن فيه تشبها بالشيطان، كيف ذلك؟
ألم يقل النبي ﷺ: إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع التأذينالحديث [رواه البخاري: 608].
قال ابن بطال رحمه الله: "ويشبه أن يكون الزجر عن خروج المرء من المسجد بعد أن يؤذن المؤذن من هذا المعنى، لئلا يكون متشبهاً بالشيطان الذي يفر عند سماع الأذان". [فتح الباري: 2/87].
وقد قال أبو الشعثاء رحمه الله: "كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة ، فأذن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي، فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: "أما هذا فقد عصى أبا القاسم ﷺ". [رواه مسلم: 1521].
وهذا الحديث رواه مسلم رحمه الله، وهو مرفوع حكماً، ولو كان من كلام أبي هريرة؛ لأن مثل هذا التأثيم، أو إثبات المعصية، لا يقوله الصحابي بمجرد الرأي.
وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه رفعه إلى النبي ﷺ: لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة، ثم لا يرجع إليه إلا منافق[رواه الطبراني في المعجم الكبير: 765، وصححه الألباني في صحيح الترغيب: 262، وقال الهيثمي: رواته محتج بهم في الصحيح].
فإذًا، لا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر، مثل أن يكون على غير وضوء، أو أمر لا بد منه.
والنبي ﷺ لما أقيمت الصلاة وعدَّل الصفوف، انتظروا أن يكبر، أشار إليهم أن مكانكم، ثم دخل بيته، وانتظروه قياماً، حتى خرج من بيته، ورأسه يقطر ماءً، وقد اغتسل، تذكر أن عليه غسل، دخل واغتسل ورجع.
إذًا، لو الإمام أراد أن يكبر فتذكر أنه على غير وضوء، والناس قائمين، والصلاة قد أقيمت، فالسنة أن يقول الإمام لهم: انتظروا كما أنتم "مكانكم" انتظروني، ويذهب ويتوضأ ويرجع، فإن كان عليه غسل وبيته بعيد، ويخشى أن يتضايق الناس، والناس في هذا الزمان صدورهم ليست كصدور الصحابة، مع نبيهم ﷺ في ذلك الزمان، فيستخلف شخصًا ويذهب هو.
لكن لو قال: "مكانكم" وذهب وتوضأ ورجع، لا يحق لأحد أن يلومه إذا لم يضر بهم، فلا يلومه أحد، هكذا وردت السنة.
وكذلك لو أذن المؤذن في مسجد، ويوجد أئمة مساجد في هذا المسجد.
نفترض الآن هذا الدرس -مثلاً- استمر وانتهى، وقام المؤذن للأذان، ويوجد معنا في المسجد أئمة مساجد، لا بد أن يذهبوا، فعند ذلك يكون خروجهم من باب العذر، ولا حرج عليهم في الخروج.
وبعض المؤذنين إذا أذن خرج إلى بيته، يفعله بعض المؤذنين، أو لشغل، وهذا وإن كان يريد الرجوع للإقامة، لكن الأولى في حقه ألا يخرج إلا إذا دعت الحاجة، والمؤذن أولى بالامتثال من غيره؛ لأنه هو الذي يدعو الناس إلى الصلاة، فكيف يخرج.
ثم يفوت الأجر ولاشك، وهو أجر انتظار الصلاة؛ لأن من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة، ولذلك ما هي وظيفة الجالس في المسجد؟
هي ذكر الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ[النور: 36].
إذاً، قراءة القرآن، والذكر والتسبيح، والدعاء، وغيرها من العبادات كلها وظيفة الجالس في المسجد.
عدم الكلام بالباطل في المسجد
ومن الأدب: أن يحذر من الكلام الباطل، أو الكلام الذي لا فائدة فيه، فلا مكان في المسجد للغيبة، والنميمة، والكذب، وإذا كانت هذه الأشياء محرمة خارج المسجد؛ فهي في المسجد أشد تحريماً، وكل كلام لا فائدة فيه ينبغي أن ينزه المسجد عنه، وبعض الناس يتكلمون كلاماً كثيراً لا فائدة فيه، وبعضهم قد يفعل ذلك في الاعتكاف الذي هو مظنة الذكر، والإقبال على الله، والاجتهاد في العبادة، والانقطاع عن الدنيا، ولا شك أن هذا مذموم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسن، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريماً، وكذلك المكروه يكون في المسجد أشد كراهية، ويكره فيه فضول المباح" [مجموع الفتاوى: 22/200].
