الحمد لله الذي فاوت بين خلقه في الخُلُق كما فاوت بينهم في الخلق، وأشهد أنَّ محمداً رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، الذي قال الله في شأنه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم:4].
أهمية موضوع الأخلاق
موضوع الخُلُق: من الموضوعات الإسلامية المهمَّة، التي عليها يدور نجاح حياة المسلم، فكيف ينجح العالم في وظيفته إذا لم يكن على خُلقٍ؟ وكيف ينجح الزَّوج في حياته إذا لم يكن على خُلقٍ؟ وكيف ينجح الدَّاعية في حياته إذا لم يكن على خُلقٍ؟ وكيف ينجح الأخ مع إخوانه إذا لم يكن على خُلقٍ؟
فالأخلاق عليها مدار نجاح الإنسان في هذه الحياة، حتى قال بعض العلماء: "إن الدِّين كُلُّه هو الخُلقُ" ونحن نعيش أزمةَ أخلاقٍ في واقعنا، سواءً على مستوى العلاقات الزَّوجية، أو المصلِّين في المساجد، أو الطُّلاب والمدرِّسين، أو الموظَّف والمراجعين، أو الجار وجيرانه، بل بين طلبة العلم والعلماء والأقران، وهذا ممَّا يؤكد أهمية طرق هذا الموضوع.
وحيث أنَّ عدداً من الدروس في هذه الإجازة لها اتِّجاه علميٌّ صرفٌ في المصطلح، أو التَّفسير وعلوم القرآن، أو مصطلح الحديث، أو أصول الفقه، أو الفرائض، أو اللغة ونحو ذلك، فإنَّني أجد أنَّ الحديث عن موضوع الخُلق من الموضوعات التي لا تقلُّ أهميةً أبداً عن تلك المواضيع، ولعلنا -إن شاء الله- سنكون مع مجموعةٍ من الدروس في هذه الإجازة نقضي كُلَّ ليلةٍ مع خُلقٍ من الأخلاق الإسلامية الحسنة، نبيِّن فيه مكانة هذا الخُلقِ في الإسلام وأدلته ومعناه، وشيئاً من تطبيقاته في الواقع.
وأقول: إنَّ الموضوع بحقٍّ: موضوعٌ مهمٌّ للغاية، وأكثر ممَّا قد يتصوَّر البعض، وبعض الأخلاق لها جوانبٌ فقهيةٌ وتتعلَّق بها أحكام، كما لو طرق -مثلاً- موضوع العدل؛ فإنَّك ستُلاحظ فيه أحكاماً في العدل بين الأولاد، والعدل بين الزَّوجات ونحو ذلك.
أمَّا الخلق: "فالخليقة هي: الطبيعة" كما قال ابن منظور رحمه الله في لسان العرب: "وفي التَّنزيل: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. والجمع: أخلاقٌ، ولا يكسَّر على غير ذلك، والخُلْق والخُلُق: السَّجية، والخُلُق: هو الدِّين والطَّبع والسَّجية، وحقيقته أنَّه لصورة الإنسان الباطنة -وهي نفسه- وأوصافها ومعانيها المختصَّة بها؛ بمنزلة الخلق لصورته الظَّاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة"[لسان العرب10/85].
وقال ابن حجر -رحمه الله- في شرح كتاب الأدب من صحيح البخاري قال الرَّاغب: "الخَلق والخُلق في الأصل بمعنى واحد، كالشَرب والشُرب، لكن خُصَّ الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصُّور المدركة بالبصر، وخُصَّ الخُلق الذي بالضَّم بالتَّقوى والسَّجايا المدركة بالبصيرة، فالشَّكل والصُّورة التي تدرك بالبصر هذا خلقٌ، والسَّجايا والطَّبائع التي تدرك بالبصيرة تسمى خُلقاً"[فتح الباري10/456].
وقال القرطبي رحمه الله تعالى في المفهم: "الأخلاق: أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره، وهي محمودةٌ ومذمومةٌ؛ فالمحمودة على الإجمال: أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنصف منها ولا تنصف لها، وعلى التَّفصيل: العفو، والحلم، والجود، والصَّبر، والرَّحمة، والشَّفقة، والتَّودُّد، ولين الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضدُّ ذلك كُلُّه"[المفهم19/45]. الأحلاق المذمومة على الضَّدِّ: كالكذب، والغِش، والقسوة، ونحوها من الأخلاق الرديئة، وسيكون مدار الدُّروس في هذه الإجازة -إن شاء الله- عن الأخلاق الحسنة.
تعلُّق موضوع الأخلاق بمنهج أهل السُّنَّة والجماعة والسَّلف
وموضوع الأخلاق: موضوعٌ كبيرٌ يتعلَّق بمنهج أهل السُّنَّة والجماعة، وليس كما يتصوَّر البعض أنَّه موضوعٌ منفصل عن المنهج أو أنَّه شيءٌ أدنى منزلةً أو جانبا،ً كلا! بل هو من صلب المنهج.
ومما يؤيِّد أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السَّلف: تضمين علمائهم هذه الجوانب فيما كتبوه من أصول أهل السُّنَّة والجماعة جوانب الأخلاق؛ كـالعقيدة الواسطية، والطَّحاوية وغيرها، ومن أمثلة ذلك: قول الإمام الصَّابوني في تقريره لعقيدة السَّلف: "ويتواصون بقيام الليل للصَّلاة بعد المنام، وبِصِلة الأرحام على اختلاف الحالات، وإفشاء السَّلام وإطعام الطَّعام، والرَّحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتَّعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف، والسَّعي في الخيرات، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والبدار في فعل الخيرات أجمع، واتِّقاء عاقبة الطَّمع، ويتواصون بالحقِّ والصَّبر[عقيدة السلف أصحاب الحديث1/34].
وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في العقيدة الواسطية لما ذكر معتقد أهل السُّنَّة والجماعة قال: "ثُمَّ هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشَّريعة، ويرون إقامة الحجِّ والجهاد والجُمُع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنَّصيحة للأمَّة، ويعتقدون معنى قوله ﷺ: المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً وشبَّك بين أصابعه[رواه البخاري 2314]. وقوله ﷺ: مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهر[رواه مسلم 2586]. ويأمرون بالصَّبر عند البلاء، والشَّكر عند الرَّخاء، والرِّضى بِمُرِّ القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قولهﷺ: أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً[رواه أبو داود4684، والترمذي1162، وأحمد10110، وصححه الألباني في الجامع الصغير2110]. ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببرِّ الوالدين، وصلة الأرحام، وحُسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرِّفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلقِّ بحقٍّ أو بغير حقٍّ، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها"[العقيدة الواسطية1/32].
منهج السَّلف يشمل: الجانب العقدي والجانب الأخلاقي
فإذاً: هذا هو المنهج الشَّامل للسَّلف الصَّالح -رحمهم الله- أهل السُّنَّة والجماعة بجانبيه العقدي والأخلاقي، وبقدر ما يحصل من النَّقص في أحدهما يكون النَّقص في الالتزام بهذا المنهج العظيم، ولذلك يمكن أن يوجد في الواقع طلبة علم جيِّدون من جهة العقيدة والتَّفسير ومصطلح الحديث وأصول الفقه واللغة العربية ونحو ذلك، لكنهم في جانب الأخلاق ليسوا بذاك، فلا شكَّ أنَّ في هؤلاء نقصاً بحسب ما نقص من أخلاقهم.
وموضوع الأخلاق موضوع خطير؛ لأنَّه يمكن أن يُقدِّم بحسن الأخلاق منهجاً مسموماً، كما يمكن أن يعرض النَّاس بسوء الخلق عن المنهج السَّليم.
فإذاً -أيُّها الإخوة- لابُدَّ من التَّركيز على هذا الموضوع؛ لأنَّه -كما قلنا- من أهم عوامل النَّجاح؛ كثيرٌ من النَّاس لا ينظرون إلى معتقدك ولا إلى عبادتك، وإنَّما ينظرون إلى خلقك أولاً، فإذا أعجبهم أخذوا عنك العقيدة والأخلاق والعبادة والعلم، وإذا لم يعجبهم تركوك وما أنت عليه من العلم، فإذاً لابُدَّ من الخُلُق، ويكفينا أنَّ الله تعالى قال لنبيِّه ﷺ: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم:4]. قال ابن عباس ومجاهد: "لعلى دينٍ عظيمٍ وهو دين الإسلام"[تفسير ابن كثير8/188]. فالخُلُق أُطلق على الدِّين كُلِّه، وهو ما كان يأمر به ﷺ من أمر الله، وينهى عنه من نهي الله، والمعنى: إنَّك لعلى الخلق الذي آثرك الله به في القرآن، ولذلك جاء في المسند: أنَّ سعد بن هشام سأل عائشة رضي الله عنها عن خلق النَّبيِّ ﷺ؟ فقالت: "كان خلقه القرآن" فقال: "لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئاً"[رواه أحمد24645]. أي: لقد كفتني هذه العبارة البليغة الموجزة، حتى هممت أن أقوم ولا أسألها شيئاً.
أصول الأخلاق مجموعة في قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[الأعراف:199]. فليس هناك في القرآن آيةٌ أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، فأن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فهذه الآية أرشدت النَّبيَّ ﷺ أن يأخذ العفو من أخلاق النَّاس، ويقبل الاعتذار، ويعفو ويتساهل مع النَّاس، ويترك الاستقصاء والبحث والتَّفتيش عن أحوالهم، وكذلك يأخذ ما عفا من أموالهم وهو الفاضل، مثل قوله تعالى: وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ[البقرة:219]. وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[الأعراف:199]. أي: إذا سفه عليك الجاهل فلا تخاطبه بالسَّفه، كما قال تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً[الفرقان:63]. فالخلق مجموع في هذه الآية.
وقال أنس : "كان رسول الله ﷺ أحسن النَّاس خلقاً"[رواه البخاري 5850، ومسلم2310]. وقال: "ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كفِّ رسول الله ﷺ، ولا شممت رائحةً قط أطيب من رائحة رسول الله ﷺ"[رواه مسلم2330]. ولقد خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما قال لي قط: أفٍ، ولا قال لشيءٍ فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيءٍ لم أفعله: ألا فعلت كذا؟"[رواه البخاري5691].
والبر: حسن الخلق، كما قال النبي ﷺ، وحسن الخلق هو الدين كله، وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وفسر حسن الخلق بأنه البر؛ فدل على أن حسن الخلق طمأنينة النفس والقلب.
حسن الخُلُق أثقل الميزان يوم القيامة
وقد بلغ من منزلة حسن الخُلُق يوم القيامة أن يكون صاحبه من أثقل النَّاس وزناً، كما قال النَّبي ﷺ: ما من شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق[رواه أبو داود4801، وصححه الألباني في الجامع الصغير10659]. وهو أكثر ما يدخل النَّاس الجنَّة، كما قال ﷺ عندما سُئِل عن ذلك: تقوى الله وحسن الخلق[رواه الترمدي2004، وصححه الألباني في صحيح الترمذي2004]. وميزان الكمال عند المؤمنين بكمال أخلاقهم: إنَّ من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً[رواه أبو داود4684، والترمذي1162، وأحمد 7396، وصححه الألباني في الجامع الصغير 2110]. حديث صحيح.
