الخميس 20 جمادى الأولى 1446 هـ :: 21 نوفمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

39- قصة جبريل وعيسى ومريم


عناصر المادة
نص القصة
المعنى الإجمالي للقصة
اصطفاء الله لمريم عليها السلام
نزول الملائكة إلى بعض البشر
درس مهم للنساء

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:

نص القصة

00:00:14

فإن من قصص القرآن الحافلة بالعبر والعظات تتجلى فيها قدرة الله تعالى، وحكاية نفر كرام من عباد الله الصالحين من الذكور والإناث، ومن الملائكة الذين لا يوصفون بالذكورة والأنوثة، إنها قصة جبريل وعيسى ومريم عليهم السلام وكذلك زكريا جمع الله ذكرهم في قصة عيسى في سورة آل عمران، وفي سورة مريم، وفي غيرها قال الله وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ۝ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ۝ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ۝ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ۝ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 42-47].

المعنى الإجمالي للقصة

00:02:02

إذًا كلمت الملائكة مريم، وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ [آل عمران: 42]، هم الجنس ليس كل الملائكة كلموها، بل واحد منهم، وهو في الغالب جبريل ، يَا مَرْيَمُ نداؤها باسمها العلم، وفي ذلك نوع من التكريم، وهذا إخبار بما خاطبت الملائكة مريم عليها السلام لما أمرهم الله بذلك، فماذا قالوا لها؟ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 42-47].
هذا تكريم، وهذا تحفيز، وهذا تشجيع، والإنسان الصالح يحب أن يسمع الثناء الحسن، الذي يعينه ويشجعه على إكمال الطريق، ويحس بالمسؤولية أن الله اصطفاه، فأنت مثلاً تحس أن الله تفضل عليك أنه لم يجعلك جمادًا، وتحس أن الله لم يجعلك مجرد نبات، وإنما جعل لك روحًا، ولست فقط من ذوات الأرواح، وإنما جعلك الله ناطقًا، إن العجماوات من البهائم لها أرواح لكنها لا فهم، ولا كلام، ثم إنك تشعر باصطفاء الله لك أن الله لم يجعلك إنسانًا كافرًا، بل جعلك إنسانًا مسلمًا، ثم إنك تشعر بنعمة الله أنه لم يجعلك من أهل البدعة، بل جعلك من أهل السنة، وإنك تشعر بالاصطفاء أن الله لم يجعلك من أهل الفجور والكبائر، فإن من أهل السنة من هو صاحب كبيرة، ومن الفجار، ثم إذا كنت من أهل التقوى، والدين فهذا اصطفاء، وإذا كنت صاحب علم فهذا اصطفاء آخر، وإذا كنت داعية بالإضافة إلى طلب العلم فهذا اصطفاء آخر، وإذا كنت تربي الناس على الدين وتقودهم، إمام يقتدى بك فأنت تعيش اصطفاء آخر، وهكذا إذًا نعم الله تعالى بالاصطفاء عظيمة جداً.
فعندما يقول الله تعالى: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ [آل عمران: 42] كلمة اصْطَفَاكِ هذه كلمة كبيرة جداً، إنها تمييز واختيار؛ لأن عندها مقومات الاصطفاء، عندها مزايا، عابدة، زاهدة، شريفة، طاهرة، عفيفة، ولذلك أعيد ذكر الاصطفاء مرة أخرى، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ [آل عمران: 42]، معناه أن الميزات في هذه المرأة ميزات عالية جداً، ولذلك فإن اصطفائها أؤكد هنا وأعيد.

وهذا الاصطفاء من عدة وجوه:
أولا: ًأنه تقبلها بقبول حسن منذ أن دعت أمها، وهي في بطنها، إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران: 35]، كانت تتمنى أن يخرج رجلاً ذكرًا يكون في بيت المقدس، وكان من العبادات عند بني إسرائيل أن الواحد يجعل ولده وقف على بيت المقدس، وقف على المسجد يخدم فيه الطائعين والعابدين، ويعد المسجد للعبادة، ويعين المعتكفين، فتمنت أن يكون في بطنها مولود ذكراً؛ لتجعله وقفًا على بيت المقدس، إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عمران: 35].
لكن شاء الله أن تكون أنثى، ثم أنبتها نباتًا حسنًا، ثم إن الله اختار أن تكون عند نبي لأن مريم نشأت وليس أبوها حيًا يقوم بها ويربيها، ولذلك فإن الله اختارها أن تكون عند نبي من الأنبياء لتتربى في بيت نبوة، وهو زكريا .

