الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
مقدمة
موضوعنا في هذه الليلة موضوع خطير جداً يتعلق بمصير هذه الأمة، بل هو من أخطر الموضوعات التي تواجهها أمتنا في هذا الزمان إن لم يكن أخطرها على الإطلاق، هو أمر يتعلق بأعز ما نملك، ألا وهو الشريعة الإسلامية، هذه الشريعة التي أُخفيت عن العمل في الواقع، والتي تعطلت أحكام رب العالمين المنزلة فيها، في أكبر عملية تزوير وتدليس حصلت في التأريخ الإسلامي، فانسلخ كثير من المسلمين عن دين الإسلام بسبب تعطيل أحكام هذه الشريعة، وصار هناك تحاكم إلى الطاغوت لا إلى شريعة الله، وصارت السيادة للقانون والدستور وليس للشريعة والدين.
هذا هو الحال في عامة بلدان المسلمين ومجتمعاتهم، ولذلك فإن الكلام والتوضيح في هذه القضية من الأمور الأساسية التي ينبغي أن يتربى عليها المسلم، وأن يتفطّن لها، وأن يعرف أخطارها، وتطوراتها في الواقع، لمن السيادة؟ هل هي لشريعة الله؟ أم لقوانين الغاب والأحكام الوضعية؟ هذا أمر من الأهمية بمكان، إن قضية سيادة شريعة الإسلام من الأمور التي صار فيها مناقشة، مع أنها من المسلّمات، وإن انتقال الفاعلية والعمل من الشريعة إلى غيرها من الدساتير والقوانين والنظم لا شك أنه شرخ خطير جدا في توحيد الألوهية، بل توحيد الربوبية أيضاً.
ظلم الكنسية للمجتمعات الأوربية في العصر الحديث
إن الأمم الكافرة وبالذات العالم الغربي الذي كان يئن في العصر الحديث تحت وطأة جور الكنيسة وظلمها، والتنازع الذي حصل بين الكنيسة ورجال الإقطاع هو الذي جعل السلطة تنتقل منهم إلى قاعدة أوسع من الشعوب والناس بعد الثورة الفرنسية الحديثة، وهذا الصراع الذي خاضه رجال الكنيسة في هذه القضية لم يكن باسم الوحي المعصوم، ولم يلتزموا فيه أدنى مبادئ العدل، بل إنهم تمردوا وتمرذلوا إلى أسواء الدركات، ثم نسبوه إلى الوحي وإلى رب العالمين، وقد كان لهؤلاء تسلّط في وقت من الأوقات، ثم نازعهم في دول أوروبا الملوك ورجال الإقطاع، وسلبوا منهم حق التشريع، وربما كان في مرحلة من المراحل هناك مشاركة بين هؤلاء وهؤلاء في حق التشريع.
وبعد ذلك لما شعر بعض الناس بالظلم، أو كثير منهم أو كلهم، قاموا بثورة عارمة على الكنيسة والإقطاع، وانتقلت السلطة التشريعية من الكنيسة ورجال الملك والإقطاع إلى ما يسمى بالشعب أو الجمهور أو الأمة، أو البرلمان والمجالس الشعبية، ونحوها.
ولا فرق عندنا بين هذا وهذا، فالكل حكم جاهلية وطاغوت، ولكن الخطير جداً أن هذه الفكرة، فكرة نقل التشريع أو حق التشريع إلى الناس قد تسربت إلى بلاد العالم الإسلامي، وكانت هذه القضية من المناهج الغربية التي غزت مجتمعات المسلمين، وتقسمت السلطات تبعاً للحياة الغربية إلي ثلاثة أقسام: سلطة تشريعية، تسُنّ القوانين، وتحكم في الدماء والأموال والأعراض، بالقوانين التي تراها وتضعها، وفي كل شؤون الحياة، وسلطة تنفيذية تسهر على رعاية هذه القوانين، وسلطة قضائية تحل المنازعات بناء على هذه القوانين.
وهذه المسألة التي انتقلت وحصلت في بلدان المسلمين لا شك أنها سلْخ للحياة الإسلامية عن القرآن والسنة، وصار الدين الذي جاء به محمد ﷺغريباً، وصار الانقياد للشرع معدوماً، بل صار الرضى بحكم الجاهلية هو الواقع، وإذا أردنا أن نعرف في شريعتنا هل السيادة هي للشريعة الإسلامية، أو لغيرها فتعالوا معي نستعرض بعض هذه النقاط.
هذا الموضوع الذي نتكلم فيه هو موضوع من الموضوعات الفكرية العقدية الحساسة، ويحتاج إلى شيء من التركيز ولعل بعضكم يدّون أو يسجل بعض النقاط يكون له أدعى على التركيز وإحصاء جملة هذا الموضوع.
الحكم والسيادة في الإسلام لله وحده
عندنا -نحن المسلمين- لا حكم إلا لله، وليس هناك حكم لأحد غيره، لا لسيد على عبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل الحكم لله ، فله القضاء النافذ لخلقه، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [سورة القصص: 68].
والأدلة التي تدل على أن السيادة للشريعة فقط كثيرة جدا، فمن ذلك.
أولاً: حقيقة الإسلام، ما هو الإسلام؟ هو الاستسلام لله تعالى، الاستسلام لله وحده، فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك، ومن لم يستسلم لله فهو مستكبر عن عبادة ربه، وكلاهما في الحكم سواء، فهما كافران، إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [سورة آل عمران: 19] وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [سورة آل عمران: 85].
فإذن، الاستسلام لله يعني: أن نجعل شريعة الله هي السائدة، وأن لها السلطان.
عقيدة التوحيد متضمنة لإفراد الله بالحكم والتشريع المطلق
ثانياً: إن عقيدة التوحيد تتضمن انفراد الله بالحكم والتشريع المطلق، فلا ينازع الله في حق التشريع أحد، أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سورة الأعراف: 54].
فالله لا ينازعه أحد في أمره الشرعي، كما لا ينازعه أحد في أمره الكوني، وأنتم تعلمون أن الله له الأمر كله، قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران: 154]. وأمر الله منه ما يكون كونياً الذي يدبّر الله به شؤون المخلوقات، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس: 82]. هذا أمر كوني، وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [سورة القمر: 50]. لا راد لهذا لابد أن يحدث.
والأمر الثاني أو النوع الثاني من الأمر هو الأمر الشرعي، الأمر الشرعي الذي يفصل الله به الحلال والحرام، يفصّل الشريعة، والنهي والأمر وسائر التكاليف، قال الله : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [سورة السجدة: 24] ما هو أمرنا؟ التشريع الحلال والحرام، يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ [سورة النحل: 2].
فإذن، الذي يدعي لنفسه أمراً أو نهياً أو تشريعاً مع الله أو دون الله فهو منازع لله -سبحانه وتعالى- في الربوية والألوهية، ولا فرق بين أن يكون حق التشريع للرهبان، أو الأحبار، أو العظماء والوجهاء، أو أن ينزل إلى قاعدة عريضة من الشعب أو الجماهير، أو أن يحكم الشعب نفسه، أو أن يُعطى حق التشريع لممثلي الناس، ونحو ذلك من الأمور التي جاءت بها الدساتير الوضعية والملل الكفرية الحاضرة، هؤلاء الناس الذين ينادون اليوم بأن يجعل لله حكم القلوب والأرواح ، ولهم حكم الأجساد والعلاقات بين العباد، يقولون: الله له حكم القلوب والأرواح، وأما نحن فنقرر في القضايا المتعلقة بالعلاقات بين الناس وبأمور الجسد.
هؤلاء الذين يريدون أن يسلبوا الشريعة جل ما فيها من أحكام، وكما قلنا ونعيد: لا فرق بين أن يكون عند أحبار ورهبان وبين أن يكون عند شعوب يزعم ممثلوها أنهم ينوبون عنهم في التشريع وسن القوانين، قال الله تعالي مبيناً هذه الحقيقة بجلاء وهي أن التشريع حق له وحده: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [سورة يوسف: 40]. والله قد نعى عن الكفرة أن من شركهم العظيم: تشريع القوانين بواسطة الأشخاص، قال الله : اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ [سورة التوبة: 31]. وتفسير هذه الآية ما ورد في حديث عَدِي بن حاتم لما قال له ﷺ: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت: "بلى"، قال: فتلك عبادتهم [رواه الترمذي: 3095، والطبراني في الكبير: 218، وابن جرير في تفسيره: 11/ 417، واللفظ للطبراني، وحسّنه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه: 3095]. هذا معنى العبادة.
ومعنى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ [سورة التوبة: 31]. يعني: إذا حرّم الأحبار والرهبان شيئاً جرى الناس ورائهم في التحريم، ولو كان حلالاً عند الله، وإذا حلّل الأحبار والرهبان شيئاً جرى ورائهم الناس في هذا التحليل ولو كان حراماً عند الله، هذا شرك أكبر، هذه عبادة لهؤلاء مع الله، والله قال: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام: 121]. كيف قصة هذه الآية؟
قال نفر من اليهود يريدون التلبيس على المسلمين: كيف الذبيحة التي نقتلها نحن بسكيننا نأكل منها، والميتة التي قتلها الله لا نأكل منها، قتيلة الله أولى؟ هذه شبهة أرادوا طرحها، فقال الله للمسلمين: وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [سورة الأنعام: 121].