وهذا الأمر هو الذي يدرك به الإنسان درجات العبَّاد الكبار، كما قال ﷺ: إنَّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصَّائم القائم[رواه أبو داود4800، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 4798]. رواه أبو داود، وهو حديث صحيح. وأبشر يا صاحب حسن الخلق ببيتٍ في أعلى الجنَّة، فإنَّه ﷺ قال: أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنَّة لمن ترك المراء وإن كان محقَّاً، وبيتٍ في وسط الجنَّة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيتٍ في أعلى الجنَّة لمن حسن خلقه[رواه أبو داود4802، والطبراني7361، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 273]. رواه الطَّبراني وإسناده صحيح. فالبيت العُلوي جزاءٌ لأعلى المقامات الثَّلاثة وهي حسن الخلق.
وصاحب الخلق الحسن أقرب النَّاس مجلساً من النَّبيِّ ﷺيوم القيامة، كما قال النَّبي ﷺ: إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربكم منِّي مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً[ رواه الترمذي 2018، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 791]. رواه الترمذي، وهو حديث صحيح، فهذا الخلق الحسن أثقل شيءٍ في ميزان العبد؛ لأنَّ الأعمال تُوزن يوم القيامة وزناً حقيقياً ترجح الكفَّة بها، فما هو أثقل شيءٍ في الميزان كما قال ﷺ؟ أثقل شيءٍ في الميزان الخلق الحسن، وهي وصيته ﷺ للمؤمن في معاملة النَّاس حين قال: وخالق الناس بخلق حسن[رواه الترمذي1987، وأحمد 21392، وحسنه الألباني في الترغيب والترهيب 2655]. وكذلك فإنَّ حسن الخلق يدرك به صاحبه -كما قلنا- درجة القائم بالليل الظَّامئ بالهواجر وهو النَّهار الحار، والله تعالى يحبُّ مكارم الأخلاق ويكره سفسافها، وسفسافها: هو حقيرها ورديئها.
من أعظم نعم الله على العبد: حسن الخلق
وكذلك فإنَّ من أعظم نعم الله على العبد: حسن الخلق، كما قال ﷺ: إنَّ النَّاس لم يعطوا شيئاً خيراً من خلق حسن[رواه الطبراني 466، وصححه الألباني في الجامع الصغير 3740]. وكذلك فإنَّ بعثته ﷺ لإتمام صالح الأخلاق، كما ذكر ﷺ، وهي وصيته للصَّحابي لما قال له: عليك بحسن الخلق[رواه أبو يعلى 3298، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1938]. وهي الميزان الذي تُقاس به الخيرية، كما في قولهﷺ: خياركم أحاسنكم أخلاقاً[رواه البخاري 5688، ومسلم 2321]. ومن كان سهلاً هيناً ليناً حرَّمه الله على النَّار، إذًا من أسباب الوقاية من النَّار: حسن الخلق، والنَّبيُّ ﷺ كان يتلافى المعوج من أخلاق النَّاس بكرمه، كما روى البخاري رحمه الله عن عبد الله بن أبي مليكة: أنَّ النَّبيَّ ﷺ أُهديت إليه أقبيةٌ من ديباج مزررة بالذَّهب، فقسمها في ناس من أصحابه وعزل منها واحدًا لـمخرمة بن نوفل، فجاء ومعه المسور بن مخرمة، فقام على الباب فقال: ادعه لي، فسمع النَّبيُّ ﷺ صوته فأخذ قباءً منها كان عليه، فتلقاه به واستقبله بأزراره فقال: يا أبا المسور ! خبأت هذا لك، يا أبا المسور!) وكان أبو المسور في خلقة شدَّة، فكان ﷺ يتلافى بحسن خلقه شدَّة أخلاق النَّاس، والأخلاق الحسنة تغطي على الأخلاق الرديئة، ولذلك وجَّه النَّبي ﷺ الأزواج إلى النَّظر إلى النَّاحية الإيجابية من أخلاق الزَّوجات فقال ﷺ: لا يفرك يعني: لا يكره مؤمنٌ مؤمنةً إن كره منها خلقاً رضي منها آخر[رواه مسلم 1469]. رواه مسلم.
ومن أسباب تجاوز الله عن العبد يوم القيامة: حسن الخلق، فإنَّ حذيفة قال: أُتي الله بعبدٍ من عباده آتاه الله مالاً فقال: ماذا عملت في الدُّنيا قال: يا رب آتيتني مالاً فكنت أبايع النَّاس وكان من خلقي الجواز فكنت أتيسَّر على الموسر وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحقُّ بذا منك، تجاوزوا عن عبدي، فقال عقبة بن عامر الجهني وأبو مسعود الأنصاري: هكذا سمعناه من فيّ رسول اللهﷺ[رواه مسلم 1560]. رواه مسلم.
وما الذي لفت إليه النَّبيُّ ﷺ الاهتمام بموضوع الخاطب إذا تقدَّم إليك يخطب ابنتك؟ فقال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه[رواه الترمذي 1084، وحسنه الألباني في الإرواء 1868]. وفي رواية: خلقهُ ودينه[رواه ابن ماجه 1967، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه 1967]. فهذا هو الشَّيء الذي ينظر منه إلى الخاطب.
الفرق بين حسن الخلق وقبيحه
وحكمة الله البالغة اقتضت أن يجعل في هذه الحياة أخلاقاً عاليةً وكذلك هناك في البشر أخلاق سافلة، وعند المقارنة يظهر حسن هذا وقبح ذاك؛ لأنَّ الضَّدَّ يظهر حسنه الضَّدِّ، وبضدِّها تعرف الأشياء، فلولا الظَّلام ما عرفت فضيلة النُّور، ولولا أنواع البلايا ما عرفت قيمة العافية، ولولا خلق الشَّياطين والهوى والنَّفس الأمارة بالسُّوء لما حصلت عبودية الصَّبر والمجاهدة وترتب الأجر والجنَّة عليهما.