وقد ورد عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ[النور: 36] قال: "نهى سبحانه عن اللغو فيها" [تفسير القرآن العظيم: 6/62].
وكذا ورد عن جمع من السلف.
عدم الصياح ورفع الصوت في المسجد
من الآداب في المسجد: ألا يرفع صوته فيه ولا يصيح، لا يرفع صوته لا بقراءة القرآن، ولا بغيره، وقد نهى النبي ﷺ عن إيذاء القارئ المسلم لأخيه المسلم: لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن[رواه أحمد: 19044، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 856].
وإذا كان رفع صوته بالقرآن منهي عنه، فكيف إذا رفع صوته بغير القرآن كحديث الدنيا، وكيف إذا كان يرفع صوته وجاره الذي بجانبه يقرأ القرآن؟
قال ابن عبد البر رحمه الله: "وإذا نهي المسلم عن أذى أخيه المسلم في عمل البر، وتلاوة الكتاب، فأذاه في غير ذلك أشد تحريما" [التمهيد: 23/319].
وإذا كان المسجد النبوي، أو المسجد الحرام، يزداد السوء، وتعظم القضية.
ولذلك جاء عن السائب بن يزيد رحمه الله قال: "كنت قائما في المسجد -المسجد النبوي- فحصبني رجل، فنظرت، فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما-أشار إلى رجلين يتحدثان- قال: من أنتما، أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ﷺ" [رواه البخاري: 470].
ولذلك نص أهل العلم على كراهة رفع الصوت في المسجد إلا فيما لا بد منه من العلم، ونحوه، مثل الشيخ يرفع صوته بالدرس ليسمع الناس، والإمام يرفع صوته بالقراءة ليسمع المأمومين، ويرفع صوته بالتكبير، أو المؤذن يبلغ، أو شخص آخر يبلغ.
وكان لأئمة الحديث في المساجد من يبلغ إذا اتسع الجمع، وكان كبيراً.
عدم الاشتغال في المسجد بأمور الدنيا
من الآداب: عدم الاشتغال في المسجد بأمور الدنيا، وإذا كان في البيع والشراء فهو حرام.
وكذلك نشدان الضالة، وما كان في معناها.
فنشدان الضالة، يعني رفع الصوت لأن الإنشاد أو أنشد، رفع صوته بالنداء، فإذا أنشد، وقال: من رأى مفاتيح سيار؟ من رأى محفظة؟ من رأى ولدي؟ كل ذلك من نشدان الضالة.
ويدخل في هذا المعنى الإعلان عن الأشياء المفقودة في المسجد، ولو قال واحد: هذا لا يسأل، هذا لأجل غيره؟
نقول: ولو، إنه بمعنى نشدان الضّالة.
فيقول واحد-مثلا-: أعلن في المكبر اعلن في ولد واحد ضايع، هذا يفعل بعض الناس من باب الشفقة، أو يظن أنه فعل خير.
وكذلك لو قيل -مثلاً-: هنا سلسلة مفاتيح، محفظة، فعلى صاحبها أن يتقدم إلى الإمام.
فالمسألة داخلة في نشدان الضالة.
وقد سألت الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن وضع لوحة للمفقودات، هل هو من نشدان الضالة؟ فقال: النشدان هو رفع الصوت، وهذا لعله ليس فيه رفع صوت، لكن لو جعلت في الخارج يكون أولى، يجعل لوحة في الخارج لها باب وقفل تعلق فيها الأشياء المفقودة.
ما حكم أن يقول الشخص لصاحبه في المسجد: أريدك تسلفني خمسة آلاف، ما رأيك في هذا؟ يفعل أو لا يفعل؟ ولماذا؟
لأنه من أمور الدنيا.
فالنهي عن البيع والشراء يشمل أيضًا القرض، والرهن، ونحو ذلك، والإجارة: أجر لي غرفتك، وأجرني شقتك، عندي شقة للإيجار، كل هذا من أمور الدنيا.
الحذر من النوم
استدعاء النوم أو الجلوس في هيئة تستجلب النوم، قيل: هو من أسباب النهي عن الاحتباء -لو صح- أنه مجلبة للنوم، أو مظنة لخروج الريح، أو مظنة لاكتشاف العورة، ولكن قد يسيطر النوم على الإنسان، فعند ذلك ماذا يفعل؟
يطبق حديث النبي ﷺ: إذا نعس أحدكم وهو في المسجد، فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره[رواه أبو داود: 1121، والترمذي: 526، وأحمد: 4875، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 1025].