اصطفاء الله لمريم عليها السلام

00:06:36

والعلماء لما ذكروا موضوع الاصطفاء قالوا: إن الاصطفاء الأول يرجع إلى الصفات الحميدة الموجودة فيها، والاصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على نساء العالمين، إما على عالمي زمانها أو مطلقًا، وإنما كانت مصطفاة على نساء وقتها بلا نزاع، لكن هل هي مصطفاة على نساء العالمين حتى في العهود التي تلت؟
فهذا موضع بحث، فإن خديجة، وعائشة، وفاطمة، لا شك أن الله اصطفاهن، فإما أن نقول إن مريم اصطفاها الله على العالمين في ذلك الوقت، أو أن الله اصطفاها على النساء، ولا مانع أن يشاركها غيرها في الاصطفاء، فالله اصطفى هذه وهذه وهذه، ولكن في وقت مريم عليها السلام بلا شك أنها كانت أفضل امرأة في العالم في وقتها.
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسيا امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وأن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام [رواه البخاري: 3411، ومسلم: 2431].
إذًا كمل تم، وتناهى تكامل في خصال البر والتقوى والفضائل، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، لأن الثريد من كل الطعام أفضل من المرق، فثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد، وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه، ما هو فضل الثريد؟ لماذا له فضل؟
لنفعه، وأنه يشبع، وسهوله مساغه يدخل الجوف بلا خوف، والالتذاذ به، وتيسر تناوله، وتمكن الإنسان من أخذ كفايته منه بسرعة، أكله لا يحتاج إلى مؤنة، وليس فيه مضغ، ومتعب ونحو ذلك، فهو أفضل من المرق كله، ومن سائر الأطعمة، فضل عائشة على النساء زائد كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة، لكن ليس فيه التصريح أنها أفضل من مريم وآسيا؛ لاحتمال أن يكون أن المراد تفضيل عائشة رضي الله عنها على نساء هذه الأمة، هذا كلام النووي.


وقال ابن حجر: ليس فيه تصريح بأفضلية عائشة رضي الله عنها على غيرها، لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير المؤونة، وسهولة الإساغة، وكان أجل أطعمتهم يومئذ، وكل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلية له من كل جهة"، إلى آخر كلامه رحمه الله قال: وقد ورد في هذا الحديث من الزيادة بعد قوله: ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمدأخرجه الطبراني [المعجم الأوسط: 7428]. [فتح الباري: 6/447]
وقد ورد من طريق صحيح ما يقتضي أفضلية خديجة وفاطمة على غيرهما، وذلك فيما ورد في قصة مريم من حديث علي بلفظ: خير نساءها خديجة [رواه البخاري: 3432].
وروى أحمد عن ابن عباس قال رسول الله ﷺ:  أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسيا امرأة فرعون [رواه النسائي: 8355، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 1508]، حديث صحيح، وله شاهد من حديث أبي هريرة: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران وإسناده حسن. [المستدرك:4733، وصححه الألباني صحيح الجامع:3181].
وروى البخاري عن علي قال سمعت النبي ﷺ يقول: خير نساءها مريم بنت عمران، وخير نساءها خديجة [رواه البخاري: 3432]، خير نساءها يعني: نساء أهل الدنيا في زمانها.
وورد عند النسائي بلفظ: أفضل نساء أهل الجنة [رواه النسائي: 8355، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 1508]، فعلى هذا خير نساء أهل الجنة مريم.