إذاً: عندنا محاسن الأخلاق ومساوئ الأخلاق، فإذا قلت: محاسن الأخلاق مثل: الصَّدق، والأمانة، والوفاء، والإيثار، والكرم، والعفَّة، وكظم الغيظ، والتَّواضع، والإخلاص، والعدل، وغير ذلك؛ فإنَّك إذا قارنتها بضدِّها تتبيَّن جمال هذه الأخلاق، وضدُّها مثل: الكذب، والنِّفاق، والغدر، والخيانة، والبخل، والرِّياء، والكبر، والعجب، والمفاخرة، والحسد، والطَّمع، والحقد، والظُّلم، وغير ذلك من الأخلاق.
أمثلة من إعتناء العلماء بحسن الخلق
وكما أنَّ حسن الخلق منجاةٌ ونجاحٌ؛ فسوء الخلق ضياعٌ ودمارٌ، ولا بُدَّ إذاً من الالتزام والتَّمسُّك بهذه الأخلاق الحسنة، وقد اعتنى العلماء رحمهم الله تعالى بجمع محاسن الأخلاق ومساوئ الأخلاق، وأفردوها بالمصنفات، وألف في ذلك ابن أبي الدنيا والخرائطي رحمهما الله وألَّف في ذلك عدد من العلماء.
وكما كنا قد ذكرنا سابقاً في موضوع الآداب الشَّرعية شيئاً من المنظومات التي نظمها بعض أهل العلم في الآداب، فإنَّنا سنذكر -إن شاء الله- في هذا الدَّرس شيئاً من المنظومات التي نظمها أهل العلم في الأخلاق.
لاميَّة ابن الوردي في الأخلاق
فمن أعظم المنظومات التي نظمت في الأخلاق اللامية المسماة: لاميَّة ابن الوردي ، نريد أن نلقي الضَّوء على شيءٍ من أبيات هذه اللَّامية؛ حتى يتبيَّن لنا مدى اعتناء العلماء رحمهم الله بجمع هذه الأخلاق، قال ابن الوردي رحمه الله تعالى:
اعتزل ذكر الأغاني والغزل | وقل الفصل وجانب من هزل |
ودع الذكرى لأيام الصبا | فلأيام الصبا نجمٌ أفل |
إن أهنا عيشة قضيتها | ذهبت لذاتها والإثم حل |
واترك الغادة لا تحفل بها | تمس في عز وترفع وتجل |
وانه عن آلة لهو أطربت | وعن الأمرد مرتج الكفل |
وافتكر في منتهى حسن الذي | أنت تهواه تجد أمراً جلل |
واهجر الخمرة إن كنت فتى | كيف يسعى في جنون من عقل |
واتق الله فتقوى الله ما | جاورت قلب امرئ إلا وصل |
ليس من يقطع طرقاً بطلاً | إنما من يتقي الله البطل |
صدق الشرع ولا تركن إلى رجل | يرصد في الليل زحل |
حارت الأفكار في قدرة من | قد هدانا سبلنا عز وجل |
أي بني اسمع وصايا جمعت | حكماً خصت بها خير الملل |
اطلب العلم ولا تكسل فما | أبعد الخير على أهل الكسل |
واحتفل للفقه في الدين ولا | تشتغل عنه بمال وخول |
واهجر النوم وحصله فمن | يعرف المطلوب يحقر ما بذل |
لا تقل قد ذهبت أربابه | كل من سار على الدرب وصل |
في ازدياد العلم إرغام العدا | وجمال العلم إصلاح العمل |
جمل المنطق بالنحو فمن | يحرم الإعراب بالنطق اختبل |
مات أهل الفضل لم يبق سوى | مقرف أو من على الأصل اتكل |
أنا لا أختار تقبيل يدٍ | قطعها أجمل من تلك القبل |
إن جزتني عن مديحي صرت في | رقها أولا فيكفيني الخجل |
ملك كسرى تغني عنه كسرةٌ | وعن البحر اجتزاء بالوشل |
أعذب الألفاظ قولي لك خذ | وَأَمرُّ اللفظ نطقي بلعل |
اعتبر نحن قسمنا بينهم | تلقه حقاً وبالحق نزل |
ليس ما يحوي الفتى من عزمه | لا ولا ما فات يوماً بالكسل |
اطرح الدنيا فمن عاداتها | تخفض العالي وتعلي من سفل |
عيشة الراغب في تحصيلها | عيشة الجاهد فيها أو أقل |
كم جهول وهو مسرٍ مكثر | وعليم مات منها بالعلل |
كم شجاع لم ينل فيها المنى | وجبان نال غايات الأمل |
أيُ كف لم تَفد مما تُفد | فرماها الله منه بالشلل |
لا تقل أصلي وفصلي أبداً | إنما أصل الفتى ما قد حصل |
قد يسود المرء من غير أبٍ | وبحسن السبك قد ينفى الزغل |
وكذا الورد من الشوك وما | يطلع النرجس إلا من بصل |
قيمة الإنسان ما يحسنه | أكثر الإنسان منه أو أقل |
اكتم الأمرين فقراً وغنى | واكسب الفلس وحاسب من بطل |
وادَّرع جداً وكداً واجتنب | صحبة الحمقى وأرباب الخلل |
بين تبذير وبخل رتبةٌ | وكلا هذين إن دام قتل |
لا تخض في سب سادات مضوا | إنهم ليسوا بأهل للزلل |
وتغافل عن أمور إنه | لم يفز بالحمد إلا من غفل |
ليس يخلو المرء من ضدٍ وإن | حاول العزلة في رأس جبل |
مِل عن النمام وازجره فما | بلغ المكروه إلا من نقل |
دار جار السَّوء بالصبر وإن | لم تجد صبراً فما أحلى النُقل |
جانب السلطان واحذر بطشه | لا تعاند من إذا قال فعل |
لا تل الحكم وإن هم سألوا | رغبة فيك وخالف من عذل |