هم الذين قدموا هذه الفكرة الخبيثة إلى أوليائهم ليجادلوكم أنتم المسلمون، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [سورة الأنعام: 121]. فإذا أطعتموهم في هذه القضية وهذه الجزئية التي تخالف ما أنزل الله إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ، من يرد على هذه الشبهة؟
اليهود الذين قالوا: ما ذبحنا بسكيننا نأكل منه، وما قتله الله في الصحراء لا نأكله، قتيلة الله أولى؟
نقول: إن الذي أحلّ هذا وحرّم هذا هو الله ، فلا تقل قتيلة الله أولى، الله هو الذي حرّم هذا، وهو الذي حلل هذا، فالذي أحله نأكله والذي حرمه نمتثل فلا نأكله.
والأمر الثالث الذي يدل على سيادة الشريعة، هو أنها المطلقة الحاكمة لا أحد فوقها، وهي أصيلة، لا تُستمد من شيء آخر، ولها السلطان المطلق على الناس، وليس لأحد من الناس سلطان عليها.
إجماع الأمة على كفر من زعم أن حق التشريع لغير الله
من الأمور: إجماع الأمة على كفر من زعم في حق التشريع من دون الله، قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [سورة الشورى: 21]. فمن شرع في الدين شيئاً لم يأذن به الله فماذا يكون حكمه؟ أنه مشرك، من الآية، أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [سورة الشورى: 21].
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "والإنسان متى حلّل الحرام المُجْمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه، أو بدّل الشرع المجمع عليه، كان كافراً ومرتداً باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله على أحد القولين: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [مجموع الفتاوى: 3/268].
وكذلك قال -رحمه الله تعالى-: "وأما إذا حكم حكماً عاماً في دين المسلمين، فجعل الباطل أو الحق باطلاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ونهى عن ما أمر الله به ورسوله، وأمر بما نهى الله عنه ورسوله فهذا لونٌ آخر يحكم فيه رب العالمين، وإله المرسلين، مالك يوم الدين، الذي له الحمد في الاولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون"[مجموع الفتاوى: 35/388]، فإذاً التشريع حق لله والذي ينازع الله في التشريع يكون كافرا مشركاً.
رابعاً: وجوب الاحتكام إلى الشرع مطلقاً، واعتبار التحاكم إلى الشرع شرط من شروط الإيمان إذا لم يحصل انتفى الإيمان، قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النساء: 59]. فإذا لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولم يرجع إليهما يكون غير مؤمن بالله، ولا باليوم الآخر.
وقال الله : فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [سورة النساء: 65].
فأقسم الله بذاته الشريفة المقدسة، أقسم الله بذاته، فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة النساء: 65]. نفى الإيمان عن من لم يحكم الرسول ﷺ الموحى إليه من عند الله فيما شجر بينه وبين الناس، وكذلك الذي يجد حرجاً من حكم الله ورسوله فليس بمؤمن، والذي لا يسلّم لحكم الله ورسوله، فليس بمؤمن، فليست القضية والتحاكم إليه فقط، وإنما التسليم ألا يجد في نفسه حرجاً في حكم الله ورسوله، فإن وجد في نفسه حرجاً فهو منافق.
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "فمن ترك الشرع المحكم والمنزّل على محمد عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق -أو الياسا- الكتاب الذي وضعه جنكيز خان والمستقاة من الشرائع المختلفة من الإسلامية، واليهودية، والنصرانية، والبوذية، والمجوسية، وما وضعه هو وأضافه من عنده، قال ابن كثير -رحمه الله-: "فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمه على الشريعة، من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين"
[تفسير ابن كثير: 3/119].
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ومن اعتقد أنه يسوغ لأحد خروج عن شريعة الله وطاعته فهو كافر يجب قتله، فهو كافر يجب قتله، خارج من ملة الإسلام؛ لأنه ترك القبول والتسليم لشريعة رب العالمين" [مجموع الفتاوى: 3/422].
من سوّغ الخروج على الشرع فهو كافر بالإجماع
خامساً: اتفاق المسلمين على أن من سوّغ الخروج على الشرع فهو كافر بالإجماع، كما سبق أن ذكرنا قبل قليل، ولذلك قال العلماء: من رأى أن شرع الله لا يصلح للحكم في هذا الزمان فهو كافر، ومن رأى أن شرع الله دون القوانين الموجودة فهو كافر، ومن رأى أن شرع الله في الأفضلية مثل شرع غيره، يعني: كلاهما سواء فهو كافر، ومن رأى أن شرع الله أفضل لكن يجوز التحاكم إلى غيره فما حكمه؟ كافر، الذي يرى أن شرع الله أفضل لكن يجوز تأخذ من غيره، فهو كافر؛ لأن معنى ذلك أنه يجيز التحاكم إلى غير الله، والله جعل التحاكم إليه فقط، فمن قال: يجوز التحاكم إلى غيرك يا رب فقد كفر بالله العظيم، هذا من صميم توحيد الربوبية؛ أن حق التشريع لله له الحكم .
التحاكم لغير الله ينافي أصل الإيمان
سادساً: أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله نفاق لا يمكن أن يجتمع مع أصل الإيمان، ليس مع كمال الإيمان، مع أصل الإيمان، قال الله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا [سورة النساء: 61].
فإذن، من تحاكم إلى غير ما جاء به الرسول ﷺ، وهو حكم الطاغوت ورضي به، أو حكم به، أو تحاكم إليه فلا شك أن هذا ينافي أصل الإيمان، فلو وجدت هناك محكمة لا تحكم بالشريعة، رضي الإنسان أن يذهب إليها، أو قال الإنسان لخصمه: تعال معي نتحاكم إليها ورضي بذلك وهو عالم فإنه كافر بالله العظيم، منافق نفاق اعتقادي يخرج عن الملّة.
سابعاً: أن الطاعة المطلقة حق خالص لله لا لغيره، فأنت تأمل الآن هل في الشريعة أحد له طاعة مطلقة غير الله؟ لا يوجد، حتى خليفة المسلمين ليس له طاعة مطلقة، والدليل: لا طاعة لمخلوق في معصية الله [رواه أحمد: 20653، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 179]. وإذا قلت عن الخليفة بالذات، عن الإمام فتأمل قول الله : أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [سورة النساء: 59].
من هم الأمراء هم الذين يحكمون بشرع الله هؤلاء هم أولو الأمر، هل قال: وأطيعوا أولي الأمر منك؟ هل فيها أطيعوا ثالثة؟ لا، أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [سورة النساء: 59]. فلماذا لم يقل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم؟ لأنه يريد أن يبين أن طاعة أولي الأمر داخلة تحت طاعة الله ورسوله، فإذا أمر بغير ما أمر الله به فإنه لا يُطاع، فبين الله بنص الآية أن طاعة أولي الأمر مقيدة بطاعة الله ورسوله.
حتى الأبوين، هل للأبوين طاعة خالصة، طاعة مطلقة، هل للأبوين طاعة مطلقة؟ لا، ما لهم طاعة مطلقة، تأمل قول الله : وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا [سورة العنكبوت: 8]. فمعنى ذلك أن الأبوين مالهم طاعة مطلقة، فإذا أمرا بشيء مباح وجبت الطاعة، فإذا أمرا بمعصية لا تجوز الطاعة، حتى الزوج الذي لو كان رسول الله ﷺ آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمر المرأة أن تسجد لزوجها، ليس للزوج طاعة مطلقة، ليس للزوج طاعة مطلقة، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف [رواه البخاري: 7145، ومسلم: 1840].
فإذن، الوحيد الذي يطاع طاعة مطلقة هو الله .
ولذلك يقول شيخ الإسلام –رحمه الله-: "من أوجب تقليد إمام بعينه، استتيب فإن تاب وإلا قُتل"
[الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 5/556].
من أوجب تقليد إمام بعينه، قال هذا فلان الفلاني يطاع في كل شيء يقوله، كل كلامه طاعة فيه، هذا اعتقاده أنه يعتقد يجب طاعة هذا الإمام الفلاني أو العالم الفلاني في كل ما يقوله، قال شيخ الإسلام: استتيب فإن تاب وإلا قُتل، "فمن اعتقد أن عالم من العلماء يطاع طاعة مطلقة -لاحظ معي- طاعة مطلقة ما حكمه في الشريعة؟ يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فتفرد الله -سبحانه وتعالى- بالطاعة ليس له نظير، ولا شبيه ولا كفؤ ولا أحد يدانيه ولا ينازعه في هذه الخاصية، فالسيادة لشرع الله؛ لأن الطاعة المطلقة لله.
ثامناً: أن الإجماع عند العلماء المسلمين لا يكون إلا على دليل شرعي.