وفي رواية: خير نساء العالمين [المعجم الكبير للطبراني: 1004، وصححه الألباني صحيح الجامع: 3328]، وهو كقوله: وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 42]، وظاهره أن مريم أفضل من جميع النساء، وهذا لا يمتنع عند من يقول إنها نبيه؛ لأن في خلاف في مريم عليها السلام هل هي نبية أم لا؟
ما في خلاف في خديجة وعائشة وآسيا وفاطمة، لكن في مريم في خلاف بين العلماء هل كانت نبية؟ وأما من قال: ليست بنبية فيحمله على عالمي زمانها، وخير نساءها خديجة، يعني: نساء هذه الأمة جمعًا بين الأقوال أو بين النصوص.
وعند النسائي: أفضل نساء أهل الجنة خديجة، وفاطمة، ومريم، وآسيا [رواه النسائي: 8355، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة: 1508].
وعند الترمذي: حسبك من نساء العالمين فذكرهن [رواه الترمذي: 3878، وصححه الألباني مشكاة المصابيح: 6181].
إذًا الآن في عندنا نصوص فيها أفضلية مريم عليها السلام بلا شك، وعندنا نصوص فيها أفضلية النساء الأخريات، ولكل فضل، والله أعلم بالمرتبة والدرجة، لكن يكفينا هذه النصوص في بيان فضل مريم عليها السلام.
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ [آل عمران: 42]، كلمة طهرك يعني أنها طيبة مطيبة عفيفة،وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور: 26]، بعيدة كل البعد عن الخبث، وهذا مهم جداً في الدفاع عن عرض مريم عليها السلام؛ لأنها رميت من قبل اليهود، فالله قال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ [آل عمران: 42]، ولذلك لا مجال للطعن فيها، ولا للشك فيها؛ لأن الله طهرها، وهذا كذب اليهود وبهت اليهود وإفك اليهود.

نزول الملائكة إلى بعض البشر

00:12:46

وكذلك فإن الله يرسل الملائكة لتخاطب الأنبياء، وقد يرسل الملائكة لتخاطب الصالحين والصالحات، فنحن نعرف مثلاً من الصحابة من كان يرى الملائكة، أو من رأى الملائكة، من هو كانت الملائكة تسلم عليه، سمع تسليم الملائكة عليه، عمران بن حصين، ورأى أسيد بن حضير ظلة من نور في السماء، فأخبره النبي عليه الصلاة والسلام أن تلك الملائكة لتستمع لقراءة سورة الكهف، والله أرسل ملكًا على مدرجة رجل صالح ذهب ليزور أخًا له في الله.
والله أرسل ملكًا بصورة رجل للأبرص والأقرع والأعمى؛ ليبتليهم، وأرسل ملكًا كان كثيرًا ما تأتي الملائكة في صورة الرجال في من قبلنا، من قبلنا كانوا بحاجة إلى المعجزات والخوارق والآيات أكثر من هذه الأمة، هذه الأمة معجزتها هذا القرآن باقية إلى قبيل قيام الساعة. أرسل الله الملائكة لتخاطب مريم، وكانت من الملائكة الذين أرسلوا إلى امرأة أخرى من فيمن قبلنا، من هي المرأة التي رأت الملائكة بصورة؟ زوجة إبراهيم سارة لما جاءت الملائكة فَبَشَّرْنَاهَا [هود: 71].
فإذًا تمت البشارة لها أيضاً، الشاهد أن الملائكة كانت تأتي من قبلنا من الصالحين والصالحات، لكن كانت الملائكة تأتي بصورة رجال، وليس بصورة إناث، وهذا فيه مدلول، لم تكن الملائكة تأتي بصورة إناث إطلاقًا، إنما كانت تأتي بصورة رجال، وجبريل جاء بصورة دحية الكلبي، والملائكة رؤوا في الغزوات فرسان على خيول، رداً على مزاعم المشركين، وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ[الزخرف: 19].


يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: 43]، إذًا الاصطفاء ليس هو شرف يعيش الإنسان على المجد فيه، وهو مرتاح لا الاصطفاء من الله يعني أن الله إذا اصطفى شخصًا ذكرًا أو أنثى، وراءها تكاليف كثيرة، والله إذا اصطفى أنبياء، فالنبي يعبد، ويجاهد، ويدعو، ويعلم، والنبي عليه مسؤوليات ضخمة جداً، قيادة أمم.
وكذلك مريم لما اصطفاها الله، ماذا قال لها؟ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: 43]، إذًا معنى المسألة مسألة اصطفاء وراءها تكاليف، ومهمات، وليس قضية شرفية يعيش الإنسان على السمعة فيها.
وقوله: مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: 43]، ولم يقل مع الراكعات؛ لأن الكمل من الرجال أكثر من الكمل من النساء، وليس المقصود الآن صلاة الجماعة، وإنما أن تكون من جملة الراكعين الذين يركعون لله.
وقوله: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: 43]، قدم السجود على الركوع لأن هيئة السجود أفضل من هيئة الركوع.
وقوله: اقْنُتِي طاعة مع خشوع، هذا تعريف القنوت، كما قال تعالى: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة: 116].
كان هذا الخبر من الله تعالى لهذه الأمة تعليمًا عن شيء ما أدركوه، ولا نقل إليهم، ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 44].
نقصه عليك يا محمد ﷺ لتخبر به أمتك، وتتلوه عليهم، وهذا الوحي إخبار الله لنبي من أنبيائه بما يشاء من شرعه، قال تعالى: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ [آل عمران: 44]، يا محمد ﷺ ما كنت عند بني إسرائيل، في قضية مريم، لما اختصموا فيها من الذي يكفلها، لأنها من سلالة عريقة، ومن عائلة دين، وبيت عبادة وخير، ولذلك تنافسوا من الذي سيكفل مريم، ولم يحل القضية إلا القرعة، وكانت القرعة فيها إلقاء الأقلام، إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ[آل عمران: 44].


تشاحوا واختصموا، وظاهر القرآن أن المراد بها الأقلام الحقيقية المعروفة التي يكتب بها، ولا نعدل عن ذلك إلا بدليل، جاء في بعض الأخبار أنهم ألقوها في النهر فالذي لم يجر قلمه هو الذي يكفلها، لكن ما عندنا دليل على هذا، فالله أعلم بوجه القرعة كيف، لكنها قرعة استعملت فيها الأقلام، والذي خرجت القرعة عليه هو زكريا ، وكان نبيهم وأفضلهم في ذلك الوقت، وهذا خبر صدق من الله، شيء ما ندري عنه ولا علمنا إلا به إلا من جهة القرآن إلا من الوحي، كما قال الله: وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ[القصص: 44] أيضًا حينما تآمروا على يوسف لإلقائه في الجب، وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ[آل عمران: 44].
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران: 45]، البشارة في الأصل الإخبار بما يسر، وقد تطلق على الإخبار بما يسوء، بجامع تغير البشر عند سماع الخبر، ولذلك سميت بشارة، فإذا كانت بالخير استنارت البشرة، وإذا كانت بالشر كلحت، وصارت قاتمة، ورغم أن الحدث عظيم يهز صاحبه هزًا إلا أنه سار ومؤثر، وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ۝ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ۝ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ۝ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ[آل عمران: 45] الصدمة في الموضوع ولد من غير زوج، هذه هزة قوية جدًا، لكن الخبر الشديد إذ صار معه نبأ سار خففه، وصار وقعه على الإنسان وقعًا خفيفًا، ليس كمثل لو وقع عليه مجردًا من غير أن يقترن به شيء سار، لكن لما قالوا لها: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ [آل عمران: 45]، عرفنا الآن أن القضية قضية سارة.
إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [آل عمران: 45]، إذًا هي عرفت الآن أن هذا عيسى ينسب إليها، وليس له أب، وهذه القضية الكبيرة، لكن وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ۝ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 45-46].
فصارت المسألة الآن كل أنثى تتمنى مفخرة عظيمة، أن يخرج ولد المرأة فيه هذه الميزات، فمن أشد ما يخفف على المرأة صدمة بالولد أيًا كان نوع الصدمة، أن يكون الولد هذا له شأن ومنزلة، ورفعة ودرجة عالية، فلذلك إذا أراد الواحد أن يخبر الثاني بنبأ يهزه ويصدمه، فليجعل معه أشياء سارة أخرى، يمكن أن تخفف من الوقع، يكفيها فخرًا ونعمة وذكرًا أن الله اصطفاها من بين جميع الناس، وجعلها المرأة الوحيدة التي تحمل من غير زواج، وهي بكر، وتنجب بطريقة شرعية بلا وطء، ويكون ابنها نبيًا رسولاً، وهي تحمل نعمة من الله غامرة.
وبالرغم من عظم ودهشة ومفاجأة الحدث، فقد جاء جبريل ليزف لها البشارةإِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمران: 45].


