الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
وبعد:
نص القصة
فإن من قصص القرآن العظيم قصة سبأ قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ: 15-21].
المعنى الإجمالي للقصة
سبأ من ملوك اليمن وأهلها، وكانت بلقيس صاحبة سليمان منهم، وكان في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم، واتساع أرزاقهم، وزروعهم، وثمارهم، وبعث الله تعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى، ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل، والتفرق في البلاد.
روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن ابن عباس قال: إن رجلاً سأل رسول الله ﷺ عن سبأ ما هو أرجل أم امرأة أم أرض؟ فقال: بل هو رجل ولد عشرة، فسكن اليمن منهم ستة من أولاده العشرة، وهؤلاء أولاد لا يشترط أن يكونوا أولاد مباشرين، المهم أن من صلبه عشرة أولاد، سكن منهم اليمن ستة، قال: وبالشام منهم أربعة: فأما اليمانيون: فمذجح، وكندة، والأزد، والأشعريون، وأنمار، وحمير، عربًا كلها، وأما الشامية: فلخم، وجذام، وعاملة، وغسان [رواه أحمد: 2900].
قال ابن كثير رحمه الله عن هذا الحديث: إسناده حسن. [تفسير ابن كثير: 6/504]، وقال أحمد شاكر في تحقيق المسند: إسناده صحيح. [أحمد: 2900].
وروى الترمذي رحمه الله عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي ﷺ فذكر في الحديث، فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة سكنوا في اليمن، وتشاءم منهم أربعة يعني سكنوا في الشام، فأما الذين تشاءموا في الشام: فلخم، وجذام، وغسان، وعاملة، وأما الذين تيامنوا: فالأزد، والأشعريون، وحمير، وكندة، ومذحج، وأنمار [رواه الترمذي: 3222، وصححه الألباني صحيح الترمذي:2574].
قال ابن كثير رحمه الله: ومعنى قوله ﷺ: ولد عشرة من العرب أي كان من نسل هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن، لا أنهم ولدوا من صلبه، بل منهم من بينه، وبينه الأبوان، والثلاثة، والأقل، والأكثر، كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب". [تفسير ابن كثير: 6/507].
إذًا هؤلاء العشرة ترجع إليهم القبائل العربية، وحصل أن منهم من كان في اليمن، ومنهم من رحل إلى الشام، فإذًا بالشام قبائل عربية أصلها من اليمن، والتفرق هذا حصل بعد سيل العرم، وذلك معنى قوله ﷺ: فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة، أي: بعدما أرسل الله عليهم سيل العرم، منهم من أقام ببلادهم، ومنهم من نزح عنها إلى غيرها. [تفسير ابن كثير: 6/507].
فإذا قال قائل: القبائل العربية الموجودة في بلاد الشام كيف ذهبوا إلى بلاد الشام؟ ومتى ذهبوا إلى بلاد الشام؟
فيقال: بناء على هذا الحديث تأريخيًا ذهبوا بعد سيل العرم، لما فرقهم تفرقوا في البلدان السيل هذا فرقهم، إذًا هذا كان سبب ذهاب هؤلاء رؤوس القبائل العربية، هؤلاء الذكور الذين تناسلت منهم القبائل العربية في بلاد الشام، وكذلك في اليمن.
وقد أنعم الله عليهم أولاً قبل السيل أنعم عليهم ليوحدوه، كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ [سبأ: 15]، المحل الذين يسكنون فيه آية من النعم الوفيرة، وأغدق الله عليهم الأشياء العظيمة، جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ [سبأ: 15] عن يمين بلدتهم جنة، وعن شمالها جنة، والجنة البستان العظيم، هذه الجنان متراكبة الأشجار، وافرة الثمار، متنوعة العطاء، يحصل لهم بها الغبطة والسرور، فأمرهم بشكر هذه النعمة، قالوا: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15].
فهذه النعم التي أمرهم الله بشكرها، كانت تتمثل برزق رغيد، رزقهم الله من هاتين الجنتين، وبلدة طيبة، حسنة الهواء، قليلة الأمراض، وعدهم الله إن شكروه أن يغفر لهم، وقال: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15]، لكن ما حصل هذا منهم، فَأَعْرَضُوا [سبأ: 16].
أعرضوا عن توحيد الله وعبادته وشكره، وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله، كما قال الهدهد لسليمان : وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ [النمل: 23-24].