فلو قال قائل الآن: لو اجتمع ممثلو الشعب في البرلمان واتفقوا على شيء أجمع عليه الجمهور والناس عموماً في البلد لا يكون هذا مثل الإجماع، لماذا؟ لأن الإجماع عند المسلمين لا يكون إلا بناءً على سند شرعي، ودليل شرعي، ما في إجماع عند العلماء ليس على دليل ولا سند شرعي ، لا يوجد شيء أنه يجتمع علماء الأمة على شيء ليس له دليل، الإجماع لا بد أن يكون له سند شرعي، فإن قال قائل: فما فائدة الإجماع إذا كان هناك سند شرعي؟ فنقول الفائدة، لو واحد قال: ما هي فائدة الإجماع إذا كان هناك سند شرعي؟ فهم الدليل، القطع بالدلالة، القطع بدلالة الدليل؛ لأن الدليل قد يكون ظني الدلالة، فإذا أجمع العلماء على فهمه بهذه الكيفية قطع للشغب في الاستدلال، فإذن، الإجماع له فائدة من هذه الناحية، أنه في الأدلة ظنية الدلالة إذا أجمعوا على شيء معين كان حاسماً للنزاع، فإذاً علماء المسلمين لا ينشؤون الأحكام من الفراغ، الإجماع لا يعني إنشاء أحكام من العدم، وإنما الإجماع له مستند شرعي.
العقل ليس بمشرّع لوحده
تاسعاً: أجمع أهل العلم على أن العقل ليس بشارع لوحده، العقل البشري عقل الإنسان ليس مشرعاً، واتفقوا وأجمعوا على أن الحكم هو خطاب الله ، وأن العقل يستعمل لفهم الدليل الشرعي، ولفهم تطبيق الشرع، وليس العقل بشارع من عند نفسه، العقل لا يشرّع من عند نفسه، العقل يستخدم في فهم الأدلة، وتطبيق الأدلة، عقول العلماء، أهل الحل والعقل؛ لأن الله -عز وجل- قصر التشريع عليه وحده سبحانه: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [سورة: 40].
الشورى في غير المنصوص عليه في الكتاب والسنة
عاشراً: أن الصحابة قد أجمعوا على أن الشورى لا تكون في دائرة الأمور المنصوص عليها، فالأمور المنصوص عليها غير داخلة في الشورى، يعني: لا يجوز للإمام أو للخليفة أن يشاور في مسألة فيها نص شرعي، أبداً، وإنما يشاور في قضية ما تبين فيها الحكم، أو ليس فيها نص، قضية اجتهادية فيها شورى، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب: 36].
إذا قضى الله ورسوله شيئاً لا مجال للمشاورة عند ذلك، ولذلك قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: "كانت الأئمة بعد النبي ﷺ يستشيرون الأُمناء من أهل العلم بالأمور المباحة؛ ليأخذوا بأسهلها" -لاحظ المباحة- فإذا وضح الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي ﷺ، ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة" [صحيح البخاري: 9/113].
لو واحد قال: لماذا لم يستشر أبو بكر في قتال مانعي الزكاة؟ لماذا لم يجمع الصحابة ويستشيرهم؛ نقاتل أم لا نقاتل؟ لماذا؟ لأن الدليل قد وضح عنده في وجوب قتالهم، فقال عمر: كيف تقاتل من قال: لا إله إلا الله؟ فقال أو بكر: الزكاة حق المال، فمعناه أن من منع الزكاة، فقد منع حقاً من حقوق لا إله إلا الله، صار مرتداً، من بدّل دينه فاقتلوه [رواه البخاري: 3017]. فلم يلتفت أبو بكر لمشورة عمر، ولا لأحد من الصحابة؛ لأنه تبين له أن النص قد قام بالوجوب، فشرح الله صدور بقية الناس موافقة لأبي بكر .
ولذلك من خالف حكماً من أحكام الشريعة معصية لله فهو فاسق، لكن من اعتقد أن هذا الحكم لا يلزمه، ولو ما وقع فيه فهو مرتد كافر بالدين، يعني لو واحد زنى ومعتقد أن الزنا حرام، ماذا يكون حكمه؟ فاسق، لو واحد ما زنى أبداً، لكن اعتقد أن الزنا حلال، فماذا يكون حكمه؟ أسوأ من الأول بكثير جداً، كافر مرتد عن دين الله، الاعتقاد من أعمال القلب، مادام نقض حكم الله وعاند وقال: لا، ليس بحرام، فهذا إنسان يكفر ويخرج عن الملة.
لا اجتهاد مع وجود النص الشرعي الصحيح
الحادي عشر: أن الصحابة -رضوان الله عليهم- والأئمة وضحوا وبينوا على أنه لا اجتهاد مع النص، فهذا الشافعي يقول: "إذا ثبت عن رسول الله شيء فهو اللازم لجميع من عرفه، لا يقوّيه ولا يوهّنه شيء غيره، وقال: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد، وقال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" [سير أعلام النبلاء: 10/35].
وقال: "كل مسألة صحّ فيها الخبر عن رسول الله ﷺ عن أهل النقل بخلاف ما قلتُ فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي".
وقال مالك -رحمه الله-: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل مالم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه" [جامع بيان العلم وفضله: 1/775].
وقال أبو حنيفة: "إننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غداً".
وقال: "إذا قلتُ قولاً يخالف كتاب الله، وخبر الرسول ﷺ فاتركوا قولي، فهذه المقولات واضحة أن علماء الإسلام يقرون أنه يكفي هذا مع النص، فمعناه إذا جاء النص الشرعي فهو السائد، له السيادة المطلقة، لا يمكن لأحد أن يجتهد مع وجود النص.
كل مصلحة تتعارض مع الشريعة فهي متوهمة
والثاني عشر من الأدلة على سيادة الشريعة، وأنه لا يمكن الأخذ من غيرها ابداً: أن العلماء قرروا إلغاء كل المصالح التي تتعارض مع الشريعة، قرر العلماء إلغاء كل المصالح التي تتعارض مع الشريعة، وأنها مصالح موهومة ليست حقيقية، نأخذ مثالاً: واحد من الأغنياء، في عصر يوجد فيه رقاق كثر، فيه كثر من العبيد والأرقاء، هذا الغني جامع زوجته في نهار رمضان، ماذا عليه في الشريعة؟ الكفارة، ما هي؟ عتق رقبة، فإذا ما وجد؟ صيام شهرين متتابعين، فإذا لم يستطع، إطعام ستين مسكيناً، لو جاء واحد من الناس وقال: هذا الغني، لو قلت له أعتق رقبة، عنده رقاب كثيرة، فليعتق واحدة، ما يضره شيء، ما يشعر بخطئه ولا بذنبه، لو قلت له: أطعم ستين مسكيناً، مستعد يطعم ستمائة مسكين، ولا ينقص شيء من عنده إلا شيء بسيط، أحسن شيء إني أعطيه صيام شهرين، هذه مصلحة، هو يقولها: هذه مصلحة من أجل تأديبه وزجره وردعه وتحسيسه بأنه قد ارتكب مخالفة كبيرة، فما حكم من يفعل ذلك؟ الجواب: لا يجوز، حرام؛ لأنه خلاف التشريع، الله فرضها مرتبة هكذا، فكيف يجوز لواحد أن ينتقل من شيء إلى شيء دون حكم الله، كيف؟
فكون الواحد توهم، قال هذه فيها مصلحة، هذه المصلحة ملغاة في الشريعة ما لها ولا كلمة؛ لأن هذا تشريع ترتيب، هذا الترتيب منصوص عليه لا يجوز لك أن تخالف الترتيب، لو واحد قال مثلاً: المرأة الآن تشارك زوجها في أعباء الحياة، وتصرف هي أحياناً على البيت تكون موظفة مثل الرجل، لماذا لا نورّثها مثل الرجل ما دامت صارت تشاركه في أعباء الحياة، نعطيها مثل الرجل، فما رأيكم في هذه المصلحة؟ باطلة وهمية؛ لأن الشريعة بخلافها، والشريعة قضت بها قضاء عاماً لا يتغير ولا يتبدل، ولم تذكر الشريعة أن هناك حالات يستوي فيها الأخ والأخت في الميراث مثلاً، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11].
الثالث عشر: أن الأمة قد أجمعت على أن كل ما أحدث في خلاف الدين فهو مردود على صاحبه، وهذا واضح من حديث الرسول ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد [رواه مسلم: 1718].
إذا يتضح لنا أيها الإخوة في هذه النقاط أن السيادة لشريعة الله حق ولا بد، وأنه لا يمكن البحث أبداً في قضية هل هناك إمكانية لإدخال قانون أو تشريع مع هذه الشريعة، أو أن يطبّق دستوراً أو شيئاً وضعياً بدلاً من الشريعة، أو أن يشارك الشريعة، أو أن الشريعة تصبح للبركة، والحكم لغيرها.
مزايا الشريعة الإسلامية على النُظُم والقوانين الوضعية
نأتي الآن معكم إلى النقطة الثانية في هذا البحث وهي: المزايا التي للشريعة الإسلامية على النظم والقوانين الوضعية لإقناع الذين يكابرون بأن السيادة لشريعة الله، ما هي المزايا لهذه الشريعة؟.