وجود الولد هذا بكلمة، ليس عيسى هو الكلمة، الكلمة كن، لكن عيسى كان بالكلمة، فمعنى عيسى كلمة الله يعني عيسى خلق بكلمة الله، وجد بكلمة الله.
إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمران: 45] كن سمي كلمة الله لأنه كان بالكلمة من الله، وجعله الله من عجائب مخلوقاته، هذه الكلمة الإلهية إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] فخلق الله عيسى بكلمة كن كما خلق آدم بكلمة كن، ولذلك قال: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[آل عمران: 59].


وقد خلق الله البشر على أنواع:
بلا أب ولا أم: آدم جاء بلا ذكر ولا أنثى.
من أم بلا أب: عيسى جاء من أنثى بلا ذكر.
ونوع جاء من ذكر بلا أنثى، وهي حواء.
فأرسل الله جبريل إلى مريم فنفخ في جيب درعها، هذه فتحة الثوب من الرقبة، تسمي في اللغة جيبًا، ما هو لازم الجيب اللي فيه فلوس، هذا الجيب فيه شيء أثمن من الفلوس الرقبة، فإذًا هذا الجيب نفخ في جيب درعها، فولجت النفخة الزكية من الملك الزكي، فأنشأ الله بها روحًا زكية، وهي بالكلمة، فصار عيسى، ولجت النفخة في الفرج، فحملت بإذن الله، وكان عيسى روح من الله، كما قال الله:وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية: 13].
يعني: لا من غيره، وليست من للتبعيض، وليس عيسى جزء من الله تعالى، لكن من الله لا من غيره، فالله هو الذي خلقه، لماذا سمي المسيح بهذا الاسم؟
لكثرة سياحته في الأرض لعبادة الله، والدعوة إليه، أو لأنه كان مسيح القدمين، لا أخمص لهما، قدم مستوية من الأسفل، أو لأنه كان إذا مسح أحدًا من أصحاب العاهات برئ بإذن الله، وهذا أشهر الأقوال.
وقيل: من المسحة، وهي الجمال.
عيسى بن مريم ينسب إلى أمه، ليس إلى كافله زكريا، والتبني حرام، ما يجوز للإنسان ينسب إليه من ليس ولده، وإذا كان الإنسان ليس له أب معروف فإنه ينسب إلى أمه، وعيسى ليس له أب أصلاً مباشر، ولذلك ينسب إلى أمه، وهو من أولي العزم من الرسل، ويكلم الناس في المهد وكهلاً، يكلمهم بما فيه صلاحهم وفلاحهم، يكلمهم الكلام الذي يهديهم به الله سبل السلام، عيسى نعمة من الله، وهو عبد الله ومن الصالحين، وهو من صلحت سريرته وعلانيته ظاهرًا وباطنًا، له علم صحيح وعمل صالح، وإنما أخبر الله عباده بذلك عن أمر المسيح.


وأهل الصليب يقدسونه ويغلون فيه، ولكن الله أخبرنا أنه ولد طفلاً، أخبرنا الله أن صار في الرحم، وتقلب في الأطباق، وصار ولداً طفلاً، ثم كبر وصار كهلاً، إذًا هذا ليس بإله، بشر يولد، ويكبر طفلا وكهلاً، وتمر عليه الأزمنة كسائر بني آدم، والنبي ﷺ قد أخبرنا أن عيسى قد تكلم في المهد، وفي سورة مريم تفصيل لهذا المولود كيف جاء؟ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ۝ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ۝ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ۝ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ۝ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ۝ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم: 16-21].
إذًا لما اصطفاها الله، وأمرها بالعبادة، اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ[آل عمران: 43]، شرع لمريم بالاجتهاد في العبادة، ففسر الله وفصل في سورة مريم ما أجمل في سورة آل عمران، وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ۝ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا [مريم: 16-17].
انتبذت: تباعدت عن أهلها، واتخذت مكانًا في الشرق عنهم، وجعلت لها حجابًا وسترًا ومانعًا، لماذا؟ لتعتزل وتتفرغ للعبادة، وتقنت لله، وتسجد، وتركع امتثالاً لأمر الله لها، اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: 43]، في الحقيقة إن العبادة تأخذ وقتًا، الإنسان إذا أراد أن يتفرغ للعبادة، اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ[آل عمران: 43].
العملية هذه تأخذ وقتًا طويلاً التفرغ، وقد قامت مريم عليها السلام بهذا خير قيام، واعتزلت من أجل تنفيذ أمر الله.