نتيجة لهذا الكفران، يعني: بدلاً من أن يعبدوا الله ويوحدوه فإذا بهم يشركوا به ويعبدون غيره، مع أنه هو الذي أنعم عليهم، فانتقم الله منهم، كيف كان الانتقام؟ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ:16].
والله إذا قال لشيء: كن فيكون، فالله أمر هذا السيل بهذا السد أن يسيل عليهم، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ[سبأ: 16]، الماء الغزير الشديد، فتحطمت الجنتان، وتبدلت الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة، صارت أشجار لا نفع فيها، كما قال تعالى:وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ[سبأ: 16]، السابقة المثمرة، اليانعة النضرة، كثيفة الأشجار والثمار، جَنَّتَيْنِ [سبأ: 16] أخريين لكن ماذا فيه؟ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ [سبأ: 16] لكن قليل، أين هو من الأكل السابق؟ لا يقارن. أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ [سبأ: 16]، الخمط والأثل نوعيات رديئة من الطعام جداً، وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ: 16]، السدر أنفع من الأشجار السابقة، ولذلك قليل، لكن لا يقارن لا السدر ولا الخمط ولا الأثل بما كانوا عليه، أين الثمار الناضجة والمناظر الحسنة والظلال العميقة والأنهار الجارية؟ تبدلت كلها إلى شجر ذي شوك كثير، وثمر قليل؛ بسبب كفرهم وشركهم وتكذيبهم، وعدولهم إلى الباطل، ولذلك قال تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا[سبأ: 17]، عاقبناهم بكفرهم، وهناك ناس في هذا الزمن الله أنعم عليهم بنعم وفيرة، وأعطاهم أموال طائلة، ولكنهم طغوا فسلبهم الله إياها، هناك أناس كانوا أصحاب ثروات انتقم الله منهم بسبب طغيانهم، وصاروا مشردين مطاردين، أحوالهم في ضنك وشدة وضيق، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا [سبأ: 17] عاقبناهم وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17].
فالمجازاة هنا خاصة بالعقوبة؛ لأن الله يجازي على الحسنات، ويجازي على السيئات؛ لكن هذه عقوبة، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا [سبأ: 18]، الآن يسرد لنا نعمة أخرى من النعم التي أعطاهم الله إياها، أن نعمه عليهم لم تكن فقط في بلدهم لكن حتى خارج بلدهم، كيف؟ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سبأ: 18]، كان يحتاجون للتجارة، ويسافرون، يضربون في الأرض، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [سبأ: 18]، قيل: الشام لأن الله بارك في الشام، المسجد الأقصى وما حوله الشام، فجعل الله من مكانهم في اليمن إلى الشام طريق التجارة، هذا كله طريق ميسر سهل، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً [سبأ: 18]، بينة واضحة، يعرفها المسافرون، متقاربة متواصلة بحيث لا يحتاج المسافر إلى زاد وماء.
بل يخرج من بلدته اليمن مثلا يجد منها قريب بلدة على طريق السفر إلى الشام ينزل البلدة هذه، يمشي يجد بلدة أخرى، يمشي يجد بلدة أخرى، وهكذا بلدات كثيرة على الطريق، يعني جعل لها طريق سفر مأهول بالبلدات والقرى؛ بحيث أنهم لو أرادوا السفر يسر عليهم الطريق لا يحتاج إلى حمل زاد كثير وماء، ويقطع مفاوز وصحاري، طريق تجارتهم طريق عامر بالبلدات الظاهرة، وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ[سبأ: 18]، بحيث يعرفونه، ولا يتيهون فيه، قَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ جعلنا هذه القرى على مسافات معينة معروفة، وقرى ظاهرة على الطريق، بينة فلا يضيع ولا يتيه، ولا يحتاج لحمل زاد كثير، وأيضاً المسافات معروفة وواضحة، وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ يعرفونه ولا يتيهون، كان سفرهم آمنًا لا خوف فيه، لا يوجد قطاع طرق، أمن في طريق السفر، ولذلك قال الله: سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ[سبأ: 18]، فالأمن كان في الليل وفي النهار، سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ[سبأ:18] سواء في الليل، أو في النهار، الطريق آمن، لكن لا فائدة ما استجابوا، ولا قدروا، ولا شكروا النعمة، مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج: 74]، ولا شكروا نعمته، كفروا بالله، ملوا النعمة لدرجة السفه والطيش البطر، فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ: 19] ملوا النعمة، وطلبوا أن تتباعد الأسفار بين القرى التي كانت السير فيها ميسرًا، وفي قراءة أخرى، رَبَّنَا بَعِّدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ: 19]، أحبوا المفاوز التي يحتاجون فيها إلى قطع الزاد والرواحل، وأن يسيروا في الحر والخوف، وهذا يذكرنا بما طلبه بنو إسرائيل من موسى، الله أعطاهم المن والسلوى وأشياء يسيرة جداً، لا تحتاج إلى جهد، أنواع من السمان يصيدونه بسهولة وحلوى، ويأتيهم رغدًا، ماذا قال بنو إسرائيل لموسى مع كل هذه النعم ؟
قالوا: فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [البقرة:61]، يعني: الواحد يعدل بالمن والسلوى البصل والثوم والكراث والعدس، فقط ملوا النعمة، وهؤلاء كذلك، ولهذا قال موسى لبني إسرائيل:أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: 61] ، وعوقبوا على ذلك اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [البقرة: 61].
وقال : وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا[القصص: 58]، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112]، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [سبأ: 19]، إذًا كفروا بالنعمة، فعاقبهم الله، فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ: 19].
صارت سيرتهم على ألسنة الناس، فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ يسمر بها المسافرون، جعلناهم أخبار، شيء كان ومضى، وصار قصة، صار الناس يروها لبعضهم، ذهب اجتماعهم، وانتهت ألفتهم، وعيشهم الهنيء، وتفرقوا في البلدان، وصاروا شذر مذر، حتى صار يضرب بهم المثل إلى الآن عند العرب، في أمثال العرب: تفرق أيادي سبأ، إذا واحد أراد يضرب مثل بتفرق الشيء وتبعثره وتشتته ،مثلاً مجموعة من الناس أو قبيلة تفرقوا، فيقولون: تفرقوا أيدي سبأ، يعني كما تفرق أولاده في البلدان، فرقهم الله، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ[سبأ: 19].
فهكذا حل بهم العذاب، وبدلت النعمة نقمة، وتحولت العافية إلى بلاء، وصارت العقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام، وكان في هذا عبرة، ودليل على قدرة الله وبطشه ونقمته.
لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ: 19] على النعم، فالصبار الشكور هو الذي ينتفع بهذه القصة، ولهذا قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ[سبأ: 19]، فإذًا من فعله مثلهم فعل به مثلما فعل بهم، وشكر الله -تعالى- لحافظ النعمة، وينتقم الله ممن كفر بالنعمة، والجزاء من جنس العمل.
قال مطرف رحمه الله: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر". [حلية الأولياء: 1/298]، وهذا معنى حديث عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له[رواه مسلم: 2999].
إبليس الذي أغواهم فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[ص:82-83]، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: 20] من الذين لم يكفروا بالنعمة، لأن المؤمنين ليس له عليهم سلطان، صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ[سبأ: 20]، إبليس ما أجبرهم إجبارًا، إبليس دعاهم إلى الأماني والغرور، فأطاعوه.
قال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا، ولا أكرههم على شيء، وما كانوا إلا غرورًا وأماني، دعاهم إليها فأجابوه" [زاد المسير: 6/450].
الفوائد والدروس المستفادة من القصة
وهذه القصة فيها فوائد متعددة:
إذ أن سبأ يعتبرون نموذجًا عمليًا لكل من تمرد على أوامر الله، واستخدم النعمة في غير وجهها، في بعض البلدان التي تسلط عليها من تسلط كان فيها نعمة كبيرة، وخير، لكن يقولون: كان الواحد إذا أكل من السندوتش لقمتين ركله برجله، الباقي يجعله مثل الكرة، فعاقبهم الله وسلط عليهم من أراذل الخلق من سلط، إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ[سبأ:21].
والقرآن فيه تحذيرات من الله لمن أنعم عليهم، أن يسلكوا سبيل قوم سبأ، لقد ذكر الله تعالى لنا في القرآن مواضع أن الكفار تمتعوا في الدنيا بجنات، وجنة، وجنتين، ولكنها زالت، ذكر لنا قصة صاحب الجنتين، وأصحاب الجنةـ وسبأ جنتين عن يمين وشمال، فها هم قوم سبأ، قد أزال الله جنتيهم، وصاحب الجنتين في سورة الكهف أحيط بثمره وانتهت، وأصحاب الجنة في سورة القلم فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ [القلم: 19]، وفرعون ومن معه، فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ[الشعراء: 57-58]، فالله تعالى يعاقب بإذهاب النعمة، هذا هو الشاهد العقوبة بإذهاب النعمة، إذا لم تقدر حق قدرها، ولم تشكر أذهبها الله سلبها من هي عنده، بسبب عدم شكره.
والرزاق هو الله -تعالى-، ومن العبر العظيمة قوله تعالى: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ [سبأ: 15]، أعطاهم رزقًا، لكن أعرضوا وتولوا أعرضوا، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ: 16]، سنة الله التي لا تتبدل، ولا تتخلف، قال الله -تعالى-: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112]، النعمة إذا لم يقم العبد بشكرها ستكون عذابًا وعقابًا، هذا الماء الذي كان نعمة لسبأ صار عقوبة عليهم، تحول إلى سيل حطم جنتيهم، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا [سبأ: 17].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والقرآن يبين في غير موضع أن الله لم يهلك أحدًا ولم يعذبه إلا بذنب". [الحسنة والسيئة: 2/173].
يعني: لا يهلك الله قومًا بلا سبب منهم، لا يهلك الله قومًا بدون معاصي، لا تجي عقوبة على قوم إلا بمعاصي، لا يوجد قرية أو قبيلة أو بلد صالحة وجاءتها عقوبة عامة. قال الله عن سبأ: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا [سبأ: 17].
وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ[القصص: 59].
وكذلك فإننا عرفنا من الآيات أن الذي ينتفع هو صاحب الصبر والشكر، الصبار الشكور، أما المعرض فلا ينتفع، وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها، وهم عنها معرضون، ولذلك كان الصبر على ثلاثة أنواع، نصبر على الطاعات نعملها، الواجبات نقوم بها، نصبر عن المعاصي فنجتنبها، ونحذر منها، ولا نقع فيها، نصبر على أقدار الله المؤلمة إذا حلت بنا، نصبر عليه لا نجزع، لا تنوح المرأة لا تشق ثيابها، لا تقطع شعرها، لا يجوز الاعتراض على أقدار الله، ولا أن يلام الله على المصيبة.
وشكر الله يكون بثلاثة أشياء:
بالقلب، بالإقرار بالنعمة، والعلم أنها من عند الله، ونسبتها إليه، أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر: فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب [رواه البخاري: 846، ومسلم: 71].
فشكر النعمة الأول بالقلب الاعتراف للمنعم، أبوء لك بنعمتك عليّ [رواه البخاري: 6306]، اعترف.
وباللسان التحدث بها، والثناء على الله بها، فيقال: يشكر الله على النعمة، فيقال: الحمد لله، كم ذكر من الأذكار فيه الحمد لله؟
على الطعام الحمد لله، وعلى الشراب الحمد لله، وإذا لبس اللباس الجديد الحمد لله، وهكذا يحمد الله تعالى على النعم يوميًا.
وبالجوارح أن تعمل بها بطاعة الله، وأن تسير إلى طاعة الله، وبيديك، وتنظر بعينيك، وتسمع بأذنيك ما يرضي الله، وهكذا فتشكر ربك بالجوارح، قال تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17].
قال القرطبي: "في هذه الآية سؤال ليس في هذه السورة أشد منه، وهو أن يقال: لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور؟
ولم يذكر أصحاب المعاصي، فتكلم العلماء في هذا فقال قوم: ليس يجازى بهذا الجزاء الذي هو الاصطلام والإهلاك إلا من كفر، قال مجاهد: يجازى بمعنى يعاقب.
وذلك أن المؤمن يكفر الله تعالى عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله، فالمؤمن يجزى ولا يجازى؛ لأنه يثاب، قال طاووس: هو المناقشة في الحساب، فأما المؤمن فلا يناقش الحساب.
وقال النحاس: وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيها: أن الحسن قال: مثلاً بمثل، وهل نجازي إلا الكفور، مثلاً بمثل.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: من حوسب هلك فقلت: يا نبي الله، فأين قوله : فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 8].
قال: إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك وهذا إسناده صحيح [رواه أحمد: 25748، وقال محققو المسند: إسناده صحيح].
وشرحه: أن الكافر يكافئ على أعماله، ويحاسب عليها، ويحبط ما يعمل من خير، ويبين هذا قوله تعالى: ذلك جزيناهم بما كفروا، وفي الثاني، وهل يجازى إلا الكفورـ ومعنى: يجازى يكافئ بكل عمل عمله، ومعنى جزيناهم، وفيناهم، فهذه حقيقة عظيمة". [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 14/288].
نسأل الله أن يجعلنا من الشاكرين الصابرين، ومن العابدين المنيبين، والتائبين الأواهين إنه سميع مجيب.