إن نصف الناس أعداء لمن | ولي الأحكام هذا إن عدل |
فهو كالمحبوس عن لذاته | وكلا كفيه في الحشر تغل |
إن للنقص والاستثقال في | لفظة القاضي لوعظاً ومثل |
لا تواز لذة الحكم بما | ذاقه الشخص إذا الشخص انعزل |
فالولايات وإن طابت لمن | ذاقها فالسم في ذاك العسل |
نَصَبُ المنصب أوهى جلدي | وعنائي من مداراة السِفل |
قصِّر الآمال في الدنيا تفز | فدليل العقل تقصير الأمل |
غِب وزر غِباً تزد حباً فمن | أكثر الترداد أقصاه الملل |
خذ بحد السيف واترك غمده | واعتبر فضل الفتى دون الحُلل |
يعني: لا تغرك المظاهر عليك بالحقيقة
لا يضر الفضلَ إقلالٌ كما | لا يضر الشمس إطباق الطفل |
حبك الأوطان عجز ظاهرٌ | فاغترب تلقَ عن الأهل بدل |
فبمكث الماء يبقى آسناً | وسُرى البدر به البدر اكتمل |
لا يغرنك لين من فتى | إن للحيات ليناً يعتزل |
أنا مثل الماء سهل سائغٌ | ومتى سخن آذى وقتل |
أنا كالخيزور صعب كسره | وهو لينٌ كيفما شئت انفتل |
غير أني في زمان من يكن فيه | ذا مال هو المولى الأجل |
واجب عند الورى إكرامه | وقليل المال فيهم يستقل |
كل أهل العصر غمرٌ وأنا | منهم فاترك تفاصيل الجمل |
نونية أبي الفتح البستي في الأخلاق
ومن المنظومات الرَّائعة في الأخلاق: القصيدة النُّونية العظيمة، التي نظمها الشَّاعر بعنوان: الحِكَم، وهو أبو الفتح البستي رحمه الله تعالى، يقول في مطلعها:
زيادة المرء في دنياه نقصان | وربحه غير محض الخير خسرانُ |
وكل وجدان حظٍّ لا ثبات له | فإن معناه في التحقيق فقدانُ |
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً | بالله هل لخراب العمر عمرانُ |
ويا حريصاً على الأموال تجمعها | أنسيت أن سرور المال أحزانُ |
زع الفؤاد عن الدنيا وزينتها | فصفوها كدرٌ والوصل هجرانُ |
وأرع سمعك أمثالاً أفصلها | كما يفصل ياقوت ومرجانُ |
ثُمَّ بدأ بترداد الأخلاق الحسنة فقال:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم | فطالما استعبد الإنسان إحسانُ |
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته | أتطلب الربح فيما فيه خسرانُ |
أقبل على النفس واستكمل فضائلها | فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ |
وإن أساء مسيٌ فليكن لك في | عروض زلته صفحٌ وغفرانُ |
وكن على الدهر معواناً لذي أمل | يرجو نداك فإن الحر معوانُ |
يعني: كُن كثير المعاونة والمساعدة للنَّاس وخصوصاً الذين يرجو نداك، وما معنى الندى: هنا الخير، والكرم، والعطاء.
من يتقِ الله يحمد في عواقبه | ويكفه شر من عزوا ومن هانوا |
من كان للخير منَّاعاً فليس له | على الحقيقة إخوان وأخدانُ |
الذي يمنع الخير لا يجد له صديقًا واحدًا.
من جاد بالمال مالَ الناسُ قاطبةً | إليه والمال للإنسان فتانُ |
من سالم الناس يسلم من غوائلهم | وعاش وهو قريرُ العين جذلانُ |
يعني: فرحانٌ مسرورٌ
من عاشر النَّاس لاقى منهم نصباً | لأن سوسهم بغي وعدوانُ |
أما المعاشرة: فلا بُدَّ إذا عاشرت النَّاس وخالطتهم أن تلقى منهم تعباً وشروراً وعداوات؛ لأنَّ سوس النَّاس وطبيعتهم: البغي والعدوان.
ومن يفتش عن الإخوان يَقْلَهم | فجُل إخوان هذا العصر خوانُ |
من يزرع الشَّر يحصد في عواقبه | ندامةً ولحصد الزَّرع إبانُ |
من استنام إلى الأشرار نام وفي | قميصه منهم صلٌ وثعبانُ |
الذي يرافق قرناء السُّوء يجد منهم الأذى والشَّرَّ؛ لأنَّ الصَّل أفعى لا يرتجى بعد لدغها بُرءٌ من سمِّها، والثُّعبان: الحيَّة الطَّويلة.
كن ريق البشر إن الحر همته | صحيفةٌ وعليها البشر عنوانُ |
يعني: ابتسم وكن بشوشًا.
ورافق الرِّفق في كُلِّ الأمور فلم | يندم رفيق ولم يذممه إنسانُ |
ولا يغرنَّك حظٌّ جرَّه خرقٌ | فالخرق هدمٌ ورفق المرء بنيانُ |
إذا رأيت إنساناً صاحبَ حمقٍ وبلاهةٍ فلا تغتر به، وإن كان عنده شيءٌ من الدُّنيا؛ فإنَّ حمقه سيهدم ما عنده.
أحسن إذا كان إمكان ومقدرةٌ | فلن يدوم على الإحسان إمكانُ |
فالروض يزدان بالأنوار فاغمة | والحرُّ بالعدل والإحسان يزدانُ |
صن حر وجهك لا تهتك غلالته | فكُلُّ حر لحر الوجه صوانُ |
فينبغي على الإنسان أن يصون حياءه وماء وجهه، ولا يريق ماء وجهه لأجل أمورٍ دنيويةٍ ولا يمد يده إلى النَّاس.
فإن لقيت عدواً فالقه أبداً | والوجه بالبشر والإشراق غضانُ |
وهناك آية تشهد لهذا البيت: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ[فصلت:34].
لا تودع السِّرَّ وشَّاءً يبوح به | فما رعى غنماً في الدّوِّ سرحانُ |
هل يمكن أن يرعى الذَّئب الغنم؟ فإذا استودعت السِّرَّ عند من يفشيه فكأنَّك استرعيت الذِّئب الغنم في الصَّحراء.
لا تحسب النَّاس طبعاً واحداً فلهم | غرائز لست تحصيهنَّ ألوانُ |
النَّاس أشكالٌ وأصناف وطبائع مختلفة؛ فكن على بينة من طبائعهم حتى تستطيع أن تعاملهم.
لا تخدشن بمطل الوجه عارفة | فالبر يخدشه مطل وليانُ |
يعني: كلما جاء طارق الخير أدخله ولا تصرفه، وتقول: غداً ولعلي أفعل؛ لأنَّ من أعظم ما يقضي على البرِّ أن يسوِّف الإنسان في عمله، فيقول: لا تسوِّف في عملك ولا تستعمل المماطلة فتخدش وجه العرف.
لا تستشر غير ندبٍ حازمٍ يقظٍ | قد استوى فيه إسرارٌ وإعلانُ |
فللتدابير فرسان إذا ركضوا | فيها أبرُّوا كما للحرب فرسانُ |
وللأمور مواقيت مقدرةٌ | وكُلُّ أمرٍ له حدٌّ وميزانُ |
فلا تكن عجلاً في الأمر تطلبه | فليس يحمد قبل النُّضج بحرانُ |
يعني: يقول لا تستعجل الأمور فإنَّ من استعجل الشَّيء قبل أوانه رُبَّما عوقب بحرمانه، فإنَّ الله جعل لكُلِّ شيءٍ قدراً، وهناك أوان لنضج الثَّمرة، فإذا قطفتها قبل نضجها لم تستفد منها، فإذا أردت أن تحصل مقصودك فانتظر حتى تستوي ويأتي وقت الأمر ولا تكن عجلاً.
كفى من العيش ما قد سدَّ من عوزٍ | ففيه للحرِّ إن حققَّت غنيانُ |
إذا كان عندك ما يكفيك فهذا هو الغنى والله، ولذلك النَّاس ثلاثة: رجلٌ عنده أكثر ممَّا يحتاج، ورجلٌ عنده ما يحتاج، ورجل عنده أقلُّ مما يحتاج، فأيُّ المراتب الثَّلاثة أفضلها؟ الذي سأله النَّبيُّ ﷺ لنفسه ولأهله أن يجعل رزقهم كفافاً لا له ولا عليه؛ لأنَّه لو كان عنده أكثر مما يحتاج أشغله ذلك بالبطر وتتبُّع زينة الحياة الدُّنيا، ولو كان عنده أقلُّ مما يحتاج لكان ذلك ألماً وضيقاً وذلاً للخلق وتطلُّعاً لما عندهم، ولذلك أفضل شيءٍ أن يكون دخل الإنسان على قدر حاجته، وهذا أحسن شيءٍ في الدُّنيا هذه.
وذو القناعة راضٍ من معيشته | وصاحب الحرص إن أثرى فغضبانُ |
الحريص الذي ليس عنده قناعة ولو عنده أموال الدُّنيا يريد زيادةً.
إذا جفاك خليلٌ كنت تألفه | فاطلب سواه فكُلُّ النَّاس إخوانُ |
فبعض النَّاس يُصاب بالإحباط إذا تركه صاحبه نقول اتخذ صاحبًا آخر.
وإن نئت بك أوطان نشأت بها | فارحل فكُلُّ بلاد الله أوطانُ |
إذا لم تستطع أن تستقرَّ في بلدٍ وحصل عليك ضيقٌ وأذى وطرد فارحل فكُلُّ بلاد الله أوطان، ثُمَّ قال في آخر المنظومة:
كُلُّ الذُّنوب فإنَّ الله يغفرها | إن شيَّع المرء إخلاص وإيمانُ |
وكُلُّ كسرٍ فإنَّ الدِّين يجبره | وما لكسر قناة الدِّين جبرانُ |
معنى: أيُّ كُسرٍ يجبر بالدِّين: كفقد مالٍ أو ولدٍ فيجبر بالدِّين، يعني: الصَّبر على المصيبة، ويأتي الأجر، فتجبر المصيبة بالصَّبر، لكن إذا كُسر الدِّين فما الذي يجبره؟
خذها سوائر أمثالٍ مهذبةٍ | فيها لمن يبتغي التِّبيان تبيانُ |
ما ضرَّ حسَّانها والطَّبع صائغها | إن لم يصغها قريع الشَّعر حسَّانُ |
يعني: لا ينقص من قدر هذه القصيدة أنَّ حسان لم يكن هو الذي نظمها؛ فإنَّ ما نظمها هذا الشَّاعر المسلم لإخوانه.