درس مهم للنساء

00:31:51

وهذا فيه درس عظيم للنساء خصوصًا: المرأة إذا لم تكن ذات بعل ولا عندها  أولاد، إذا كانت خالية من الزوج، هؤلاء النساء العوانس، والكبيرات، وحتى الصغيرات، اللاتي ما تزوجن بعد من الأبكار، كثير من البيوت فيها نساء ما تزوجن ويقولون: هذه مشكلة اجتماعية، وهذا ينشأ عنه مفاسد اجتماعية، وينشأ عنه انفتاح أبواب الحرام، وينشأ عنه التسلية بالمنكرات.
فنقول: إن في قصة وحياة مريم عليها السلام عبرة لهذا الوضع من النساء، أن المرأة إذا ما كان عندها مسؤوليات اجتماعية تملأ وقتها لا بدّ أن تنشغل بالعبادة، أحسن شيء تسلكه منهج مريم عليها السلام، اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: 43]، انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ۝ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا [مريم: 16-17].
أحسن شيء تنشغل به المرأة إذا كان زوجها مسافر، أولادها كبروا؛ لأن المرأة أيضاً حتى لو صار عندها انشغالات اجتماعية وارتباطات، وأولاد، وزوج، ومسؤوليات، وولائم، ومناسبات، دعوات، ممكن يأتيها وقت من الأوقات يكبر الأولاد، يتزوجون الواحد تلو الآخر، يخرجون من البيت، زوجها قد يتوفى، وقد يتزوج أخرى، المهم المرأة تعود مرة ثانية إلى الفراغ، إذا كان عندها دين وتقوى وخير تملأ وقتها بالعبادة على منهج مريم عليها السلام، إذا ما حصل تبدأ بالمشاغبات، فتنكد على زوجة ابنها هذا، وعلى زوجة ابنها الثاني، وعلى حياة ابنها الثالث، وتدخل في تسمية المواليد، وفي آرائها في الطبخ، فنقول: المعسكر الفارغ تكثر فيه المشاغبات، هذه قاعدة عسكرية، لكن الكلام هنا مهم جداً للنساء، قال تعالى عن مريم عليها السلام: إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ۝ فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا [مريم: 16-17].
إذًا تفرغ تام للعبادة، وما أحسنه، وما أجمله، وما أروعه، وما أفضلها أن تنشغل المرأة بالعبادة، المرأة إذا كانت خالية من المسؤوليات الاجتماعية أحسن شيء تنشغل بهذا الدين، عبادة، دعوة، تعلمًا، تعليمًا، وإلا فساد أو إفساد.


