الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
الترتيب بين الضروريات وما يتعلق بذلك من أحكام
فقد ذكرنا في موضوع مقاصد الشريعة: الترتيب بين الضروريات الخمس، وهذا الترتيب مهم في التوصل إلى النتائج التي ستترتب عليها الأحكام.
وقلنا: أن حفظ الدين يقدم، ثم النفس، ثم النسل، ثم العقل، ثم المال. وعامة الأصوليين على ذلك.
فلو قال قائل: هذه الضروريات الخمس كيف سنرتبها؟ فنقول: ما هو أهمها؟
الدين، ثم النفس، ثم النسل، ثم العقل، ثم المال، وعامة الأصوليين على ذلك.
وفائدة هذا أنه إذا حدث تعارض في حفظ هذه الضروريات فإننا سنقدم حفظ الأهم فالأهم.
حفظ الدين مقدم على جميع الضروريات
نلاحظ أن حفظ الدين يقدم على جميع الضروريات، فإذا تعارضت مصلحة متعلقة بالدين مع مصلحة متعلقة بالنفس أيهما نقدم؟ مصلحة الدين.
تعارضت مصلحة متعلقة بالنفس مع مصلحة متعلقة بالمال، أيهما نقدم؟ النفس.
لماذا قدم حفظ الدين؟ لأن الدين طبعاً هو المقصود الأعظم، ومن أجله خلق الله الخلق، البشرية خلقت لأجل إقامة الدين: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
وبقية الأربعة، بعد حفظ الدين: النفس، ثم النسل، ثم العقل، ثم المال.
فلماذا قدمنا حفظ النفس من بين الأربعة الباقية؟ لأنه إذا وجدت النفس وجدت الأشياء الباقية، وإذا عدمت النفس لم يعد هناك فائدة للأخرى.
فالمقاصد الأخرى متفرعة من حفظ النفس؛ لأن النفس بها قوام العبد، وهذه العبادات والمصالح الدينية متوقفة على حفظ النفس؛ لأنه إذا لم توجد نفس من الذي سيعبد.
لماذا قدم بعد ذلك حفظ النسل؟
بعض الإخوة لما أجابوا قال: العقل قبل النسل، وبعضهم قال: النسل قبل العقل، تأخير المال ممكن نتفق عليه، أن المال أقلها في الأهمية مع أهميته، لكن لماذا قدم حفظ النسل على حفظ العقل؟
لأن حفظ النسل راجع إلى حفظ النفس، ارتباطه بحفظ النفس ارتباط وثيق جداً؛ لأن حفظ النسل فيه حفظ الولد، حتى لا يبقى ضائعاً لا مربي له، وهكذا.
فإذن حفظ النسل مقدم على حفظ العقل، وكذلك المفسدة الناتجة عن التفريط في حفظ النسل أشد من المفسدة الناتجة عن التفريط في حفظ العقل، والمال من باب أولى.
وبالتالي فإن قضية النسل، ارتباطها بقضية حفظ النفس، وكذلك خطورة قضية الأعراض، قدم العلماء حفظ النسل على حفظ العقل.
ماذا بالنسبة لقضية تقديم العقل على المال؟
ماذا تقولون في قضية حفظ العقل على حفظ المال؟
إذا وجد المال بلا عقل فما هي الفائدة؟ فلذلك لن نختلف في قضية التقديم: حفظ العقل على حفظ المال، لن نختلف في تقديم حفظ العقل على حفظ المال.
مقارنة بين حفظ النسل وحفظ العقل
إذا جئنا إلى المقارنة بين حفظ النسل، وحفظ العقل، وكذلك حفظ المال، وقبلها حفظ النفس.
قلنا أن هذه كلها تحت حفظ الدين، ومعنى ذلك أنه عند حصول تعارض بينها وبين حفظ الدين سنقدم حفظ الدين.
مثال على ذلك: مشروعية الجهاد في سبيل الله، فالجهاد فيه تعريض للنفس للتلف، فيه تعريض المال للتلف، فعند التعارض ماذا سنقدم؟ حفظ الدين انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة: 41].
وقوله: وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فلو ذهب المال وتلفت النفس لأجل حفظ الدين فهذا هو الذي يجب أن يكون، ولا يقول قائل: لكن لا حفظ النفس مقدم. كلا، بل حفظ الدين مقدم.
وقال ﷺ: جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم رواه النسائي، وهو حديث صحيح. [رواه النسائي: 3096، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي: 3096].
تقديم حفظ الدين على حفظ المال واضح أيضاً، ولنأخذ مثال غير الجهاد، الذي كان أعظم مراتبه أعني أعظم رتب الجهاد: أن يخرج بنفسه وماله، ثم لا يرجع من ذلك بشيء. فهذا أعظم الجهاد.
لو جئنا إلى قضية تقديم حفظ الدين على حفظ المال: الهجرة من بلد الكفر التي يكون للإنسان فيها عادة بيت ومال، الهجرة من بلده هذه إذا كانت بلد كفر إلى بلاد الإسلام، ولو ضاع البيت وضاع المال واجب، ولذلك أثنى الله تعالى على المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم في سبيل الله، فقال سبحانه: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحشر: 8].
والذي يرفض الهجرة، يقول: أنا ما أخرج من بلدي، ولو كانت بلد كفر، ولا أهاجر إلى بلاد الإسلام، لأن بيتي ومالي، تجارتي وعملي. نقول: ويل له.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً[النساء: 97].
قال ابن كثير رحمه الله: "الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين يعني في بلده، هذه بلد الكفر، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية"[ تفسير القرآن العظيم: 2/389].
وعن جرير بن عبد الله ، أن النبي ﷺ قال: أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين [رواه أبو داود: 2647، والترمذي: 1604، وصححه الألباني في متخصر إرواء الغليل: 1207]. رواه أبو داود والترمذي.
أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، إذا كان وجدت حاجة للذهاب إلى بلاد الكفار، فما هي الشروط؟ أن يكون متمكناً من إقامة دينه هناك؛ لأن هذا الذي يوجب الهجرة إذا عدم، أن يكون له عقل يدفع به الشهوات، ومحصن متزوج، أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات، لأنها تثار كثيراً في بلادهم على ديننا، أن يكون هناك حاجة حقيقية للمسلمين، ليست قضية مصلحة دنيوية، فقط يقيم من أجلها، لكن لو مصلحة دنيوية يمكث مؤقتاً من أجلها بهذه الشروط لا مانع.
مثال: التجارة والعلاج؛ فلو ذهب للتجارة في بلاد الكفار بالشروط السابقة لا مانع، وهذا لن يقيم، هذا مسافر هذا مكثه مؤقت.
كذلك العلاج حاجة ذهب إليها، ما يوجد في بلاد المسلمين علاج مثلاً. فمن أراد أن يذهب إلى بلاد الكفار فلا بد له من شروط:
أول شرط: أن يكون متمكناً من إقامة دينه، وعنده حماية، علم يدفع به الشبهات، وعقل يدفع به الشهوات، وأن يكون هناك حاجة ماسة للذهاب.
تقديم حفظ النفس على العقل
نأتي إلى مسألة تقديم حفظ النفس على حفظ العقل، من أمثلة ذلك، أن حفظ النفس يتطلب إجراءات عملية، لكن فيها بنج يغيب العقل، فماذا نفعل؟ نجري العملية، ولو كان فيها تغييب للعقل من أجل حفظ النفس، والتغييب سيكون مؤقتاً.
تقديم حفظ النسل على حفظ المال، من أمثلته: تحريم مهر البغي.
ما تأخذه الزانية والعياذ بالله من مال مقابل الزنا حرام، لماذا؟ تقديماً لحفظ النسل على المال، وقد نهى النبي ﷺ عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن[رواه البخاري: 2237، ومسلم: 1566]. رواه البخاري ومسلم.
ما هو حلوان الكاهن؟ ما يأخذه مقابل التكهن والإخبار بعلم الغيب، وعن رافع بن خديج ، عن رسول الله ﷺ أنه قال: ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث[رواه مسلم: 1568].
أما بالنسبة لحفظ العرض على حفظ المال واضح، ومن أمثلته: تحريم مهر البغي، وبالتالي تحريم كل المكاسب الناتجة عن الإخلال بالعرض بحفظ العرض.
لو واحد قال: فتح ملاهي ليلية، متاجرة بمواقع الانترنت الإباحية والصور العارية، والأفلام القذرة، كل هذا الذي يفعله كثير في الأرض الآن، كله عصابات الدعارة، عصابات تنظم، فيها هذا ما يسمى بتجارة الرقيق الأبيض تدر مليارات، لكن كلها حرام في الشرع، لماذا؟ لأن حفظ النسل مقدم على المال.
قال الشاعر:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه | لا بارك الله بعد العرض بالمال |
أحتال للمال إن أودى فأكسبه | ولست للعرض إن أودى بمحتال |
أمثلة على الترتيب بين المصالح، وتقديم الضروريات على الحاجيات
نأخذ الآن أمثلة على الترتيب بين المصالح
قلنا تقدم الضروريات، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات.
وقلنا إن الضروريات خمس: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال.
نأتي إلى قضية تقديم الضروريات على الحاجيات.
لو كان العلاج عند ناس من المنصرين: مستشفى تنصيري، أطباء، منظمة تنصيرية، ما يعطونه العلاج إلا إذا صار نصرانياً أو يترك دينه، إلى آخره.. فماذا يقدم؟
حفظ الدين، ولذلك يجب أن يفتى عامة المسلمين برفض مساعدات الجمعيات التنصيرية التي يقترن فيها تقديم المساعدة بالتنصير، أو الدعوة إلى النصرانية، أو الدخول في النصرانية.
وإذا وصل إلى قضية الاضطرار، يموت، قال: ما عندي أموت أو آخذ من طعامهم، نقول بشرط أن تكره كفرهم؛ لأن الله قال: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل: 106]. فإذا وصلت لمرحلة الموت نقول: إذا أنت قلبك مطمئن بالإيمان خذ حتى لا تمت اضطراراً.
وهؤلاء القوم يعملون بخبث، ودهاء، وإصرار، وعندهم تمويل عجيب، كل واحد يطّلع على قضية تمويل التنصير في العالم شيء مذهل.
تقول إيرا هرس -هذه مبشرة بالنار- تنصح طبيباً نصرانياً ذاهباً مع حملة تنصيرية، تقول له: يجب أن تنتهز الفرصة لتصل إلى آذان المسلمين وقلوبهم، فتكرز لهم بالإنجيل، إياك أن تضيع التطبيب في المستوصفات والمستشفيات، فإنه أثمن تلك الفرص على الإطلاق، ولعل الشيطان – انظر: تقول له-: ولعل الشيطان يريد أن يفتنك فيقول: إن واجبك التطبيب فقط لا التبشير فلا تسمع منه.
لو جاك الشيطان يقول لك إن واجبك هو التطبيب، أنت طبيب ما لك حاجة بالعقائد ولا بأديان الناس، أد رسالتك الطبية وتمشي، مالك في عقائد الناس، ولا تبلغ النصرانية، ولا تبشر بالنصرانية.
المضحك في الموضوع أن الشيطان لن يقول له هذا أبدا. فإنها تحذره من شيء لن يقع على الإطلاق، فكان عليها أن توفر هذه النصيحة الأخيرة؛ لأنها وهمية.
قامت منظمة تنصيرية بتجهيز طائرة، وتحويلها إلى مستشفى ضخم مزود بجميع المعدات اللازمة للعمليات الجراحية والعلاجية، ويقدم خدماته بالمجان؛ لأجل التنصير.
تخيل أن يوجد مستشفى طائر، كم تكلف هذه الطائرة؟ ثمن الطائرة والمعدات التي فيها مستشفى طائر، يمكن يأخذ طائرة بدورين ضخمة جداً، ولا هذه التي طلعت بعدها الأكبر منها، يجعلونها مستشفى طائر، وهؤلاء أول ما يجيء الواحد يكشف عندهم يسألونه عن ديانته، وبعدها يستمع كلمة عشر دقائق عن المسيح، وعن دين النصرانية، والبحث عن الخلاص في رحاب المسيح، ثم يعالج، ليس علاج مجاني.
تقديم الضروريات على التحسينيات
نأتي إلى قضية تقديم الضروريات على التحسينيات: تقديم الضروريات على الحاجيات عرفناه، تقديم الضروريات على التحسينيات، لو احتاج إلى عملية جراحية لحفظ النفس لكن فيها كشف العورة، وقلنا إن ستر العورة من الأمور في الشريعة في التحسينيات وإن كانت واجبة؛ لأن التحسينيات ليست كلها مستحبة، في تحسينيات واجبة، لكن تقتضي العقول السليمة والفطر المستقيمة أن يكون هذا الحكم موجوداً.
هذه الحالة التي فيها تعارض حفظ النفس مع ستر العورة، تعارض ضروري مع تحسيني، ماذا نقدم؟
الضروري، فنقول بجواز إجراء العملية لحفظ النفس، وإن كان فيها كشف للعورة، إذا حصل الاضطرار إلى ذلك، لايوجد حل إلا بكشف عورة، ولا يمكن إجراؤها بدون كشف العورة.
ومع ذلك في ترتيب للأطباء: أولاً إذا كانت امرأة مسلمة، أولاً الطبيبة المسلمة، ثانياً الطبيبة الكافرة، ثالثاً الطبيب المسلم، رابعاً الطبيب الكافر، فقدمنا الطبيبة الكافرة على الطبيب المسلم لحفظ العرض.
قضية العورات قضية كبيرة، ولها وزنها في الشريعة، ستر العورات، حتى قال العز بن عبد السلام رحمه الله: "ستر العورات والسوءات واجب، وهو من أفضل المروءات وأجل العادات، ولاسيما في النساء الأجنبيات أي امرأة ليست بمحرم لك أجنبية لكنه يجوز للضرورات والحاجات".
المرأة المحرم أيضاً يجب أن تستتر، ستر أقل من ستر الأجنبية، لكن أيضاً لها عورة، أما الأجنبية كلها عورة، أما المرأة المحرم بعضها عورة، قال: "لكنه يجوز لكنه كشف العورة يجوز للضرورات والحاجات، كنظر الأطباء لحاجة المداواة، والنظر إلى الزوجة المرغوب في نكاحها قبل العقد عليها إن كانت ممن ترجى إجابتها" قواعد الأحكام في مصالح الأنام" [ قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 2/140]. للعز بن عبد السلام.
قوله: "إن كانت ممن ترجى إجابتها" لتعلم بأن النظر إلى امرأة بقصد الخطبة بقصد الزواج حرام إذا كان ميئوس من موافقتهم، إذا كان ميئوساً من موافقتهم؛ لأن بعضهم يأتي إلى مسألة جواز نظر الخاطب إلى المخطوبة بدون علمها، وممكن ينظر، ويعرف أنه مع علمه بأن هذه لا يمكن أن توافق، فنقول لا يجوز لك النظر، يقول قصدي الخطبة، أنا أريد الزواج، نقول: نعم، لكن إذا كانت ميئوساً من موافقتها ما يجوز لك أن تنظر إليها، لأنه في هذه الحالة ليس مبرر النظر، إذا كان ميئوساً من موافقتهم لا مبرر، النظر عاد إلى الأصل وهو التحريم، نحن أجزناه للحاجة أو الضرورة، والآن لن يحصل زواج، لا أمل في موافقتها، فعلامَ النظر؟
أحكام المضطر
نأتي إلى مسألة أكل الميتة للمضطر، قال تعالى: فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 3]. لأن المحافظة على النفس وإحيائها ضروري.
التحرز من المطعومات الخبيثة مثل الميتة، ما هو؟ تحسيني، وسبق أن ذكرنا هذا، قلنا أكل الميتة وأكل الحشرات إلى آخره محرم، لكنه داخل في باب الضروريات، تحريمه في الضروريات، ولا في الحاجيات، ولا في التحسينيات؟
التحسينيات، الفطر السليمة، العقول المستقيمة تأبى هذا تنبو عنه، لا تأكل ميتة ولا تأكل حشرات.
فهذا أكله حرام، من أي باب؟ في أي قسم تدخل؟ في التحسينيات.
إذا كان التعارض عندنا حفظ ضروري من الضروريات الذي هو حفظ النفس، مع أمر تحسيني وهو الامتناع عن أكل الميتة إذا تعارضت، ولا بد أن نرتكب ونخترق أحدهما، إما نخالف حفظ الضروري أو حفظ التحسيني، عند التعارض ماذا نفعل؟
نقدم حفظ الضروري على حفظ التحسيني، ونقول كل من الميتة بقدر ما يبقيك حياً حفظاً على نفسك؛ لأن حفظ النفس من الضروريات، وإن كان منع أكل الميتة من التحسينيات، لكن ذاك أهم وأعلى فيقدم عند التعارض.
الضوابط في الترتيب بين المصالح
ما هي الضوابط للترتيب بين المصالح المرتبطة بالمقاصد الشرعية عند المعارضة؟ هناك سيمات وحالات، هناك ما ينبغي ذكره من الضوابط في مسائل التعارض:
أولاً: المصلحة المتعلقة بذات العمل مقدمة على المصلحة المتعلقة بزمانه أو مكانه، فالخشوع متعلق بذات العبادة وهي الصلاة، أو متعلق بزمانها أو مكانها؟ متعلق بذات العبادة.
فإذا تعارض عندك مصلحة وجود الخشوع، مع مصلحة الصلاة في زمن فاضل أو مكان فاضل ماذا تقدم؟ الخشوع.
ولذلك فإن الصلاة بحضرة الطعام تؤجل حتى يصبح في حال يتوفر فيها الخشوع أكثر ولو فاتت الجماعة؛ لأن المحافظة على الخشوع وهو متعلق بذات العبادة مقدم وأفضل وخير من المحافظة على شيء يتعلق بالحال أو المكان.
صلاة الجماعة في المسجد، فصلاة بخشوع ولو فاتته الجماعة أفضل من صلاة في الجماعة بلا خشوع.
ومن هنا لو واحد قال: أنا إذا صليت في مسجد من مساجد مكة الهادئة أخشع أكثر بكثير وإذا صليت في الحرم زحام شديد جداً، وفتنة النساء تبرج النساء، صلاتي في مسجد من مساجد مكة غير الحرم أنا أخشع.
قلنا أن المصلحة المتعلقة بذات العمل أو ذات العبادة، مقدمة على المصلحة المتعلقة بزمان العبادة أو مكان العبادة.
ومن هنا يمكن أن يقال إن صلاته في ذلك المسجد أفضل بالنسبة له؛ لأن الخشوع أكثر.
قالوا أيضاً من الأمثلة: لو كانت صلاتك قائماً مستقبل القبلة بعد النزول من رحلة السفر ممكنة، وصلاتك في الطائرة ستكون قاعداً إلى غير القبلة، ما الذي يقدم؟ علماً أن النزول في المطار سيكون قبل خروج الوقت، فلو فرضنا أن صلاة العصر، أذان العصر مثلاً الساعة مثلاً الرابعة، وأنت إقلاعك قبل الظهر، وستنزل في المطار الساعة الثانية مثلاً الثانية والنصف، وأنت عندك خياران: إما أن تصلي في الطائرة، ولكن الصلاة في الطائرة لا يوجد مصلى في الطائرة، أو كل الركاب مأمورين بربط الأحزمة، لا توجد استطاعة للقيام، ولا استقبال القبلة، فهل تختار الصلاة قاعداً في الطائرة إلى غير القبلة، أو تختار الصلاة بعد نزول الرحلة قائماً مستقبل القبلة؟ ماذا تقدم الأول أو الثاني؟ الثاني.
لماذا؟ لأن القيام واستقبال القبلة أمر متعلق بذات الصلاة، هذه من شروط الصلاة، فلو قال: الصلاة في أول الوقت أفضل، نقول: تعارض عندنا مصلحة متعلقة بذات العبادة مع مصلحة متعلقة بزمان العبادة، فأيهما نقدم؟ المصلحة المتعقلة بذات العبادة، وبالتالي فصلاتك قائماً مستقبل القبلة أفضل من صلاتك في الطائرة.
مثال آخر: وضع الخباز الخبز في التنور وأقيمت الصلاة، فلو ذهب للصلاة سيحترق الخبز، ويبقى طيلة الصلاة وهو تنازعه نفسه في مصير الخبز، وضع البطاطس في الزيت وأقيمت الصلاة.
إذا ذهب للصلاة في المسجد ضرر وهو احتراق هذا، بالإضافة إلى الضرر الأكبر وهو ذهاب الخشوع، احتراق الخبز والبطاطس تلف الطعام أهون من نقص في الدين صلاة بلا خشوع.
فالعلماء يقولون: له أن يتخلف عن صلاة الجماعة في هذه الحالة لأن مصلحة الخشوع، والتفرغ للصلاة أكبر، لكن القضية قضية هوى، لا تتعمد وضع الطعام قبل الإقامة بقليل مثلاً، ثم ترى أن بعض العلماء يقولون: لو وضع الطعام قبل الإقامة أو عند الإقامة، لو أمكن أن يأكل ما يكسر به شهوة الطعام، ثم يذهب للصلاة ويدرك الجماعة يفعل.
فلو أمكن أن يأكل ما تنكسر به شهوة الطعام، بحيث لا يكون في الصلاة مخلاً بالخشوع يفعل، حققنا المصلحة، لكن لو كان ذهابه للمسجد سيجعل نفسه متعلقة بالطعام.
نقول: المصلحة المتعلقة بذات العبادة تقدم على المصلحة المتعلقة بمكان العبادة أو زمان العبادة.
هذا اعتبار آخر في قضية التقديم عند التعارض: المصلحة القطعية، مراعاة المصلحة القطعية مقدم على مراعاة المصلحة الظنية.
مثال على تقديم المصلحة القطعية على المصلحة الظنية
مثال: لو كان تناول دواء معين محرم، وحصول الشفاء من جراء تناوله ظني، فما يمكن أن نتناول الدواء المحرم لأنه مفسدة قطعية، لتحصيل شيء ظني وهو الشفاء من المرض الذي قد يحدث وقد لا يحدث.
بالإضافة إلى أن الشارع الحكيم لم يجعل شفاء المرأة فيما حرم عليها، لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها، هذه المسألة ممكن تجيب بها على ماذا؟ من يذهب للساحر لفك السحر، فتقول له: ما حكم الذهاب إلى الساحر؟ حرام قطعي. ما هي إمكانية استفادتك من الساحر وفك السحر على يديه؟ ظنية، لأنه قد يستطيع وقد لا يستطيع، فكم أناس ذهبوا إلى سحرة وما استفادوا وذهبت أموالهم، وليس الذهاب إلى الساحر قطعي الفائدة من جهة فك السحر، فكيف ترتكب حراماً قطعياً من أجل تحقيق مصلحة ظنية، والأمثلة على هذا كثيرة، أنه لا يجوز، المصلحة القطعية مقدمة على المصلحة الظنية.
مثال آخر: ما حكم إسقاط الجنين الذي نفخت فيه الروح لأجل تحسين وضع الأم؟.
قلنا للطبيب بقاء الجنين يقتلها؟ قال لا، لا يصل لدرجة أن تموت لكن أحسن طبياً.
نقول: أفتريدون ارتكاب مفسدة قطعية وهي قتل النفس لأجل أن تكون الأم في وضع صحي أفضل، والهلاك ظني هلاكها ظني وليس بقطعي، فأنت تريد أن ترتكب مفسدة قطعية بقتل الجنين الحي الذي نفخت فيه الروح، وأن تأتي بعدوان صارخ على النفس البشرية التي خلقها الله، وتزهق روح الجنين من أجل احتمال مفسدة، من أجل احتمال هلاك الأم ما هو أكيد أنها تهلك، فنقول ما يجوز لك أن ترتكب هذا.
المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة
ثالثاً: المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، نحن نتكلم الآن على الموقف من المصالح عند التعارض.
الاحتكار ليس فيه مصلحة للتاجر أن يتضاعف ربحه ويرتفع دخله وتعظم فرحته، ولكن الاحتكار فيه ضرر على عباد الله، فلو تعارضت المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة لا يمكن أن نقدم الخاصة، بل تقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ونمنع الاحتكار، ولو فاته مضاعفات الأرباح لأن الاحتكار مفسدة لعموم الناس.
مثال آخر: القصاص، الحدود، قطع يد السارق مفسدة على السارق أم لا؟ تفوت يده، قتل القاتل مفسدة على القاتل من جهة ذهاب نفسه، نعم.
لكن لو ما طبقنا هذا الحد ماذا سيحصل؟ فوات مصلحة عامة للمسلمين، وقيام مفسدة عامة على المسلمين.
مثال آخر: نزع الملكيات الخاصة لإقامة أشياء ضرورية للمسلمين.
فكلمة ضرورية، لأنه لا يجوز نزع الملكيات الخاصة دون إذن أصحابها لأجل منظر جمالي مثلاً هذا حرام، قضية نزع الملكية، يا أيها البلدية لماذا تريدون نزع الملكية؟ قالوا: عندنا منظر جمالي، عندنا هنا فيه مثلثات. نقول: حرام عليكم، لا يجوز لكم أن تنزعوا ملكية خاصة بدون إذن أصحابها من أجل منظر جمالي، حرام.
وإن قالوا: الزحام شديد جداً هنا وضيق والناس يتعطلون، آلاف السيارات وآلاف السائقين، ومصالح المسلمين، وانتظار ساعات طويلة لأن الطريق ضيق، ولابد ننزع ملكيات من جانبي الطريق لتوسيعه على المسلمين. فنقول: هذا مصلحة عامة مهمة وحقيقية مؤثرة.
المصلحة المقصودة مقدمة على المصلحة الوسيلة
أيضاً: المصلحة المقصودة مقدمة على المصلحة الوسيلة.
في عندنا مقصود يعني هدف ووسيلة، في مصلحة هدف قصد أساسي، في مصلحة وسيلة.
قرر العلماء: أن ما كان تحريمه تحريم مقاصد لم يبح إلا للضرورة، وما كان تحريمه تحريم وسائل يباح للحاجة وعند المصلحة الراجحة.
فمثلاً: النظر إلى المرأة الأجنبية حكمه حرام، تعمد النظر إلى الأجنبية.
تحريم النظر إلى المرأة الأجنبية تحريم وسائل ولا تحريم مقاصد؟ حرام لذاته ولا حرام لما يؤدي إليه؟ حرام لما يؤدي إليه من إثارة الشهوات ثم الوقوع في الفاحشة.
الخلوة بالأجنبية، حرام لذاته ولا حرام لما يؤدي إليه؟ حرام لما يؤدي إليه.
لكن الزنا حرام لذاته ولا حرام لما يؤدي إليه؟ حرام لذاته ولما يؤدي إليه كله، يؤدي إلى أولاد الحرام، ويؤدي إلى الفضيحة، ويؤدي إلى الأمراض الخطيرة، ويؤدي إلى أشياء كثيرة، فهو حرام لذاته.
إذن الزنا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نبيحه، أن نقول هذا حرام لذاته، وفيه إذهاب لمقصد حفظ النسل، وحفظ العرض.
كذلك شرب الخمر حرام لذاته، لأنه يؤدي إلى إذهاب العقل مباشرة، ليس وسيلة.
لما نجي إلى قضية النظر إلى المرأة الأجنبية أن هذا حرام لما يؤدي إليه، معناه أن هذا الحرام أخف من ذاك الحرام، فهل يجوز النظر إلى المرأة الأجنبية للحاجة، مثل الطبيب، والخاطب، والشاهد في المحكمة؟ الجواب: نعم يجوز.
المصلحة المتعدية مقدمة على المصلحة القاصرة.
فقالوا مثلاً الاشتغال بتعليم العلم أولى من الاشتغال بنوافل العبادات إذا احتاج الناس إلى التعليم، يقدم هذا لأن نفعه أكبر، نفعه أعم أشمل.
كذلك الدعوة لو تعارضت مع قيام الليل مثلاً، قصر قيام الليل، وطال مثلاً الاجتماع في الدعوة إلى الله، وتنسيق أشياء لهداية الخلق، وإزالة المنكرات، إلى آخره، فتقدم الدعوة على نوافل العبادات، وليس المعنى أنه لايقوم بالنوافل أبداً، لكن قد تقصر النوافل مثلاً، تفوت أحياناً، قالوا: المصلحة الواجبة مقدمة على المصلحة المندوبة.
فلو قالت لك المرأة: أصوم القضاء أول ولا أصوم ستة شوال أول؟ نقول: صومي القضاء أول؛ لأن المصلحة الواجبة مقدمة على المصلحة المستحبة.
إذا أقيمت صلاة الفريضة، نبدأ نافلة أو نكمل النافلة ونحن في أولها، ولا نقطع؟ نقطع؛ لأن المصلحة الواجبة مقدمة.
تحج تطوع قبل حج الفريضة؟ لا. تحج عن غيرك قبل أن تحج عن نفسك؟ لا.
أداء المصلحة المقيدة في وقتها أفضل من المصلحة المطلقة.
فمثلاً لو تعارض أذكار الصباح، بعد قليل يروح الصباح، وانت تريد تقرأ قرآن ماذا تقدم؟ الأذكار؛ لأن المصلحة المقيدة مقدمة على المصلحة المطلقة.
المصلحة الأصلية أولى من التكميلية
المصلحة الأصلية أولى من التكميلية.
بمعنى أن الضرورات أصلية والحاجات تكميلية بالنسبة لها، والحاجات أصلية والتحسينيات تكميلية بالنسبة لها.
حفظ المال ضرورة، والبيع حاجي، ولكنه يكمل الضروري، ولو كان لو ما باع ما يضيع المال لكن ما ينمو.
الولي تحسيني لكن مكمل للحاجي وهو الزواج، والزواج حاجي لكن مكمل لحفظ النسل والعرض وهو ضروري، إذن المصلحة الأصلية أولى من التكميلية.
أيضاً: تقدم المصلحة الغالبة على المفسدة النادرة.
لو شيء فيه مفسدة، واحد قال: ما رايكم نحرم بيع العنب في العالم؛ لأنه في احتمال بعض الناس يأخذونه ويعملونه خمراً؟ نقول: أيهما أكبر مصلحة أكله فواكه ولا مفسدة بيعه خمر؟
مصلحة أكله أكثر، أكثر العنب الذي يناع في البلد، ما نسبة استعماله في الحلال؟ أكبر. فما نحرم بيع العنب؛ لأنه في مفسدة في احتمال تصنيعه خمراً، لكن البياع إذا جاء واحد معين يعرف أنه سيستعمله في تصنيع الخمر ما يجوز يبيع عليه.
ما تثبت مفسدته في جميع الأحوال، مقدم على ما تثبت مفسدته في حال دون حال.
عند التعارض ترتكب مفسدة هي بجميع الأحوال، ولا مفسدة تأتي وتذهب، تحصل تنقطع ترجع، ترتكب الثانية عند التعارض.
هناك ترتيب بين المفاسد، مثلاً ما نأمر بمعروف يؤدي إلى زوال معروف أكبر منه، ما ننهى عن منكر يؤدي إلى زوال منكر أكبر منه.
لو كان في دولة قمعية، لو حطموا الخمارة سيؤخذون ويسجنون، أو ربما يقتلون، وتعاد الخمارة أكبر وأوسع، فما الفائدة من هذا التحطيم؟ ولا شيء.
ولذلك بعض الذين ينهون عن المنكر باليد يخطئون في بعض الأحوال، يذهب يحطم مثلاً محل فيديو، فيؤخذ ويسجن، ويضيق على الدعوة كلها، يمكن يطال المنابر والخطباء والدعاة الذين في البلد كلهم، ثم يجيء إلى صاحب الفيديو هذا دعم حكومي تعويض، وسع وكبر، فماذا استفدنا؟ لا شيء، بل الضرر صار أكبر بكثير.
نفس الشيء في الأضرحة، لكن لو كان في مكان استولى عليه المسلمون، اليد العليا لهم، لو أزالوا الضريح لن يخلفه ضريح أكبر وأعظم، وتضييق على الدعوة ما يحصل، إذن خلاص يجب عليهم أن يزيلوا المنكر.
وتأتينا قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ[الأنعام: 108]. هذه إذن بعض القواعد المهمة عند التعارض.
نسأل الله أن يفقهنا في دينه، وأن يرزقنا اتباع سنة نبيه ﷺ، وان يزيدنا علماً، إنه هو العليم الحكيم. وصلى الله على نبينا محمد.