التَّخلص من الاخلاق الرَّديئة
وكما قلنا: فإنَّ العلماء رحمهم الله اهتمَّوا بقضية جمع محاسن الأخلاق، وكذلك اهتمُّوا بجمع مساوئ الأخلاق للتَّحذير منها، واهتمُّوا كذلك بالكلام عن حقيقة الخُلُق، وكيف تعالج الأخلاق الرَّديئة، وكيف يتخلَّص الإنسان من الأخلاق الرَّديئة، وهناك كلامٌ نفيسٌ ذكره بعض أهل العلم في هذه المسألة، وهو ابن القيم رحمه الله تعالى قال في مسألة التَّخلص من الأخلاق الرَّديئة: "اعلم أن أصعب ما على الطَّبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت النُّفوس عليها، وأصحاب الرِّياضات الصَّعبة والمجاهدات الشَّاقة إنَّما عملوا عليها ولم يظفر أكثرهم بتبديلها" ثُمَّ قال: "ونقدِّم مثلاً: نهر جارٍ في صببه ومنحدره، ومنتهٍ إلى تغريق أرض وعمران ودور، وأصحابه يعلمون أنَّه لا ينتهي هذا النَّهر حتى يخرِّب دورهم ويتلف أراضيهم، فانقسموا ثلاث فرق: فرقةٌ صرفت قواها وقوى أعمالها إلى سَكْره وحبسه وإيقافه، وقالوا: أحسن شيءٍ أن نقفل النَّهر من أساسه، فلم تصنع هذه الفرقة كبير أمرٍ، فإنَّه يوشك أن يجتمع ثُمَّ يحمل على السَّكر الذي وضعوه للإغلاق، فيكون إفساده وتخريبه أعظم، والفرقة الثَّانية: رأت هذه الحالة وعلمت أنَّه لا يغني عنها شيئاً، فقالت: لا خلاصَ من محذوره إلَّا من قطعه من أصل الينبوع، فرامت قطعه من أصله، فتعذَّر ذلك غاية التَّعذُّر، وأبت الطَّبيعة النَّهرية عليهم ذلك أشدَّ الإباء، فهم دائماً في قطع الينبوع، وكُلُّما سدُّوه من موضعٍ نبع من موضعٍ، فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النَّهر عن الزَّرع والعمارة وغرس الأشجار، فإذاً لا الإغلاق نفع ولا سدُّه من أصله نفع، فجاءت فرقةٌ ثالثةٌ خالفت رأي الفريقين، وعلموا أنَّهم قد ضاع عليهم كثير من مصالحهم؛ فأخذوا في صرف ذلك النَّهر عن مجراه المنتهي إلى العمران، فصرفوه إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه ولا يتضرَّرون، فصرفوه إلى أرضٍ قابلةٍ للنبات وسقوها به، فإذا تبيَّن هذا المثل؛ فالله سبحانه قد اقتضت حكمته أن ركَّب الإنسان على طبيعةٍ محمولة على قوتين: غضبية وشهوانية، وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النَّفس وصفاتها"[مدارج السالكين2/311-312].
قضية الأخلاق علاجها: بتر الخلق من أصله لا تستطيع، والحلُّ هو تحويل هذا الخلق السَّيئ إلى مجرى خير، فلو كان عند الإنسان حسدٌ مثلاً: فلا حسد إلا في اثنتين: صاحب القرآن وصاحب المال الذي ينفقه في الخير ويهلكه في الخير، وكذلك يحرص على التَّنافس مع أهل الخير كما قال الله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ[المطففين:26]. ولو كان الإنسان فيه خيلاءٌ في أيِّ شيءٍ يصرفها يختال على العدو في المعركة؛ لأنَّ هذا النُّوع من الخيلاء مسموحٌ به، وأيضاً لو أنَّ إنساناً يعاني من الكذب، فإنَّه يصرفه إلى الكذب على العدو، والكذب للإصلاح بين المتخاصمين، وكذلك ما يكون بين الزَّوجين، كأن يقول: ما ذقت ألذَّ من هذا الطَّبخ! وهو قد ذاق ألذَّ منه، فإنَّ هذا مسموحٌ به بين الزَّوجين، فإذاً: قطع الخلق من أصله كمن يمشي في طريق السَّفر يفتَّش عن العقارب والحيات يقتلها لا يصل إلى البلد ولا يستطيع، فالطَّبيعة النَّهرية تأبى سدَّ النَّهر من أصله، فالحلُّ هو أن يغير مجرى الخلق من الاتِّجاه السَّيئ إلى الاتِّجاه الحسن، وأن يروِّض نفسه، ولاشك أن الجبلة قابلة للتَّغيير، ولا يمكن أن نقول: إنَّما العلم بالتَّعلم والحلم بالتَّحلم، ومن يتصبَّر يصبره الله، فمعلومٌ أنَّ الحلم والصَّبر من الأخلاق، فلم يقل: إذا لم يكن عندك حلم فلن تكون حليماً أبداً، وإذا لم يكن عندك صبر فلن تصبر أبداً، وإنما قال: "والحلم بالتَّحلم"[شعب الإيمان 10254]. أي: إذا تكلَّفت الحلم حتى تتعوَّد عليه صار ذلك طبيعةً لك وسجيةً، وكذلك الصبر إذا تصبَّرت فستصبح صبوراً.
الخلق يقوم على أربع أركان
ولنعلم أيُّها الإخوة: أن حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، أو أنَّ رءوس الأخلاق أربعة: الصَّبر، والعفَّة، والشَّجاعة، والعدل.
فالصَّبر: يحمل على الاحتمال وكظم الغيظ وكفَّ الأذى، والعفَّة: تُجنِّب الإنسان الرَّذائل والقبائح، والشَّجاعة: تحمل على عزَّة النَّفس وإيثار معالي الأخلاق، والعدل: الذي يحمل على الاعتدال والتَّوسُّط.
فإذاً هذه الأخلاق الفاضلة الأربعة هي رءوس الأخلاق، كما أنَّ الأخلاق السَّافلة مبناها على أربعة أخلاق: الجهل، والظُّلم، والشَّهوة، والغضب.
فالجهل يري الإنسان الحسن قبيحاً، والظُّلم يحمله على وضع الشَّيء في غير موضعه، والشَّهوة: تحمله على الحرص والشُّحُّ والبُخل والرَّذائل والفواحش والدَّناءات، والغضب: يولِّد الكبر والحقد والحسد والعدوان والسَّفه، ولذلك لابُدَّ من مراعاة هذه الأخلاق الدَّنيئة؛ حتى يتخلَّص الإنسان منها ولا يقع فيها؛ لأنَّنا إذا عرفنا الأصل عرفنا كيف نتعامل.
ولنعلم أيها الإخوة: أنَّ هذه الأخلاق التي سنتحدث عنها إن شاء الله بالتَّفصيل يمكن أن تكتسب، وليست أموراً غير قابلة للاكتساب، لكن منها ما هو جبلِّي ومنها ما هو كسبي، فالجبلِّي: أنَّ الله جبل عليه من شاء من خلقه، كما قال للصَّحابي: إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة، والنَّبيُّ ﷺ كان يسأل الله أن يكسبه الأخلاق الحسنة، قال في دعاء الاستفتاح: اللهم اهدني إلى أحسن الأخلاق لا يهدني لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت
كذلك فإنَّ المجاهدة من الأمور التي تعين الإنسان على اكتساب الأخلاق الحسنة، وكذلك فإنَّنا نتوقَّع أنَّ التَّدرج سيكون موجوداً في عملية تغيير الأخلاق؛ لأنَّ من الصَّعب على الإنسان أن يقفز قفزةً واحدةً من أن يكون عنده هذا الخلق لا يكون موجوداً إلى تمامه واكتماله وكأنَّه صار متشعبَّاً فيه.
من الأمور المهمة في اكتساب الأخلاق الحسنة
وكذلك من الأمور المهمة -وهذه النُّقطة تعيننا في مسألة ترك المثاليات-: أنَّ بعض النَّاس يظنُّ أنَّه يمكنه بسهولة أن يكتسب الخلق مباشرة من أول يوم، والحقيقة أنَّ القضية تحتاج إلى مجاهدةٍ، والمجاهدة تبنى على المحاسبة، ويحتاج الإنسان إلى إخوانٍ يوجِّهونه ويبينون له، وإلَّا فكيف سيكتشف عيب نفسه إذا لم يكن حوله من يقول له: فيك خُلقٌ سيءٌ ويحتاج إلى تقويم؟ وهذا فائدةٌ أن يعيش الإنسان في وسطٍ طيِّبٍ ان يكون حوله من يرشده، وكذلك من الأمور المهمة في اكتساب الأخلاق الحسنة: أن يتطلَّع الإنسان إلى المعالي ويرفع نفسه إليها؛ لأنَّ الله يحبُّ معالي الأخلاق، إذاً نحن نرتفع إليها، ويكره سفسافها إذاً نحن نتنَّزه عنها، كذلك الإبدال: فإنَّ الإنسان إذا استقام فإنَّ البخل يتحوَّل إلى كرم، والدِّياثة تتحوَّل إلى غيرة، والكبر يتحوَّل إلى تواضع، والوقاحة تتحوَّل إلى حياء، وهذا مجرَّبٌ عند بعض الذين يهديهم الله ، فتتغيَّر أخلاقهم فعلاً، فالهداية منبع التَّغيير في الأخلاق.
ثم إنَّ قراءة سير الصَّالحين من الأنبياء والعلماء الذين هم القدوة الحسنة: خيرُ معينٍ على اكتساب الأخلاق الحسنة، فهذا الإمام أبو إسحاق الشِّيرازي -رحمه الله- يقول عنه الذَّهبي: "الشيخ الإمام القدوة المجتهد، شيخ الإسلام أبو إسحاق الشِّيرازي، قال السَّمعاني: "هو إمام الشَّافعية ومدرِّس النِّظامية وشيخ العصر، جاءته الدُّنيا صاغرة فأباها، واقتصر على خشونة العيش أيَّام حياته، كان زاهداً ورعاً متواضعاً ظريفاً كريماً جواداً، طلق الوجه، دائم البشر، مليح المحاورة"[سير أعلام النبلاء35/ 428-429]. وهذا الذي أكسبه محبَّة النَّاس: أنَّ هذا الرَّجل بهذه الأخلاق أقبل عليه الطُّلاب، ومن أمثلة ما حدث له مع بعضهم: قال خطيب الموصل: "حدثني أبي قال: توجَّهت من الموصل سنة أربعمائة وتسعة وخمسين إلى أبي إسحاق ، فلمَّا حضرت عنده رحَّب بي وقال: من أين أنت؟ فقلت: من الموصل، قال: مرحباً! أنت بلديي -أي: أنَّه هو وإيَّاه من بلدٍ واحدٍ- قلت: يا سيدنا! أنت من فيروز آباد فكيف تقول لي: أنت بلديي؟! فقال: أما جمعتنا سفينة نوح؟! فشاهدت من حسن أخلاقه ولطافته وزهده ما حُبِّب إليَّ لزومه، فصحبته إلى أن مات"[سير أعلام النبلاء35/435].
إذاً: مصاحبة أصحاب الأخلاق الحسنة يحمل الإنسان فعلاً على أن يتخلَّق بهذه الأخلاق الحسنة، وقراءة كتب التَّرغيب والتَّرهيب لبعض الأحاديث والآيات والنُّصُوص تُرغِّب في أخلاقٍس حسنةٍ، وبعضها تُرهِّب من أخلاقٍ سيئةٍ، مثلاً: من كفَّ غضبه ستر الله عورته[رواه الطبراني 13468، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 906]. فمثل هذه النُّصُوص تأمُّلها مهمٌّ جدَّاً في اكتساب الأخلاق الحسنة، ولاشكَّ أن مشوار التَّربية الذي يقطعه الإنسان في عمره في النَّتيجة النَّهائية هو الذي يصوغ أخلاقهم، والذي يجعلها تتحوَّل إلى الأخلاق الحسنة.
كانت هذه مقدمة عن الأخلاق، ونعريف الأخلاق وأهميتها. والحمد لله رب العالمين.