الحقيقة أن هناك مزايا كثيرة للشريعة الإسلامية، هذه الشريعة لها مزايا لا توجد في بقية الشرائع والقوانين والدساتير، فاكتبوا وعدوا معي الآن مزايا هذه الشريعة التي يجب أن يكون لها السيادة في الواقع، ويجب أن يكون التحاكم إليها.
أولاً: أنها شريعة إلهية ربانية، يعني: الذي شرعها الله ، من الذين شرعوا القوانين والدساتير الأخرى؟ البشر، فإذن، أول فرق جوهري وأساسي جداً، ومزية مهمة للشريعة الإسلامية: أن الذي وضعها هو الله -سبحانه وتعالى- وبقية القوانين والنظم من الذي وضعها؟ البشر، قال الله : إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [سورة العنكبوت: 17]، أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [سورة الشورى: 21]. فالقانون الوضعي من خلْق الإنسان، والشريعة الإسلامية وحي من الله .
فإن قال قائل: الشريعة النصرانية والشريعة اليهودية أليست من عند الله؟ فلماذا لا يجوز الحكم بها، لماذا؟
أولا: لأنها منسوخة.
ثانياً: لأنها محرّفة ومبدّلة.
ثالثاً: إن الذين حكموا بها لم يأخذوها من كتبهم، وإنما ليس فقط التحريف والتبديل في الكتب بالتوراة والإنجيل، وإنما أضافوا لها أشياء من القانون الروماني، وغيره، ثم أنهم الذين تولوا الحكم بها الأحبار والرهبان من عند أنفسهم فصارت المسألة الآن في غاية الانحراف، فلذلك لا يجوز الحكم بالشريعة النصرانية ولا اليهودية، ولا يقال: أنها شريعة ربانية وإلهية في وضعها الحالي بعد التحريف والتبديل.
ثانياً: من مزايا الشريعة الإلهية، ومن الأشياء التي تقنع كل مكابر أنها هي التي تنبغي أن يكون لها السيادة، أنها شريعة معصومة، ليس فيها خطأ، ولا زيغ، ولا نسيان، لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [طه: 52]. الر* كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ هذه الشريعة مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1-2]. فمع كثرة النقلة ومؤامرات الكفرة، وطول العهد بقيت الشريعة هي ذاتها لم تتأثر عصمتها، ولم تتغير ولم تتبدل للباحث عن الحق والشريعة موجودة.
استقلال الشريعة الإسلامية بمصادرها
ثالثاً: من مزايا هذه الشريعة: استقلاليتها، استقلالية الشريعة، فالشريعة هل هي مستمدة من قوانين ونُظُم ودساتير أرضية؟ كلا، فهي متفردة بين النظم والشرائع لا يمكن أن تكون قد أُخذت من شيء آخر.
لو قال إنسان: إننا وجدنا في القانون الفرنسي والقانون السويسري والقانون الروماني أشياء تتفق مع الشريعة الإسلامية، فهل يعني هذا الاتفاق أن الشريعة مأخوذة منها؟ لا، فإذن مجرد وجود نقاط اتفاق بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية لا يجعل الشريعة الإسلامية أبداً لها استمدادات من غيرها، وإنما هم وصلوا إلى نقاط الاتفاق، إما بنظرة عادلة، يعني: لو أنهم مثلاً حرموا السرقة في دستور من الدساتير، لماذا؟ لأن عندهم نظرة نظرة عادلة، أتى الذي وضع الدستور أن المال العام المعصوم ما يصلح انتهاكه، وكونهم اتفقوا معنا في بعض الأحكام لا يعني أن شريعتنا مشتركة معهم، أو أنها أخذت منهم، بل إن شريعتنا مستقلة، كونهم وافقونا في بعض الأشياء لا يعني أنها مأخوذة منها أبداً.
قدسية الشريعة الإسلامية في نفوس متبعيها
وكذلك فالنقطة الرابعة: هذه الشريعة شريعة قدسية، قدسية هذه الشريعة في نفوس متبعيها، الآن -في القوانين الوضعية- لو أن الإنسان غاب عن الشرطة ماذا يفعل؟ ممكن يفعل كل شيء، أي شيء يفعل، ينتهك أي حرمة، لا يبالي، لكن الشريعة الإسلامية الذي يعتنقها فلو غاب القاضي، وغاب الشرطي، وغاب الناس كلهم عنه فهو يراقب الله ، خذوا هذه الحادثة؛ قُطعت الكهرباء في إحدى عواصم الغرب لمدة ساعات، انقطعت الكهرباء لمدة ساعات، في إحدى الليالي، فتحرك الجمهور المتمدّن المتحضّر الراقي الغربي، أصحاب التكنولوجيا، تحولوا إلى عصابات فنهبت الجمعيات والأسواق، وقُدرت الخسائر بالملايين في هذه الساعات البسيطة، أنه لا يوجد شرطة، لا يمكن ملاحقة اللصوص، ولا حفظ الأمن ولا متابعة أشياء، لكن لو المسلمون الذين يحكمون بالشريعة ويتبعونها لو قطعت الكهرباء عن البلد وغاب جميع أفراد الشرطة، هل يتحول هذا المجتمع الإسلامي المنضبط بالشريعة التي حكمت نفوس أفراده شريعة الله يتحولون إلى عصابات، ويسرقون بسرعة قبل أن ترجع الكهرباء؟ لا يفعلون ذلك.
الشريعة عندما تقول كلمتها كل المسلمين يرضخون، وينفذون، لما نزل تحريم الخمر على الصحابة ماذا فعلوا؟ أراقوا القِرَب، وشقوا هذه الجلود التي حفظت فيها الخمور أراقوها كلها وأسالوها، هل في شرطة وقفت على رؤوسهم ليفعلوا ذلك؟ أبداً، الطواعية المطلقة للتنفيذ، هذه من خصائص شريعتنا التي يلتزم الناس بها، لكن الشرائع الأخرى، والقوانين الأرضية مهما عكفوا، ومهما جعلوا فيها من مرغبات ومحببات ومشجعات للتطبيق لا يمكن أن تصمد أمام شهوتهم، ولذلك في عام 1920م، صدر في أمريكا قانون يحرّم الخمر، رأى العقلاء في تلك البلاد أن الخمر هذه ضارة بالشعب، فقالوا: لا بد أن نحرّم الخمر، فأُقيمت دعاية واسعة ضد الخمر في البلاد، وقامت رابطة محاربي الخمر بحملة مكثفة لبيان أضرار الخمر، واستُخدمت كل الوسائل الإعلامية، وأُلقيت الخطب، وأُلّفت الكتب والرسائل، وعرضت المسرحيات وأفلام السينما حتى قدر أن نشرات النشر والإذاعة بلغت تكاليفها منذ بدء الحركة إلى عام 1925م، 65 مليون دولار ، وبلغ عدد الصفحات التي سُوّدت ببيان مساوئ الخمر نحو 9 آلاف مليون صفحة، والإحصائيات التي أذاعها ديوان القضاء الأمريكي في الفترة الواقعة من عام 1920_ إلى 1933م، بينت أنه قُتل 200 شخص، وسُجن نصف مليون إنسان، وغُرّم من الجناة على مليون ونصف مليون، وصودر من الأملاك على ما يربو على 400 مليون، صدر قانون تحريم الخمر عندهم بناء على رغبة، هم عندهم الشعب ينتخب ممثلين، والممثلون يكونون في برلمانات أو مجالس، بناء على رغبة هؤلاء، الآن القانون -تحريم الخمر- عُرض على المجلس الذي انتخبه الشعب فالمجلس أقر تحريم الخمر، في عام 1920، إذن، تحريم الخمر بناء على وجه العموم، يعني بناء على رغبة الشعب، وهو صادر بإرادة الأمة كما يقول الكفار، كفارنا اليوم يقولون: التشريع يصدر بناء على إرادة الأمة، يقولون: إرادة الأمة مصدر التشريع، هذه من أكبر العبارات الطاغوتية الكفرية في القرن العشرين، أنهم يقولون: التشريع يصدر عن إرادة الأمة، هكذا يقولون، ونحن نقول: التشريع يصدر عن إرادة الله .
خُلِق الإنسان ظلوماً جهولا، لا يعرف مصلحته، إذن قانون تحريم الخمر عام 1920م، صدر بناء على رغبة ممثلي الناس والجمهور، ما هي النتيجة؟ بعد صدور القانون، بعد صدور قانون تحريم الخمر عدد المصانع قبل صدور قانون تحريم الخمر 400 مصنع، بعد صدور قانون تحريم الخمر عثروا على قريب من 80 ألف مصنع، ووقعوا على أكثر من 90 ألف فراغ لصنع الخمر، هذا الشيء الذي اكتشفوه غير المخفي، ويقدّر الذي اكتشفوه بعشر ما في البلاد، وزادت كمية الخمر زيادة كبيرة حتى أن الشعب قد أصبح يشرب مائتين مليون جالون من الخمر في كل عام، هذا أكثر مما كان يوجد قبل التحريم بكثير، حتى قال بعض الأطباء: هذا لا يسمى خمراً يسمى سُماً، من كثرة ما صارت من المصائب والأمراض عندهم، وهلك من الناس الوف مؤلفة بسبب الخمر.