لما امتثلت مريم عليها السلام هذا الكلام الإلهي، والوصية الربانية، صارت مؤهلة للحمل بنبي جاءت اللحظة التي جاءها جبريل ليقول لها: إن البشارة الأولى: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمران: 43].
الكلام الذي قيل من السابق سوف يكون كذا وكذا، والتوطئة في الأخبار التي تحدث صدمة مهمة جداً، ولذلك النبي ﷺ، قبل الوحي كان يرى أشياء في غار حراء، وكان يسمع من يناديه، قبل أن يأتي جبريل، ويقول: اقرأ، الأحداث العظيمة لا بدّ يحدث لها توطئات حتى يتحملها الإنسان، الإنسان إذا جاءه الحدث الضخم فجأة ممكن يموت من السكتة الصدمة، يحدث له شلل، ينعقد لسانه، لكن لما يكون الخبر الحادث الضخم قد مهد له بتمهيدات، ومريم قيل لها من قبل: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ [آل عمران: 45]، جاءت الآن التنفيذ لتطبيق العملي للبشارة القديمة تمثل لها بشرًا سويا جبريل تحول إلى بشر سوي، وهذا يدل على قدرة الملائكة بأمر الله على التمثل بصورة بشر، وهذا التحول في صورة الرجال لا في صورة النساء.
ولما رأت مريم عليها السلام هذه الحال، وهي معتزلة عن أهلها، منفردة عن الناس، اتخذت حجابًا، واحتياطات حتى لا يراها أحد، وإذا بها تفاجأ برجل أجنبي فجأة عندها، فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم: 17] كاملاً، وأول شيء المرأة العفيفة إذا صار أمامها رجل فجأة، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ [مريم: 18] الالتجاء إلى الله، والاعتصام به، إنها المفاجأة التي نزلت عليها جعلتها تعتصم بالله، وتلتجئ إليه، أعوذ بالرحمن منك، تذكره وتعظه وتخوفه بالله، إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا [مريم: 18].
إن كنت تخاف الله، إن كنت تقيًا أنا أعوذ بالرحمن منك، ابعد عني، أنا أعوذ بالرحمن منك لا تمسني بسوء، وهذه العفة المتناهية من مريم.
قال أبو زيد رحمه الله: "قد علمت مريم أن التقي ذو نهية". [صحيح البخاري: 6/93]، يعني: أنه ينتهي إذا ذكر، وبهذه المناسبة نذكر أن من سخافات الإسرائيليات، والإسرائيليات كثيرًا ما يكون فيها سخافات، أخبار بني إسرائيليات مليئة بالترهات، والأشياء المضحكة والسخيفة، قالوا: إن تقيًا اسم رجل فاسق مجرم معروف في ذلك العهد، يعني: إن كنت تقيًا أعوذ بالرحمن منك؛ ولذلك قال ابن كثير رحمه الله معلقًا: وهذا يرد قول من زعم أنه كان في بني إسرائيل رجل فاسق مشهور بالفسق اسمه تقي، فإن هذا قول باطل لا دليل عليه، وهو من أسخف الأقوال. [البداية والنهاية: 13/209].


ومريم أثنى الله عليها قال: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم: 12].
وقال: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا [الأنبياء: 91]، فجعل الله لها جزاء لعفتها ولدًا من آياته، ورسولاً من رسله، وقد شهد ربنا لها بالطهر، فويل لليهود الكفار الكذبة، الذين يقولون على مريم بهتانًا عظيمًا.
والملائكة إذا رآهم البشر ارتاعوا منهم، ماذا يفعلون؟ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ [هود: 70].
إذًا الاطمئنان، وجعل الشخص الآخر يشعر بالأمان، وهكذا قال جبريل: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [مريم: 19]، كي لا تخافِ لا تهابِ، إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [مريم: 19]، وهكذا قالوا للوط: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ[هود: 81]، وكذلك إبراهيم عرفوه بأنفسهم.
لما رأى جبريل منها الروع والخيفة قال: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [مريم: 19]، وقد أتيت لغرض محدد ومهمة من الرب ، فإذًا لو فرض أن رجلا أجنبيًا اضطر لأن يعالج امرأة، أو أن يكون مع امرأة في أي وضع غير عادي، فلا بدّ أن يعرفها لماذا هو موجود هنا، إذا كانت القضية اضطرارا، وجبريل لا ينطبق عليه أحكام الرجال الأجانب، الملائكة ليس لهم شهوة، ولا يطمعون في المرأة الأجنبية، ولا ينطبق عليهم حكم الخلوة بالمرأة الأجنبية، الملائكة عالم آخر، ولا طعام، ولا شراب، ولا نكاح، ولا وطء، ولا شهوة، الملائكة عالم آخر، فجبريل طمأن مريم، إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ [مريم: 19].
أولاً: عرفها بنفسه لتطمئن.