هناك احتمالان:
الأول: أن الحركة تذهب النعاس.
الثاني: أن هذا مكان حضرته فيه غفلة، والتحول عن المكان الذي حصلت فيه غفلة طيب، وقد تحول النبي ﷺ عن الوادي الذي ناموا فيه عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، وحضر الشيطان، فتحولوا من ذلك المكان.
تسوية الصفوف والاعتناء بها
ومن آداب حضور المسجد: الصلاة فيه وتسوية الصفوف إذا أقيمت الصلاة، والاعتناء بذلك عناية بالغة، وقد قال ﷺ: سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة[رواه مسلم: 1003].
وفي رواية: من إقامة الصلاة [رواه مسلم: 723].
وفي رواية: استووا، ولا تختلفوا، فتختلف قلوبكم [رواه مسلم: 1000].
وقوله: لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم [رواه البخاري: 717، ومسلم: 1006].
إذًا، قول الإمام: "سووا صفوفكم" أو "استووا" سنة.
ولو لم يكن له حاجة فلا داعي أن يتكلم، لو نظر إليهم فرآهم مستوين، فلا حاجة إلى التنبيه، لكن إذا رأى تقدماً وتأخراً وخلخلة، وفراغات في الصف، ينادي بالاستواء: "استووا، سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة".
وذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا أمر للوجوب، أمر، ثم في تهديد: أو ليخالفن الله بين قلوبكم، وفي تسويتها ثواب عظيم، لقوله ﷺ: ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله[رواه أبو داود: 666، والنسائي: 819، وأحمد: 5724].
ففيه ثواب لمن طبقه، ووعيد لمن خالف.
ثم بالإضافة إلى الأجر هذا لمن وصل صفاً، وسدَّ فرجة، قد قال ﷺ: إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف[رواه ابن ماجه: 995، وأحمد: 24426، وإسناده صحيح: 995، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 814].
وهذه الخطوة التي يمشيها لسد فرجة من أعظم الخطوات أجراً عند رب العالمين، كما قال ﷺ: وما من خطوة أعظم أجراً من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها[رواه الطبراني: 813، والبزار بإسناد حسن، وهو في صحيح الترغيب والترهيب: 504].
فهذه الأحاديث تبين فضيلة تسوية الصفوف، وسد الفرج.
وكذلك جاء في الحديث مدح من يأخذ بيد صاحبه إذا أمره بالاستواء، أو أراد الدخول لسد فرجة.
وأما تسوية الصف، فقد جاء فيها أحاديث: أقيموا صفوفكم[رواه البخاري: 719، و725].
قال أنس: "وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه، ولو ذهبت تفعل ذلك اليوم لترى أحدهم كأنه بغل شموس" [رواه أبو يعلى: 3720، وهو في السلسلة الصحيحة: 31].
هذا يقوله أنس .
فلو جئت الآن تأخذ بيد رجل لتسوية الصف، وسد الفرجة، لنفر منك كأنه بغل شموس، متمرد.
كيفية تسوية صفوف الصلاة
ما هي كيفية تسوية الصفوف؟ وما معنى حديث النعمان بن بشير: "فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه"؟ [رواه أبو داود: 662، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 668].
إن النصوص تدل على أن تسوية الصفوف تتحقق بما يلي:
أولًا: إتمام الصف الأول فالأول.
ثانيًا: سد الفرج بالتراص.
ثالثًا: استقامة الصف وتعديله بمحاذاة ما بين الأعناق والمناكب، والركب والأكعب.
ولاحظ معي: محاذاة المناكب بالمناكب، والأعناق بالأعناق، والركب بالركب، والصدور بالصدور، بحيث لا يتقدم عنق على عنق، ولا منكب على منكب، ولا صدر على صدر.
رابعًا: ألا يوسع المصلي بين قدميه أكثر من عرض المنكبين؛ لأن ذلك ينافي التسوية، ويمنع التصاق المنكب بالمنكب.
فليس من تسوية الصفوف ما يفعله بعض الشباب من فتح أرجلهم زيادة على عرض المنكبين، لأجل أن يلصق رجله برجل جاره، فإذا طارده يميناً أو شمالاً؛ لأجل أن يلزق قدمه بقدمه، ماذا سيحدث من الأعلى؟
ما سدينا الفرجة.
إذًا، التسوية أن تفتح قدميك على عرض منكبيك، وتأخذ بيد من بجانبك بلطف ليلتصق بك من المنكب، فهذه هي التسوية، ولا يتقدم ولا يتأخر، فإذا التزق المنكب بالمنكب، وما تقدم ولا تأخر، وفتح كل رجل رجليه بعرض منكبيه، واستقام الصف.
أمَّا أنه يباعد بين قدميه لكي يلصق من هنا وهنا لم يسو الصف التسوية المطلوبة شرعاً.
ثم بعض الناس يعملون خططاً حربية، ويضم رجليه ضماً مبالغاً فيه، حتى يأتي الرجل ذاك والذي بعده والذي بعده، فإذا جاؤوا فتحها، وقال: أين المصف؟
فهذه الأشياء لا شك أنها تنفر بعض الناس، وخصوصاً بعض كبار السن، وبعض الذين لا يعرفون أهمية السنة في هذا.
فينبغي الحكمة في تطبيق السنة، وكل ما علينا أن نفعله أن عرض المنكبين هو فتحة ما بين القدمين، ونلصق المنكب بالمنكب، ولا يشترط أن يلزق القدم بالقدم؛ لأن فيه اشتغالاً وإشغالاً، خصوصاً إذا قام في الركعة الثانية والثالثة، ليس من السنة أنه كل ما قام من الركعة أن يلزق القدم بالقدم، لأن هذا فيه إشغال واشتغال، وتنفير من الناس الذين لا يريدون هذا الإلصاق، ومن الأدلة على أن هذا ليس بمراد: أن الصحابي قال: "فرأيت الرجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبته، وكعبه بكعبه" [سبق تخريجه].
وابن حجر يقول في الفتح -المسألة تحتاج إلى شرح وفهم لكلام العلماء- يقول: "المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله" [فتح الباري: 2/211].
بدليل أن إلزاق الركبة بالركبة حال القيام متعذر.
وأحيانًا يقتطع من مكانه ذلك بغير حق، ثم هذه المباعدة ربما أدت إلى مخالفة لسنة أخرى، وهي توجيه أصابع القدمين إلى القبلة، فالسنة أن يتوجه المصلي بكليته إلى القبلة، ومن ذلك رؤوس القدمين والأصابع؛ لأنه إذا أراد الإلزاق فوَّت ذلك أحيانًا.
عدم الصف بين سواري المسجد إلا لحاجة
وليس من الأدب: الصف بين السواري في المسجد: "كنا ننهى أن نصف بين السواري على عهد رسول الله ﷺ، ونطرد عنها طرداً" كما جاء عن معاوية بن قرة عن أبيه. [رواه ابن ماجه: 1002، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه: 821] لماذا؟
لأن السواري تحول بين الناس وبين اتصال الصف وتسويته، فيصبح الصف مقطعاً بالأعمدة والسواري، لكن إذا دعت الحاجة إلى هذا، لو قال واحد: مسجدنا صغير، في صلاة الفجر والظهر والعصر فيه سعة، الصف الذي فيه أعمدة نتركه، لكن في صلاة العشاء، والجمعة نحتاج أن الناس يصفون بين السواري؟
فنقول: إذا دعت الحاجة إلى ذلك، فلا بأس به، وهذا يوجد في الحرم، وقت الزحام، بعض الصفوف تتخللها السواري، مسافات متقاربة، لكن إذا كان الصف مثل هذا الصف الذي في الحرم، الصف بين الساريتين فقط، أي: هنا عمود، وهنا عمود، والصف بينهما، ولا يوجد بعد العمودين شيء، فهذا لا يعتبر صفاً تتخلله السواري، هذا صف كامل ليس بمقطوع، لم تقطعه السواري؛ لأن عرض الصف كله ما بين الساريتين.
وليحذر المصلي أن يقف في صف متأخر مع وجود أمكنة في الصفوف الأولى؛ لأن هذا مخالف لقوله ﷺ:أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه[رواه أبو داود: 671، وأحمد: 13464، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح: 1094].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معقبًا على هذه الظاهرة السيئة التي نجدها خصوصًا في مكة، أناس يصلون خارج الحرم، ويوجد فراغ في الداخل، والبعض يصلون عند الباب، والبعض على الرصيف، وبعض أصحاب المحلات يصلي أمام الحانوت، حتى يفتح حانوته بعد السلام مباشرة، يقول شيخ الإسلام: "ولا يصف في الطرقات والحوانيت مع خلو المسجد، ومن فعل ذلك استحق التأديب، ولمن جاء بعده تخطيه" لو رأيت جماعة يصلون خارج الحرم، ويوجد فراغ في داخل الحرم، فلو تخطيت رقابهم، فلا حرج عليك؛ لأنهم قد أسقطوا حرمتهم بهذا الإهمال والكسل الذي فعلوه، في أن يصلوا في الخارج، "ولمن جاء بعده تخطيه، ويدخل لتكميل الصفوف المتقدمة، فإن هذا لا حرمة له". [مجموع الفتاوي: 23/410].
وقال: "بل إذا امتلأ المسجد بالصفوف، وصفوا خارج المسجد، فإن اتصلت الصفوف حينئذٍ في الطرقات والأسواق صحت صلاتهم، وأما إذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي الناس فيه لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء". [مجموع الفتاوى: 23/410].
فلو أنهم صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق، يمشي فيه الناس والدواب أو السيارات، لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء.
"وكذلك إذا كان بينهم وبين الصفوف حائط بحيث لا يرون الصفوف، ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة؛ فإنه لا تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء"[مجموع الفتاوى: 23/410].
لكن لو صلوا خلف جدار المسجد، امتلأ المسجد وصلوا خلف الجدار، ويسمعون الصلاة والتكبير تصح صلاتهم.
وقال: "فمن صلَّى في مؤخر المسجد مع خلو ما يلي الإمام كانت صلاته مكروهة" [مجموع الفتاوى: 23/408].
إذًا، يجب الاهتمام بتسوية الصفوف، حتى ما جاء في السنة.
وكان عمر يُوكِّلُ رجلاً أو رجالاً للصفوف كل صف له شخص.
الدخول في الصلاة مع جماعة المسجد على أي حال كانوا
وكذلك فإن من الآداب: أن الإنسان إذا دخل المسجد والجماعة تصلي، أن لا يقف بدون صلاة، فبعض الناس إذا دخل المسجد والإمام في السجود وقف في الصف بدون صلاة، فيفوت الأجر، بل يدخل مع الإمام ولو كنت لم تعدها ركعة، أليس إذا سجدت تؤجر على السجود ووضع الجبهة على الأرض لله رب العالمين؟ ألست تؤجر على التسبيح في السجود؟! ألست تؤجر على الدعاء في السجود؟!
إذًا، لماذا تضيع هذه الفرصة؟!
فإذًا، قوله ﷺ: فما أدركتم فصلوا يدل على أنك تدخل مع الإمام في أي مكان كان فيه الإمام: فما أدركتم فصلواأدركت سجدة، ركعة، ركوعاً، رفعاً من الركوع، جلسة بين السجدتين: فما أدركتم فصلوا.
ولذلك قال ابن حجر رحمه الله في شرحه: "واستدل به على استحباب الدخول مع الإمام في أي حالة وجد عليها" [فتح الباري: 2/118].
وعن معاذ قال: قال رسول الله ﷺ: إذا أتى أحدكم والإمام على حال، فليصنع كما يصنع الإمام[رواه الترمذي: 591، وصححه الألباني مشكاة المصابيح: 1142].
وبهذا أخذ من رأى أن المأموم إذا جاء في التشهد الأخير يدخل مع الإمام؛ لأن عموم الحديث يقتضي هذا، قال: إذا أتى أحدكم والإمام على حال ما استثنى شيئًا فليصنع كما يصنع الإمام.
وعلى أية حال: هذه مسألة اجتهاد؛ كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، يدخل فيه عدة اعتبارات: عدد الجماعة الثانية، وهل هم أهل الفضل والعلم؟ أو من هم؟ فهذه الأشياء موضع اجتهاد، يعني لو أنه انتظر لا ينكر عليه، لا يقال: ارتكبت حراماً، ولكن حتى الذي انتظر، لا يشرع له أن يصنع جماعة قبل أن يسلم الإمام، لئلا يكون هناك جماعة ثانية في المسجد في الوقت نفسه.
وهذا لا شك أن فيه شق للمسلمين وتفريق، إظهار مظهر فرقة في المسجد، وهذا أمر مذموم شرعاً.
فإذاً، إذا كان الإمام قائماً أو راكعاً أو ساجداً أو في الجلسة يبن السجدتين، أو في التشهد، فليدخل معه على الحال التي هو عليها، فإن اجتهد أن معه أناس كثيرين، وأن فيهم من أهل الفضل، وجاؤوا في التشهد الأخير، فانتظروا إلى أن يسلم الإمام، فصلوا، فلا بأس عليهم.
والمقصود، نحن نتكلم في الآداب في قضية الأدب في أن لا يقف في الصف دون صلاة.
وكذلك الذين يأتون إلى المسجد، ويتفرقون في الجماعة، فكل منهم يريد أن يقيم جماعة، وهذا تفريق ممنوع في الإسلام.
عدم حجز مكان في المسجد
ومن آداب المسجد: ألا يحتجز فيه مكانًا، ولا يحتجر فيه مكاناً، فقد اعتاد بعض الناس أن يحجز مكاناً؛ بفرش سجادة، أو وضع عصا خلف الإمام، ونحو ذلك، وهو في منزله أو في عمله، وهذا الظاهرة تكثر في الحرم في رمضان وفي غيره، يفرشون سجاجيد، ولا يكتفون بحجز مكان لأنفسهم؛ بل يحجز مكاناً لنفسه وأقاربه وأصدقائه، وربما حجز بعضهم أماكن للمال في أماكن معينة في الحرم، فإذا جئت تسلم خمسين تجلس تدفع ريالاً لتجلس، يقوم بذلك أناس معروفون تجدهم جالسين، يأتي إلى الحرم مبكراً ويحجز مكاناً ثم يستلم خمسين تجلس، ويقوم هذا، ناس معروفين، تجدهم جاين، يجي من بدري يمسك مكان بخمسين، وهي بحسب المواسم، إذا كان في ليلة سبع وعشرين التسعيرة ترتفع، هذا معروف في الحرم، وهذا يفعله بعض من لا خلاق له في الآخرة في هذا العمل.
والمصلي مأمور بالتقدم إلى المسجد والقرب من الإمام بنفسه لا بعصاه وسجادته، مأمور بأن يقترب من الإمام بنفسه، والتبكير بنفسه، لا يكبر بالعصا والسجادة.
ثم إن العمل هذا لا شك أنه فيه ظلم من عدة جهات: الناس في بيوت الله سواء، فما هو حق هذا الشخص الذي يتقدم على غيره. ثم قد يؤدي إلى تعطيل مكان في المسجد لا يصلي فيه إلا مثل البعير، وقد نهي النبي ﷺ عن هذا.
وربما يكون من أسبابه أن تتحول العبادة إلى عادة، نفس المكان.. نفس المكان.. نفس المكان، ربما تتحول إلى عادة.
وفيه مشابهة للبعير، ونحن قد نهينا عن مشابهة البهائم والدواب.
وربما يؤدي إلى شيء من الشهرة والرياء والسمعة.
ثم بعض الناس يؤدي في الحجز هذا إلى التساهل بالصلاة؛ لأنه يعرف أن مكانه محجوز، ويتراخى عن الاستعداد والحضور.
ثم يؤدي إلى تخطي رقاب الناس بغير حق، وهذا إثم آخر.
ثم إن فيه ترفعًا على الآخرين، وإحساساً بالفارق.
ثم إن فيه الاعتداء على حقهم في التقدم، فأخذ منهم، سلبهم حقا لهم.
ثم أنه يسبب الشحناء والبغضاء، وكم من أناس حاولوا أن يرفعوا بعض المفارش، وصارت خصومات.
ثم قد يؤدي أيضاً إلى عدم تسوية الصفوف، هذا المكان محجوز، وتقام الصلاة وهو محجوز، والمكان يشغل فرجة في الصف.
فرق بين هذا المتكاسل الظالم لنفسه ولغيره، وبين من جاء مبكراً فجلس ثم احتاج أن يقوم لحاجة، كأن يتوضأ ويرجع، فجعل مكان جلوسه؛ غطاء رأسه، أو كتاب، أو مفرش، فذهب بسرعة ويرجع، هذا شغل يسير، ليس لئن يذهب ويطعم وينام، يذهب لحاجة.
ومن سبق إلى مكان في المسجد فهو أحق به، ولا يجوز إقامته منه، سواء كان شريفًا أو وضيعًا، غنيًا أو فقيرًا، صغيرًا أو كبيرًا "نهى الرسول ﷺ أن يقام الرجل من مجلسه، ويجلس فيه آخر". [رواه البخاري: 6270، ومسلم: 5812].
والناس في المباح سواء، ومن غصب فالغصب حرام، وصلاته في هذا المكان باطلة عند جمعٍ من أهل العلم.
عدم هجر المسجد الذي يليه والذهاب إلى مسجد أبعد
ومن آداب المسجد أيضًا: ألا يهجر المسجد الذي يليه، هجر المسجد، أو الذهاب إلى مسجد أبعد يؤدي إلى سلبيات، منها: هجر المسجد الذي يليه، وإذا كل واحد من جماعة المسجد سيذهب إلى مسجد آخر، وهذا .. وهذا.. فإن ذلك يؤدي إلى قلتهم، ثم ربما يؤدي إلى خلو المسجد، وعدم عمارته.
ومن السلبيات أيضاً: إيحاش صدر الإمام، وإساءة الظن به، أو الوقوع في عرضه، أو يقول الناس: لماذا فلان ما يصلي وراء الإمام؟ الإمام هذا أكيد فيه مشكلة.. فيه بلاء.. لماذا يتركونه ويذهبون إلى غيره؟ فيؤدي إلى إلصاق تهم بالإمام، ونحو ذلك.
ثم إن الشريعة جاءت لتأليف القلوب، فإذا كان هذا الفعل فيه كسر لقلب إمامك، أو جماعة مسجدك، فجبر قلوبهم أولى من أن تقول: الأبعد أفضل، وأمشي زيادة، يعني المقصد الشرعي في تأليف القلوب، أكبر من المقصد الشرعي في زيادة الخطا إلى المسجد الأبعد.
ظاهرة تخطي المساجد تحدث في رمضان؛ لأن بعض الناس يتتبعون حسن الصوت، وربما أدى ذلك إلى هجر بعض المساجد، فيقع في نفس الإمام ما يقع، أو في نفس من بنى المسجد ما يقع، لما هُجِرَ مسجده.
فتتبع المساجد لحسن الصوت ما الجوب فيه؟
في تفصيل: إذا كان يؤدي إلى مفاسد منع، ونقول له: اجلس في مسجدك ولا تتبع المسجد الآخر من أجل الصوت.
وإذا كان لا يؤدي إلى مفاسد، قال -مثلا-: أنا سأذهب إلى مسجد كذا، وجماعة مسجدنا في حينا كثيرة، وفيه شباب، وفيه عامة كثريين، فلو ذهبت وذهب معي عشرة لا يحدث شيء للمسجد، فإذا انتفت السلبيات، ولن يغلق المسجد، ولن يهجر، ولن يحدث بينه وبين الإمام وجماعة المسجد شيء، فلو ذهب، لا حرج عليه.
ولو كان يؤدي إلى مفاسد، لا يذهب، هذا التفصيل في قضية الصوت.
أما إذا وجد غرض صحيح لتخطي الإنسان مسجده إلى مسجد آخر، مثل أن يكون إمام مسجده لا يقيم الفاتحة، أو لا يطمئن في صلاته، أو يرتكب بعض المخالفات الشرعية، أو يجاهر ببدعة، أو يجاهر بمعصية، أو أنه سيذهب إلى مسجد آخر ليحضر درساً، أو محاضرة، أو أن المسجد الآخر يصلي بسرعة، وهذا مستعجل، أو أن المسجد الآخر يصلي متأخرًا، وصاحبنا متخلف.
إذاً، هناك أسباب، فلو ذهب إلى المسجد الأبعد لهذه الأسباب، فلا بأس بذلك.
عدم أذية المصلين بأي وسيلة كانت
ومن آداب المسجد: ألا يؤذي المصلين، لا بالرائحة وقد تقدم ذلك، ولا بوضع النعال في مكان غير مناسب وقد تقدم ذلك، ولا بتخطي الرقاب، وقد قال النبي ﷺ لرجل: اجلس فقد آذيت[رواه أبو داود: 1120، والنسائي: 1399، وابن ماجه: 1115، وأحمد: 17710، وقال الألباني: "إسناده صحيح على شرط مسلم"؛ كما في صحيح أبي داود: 1024].
وربما فاته أجر الجماعة كلها بسبب هذا الإيذاء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ليس لأحد أن يتخطى الناس ليدخل في الصف إذا لم يكن بين يديه فُرجة لا يوم الجمعة ولا غيره" [الفتاوى الكبرى: 5/356].
فإذًا، بعض الناس يأتي ويقول: أدخل والله ييسرها، خطأ، فإذا وجد فرجة يتقدم إليها، والذين لم يتقدموا أسقطوا حقهم في منع التخطي، لماذا لم يتقدموا لسدها؟ فهو يتقدم لسدها، ولا حرج عليه.
واشترط بعض العلماء أن يكون ممر لا تلتصق فيه ركبتا المتجاورين، إذا كان فرجة في الأمام موجودة، وتقدم فسدها، وإذا لم تكن موجودة، فلا يتقدم؛ لأن هذا من الظلم والتعدي لحدود الله تعالى، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، واختار التحريم.
فأما إذا تركت فرج في الصفوف فلا حرج في اختراق الصفوف لسد هذه الفرج والقيام في تلك الصفوف.
ومن قلة الأدب في المساجد: أن يضايق الإنسان المصلين، وهذا يحدث عند عدد من الشباب الحريصين على الخير، يريد أن ينافس على الصف الأول، فيتقدم إلى فرجة لا تتسع، فيزحم الصف، ثم يكون من بجواره أكتافهم أمامهم، وقد يكون شيخاً أدى إلى إيذاء المسلمين، وإيذاء المسلمين بغير ما اكتسبوا حرام.
ثانيًا: خلل في تسوية الصف؛ لأنه لم يستوِ المنكب بالمنكب، وكيف يستوي المنكب بالمنكب وهو قد فرض نفسه في المكان الضيق، وأي أجر سيرجى له، ولو كان صادقاً لجاء مبكراً؟ أما أن يأتي متأخرًا ويريد أن يقحم نفسه في الصف الأول إقحامًا، وأن يتعسف في ذلك، ويدخل في هذا الضيق، ويؤذي ويشغل خشوع المصلين الذين بجانبيه، فهذا لا يجوز.
والأصل -كما ذكرنا- إن الناس إذا جاؤوا للمسجد يصفون في الصف الأول، ولو قبل الإقامة بنصف ساعة، بساعة، ولو في الجمعة جاؤوا مبكرون يصفون الصف الأول فالأول.
ثم من الأدب: ألا يمر بين يدي المصلي، وهذا معروف.
وهناك آداب تكون يوم الجمعة، يكون موضعها في آداب الجمعة، وإن كانت تشترك مع غيرها من الصلوات.
في باب سد الفرج، وخصوصاً عند إقامة الصلاة، نجد أن أناساً يأتون من مكان بعيد من اليمين أو الشمال ويدخلون في الفرجة، بحيث لا يدعون مجالاً للشخص الذي في الخلف مباشرة لسده، إذا كان الذي يتقدم، متكاسل، والفرجة موجودة، وهو جالس ينتظر، خلاص يتقدم غيره، هو الذي فوت على نفسه، لكن هو تقدم، فجاء رجل من خلفه يريد أن يسابقه، ويدخل عليه، فلا شك أن هذا فيه إثارة للشحناء، وهذه المسألة يجب أن تراعى، وهذه المفسدة، إثارة الشحناء والبغضاء يجب أن تراعى، ينبغي أن لا تكون في المسجد، ولذلك تكلموا في بحث طويل: لو تنافس اثنان على فرجة، هل يتركها له أو لا؟
وتلافي الشحناء والبغضاء قد يكون أجره أكثر من أن يسبقه هو، فينبغي مراعاة هذه المسألة، وفي المقابل ينبغي مراعاة عدم التكاسل في التقدم لسد الفرج.
إذا كان يوجد كلام في مكتبة داخل المسجد غير الذكر؟ إذا كانت المكتبة من المسجد، فحكمها حكم المسجد، ما فيها كلام.
أما إذا صارت المكتبة بابها إلى الخارج، وليس لها باب إلى المسجد، وبابها إلى الخارج، فقد يكون لها أحكام مختلفة، لكن المكتبة داخل حدود المسجد، وبابها مفتوح إلى المسجد، ليس للخارج، حكمها حكم المسجد.
نكتفي بهذا، ونكون قد انتهينا من آداب حضور المساجد.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.