حتى قال القضاة: لم يعهد في تأريخ بلادنا إقبال الصبية على احتساء الخمر مثل الآن، هذه قوانين البشر، الناس وضعوها وتمردوا عليها هم، وهذه كانت النتيجة، ففي عام 1933م ألغي قانون تحريم الخمر؛ لأنهم ما رأوا أي فائدة من الموضوع، لكن شريعة الله لها قدسية في نفوس أصحابها، إذا قال الله ورسوله أمراً انتهى ما عاد للمسلم أن يقول شيئاً، ينفذ حتى في غياب جميع أنواع المراقبة.
كمال الشريعة الإسلامية وتمامها
خامساً: من الفروق بين الشريعة الإسلامية والشرائع الوضعية، أو القوانين الوضعية: أن الشريعة الإسلامية نشأت في عهد الرسول ﷺ في ثلاثة وعشرين سنة، أنزل الله الدين خلالها، وأتمّ النعمة في ثلاثة وعشرين سنة، دين كامل مكمّل من جميع النواحي، القوانين الأرضية كيف تنشأ؟، يقولون لك: الناس في العصر الحجري فعلوا كذا واكتشفوا كذا، وفي عصر الغاب، وفي عصر الإقطاع تطورنا وتطورنا، وفي عصر الحضارة الحديثة والتكنولوجيا، واكتشفنا في الأخير وعملنا فهم لا زالوا يطورون ويطورون على مدى الآف السنين ليصلوا في النهاية إلى شيء، لكن لا نهاية؛ لأن عندهم دائماً يكتشفون النقائض.
شريعتنا من خلال الثلاثة والعشرين السنة أتمّ الله الدين، وأتمّ النعمة، وأكمل لنا هذا الإسلام، فصارت هذه الشريعة إلى قيام الساعة لا يمكن تغييرها ولا تبديلها ولا تطويرها، أما القوانين البشرية فهي دائماً في تغير وتطور مستمر كما يقولون.
الأسلوب البديع الذي صيغت به الشريعة الإسلامية
سادساً: ما هو الأسلوب الذي صيغت به شريعة الله؟
الله -عز وجل- عندما يخاطب عباده بالأحكام كيف يخاطبهم؟ نداءات، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 104]. مصحوبة بالأمر بالتقوى، اتقوا الله، مصحوبة بالتحذير من العقاب، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28]، مصحوبة بالنهي عن تعدي حدود الله، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة: 229]. مصحوبة بتعقيبات، أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 209]، غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 173].
فإذن، السياق الذي جاءت به الشريعة يخاطب القلب، ويخاطب العقل، يخاطب النفس البشرية، هناك حث، هناك جذب، لكن خذ أي دستور وضعي وأي قانون أرضي، اقرأ، هل تجد نداءات للنفس البشرية وحث وترغيب وترهيب، وأشياء تجذبك؟ أم أنها قوانين جافة، وكلمات صعبة، ومواد فارغة عن أي أسلوب من أساليب الترغيب والترهيب؟ إذا حدث كذا صار كذا، إذا صار كذا صار كذا، مواد جوفاء، مواد جامدة ليس فيها روح مطلقاً، بخلاف شريعة الله حتى الأسلوب الأدبي انظروا الفرق بين الأسلوب الأدبي والبلاغة التي صيغت بها هذه الشريعة، وبين الأسلوب الموجود عندهم في دساتيرهم.
سبحان الله، شريعتنا أكمل مستوى في الأدب والبيان، والبلاغة والفصاحة، لكن عندهم ممكن يكون بعض قصائد شعرائهم أبلغ وأحسن من مواد الدستور والقانون، حتى في الفصاحة والبلاغة، ومن هنا كان كثير من المسلمين صغاراً وكباراً، نساء ورجالاً يحفظون القرآن الكريم، وأحاديث الرسول ﷺ ويتعجب الإنسان عندما يرى إنساناً يبلغ ثمان أو تسع أو عشر سنين يحفظ القرآن كله، بسبب ماذا؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [سورة القمر: 17]. يسرنا القرآن، كم آية به؟ 6636، لكن من منهم يستطيع أن يحفظ القوانين، 1253 مادة؟ كيف تحفظ؟ لا يمكن حفظها، ولو حصل في نوادر، قليل جداً من الناس، وهذه شريعة الله يحفظها عندنا الأولاد ثمان أو تسع أو عشر سنين .
عالمية الشريعة الإسلامية
سابعاً : عالمية هذه الشريعة؛ الله جعل الناس شعوباً وقبائل ليتعارفوا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [سورة الحجرات: 13].
هذه الشريعة تصلح للأبيض والأسود، والأحمر والأصفر والعربي والأعجمي والشرقي والغربي والشمالي والجنوبي والقديم والحديث، والمتعلم والجاهل، والأمي والقارئ والكاتب، والذكر والأنثى صالحة لكل زمان ولكل مكان ولكل أحد، الشريعة هذه شريعة عالمية، يعني: لو طبقت قبل 1400 سنة والآن نفس الشيء، الشريعة هي لا تتغير، وأين تطبق، طبقت في جزيرة العرب، وفي بلاد الشام، وفي أرض الكنانة مصر، وفي المغرب، وفي المشرق، ودخل المسلمون الهند وطبّقوا الشريعة، وذهبوا إلى الشمال وذهبوا إلى بلاد السند وما وراء النهرين وطبقوا الشريعة، وفي الجنوب وفي اليمن طبقوا الشريعة، وفتحوا من أوروبا أجزاء، طبّقوا الشريعة، صلحت للتطبيق.
هل هناك أحد قال من بلاد أوروبا أو من بلاد ما وراء النهرين، أو من بلاد اليمن، أو من بلاد المغرب الشريعة ما صلحت لنا ما ناسبتنا ؟ ما أحد قال ذلك إلا زنديق أو ملحد، هذا إنسان له شأن آخر، صاحب هوى، لكن عقلاء الناس لا أحد منهم اعترض على الشريعة، وسعتهم عربهم وعجمهم في جميع أماكنهم في جميع العالم محكوم بالإسلام، في ذلك الوقت الذي كان محكوم بالإسلام، الشريعة واسعة، الآن هات قانون أرضي حكم العالم كله، بدون أن يتذمر منه العقلاء، ما في، الآن حتى الآن لا يوجد، عالمية الشريعة ميزة مهمة للشريعة الإسلامية، أما الدساتير والقوانين الوضعية فلا يمكن أن تكون عالمية التطبيق، لا يمكن، تتمرد عليها الشعوب، كلهم سيقولون: هذه لا تلائمنا ولا تصلح لنا، ولا تصلح لبلادنا، وليس فيها مراعاة لأي شيء يتعلق عندنا بالبيئة أو بالناس، أو بحياة الناس.
مع أنهم حاولوا في عام 1900، نادى المؤتمرون من الأجانب إلى استخلاص قانون عالمي مشترك، لكنهم لم يستطيعوا، ولو وضعوا شيئاً عالمياً فلا زال التمرد على هذا الشيء يحدث بين كل حين وآخر، ولا يزال النقد والطعن فيه من كل جانب، فإذا كانوا هم لا يستطيعون أن يضعوا لبلدانهم بكل بلد على حدة قانوناً ثابتاً لا يتغير ولا يتبدّل، فكيف يضعون قانوناً عالمياً لجميع الناس؟.
كمال الشريعة الإسلامية ونقصانها من العيوب
ثامناً: أن شريعتنا كاملة بمعنى أنها ليس فيها عيب، وأن هذه الشريعة متعددة المحاسن والمزايا، وأن هذه الشريعة كاملة الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [سورة المائدة: 3]. فتحل كل المشكلات، وتصلح لمواجهة أي معضلات، ولكن القوانين الأرضية كثيرة العيوب، دائماً يكتشفون فيها أخطاء ، دائماً يعدلون فيها، لا تصلح لاستيعاب كل مشكلات الحياة، كلما طلع شيء جديد استحدثوا له قانوناً جديداً، ما يمكن أن يستنبطوا من القانون الذي قبله، ولا من المواد المذكورة قبله، لا بد أن يخترعوا شيئاً جديداً.
أما شريعتنا فدائما تؤخذ الأحكام منها، إما بطريق النص، أو بطريق الاجتهاد والاستنباط، فوسّعت حياة الناس من كل أطرافها، وقال محمد أسد المتوفي من فترة قريبة جداً، يقول هذا الرجل النمساوي اليهودي الذي أسلم قال: لم يكن الذي جذبني إلى الإسلام تعليماً خاصا من التعاليم، بل ذلك البناء المجموع العجيب المتراص بما لا نستطيع له تفسيره من تلك التعاليم الأخلاقية، بالإضافة إلى منهاج الحياة العملية ولا أستطيع اليوم أن أقول أي النواحي استهوتني أكثر من غيرها، فإن الإسلام على ما يبدو لي بناء تام الصنعة، وكل أجزائه قد صيغت ليتمم بعضها بعضاً، ويشد بعضها بعضاً فليس هناك شيء لا حاجة إليه، وليس هناك نقص في شيء فنتج من ذلك ائتلاف متزن مرصوص، ولعل الشعور بأن جميع ما في الإسلام من تعاليم وفرائض قد وضعت مواضعها الذي كان له أوقى الأثر في نفسي.
الشريعة هذه بناء متكامل، متزن، منسجم مع بعضه البعض، ولاحظ أن هذه الشريعة تتناول علاقة الشخص بربه، وعلاقة الشخص بنفسه، وعلاقته بالأشخاص الآخرين، وعلاقة الحاكم بالشعب، وعلاقة الشعب بالحكام، لكن القوانين الوضعية لا تتناول شيئاً مهماً جداً، ما هو؟ علاقة الإنسان بربه، لاحظ القوانين الوضعية لا يوجد ولا بند فيه علاقة الإنسان بربه، كلها تعاملات مالية واجتماعية وتجارية، إلى آخره.. وسياسية واقتصادية، لكن ما تنظم أبداً علاقة الإنسان بربه، ما في قانون وضعي موجود الآن ينظم علاقة الإنسان بربه، لأن هذه القوانين ما صارت إلا في عهد الردة عن الدين الذي حصل من جراء ظلم الكنيسة، قالوا: ما عاد نبغى الدين ابداً، قالوا: نحن نحط قوانين من عندنا ما نبغى دور الكنيسة، ولا عصر الإقطاع، قالوا: أشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس، ما عاد نبغى لا إقطاعيين ولا قساوسة، حكم الشعب بالشعب، يحكم نفسه بنفسه، حرية، هؤلاء كيف ينظموا علاقة الإنسان بربه، لا يوجد، أما هذه الشريعة الكاملة المكملة من جميع النواحي ولله الحمد التي تنظم كل شيء.
تاسعاً: أن هذه الشريعة ثابتة مستمرة، ومستقرة بأن هذا الدين من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، القوانين الأرضية لا يكاد يجف مداد الحبر الذي كتبت به حتى يبدأ التفكير في تعديل جديد، وقد يعدل القانون الواحد عشر مرات بعشر سنوات متتالية، أحد قوانين التقاعد في أحد البلدان عدل ثمان مرات، بين عام 1941 _ إلى عام 1952م، التعديل التاسع ما حال بينهم وبينه إلا إلغاء مجلس النيابة وإلا كانوا ماشيين في التعديل التاسع، لكن ألغوا المجلس النيابي.
وكذلك فإن هذه الشريعة مرنة، هل يقال : الشريعة تتطور؟ هل شريعتنا تتطور؟ أبداً شريعتنا لا تتطور لأنها بلغت في التطور غايته، هي أصلاً نزلت كاملة تماماً فلا تحتاج إلى تطوير، لكن هذه الشريعة فيها من المرونة ما يستوعب كل المستجدات، فلو قلت: ما حكم الصلاة في الطائرة؟ يوجد له حكم مستنبط من الشريعة، أي شيء جديد الآن حدث من مخترعات ، يوجد له حكم في الشريعة، كيف يؤخذ؟ إذا ما وجد نصاً يؤخذ استنباطاً بالاجتهاد، لأن قواعد الشريعة تتسع فيها من الشريعة من الخصائص ما يؤهلها لاستيعاب كل الحوادث والمستجدات والحكم فيها.
ولاحظ أن قواعد الشريعة مثلا: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة: 185]. وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ[سورة البقرة: 179]. لا ضرر ولا ضرار [رواه أحمد: 2865، وابن ماجه: 2340، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 250]. ما أسكر كثير فقليله حرام[رواه أبو داود: 3681، والترمذي: 1865، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 5530]. إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام [رواه البخاري: 67، ومسلم: 1218].
إذ هذه القواعد الشريعة أي شيء يستجد، ربما قاعدة لا ضرر ولا ضرار هذه تحوي من المسائل المستجدة أشياء كثيرة جداً، فإذاً الشريعة لا تحتاج إلى تطوير ولله الحمد، وإنما العلماء يستنبطون من الأدلة كل ما يحتاج إليه الناس اليوم في حياتهم.
اليسر ورفع الحرج
الحادي عشر في الفروق بين شريعتنا والشرائع الأخرى: اليسر ورفع الحرج، يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [سورة البقرة: 185]. ولاحظ أن الشرائع الأخرى إما انفلات كامل، وإما فيها كثير من التشديد والتعسير، بخلاف شريعتنا، شريعتنا ليس فيها هذا الأمر على الإطلاق.
عدل الشريعة الإسلامية
كذلك شريعتنا تمتاز بالعدل،أما الذي يضعون قوانين البشرية يضعونها لمصلحتهم هم، إذا مسك حزب العمال وضعوا قوانين سنها على أيش؟ على هوى العمال، وإذا مسكها حزب المحافظين، سنوها على مصلحة الأغنياء والوجهاء إلى آخره ، ولا يزال الصراع بينهما، كلما دخلت أمة لعنت أختها، وهكذا هم في أمر مريج، أما شريعتنا عدل، عدل ما في أكبر واحد وأصغر واحد، تأمل بعض الشرائع، هذه القوانين الوضعية التي تجيز الربا والزنا واللواط وشرب الخمر، وإذا قتل شخص كثير ما يطلع براءة بفعل العقد النفسية، وقد يسجن ، وقد يعفى عنه في أقرب عيد، ومن جهة أخرى هناك شرائع فيها ظلم واضح، وجور وتعسّف، فعلى سبيل المثال: في شريعة السومريين المرأة إذا قالت لزوجها: أنت لست زوجي ألقيت في النار، وإذا قال الولد لأبيه: لست أبي فللأب أن يحلق رأسه يصبغه في الأغلال ثم يبيعه، والطبيب إذا أخطأ في العملية الجراحية قطعت يده، والرجل إذا تسبب في إجهاض امرأة، حكم على من بالقتل ؟ على ابنته لأنه ليس بامرأة، المرأة تقتل بالمرأة عندهم، إذا ما يمكن قتل الرجل بالمرأة، قالوا: نقتل بنته.
وفي شريعة جنكيز خان وهي الياسق أو الياس، فيها من تعمد الكذب قتل، ومن تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء وهو واقف قتل، ومن انغمس في الماء الراكد قتل، ومن أطعم أسيراً أو كساه بغير إذن أهله قتل، فإذن الشرائع الأرضية تميل إلى جانب الحاكم ضد مصالح المحكوم، أو تعطي الرجال وتظلم النساء، أو تعطي النساء وتظلم الرجال، وهكذا، أو تعطي أكثر من الجريمة، توقع عقوبة أكثر من الجريمة، أو توقع عقوبة أقل من الجريمة، أما نحن وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ [سورة الأنعام: 115]. كلمة ربك الكلمة التشريعية ، كلمة الشريعة، الكلمة القومية والشرعية، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [سورة الأنعام: 115]. سبحانه وتعالى.
شمولية الإسلام ونقص القوانين الوضعية
وكذلك فإن هذه الشريعة لا تكفيها حفظ مصالح العباد، سواء كانت هذه المصالح مصلحة الدين، أو مصلحة النفس، أو مصلحة العقل، أو مصلحة المال، أو مصلحة النسب، فيها أمور ضرورية وحاجيات وتحسينية، كل شيء من أجل الناس، أما أن هذه الشريعة توسط شريعة وسط، فلا تجور ولا تتطرف، أما النظم الرأس مالية فهم يعبدون المال، ولو اجحف جعل طبقية المجتمع غير مهم، تتكون عندهم 80% من ثروات البلد بيد 20% من الناس، بالربا وغيره تتكون الأموال في النهاية في أيدي أشخاص معينين، عدد من الناس محدود.
في الجانب المقابل خرجت النظرية الاشتراكية التي سقطت والتي ألغت الملكية الفردية وجعلت للمزارع نوعاً من الزراعة بنوع معين من البذور، بنوع من الآلات يعني: نوع معين من السماد، بنوع معين من القروض تأخذها منهم بسعر معين، وتبيعها هي كما تشاء، فسقطت هذه النظرية، وستسقط الأخرى عما قريب بإذن الله، من أمثلة التوسط في شريعتنا، بالنسبة للشرائع المحرفة انظروا، اليهود مثلاً لا يذبح لهم، ذبائحهم كيف؟ اليهود لا بد يكون السكين في مرة واحدة، وإذا لم تكن ففي المرة الثانية أو الثالثة، لا بد يذبح لهم، رئيس دين لا بد واحد من رهبانهم، أو من أحبارهم إذا صح أن عندهم أحبار، فالآن لا بد تكون السكين حادة تمضي مرة واحدة وإلا عندهم لا يجوز أكلها.
وتطرف النصارى في المقابل، فعندهم يجوز أكل الدجاجة إذا مرصوا رقبتها ولو ما قطرت قطرة دم واحدة، وعندنا ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكله، فانظر إلى شريعتنا بين الشرائع ما أعظمها وأجلها، إذا هذه الشريعة هي بحق الشريعة التي ينبغي أن تسود، والشريعة هذه من مزاياها العظيمة أيضاً مصادرها، فما هي مصادر الشريعة عندنا؟ القرآن والسنة، وما استنبطه العلماء منهما، علماء المسلمين الأفذاذ، الصحابة، التابعون، الذي بعدهم الأئمة الأربعة، وغيرهم ومن بعدهم من علماء المسلمين، الشافعي أحمد مالك أبو حنيفة سفيان الثوري الأوزاعي ابن تيمية إلى آخره..
مصادر القوانين الوضعية
أما القوانين الوضعية ما هي مصادرها؟ يقولون: الدستور، المذكرات التحضيرية، شرح القوانين، أعمال المحاكم، اما الرجال الذين يحتكمون إليهم جاك ماكريان، روسو، عبد المنعم البدراوي ، عبد الجليل الشرقاوي، محمود بديع حسني وغيرهم من الطواغيت الذين أسماؤهم اعجمية وعربية، فإذاً شريعتنا بمسار والقوانين الوضعية والنظم الأخرى في مسار آخر، مختلف تماماً.
وهذه الشريعة الكاملة التامة، ينبغي أن تسود هي، لا يسود غيرها، وينبغي أن يتحاكم إليها هي ولا يتحاكم إلى غيرها، ومن العجيب المدهش أن يكون هناك في كثير من بلدان المسلمين تحكيم تام للشرائع الوضعية ، ولو حكم القاضي عندهم بشريعة الله يعاقب، هذه قضية من القضايا واقعية، جيء إلى قاضي مصر هذه في عام 1982م قريبة، مشهورة بقضية المستشار غراب، هو قاضي مسلم جاءته حادثة فيها رجل شرب المسكر يسير في الطريق العام قبض عليه، تجرأ الرجل وحكم عليه بالجلد ثمانين جلدة، أيش الذي حصل؟ استنكارات ، طعن في الحكم، اللجوء إلى المصادر، الأشياء العليا، كيف حصل كذا؟ ثم يأتي الجواب بنقض حكمه والإزراء عليه، لماذا؟
قالوا: أولاً: أنت حنثت بيمين القضاء، لما أنت نصبناك قاضياً حلفناك، أيش حلفت؟ أقسم بالله العظيم أن أحكم بالدستور، فلما حكمت بالشريعة حنثت.
ثانياً: أن حكمك مخالف للقانون، لأن القانون ينص على أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على القانون، وأنت حضرتك حكمت بحكم عقوبة مش موجودة في القانون إذاً حكمك هذا باطل نقضناه.
ثالثا: قالوا: إن القانون يحكم على الذي يمشي في الشارع سكران مثلاً بالسجن بالأماكن العامة، ستة أشهر، قالوا: هذا أحفظ للمجتمع من مجرد جلده ثمانين جلدة، فقالوا : دستورنا أحزم، وأقوى، هم ليس عندهم أنه يسجن سكران ستة أشهر ، قالوا: لكن شوف الحكم عندنا أقسى، هذا قول تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، أن دعوا لقوانينهم الأرضية الفضل والحزم والتقدم، ونسبوا شريعتنا إلى التأخر والنقص ، وأنه يجب تعطيلها ولا يجوز الحكم بها، علماً أن الشخص رد عليهم ورفع ولكن هيهات فرجع اعتراضه بأنه مقبول لفظاً مرفوض ضمناً.
وكذلك فإنك إذا نظرت في القوانين المادية أو المدنية الوضعية لتجدن أمراً عجباً ، وهذا أمر يحكم به المسلمون، مسلمون في بلدانهم، القانون مكون من 1253 مادة مثلاً، القانون الفرنسي مأخوذ منه 121 مادة في 31 فقرة، القانون البولوني مأخوذ منه 54 مادة في 28 فقرة، القانون الألماني مأخوذ 30 مادة في 7 فقرات، القانون البرازيلي 12 مادة وفقرة واحدة، القانون البرتغالي 19 مادة، والقانون الصيني 8 مواد وفقرتين، والأسباني 7 مواد وفقرة، والأرجنتيني 3 مواد، والسويد 35 مادة و27 فقرة، أما الشريعة الإسلامية فكان لها فقط من المواد من 112 إلى 123، يعني كم؟ 11 مادة فيما يتعلق بالأهلية، موضوع الأهلية فقط، هذا الذي يحصل، هل رد القضية إلى الله ورسوله؟ كلا والله، هذا إذا ما فعلوه، فلا يجد القاضي من 1235 مادة المكون منها القانون شيئاً من حكم الله ورسوله إلا 11 مادة.
ثم يقولون أيضاً في القانون : يحكم القاضي بالقانون، فإن لم يجد فبالعرف، فإن لم يجد فبسوابق قضائية، فإن لم يجد فبالشريعة الإسلامية، هذا نصه، منصوص عليه، ومن هنا تعلم أيضاً فضل المحاكم الشرعية التي تحكم في شريعة الله في جميع الأمور، وأن سلب المحاكم الشرعية لأي شيء من خصائصها هو كفر بالله العظيم، وردّة عن دين الله، وأن القبول بالتحاكم إلى شيء غير الله ورسوله ردة، في بعض البلدان تدخل محكمة يقول لك: القاضي الشرعي ، القاضي القانوني، المستشار الشرعي، المستشار القانوني، وفي ناس يذهبون إلى اليسار وناس يذهبون إلى اليمين.
إذا اتفقوا يذهبون للشريعة يذهبون، إذا اتفقوا يذهبون للقانون يذهبون، إذا اختلفوا يذهبون للقانون يفصل، القانون يفصل، فأي ردة أعظم بدين الله من هذه الردة؟ وكذلك دعك من الذين يقولون القانون الفرنسي موجود في المذاهب الأربعة يتبجحون، أرأيت لو أن دولة كافرة اقتبست بعض النظم الإسلامية، أو القوانين الشرعية مثلاً وحكمتها في تلك البلد تصبح دولة إسلامية، وهم مشركون بالله العظيم، لا؟ أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فكيف إذا كانوا يؤمنون بأكثر مما هو في خارج الكتاب ويؤمنون بشيء قليل مما في الكتاب.
وهذه القضية الخطيرة جداً والحساسة يترتب عليها أشياء، فمنها انتكاف عقد الإمامة، فلا يصلح إمام أبداً ينفك ، يبطل العقد، فلا يصبح إمام ولا خليفة إذا حكم بغير شرع الله، ولا له بيعة ولا له طاعة ولا له أي التزام بالالتزامات، لأن الإمامة عقد مثل عقد البيع والشراء ، إذا اختل شيء من أركانه فيما يتعلق بأحد الطرفين أو بالمحتوى بالمضمون فإنه يبطل، فإذا حكم عليهم بغير شريعة الله فليس له في عنقهم أي شيء.
وكذلك فإذا طبق غير شرع الله تعالى فإن ذلك يعني في ضمن ما يعني بالإضافة إلى سقوط واجب الطاعة والنصرة، سقوط الشرعية عن كل هذه الولايات من النظم والقرارات، وكذلك ينبني عليها أيضاً أن هذا لا يمثل جماعة المسلمين، وكذلك ينبني عليها أيضاً شرعية الجهاد لإعادة حكم الله سبحانه وتعالى، وكونه لا يستطاع الجهاد في وقت من الأوقات أو زمن من الأزمان لقلة ذات اليد وضعف الإمكانيات فهذا لا يعني بأنه قد سقط أو حذف ، بل يعني: أنه لا بد من الاستعداد من بعد مرحلة شبك الأيدي إلى حين الشروع في إقامة حكم الله سبحانه وتعالى.
ودعونا في الختام أن نلقي نظرة على قضية كان يعني أن نبدأ بها حتى ننهي موضوعنا الأصلي، نقول: إن قضية هذه القوانين والشرائع، قضية قديمة، البشر من زمان وهم يشرعون لأنفسهم، منذ قديم الزمان إلى أن جاءت شريعة الله ، وهناك بعض الأشياء في شرائع الله سبحانه وتعالى ينبغي أن تفهم، فمثلاً: الاختلاف بين شرائع الأنبياء، الأصل التوحيد عام في جميع الشرائع، لكن كونه يوجد في شريعة من الشرائع أشياء ليست موجودة في الشريعة الأخرى فهذه لحكم اقتضت، فهذا لأمر اقتضته حكم العليم الخبير سبحانه وتعالى، فقد يحل الله أمرا في شريعة، ويحرمه في شريعة أخرى له الخلق والأمر يحكم ما يشاء.
لا معقب لحكمه، فمثلاً: الصيام أو الصلاة كانت في شرائع من قبلنا غير شريعتنا لا يضر، شرع الله لهم شيئاً وشرع لنا شيئاً آخر، مثلاً: كان في شريعة آدم الأخ يتزوج أخته صح أو لا؟ يتزوج هذا من بطن ذكر، وأنثى من بطن آخر، مما يولد له بعد ذلك مثلاً، هذا في شريعتنا محرم، أو نسخ بعد ذلك، طيب كان حلالاً في شريعة آدم، لماذا؟ حكمة اقتضتها، شيء اقتضته حكمة العليم الخبير، كيف يتناسب البشر؟
وكذلك كان في بعض الشرائع الجمع بين أختين سائغاً، في شريعتنا لا يجوز، في بعض شرائع بني إسرائيل حرم الله عليهم أشياء بسبب تعنتهم، من الشحوم، وحرم عليهم الله عز وجل كل ذي ظفر وهي البهائم والطير، إذا لم تكن مشقوقة الأصابع كالإبل والأنعام والوز، وحرم عليهم شحوم البقر والغنم إلا الشحم الذي على ظهور البطن والغنم، أو ما حملت الحوايا، وهي ما تحويه البطن، أو ما اختلط بعظم، هذا صار حلالاً لنا، في شريعتنا صار حلالاً والحمد لله لهذه الأمة.
فإذا كونه يوجد في بعض الشرائع أشياء محرمة، وفي شرائع أخرى أشياء مباحة بالعكس فهذا لحكمة أرادها الله ، لشيء أراده عز وجل، ومن الأمور كذلك التي نذكرها في قضية تأريخ هذه القوانين، كما ذكرنا لكم أن البشر قد شرعوا لأنفسهم أشياء كثيرة، فمن ضمن ذلك قانون حمورابي وقانون مانوا، وقانون أثينا والقانون الروماني وغير ذلك من قوانين الجاهلية، بالإضافة إلى قانون العرب، العرب ما لهم قانون مكتوب، لكن عندهم أعراف ، أعراف معينة، مثل هذه بمثابة القوانين، فمثلاً: يجيزون نسبة الولد إلى غير أبيه، وكان المتوفى عنها زوجها تعتد كم؟ سنة كاملة، وكان لأكبر ابناء الرجل أن يتزوج امرأة أبيه إذا مات الأب، وغير ذلك من القوانين الظالمة والجائرة، وكان عندهم وأد البنات خشية العار، وكذلك صارت الأمور واخترع البشر لأنفسهم ولا يزالون يخترعون، واخترعوا إلى أن جاء قانون يعتزوا به جداً ثم نبذوه وهو قانون نابليون الذي افتخروا به ووضعه مطلع القرن التاسع عشر، ثم تبين لهم فيه ثغرات كثيرة جداً وأنه لا يصلح للتطبيق وأن فيه مواد خطأ، وكل ذلك تحاكم بغير ما أنزل الله، وهو استعباد، سواء جاء عن طريق الكهنة، أو جاء عن طريق الأحبار والرهبان المحرفين، أو جاء عن طريق الملوك الظلمة، والإقطاعيين، أو جاء عن طريق ما أسموه اليوم حكم الشعب أو الجمهور أو البرلمانات والدساتير الوضعية ورجال القانون، ونحو ذلك.
ولا شك أن هذه الأشياء مملوءة بالظلم قديماً وحديثاً، تصور أن الكهنة في الهند قسموا المجتمع إلى أربعة أقسام، طبقة البراهمة الكهنة، هذه أعظم طبقة، وبعدهم طبقة الأمراء والمحاربون، والتي تليها طبقة التجار، والتي تليها طبقة العمال ومع عدا ذلك فهم منبوذون، لا قيمة لهم في المجتمع أصلاً، هؤلاء الكهنة أباحوا تعدد الزوجات، قالوا: الطبقة الأولى الكهنة لهم أربع زوجات، يجوز لهم، طبقة الأمراء والمحاربين ثلاثة، طبقة التجار اثنيتن، وطبقة العمال واحدة، فأحلوا لأنفسهم ما حرموا على غيرهم وهكذا، ثم بعد ذلك توالت هذه الانحرافات، وكان أيضاً من ضمن القوانين التي هي قانون الياسق، أو القانون الذي وضعه جنكيز خان قانون التتار وقد ذكرناه وتكلمنا عنه، إلا أن القضية التاريخية التي ينبغي أن نلفت النظر إليها ابتداء دخول القوانين الوضعية في حياة الأمة الإسلامية وكان ذلك في أواخر عهد الدولة العثمانية، ففي عام 1840 م صدر أول تقنين مخالف لما أنزل الله في أواخر عهد الدولة العثمانية تقليداً للكفار، وبعد ذلك ألغي قانون الرجم، وألغيت عقوبة قطع اليد في السرقة، وصدر قانون التجارة وقانون الأراضي الذي فيه جواز مساواة الزوج بالزوجة، والذكور والإناث، وصدرت قوانين فيها إباحة الربا، وتدرجت الأمور بعد ذلك، وفي نهاية الدولة العثمانية خدع الأتراك بالحضارة الغربية، وألغوا الخلافة وأخذوا ما تبقى، ألغوا ما تبقى من الأحكام الإسلامية الذي كان ممثلاً في مجلة الأحكام العدلية ، وطبقوا الأحكام الغربية بحذافيرها.
وكان لمصر من بلدان العلم الإسلامي نصيب الأسد في غزو أعداء الله؛ لأنها تعتبر القلب النابض، وتعتبر الثقل في المجتمع الإسلامي بعد الخلافة العثمانية، فاتجهت أنظار أعداء الله إليها، وحاول نابليون لما احتل مصر عام 1798م أن جعل لهم قوانين، ومحكمة قضايا فيها 12 تاجراً نصفهم من المسلمين ونصفهم من عباد الصليب، وفي عهد محمد علي أيضاً اتسع الخرق وازداد الحكم بغير ما أنزل الله حتى صارت هذه القوانين مهيمنة هيمنة كبيرة جداً، ويكاد أن تحمل شخصيات وزراً كبيراً جداً في قضية التحاكم بغير ما أنزل الله، فمن هذه الشخصيات عبد الرزاق أحمد السنهوري، هذه الشخصية المشؤومة التي كان لها من المشاركة مع بعض الصليبيين نصيب الأسد لوضع القوانين في البلاد الإسلامية التي نسخت من بعضها البعض، هذا الشخص وغيره من الأشخاص الذين كان لهم الوزر ، وزر عظيم جداً في وصول الحكم بغير ما أنزل الله إلى بلاد المسلمين، هؤلاء هم الذين جعلوا الاتصال الجنسي عند الرضى لا حرج فيه، وأنه ليس هناك حد رجم على الزانية ولو كانت متزوجة، وأن الرجل إذا أسقط الدعوى بعد وصولها للقاضي تسقط الدعوى إلى غير ذلك من الأشياء التي فيها إباحة ما أنزل الله .
وأخذوا من القانون الفرنسي وغير القانون الفرنسي، الذي يقول: أن الزوج المحصن لا يعاقب إلا إذا زنى أكثر من مرة في منزلة الزوجية بامرأة أعدها لذلك، ويرتبون عليه إذا حصل يعني عقوبات تافهة مثل: غرامات مالية تتراوح بين مائة فرنك وألف فرنك حسب ما يحكم به القاضي، وتجيز هذه القوانين حرفة البغاء، ممارسة البغاء كحرفة، وتجيز كثيراً جداً من الأمور التي حرفتها شريعة الله ، عموماً أنا كنت أريد أن أنقل لكم نقاشاً من ما دار بين بعض المشايخ وبين عبد الرزاق السنهوري فاسمعوا معي.
سأل أحد المشايخ عبد الرزاق السنهوري لما وضع القانون هو ومن معه من النصارى الذين عاونوه في اللجنة، قال: هل رجعتم إلى الشريعة الإسلامية؟ الجواب: أوكد لكم، قال هذا السنهوري: أؤكد لك أننا ما تركنا حكماً صالحاً في الشريعة الإسلامية يمكن أن يوضع في هذا القانون إلا وضعناه، وقال في مقولة أخرى: لقد أخذنا كل ما يمكن أخذه من الشريعة الإسلامية عن الشريعة الإسلامية مع مراعاة الصحيحة في التقنين الحديث، تصور، يقول: الذي يصلح الذي وجدناه يعني يقال: أيضاً أن الشريعة هذه تراكم عليها التراب والدهون والعطور، وأن الفقه الإسلامي صار جامداً ما أحد طور فيه، ولذلك صار ما يحصل الآن اضطررنا نأخذ من القوانين الأخرى، أعيدوه وأحيوه أنتم حتى نستعين به في المستقبل، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة: 85].
ختاماً: هذه مراجع هذا الدرس، أنصح بالرجوع إلى الكتب التالية:
نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية، الدكتور: صلاح الصاوي، صلاح الصاوي من الكتاب الفضلاء الذين لهم كتابات بدأت تظهر أوصي بقراءة كتب هذا الرجل وأبحاثه.
وكتاب قصص الشريعة الإسلامية للدكتور عمر الأشقر.
وكتاب الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية لعمر الأشقر أيضاً.
وكتاب تحكيم القوانين أو رسالة تحكيم القوانين للشيخ محمد إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله تعالى-.
هذا ما تيسر ذكره في هذه المحاضرة.
وأقول أيها الإخوة: إن الموضوع حساس، ومهم وجداً وخطير فلا بد أن ننتبه إليه وأن لا نكون مغفلين، ونحن أبناء الإسلام.
ونسأل الله أن يعيد للإسلام مجده، ودولته، وأن يعيد الحكم بشريعة الله بأرجاء المعمورة إنه سميع قريب.
-
محمد
جزاكم الله خيرا ونفع الله بعلمكم.
-
نواف الشمري
الله " يجزاكم الف خير ويجعلها في موازين حسناتكم ورحم الله والديكم