ثانيًا: عرفها لماذا هو هنا؟ ما هي المهمة؟ في مهمة محددة جاء من أجلها، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا [مريم: 19]. قراءة: لِيهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا [مريم: 19]، فهذا هو الغرض من وجوده، وهنا تعجبت من وجود الولد من غير أب، فقالت: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم: 20]، هذا على سبيل الاستثبات، فهذا ليس شكًا واستبعادًا لقدرة الله، لكن هذا من جنس قول إبراهيم: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة: 260]، فقالت: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ[مريم: 20].
وكيف سيكون لي غلام وأنا غير متزوجة؟ ولم أكن بغيًا زانية؟ فكيف سيكون الولد ما في نكاح ولا وطء؟
فإذًا الاستغراب هنا للاستثبات وليس الشك في قدرة الله، وإلا مريم تعلم أن الله على كل شيء قدير، لكن تريد أن تفهم كيف سيكون؟ كما قال إبراهيم: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة: 260]، هو يعرف ويعلم ويوقن، ويعتقد أن الله يحيي الموتى، ولا يشك في هذا، لكن يريد أن يزداد إيمانًا، قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [مريم: 20].
فجاءها الجواب ببساطة: كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47]، قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم: 20]، ببساطة، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مريم: 20]، وهذا يدل على كمال قدرة الله تعالى، وعلى أن الأسباب جميعها لا تعمل بمفردها بمعزل عن تقدير الله، السبب ما يعمل إلا بأمر الله، والله قد يخرق العادة ولا يوجد سبب، ويحصل شيء، وقد يوجد السبب، ولا يحصل شيء، فقد يعطل الله الأسباب عن العمل، وقد يوجد الله نتائج بلا أسباب ، فإن إبراهيم لما أراد أن يذبح إسماعيل بالسكين سلب الله السكين خاصية القطع، وإن الله لما رمي إبراهيم بالنار سلب النار خاصية الإحراق.


فالله جعل أسباب، وأشياء تؤدي إليها الأسباب، لكن إذا أراد بطل السبب، وبطل عمل السبب، وقد يوجد شيء من غير سبب، لكن ليس هذا هو الطبيعي، الطبيعي أن هناك أسباب تؤدي إلى حصول نتيجة، واحد يريد ولدًا يتزوج هذا هو أما يولد له ولد من غير سبب، من غير زواج، أو يوجد زرع من غير بذر، شجر من غير زرع ولا سقي، هذا غير طبيعي، هذا خلاف العادة خارق، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ[مريم: 21]، وعلامة على قدرة الله، كيف ينشئ ولدًا من غير أب، وَرَحْمَةً مِنَّا [مريم: 21] بوالدته، وبالناس لأن النبي رحمة للأمة، وأن أمه لها الفخر بأن منها عيسى من أولي العزم، وأن الله يرفعها بولدها ألا ينتفع الأب والأم بصلاح الأم ألا ترتفع منزلتهما في الآخرة بصلاح الولد، أليس يرفع الله الرجل في الجنة، فيقول: ربي بم هذا، أنا أعرف عملي، عملي لا يؤهلني إلى هذه الدرجة، قال: باستغفار ولدك لك [رواه ابن ماجه: 3660، وحسنه الألباني السلسلة الصحيحة: 1598]. وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم: 21]، بوالدته وبالناس.
وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم: 21] بما أنه كتبه الله عنده في اللوح المحفوظ، وجرى به القلم، فلا بدّ أن يكون، فالمسألة الآن ما في نقاش في قضية يكون أو لا يكون، سيكون، كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [آل عمران: 47]، يخلق ولا يتأخر شيء يريده ، وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر، ونفخ جبريل في جيب درعها فنزلت النفخة إلى الأسفل، فولجت إلى الرحم، فحملت بالولد، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [التحريم: 12]، وبذلك حصل الحمل.
وإلى هنا نقف في قصة مريم مع عيسى، لنتابع الأمر بعد ذلك لما حصل الحمل، وبدأت آلام الطلق، وبعد ذلك الولادة، وكيفية مواجهة المجتمع، وماذا حدث لما ولد عيسى .
نسأل الله أن يجعلنا ممن يتدبر كتابه، وممن يزداد فيه بصيرة وعلمًا، وممن يزداد به إيمانًا إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد.