الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ سورة آل عمران102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا سورة النساء1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا سورة الأحزاب 70-71.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
مشكلة المديح
إخواني المسلمين: إحدى المشاكل الاجتماعية التي هي واقعة بكثرة في حياة المسلمين اليوم، شيء مما يتعلق بعيوب اللسان، وهذا العيب أيها الإخوة، هذه الآفة تؤدي إلى مخاطر كثيرة، هذه الآفة مسألة التمادح، كثير من الناس اليوم يطلقون ألفاظ المديح والثناء ويكيلونها على كل أحد، يكيلونها لكل أحد حتى ولو لم يكن أهلاً لها، فتجد هذا يقول: فلان الفلاني كذا وكذا وكذا من ألفاظ المديح، وهذا الرجل من أفجر الناس ومن أفسق الناس، وقد يكون منافقاً أو كافراً والعياذ بالله، هذه المسألة أيها الإخوة كيل الثناء والمدح لمن ليس له بأهل، تؤدي إلى مخاطر كثيرة، سواء على الصعيد الاجتماعي في قضايا الزواج مثلاً، أو التعامل والوظائف؛ لأن الإنسان إذا مدح رجلاً فإنه يوثقه عند الآخرين فقد يستخدمونه وهو ليس بأهل للاستخدام في الجانب هذا، وقد يؤدي إلى إفساد قلب الرجل ونيته؛ لأن كيل ألفاظ الثناء والمدح مما يخرب الإخلاص، ويجرحه تجريحاً، ولذلك كان لا بد من إلقاء الضوء على هذه المسألة بحسب ما جاء في سيرة رسول الله ﷺ وأحاديثه وما ذكر العلماء في هذه القضية.
اعلموا رحمكم الله تعالى أنه قد ورد في الحديث الصحيح عن همام بن الحارث أن رجلاً جعل يمدح عثمان ، فعمد المقداد أحد الصحابة وكان جالساً في المجلس فجثى على ركبتيه وكان رجلاً ضخماً، فجعل يحثوا في وجه المادح الحصباء، وهي الحصى الصغير مع التراب، فقال له عثمان: ما شأنك؟ ماذا جرى لك؟ فقال: إن رسول الله ﷺ قال: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب[رواه مسلم3002]رواه مسلم.
وعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير قال: مدحك أخاك في وجهه كإمرارك على حلقه موسى رهيصاً. كأنك تمر على حلقه موساً شديداً وحاد جداً.
ومدح رجل ابن عمر في وجهه فقال ابن عمر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب ثم أخذ ابن عمر التراب فرمى به في وجه المادح، وقال: هذا في وجهك، هذا في وجهك، هذا في وجهك، ثلاث مرات، قال في الصحيحة: السند جيد.[رواه أحمد5651].
هذا الفعل أيها الإخوة حث التراب في وجوه المداحين هذا من سنة رسول الله ﷺ ولكن لا بد عند تطبيق الأحاديث من مراعاة أحوال الناس، فهذا لا يقول لك: بأنه إذا جاءك رجل يمدحك الآن فإنك تأخذ التراب وترميه في وجهه مهما كان حاله، كلا يا أخي، فلا بد من مراعاة حال المادح، فقد يكون جاهلاً لأحكام المدح وما يترتب عليها، ثم إن ابن عمر من فقهه أنه علم الرجل أولاً، وقرأ عليه الحديث ثم حثا في وجهه التراب، ثم أنك إذا رأيت بأن حثو التراب في وجه هذا المادح قد يباعد فيما بينك وبينه ويصده عن الإسلام ويمنعه عن التأثر بك أو الاقتداء بك، فإن من الحكمة في هذه الحال عدم استعمال هذا، ليس تعطيلاً للحديث وإنما حكمة في الدعوة إلى الله، وترفقاً بالجاهل، وكذلك يا أخي المسلم فإن رسول الله ﷺ يقول في هذا الحديث: احثوا في وجوه المداحين، وأتى بصيغة المبالغة المداحين الذين يكثرون المدح، ويستعملونه بكثرة، فيجعلونه صنيعهم ودأبهم الدائب.
أفات المديح
قال ابن العربي رحمه الله: وصورة تطبيق هذا الحديث أن تأخذ كفاً من تراب وترمي به بين يديه، ليس في وجهه فتعمي به عيناه، كلا، ليس في وجهه فتعمي به عينيه، وإنما ترميه أمامه، لماذا؟ فإنك تقول له: ما عسى أن يكون مقدار من خلق من هذا، فمن الحكم أنك تأخذ التراب وترميه أمامه، وتقول له: أنا خلقت من هذا التراب، فهل أنا أهل لهذا المديح، وما خلقت إلا من الطين، وأنت كذلك ما خلقت إلا من هذا التراب، فربأ بنفسك عن هذه الآفات التي تعرضك إلى ما لا يحمد عقباه، وتعرف المادح قدرك وقدره.
قال النووي رحمه الله: ومدح الإنسان قد يكون في غيبته وهو غير موجود، وفي وجهه، ففي الحالة الأولى إذا مدح وهو غائب عن المجلس فإن هذا المدح لا يمنع منه، إلا إذا دخل المادح في الكذب فإنه يمنع من المدح حتى ولو كان الممدوح غير موجود؛ لأنه يدخل في الكذب، لا لكونه مدحاً.
ويستحب كذلك أيها الإخوة أن الإنسان إذا مدح أن لا يبالغ حتى ولو كان الممدوح أهلاً لهذا المدح كما سيمر معنا.
وقد بين ﷺ خطورة المدح فقال: إياكم والتمادح فإنه الذبح[رواه ابن ماجه3743]، فإنه في خطورته مثل الذبح، مدحك لأخيك في وجهه مثل أن تذبحه بالسكين، رواه ابن ماجه وهو في صحيح الجامع.
وقال أيضاً: ذبح الرجل أن تزكيه في وجهه[رواه ابن أبي الدنيا في الصمت596]هذا قوله ، وهو حديث مرسل تشهد له أحاديث أخرى، وهو في صحيح الجامع.
هذا المدح أيها الإخوة يسبب عللاً كثيرة، وآفات كبيرة في دين المادح والممدوح فلذلك سماه ﷺ ذبحاً؛ لأنه يميت القلب ويخرج الممدوح عن دينه، وفيه ذبح للممدوح أيضاً من جهة أنه يغره بأحواله، ويغريه بالعجب والكبر، ويرى نفسه أهلاً للمدحة لا سيما إذا كان من أبناء الدنيا، لذلك قال بعض السلف: لو أن إنساناً صنع إليك معروفاً، وهو يحب المدح ويحب الثناء ويحب الظهور بين الناس، فلا تمدحه على صنيعه، لا تمدحه، ولكن قل له أدعية، مثلما قال : من صنع لأخيه معروفاً فقال له: جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء[رواه الترمذي2035].
الدعاء له لا بأس به، أما لو شعرت أن هذا الرجل الذي صنع لك معروفاً إنما يحب من وراء هذا المعروف أن تمدحه وتثني عليه في المجالس وتذكر سيرته أمام الناس ففي هذه الحالة لا تمدحه، ولذلك قال ﷺ ناهياً عن الإطراء: وهو الزيادة في المدح، قال: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى[رواه البخاري3445]، ما قال : لا تمدحوني، ولكن قال: لا تطروني، مع أن الرسول ﷺ يستحق المدح أحق الاستحقاق على خلاف حال المسلمين، ومع ذلك فقد أوصانا بعدم إطرائه، والإطراء هو المبالغة في المدح حتى يرفع فوق قدره ومنزلته التي أنزله الله إياها.
ولذلك قال بعض العلماء: ويحرم مجاوزة الحد في الإطراء في المدح وترد به الشهادة.
كان قضاة المسلمين إذا جاء رجل معروف بالإطراء والزيادة في المدح، وعادته الثناء على الناس بما هم ليسوا له بأهل كانوا يردون شهادته ولا يقبلونها، وهذه الحالة معروفة في الشعراء كثيراً، ولذلك قال بعضهم: لا تؤاخي شاعراً فإنه يمدحك بثمن، ويهجوك مجاناً، يمدحك ويأخذ أجراً على هذا الشعر، ولكنه إذا أراد أن يهجوك هجاك مجاناً، ولذلك وقع من جراء التمادي في المدح في بعض أشعار السابقين واللاحقين أشياء لا يرضاها الله تعالى، فمن ذلك قول الشاعر ابن هانئ الأندلسي وهو يمدح المعز العبيدي مخاطباً له، وصل به الإطراء إلى درجة أنه قال له هذا البيت:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار | فاحكم فأنت الواحد القهار |
وهذه الصفات لا تكون إلا لله ، هو الذي يشاء مهما شاء البشر فمشيئته نافذة، وهو الذي يحكم وهو الواحد القهار، وصل الحال بهذا الشاعر لدرجة أن خرج عن الملة بإطلاق هذه الألفاظ على عبد من العبيد.
وروى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أبي موسى قال: سمع النبي ﷺ رجلاً يثني على رجل ويطريه في المدحة، يبالغ في المدح، فقال: أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل[رواه البخاري2663]، وترجم عليه رحمه الله البخاري في صحيحه باب ما يكره من الإطناب والمدح، في كتاب الشهادات، قال معنوناً: باب ما يكره من الإطناب والمدح.
وعن أبي بكرة أن رجلاً ذكر عند النبي ﷺ فأثنى عليه رجل خيراً فقال النبي ﷺ: ويحك، ويحك، ويحك قطعت عنق صاحبك يقول ذلك مراراً، يقول له: ويحك قطعت عنق صاحبك، إن كان أحدكم مادحاً يقول موجهاً الأمة: إن كان أحدكم مادحاً لا محالة لا بد أن يمدح فليقل: أحسب كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه [رواه البخاري2662] ، ليس فقط أن يقول المدح وهذا لا يستاهل المدح، حتى لو قال: أحسبه كذا، وهذا الرجل لا يستاهل هذا، لا، لا بد أن يكون أهلاً لذلك، لا بد أن يكون مصلياً حتى تقول: أحسبه أنه من أهل الصلاة، أما إن كان ليس بمصلٍ فلا يجوز أن تقول: من أهل الصلاة حتى لو قلت قبلها أحسبه؛ لأنه ليس من أهل الصلاة.
فيقول : إن كان يرى أنه كذلك، والله حسيبه ولا يزكي على الله أحداً[رواه مسلم3000]، لذلك أيها الإخوة إن رأى الإنسان أن يمدح إنساناً لحاجة شرعية، أو مصلحة شرعية، فليقل في مدحه: أحسبه والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً أن الرجل هذا من أهل كذا وكذا، وبوب النووي رحمه الله تعالى على هذا الحديث باب كراهة المدح في الوجه لمن خيف عليه مفسدة من إعجاب ونحوه، وجوازه يعني بلا كراهة لمن أمن ذلك في حقه، وذلك لكمال تقواه ورسوخ عقله ومعرفته، وشرط الجواز حينئذ، شرط جواز المدح أن لا يكون فيه مجازفة، أن لا يكون فيه مجازفة، فإذا كان فيه زيادة عن حال الرجل ومجازفة فإنه عند ذلك لا يجوز مطلقاً.
وكذلك من أفرط في مدح آخر بما ليس فيه فإن الممدوح لا يأمن على نفسه العجب، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالاً على ما وصف به، لو أنك مسكت إنساناً ومدحته، قلت: أنت كذا وكذا، أمام الناس، أو بمفرده، ماذا يحصل لهذا الرجل؟ يحسب بسبب مدحك إياه بأنه قد وصل إلى منزلة عالية من الخير، وأنه الآن عند الله في كذا وكذا، وأنه من أهل الجنة مثلاً، وهذا الشيء يدفعه إلى ترك العمل؛ لأنه يشعر بأنه قد أمن على نفسه، وبأنه قد أصبح في المنزلة العالية فلماذا يعمل؛ لذلك قال العلماء: فإن الرجل لا يعمل إلا إذا أحس بالتقصير، فأنت إذا مدحته مدحاً زائداً فإنك تزيل عنه التقصير من نفسه، تزيل عنه الإحساس بالتقصير، فلذلك يتكاسل عن العمل ويتوانى، هذا من أضرار الإفراط في المدح.
وأما من مدح إنساناً بما فيه, وكان هذا الرجل من أهل الصلاح والتقوى, ولا يوجد عنده حب للظهور، أو لا يوجد عنده اغترار بالكلام الذي سيمدح به فإنه والحالة هذه لا يكره مدحه، ولكن هذا الأمر لعمر الله يحتاج إلى فراسة إيمانية، لا تتوفر لكثير من الناس، ولذلك فالأحوط أن لا تبالغ في المدح، ولا تمدح إلا للضرورة الشرعية.
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: وقد ضبط العلماء المبالغة الجائزة من المبالغة الممنوعة بأن الجائزة يصحبها شرط أو تقريب، والممنوعة بخلافها، يعني أنت أحياناً تضطر إلى المدح فماذا تقول في مدحك: فلان إن شاء الله من أهل الخير ما دام متمسكاً بالدين, أو ما دام متبعاً لسنة الرسول ﷺ، فهذا الشرط أو التقريب مهم جداً لكي يكون المدح شرعياً, وإلا فإطلاق المدح والتزكية بدون قيد أو شرط؛ يخشى أن يكون مما لا يرضي الله ، فتقول: فلان نحسبه من كذا على سبيل التقريب، نحسبه من أهل كذا، هذه الصيغة لا بأس بها إذا احتاج الإنسان إليها.
وكذلك فإن المادح نفسه يتضرر من وراء هذا المدح، فيضطر للكذب في المدح وقد يضطر للرياء، وقد يرتكب منهياً عظيماً من المنهيات وهو يمدح إنساناً فاسقاً أو ظالماً، وقد يطلق الكلام لا على سبيل التحقق، يقول: فلان من أهل كذا، وفلان صفته كذا وهو ما تحقق ولا تأكد خصوصاً أن بعض الأشياء التي يمدح بها بعض الناس لا سبيل إلى التأكد منها مطلقاً؛ لأنها قد تكون أشياء قلبية، كيف اطلعت على قلبه لتقول: هذا الرجل من المخلصين، إيمانه كامل، وكذا وكذا، والإيمان محله القلب ويصدقه العمل، فكيف أنت تحكم بالعمل فقط، ولم تتطلع على قلبه، وتحكم لفلان من الناس بكمال الإيمان وهي مسألة مستحيلة الحكم بها؛ لأنها تحتاج على اطلاع على القلب وهذا ليس إلا لله .
الهدي الشرعي في المديح
وكذلك أيها الإخوة، بعض الناس قد يقول: فلان ورع، فلان تقي، فلان زاهد، هذا المدح ليس بصحيح، هذا بخلاف ما إذا قال: رأيت فلاناً يصلي، رأيت فلاناً يحج، رأيت فلاناً يزكي، لو طلب منك شهادة في فلان في مسألة زواج مثلاً لا تقول: فلان ورع، وتقي، وعابد، وزاهد، وكامل الإيمان، تقول مثلاًَ: أنا رأيته يصلي، رأيته من الدعاة إلى الله، يدعو إلى الله على بصيرة، رأيت فيه علماً، هكذا تقول ولا تطلق الألفاظ، تقول هذا الكلام مما يسهل الاطلاع عليه؛ لأنه يسهل الاطلاع على فلان أنه من أهل الصلاة، يسهل الاطلاع على فلان أنه من أهل العلم، وهكذا.
وكذلك أيها الإخوة قال بعض السلف: إذا مدح الرجل في وجهه فليقل: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون. أخرجه البيهقي في الشعب.
ماذا تقول إذا مدحك إنسان في وجهك؟ تقول: الله اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون، وتستنكر هذا المدح، وتنكر على هذا الرجل، هذا الكيل المتدفق في المدح؛ لأنه مخالف لسنة رسول الله ﷺ.
وعلماؤنا من السلف رحمة الله تعالى عليهم كانوا لا يكيلون المدح جزافاً، ولا يطلقونه إطلاقاً، بل إنك إذا رجعت إلى كتب الجرح والتعديل التي فيها تقييم لرجال الحديث، لوجدت العلماء من السلف في هذا الجانب يدققون جداً، لا يقولون: فلان إمام عدل ثقة ثبت ورع زاهد تقي عابد، كلا، إلا إذا كان من أهل هذه المنزلة فعلاً، أما إذا كان فيه شيء آخر، فإنهم يبينونه، فلذلك مثلاً، يقول الذهبي رحمه الله في ترجمة إسماعيل بن سميع الكوفي: ثقة فيه بدعة، كونه ثقة ما منع الذهبي أن يقول: فيه بدعة، وكونه فيه بدعة ما منع الذهبي أن يقول عنه: ثقة، لا بد وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ سورة الشعراء183، قال عنه: ثقة فيه بدعة، وقال في ترجمة أبو سليمان داود المدني: ثقة مشهور له غرائب تستنكر، مع أنه ثقة مشهور لكن عنده غرائب تستنكر منه، ما منع الذهبي ثقة الرجل وشهرته أن يضيف هذه الإضافة، له غرائب تستنكر، لا بد من إنزال الناس منازلهم، عدم إطلاق ألفاظ الثناء عليهم.
مثال أخير: قال الذهبي رحمه الله في ترجمة طلق بن حبيب: من صلحاء التابعين إلا أنه يرى الإرجاء. وقال ابن حبان في نفس الرجل: كان عابداً مرجئاً، الإرجاء بدعة، قول مبتدع في الدين، مذهب باطل، إلا أنهم لما ترجموا لهذا الرجل قالوا: من صلحاء التابعين، هو صالح نعم، لكن عنده في فكره انحراف منهجي في قضية الإرجاء، فكان لا بد أيها الإخوة من التنبيه.
مدح الفاجر
ومن أعظم المصائب في قضية المدح مدح المنافق والفاجر أو الكافر بقول: سيد، قال ﷺ في الحديث الصحيح، الذي يرويه أحمد وأبو داود عن بريدة وهو في صحيح الجامع: لا تقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم[رواه أحمد22430]، قال العلماء في شرح الحديث: إذا قلت للمنافق يا سيدنا أو يا سيدي وهذا الرجل سيد فعلاً عنده عبيد وعنده أموال وعنده جاه ومنصب فإن قلت له: يا سيدي وهو منافق فعلاً فقد أسخطت ربك، فكيف إذا كان هذا المنافق ليس بسيد أصلاً بل هو من عامة الناس وهو منافق وأنت تقول له: يا سيد، أو يا سيدي، ولذلك قال النووي رحمه الله معنوناً على هذا الحديث: باب النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بسيد ونحوه، قال الشارح في دليل الفالحين: ونحوهما يعني الفاسق والمبتدع ونحوهما يعني من الظلمة وأعوانهم، وبعض الناس اليوم عندما يخاطب الكفار يقول له بلهجته أو بلغته الأجنبية، نعم يا سيد، كما يقول بعض الطلبة للمدرس الكافر يقول له: يا سيد، هذا أيها الإخوة داخل في الحديث، حتى ولو قالها بلغة الكافر، وهذه اللفظة شائعة على ألسنة كثير ممن يتعاملون مع الكفرة، لماذا هذا النهي وهذا التعظيم، وقول الرسول ﷺ: لقد أسخطتم ربكم؟ قال الشارح رحمه الله: لأن فيه تعظيم لمن أهانه الله، الله يهين منافقاً أو مبتدعاً أو فاجراً، ويتوعده في كتابه بالنار والعذاب والإهانة في الدنيا والآخرة وأنت أيها المسلم تأتي وترفع هذا الرجل إلى مرتبة السيادة! إنه لأمر عجيب فعلاً.
وهذا الشيء مقيد بمن لا يكون على نفسه ضرر في أهله أو ماله فلا كراهة حينئذ، وقوله: فقد أسخطتم ربكم أي: عظمتم من خرج عن عبودية الله، واتخذ له ضداً ونداً، وكذلك العصاة، فإنهم اشتركوا مع المنافق في الخروج من حزب الرحمن والانتظام في إخوان الشيطان، هذا أيها الإخوة لا يجوز بحال، كثير من المسلمين اليوم يعظمون الفجار، والفسقة، والمبتدعين، والمنافقين، ويكيلون لهم ألفاظ الثناء والمدح بغير حساب.
الخطبة الثانية
النعي في الجرائد
أيها الإخوة: ومما يتعلق بالموضوع كذلك ما تراه أيها المسلم أحياناً في نعي الجرائد، فإن كثيراً من الناس إذا ذهب ينشر نعياً عن ميت من أصحابه أو من أهل تراه يقول مثلاً في مطلع النعي: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةًسورة الفجر27-28، أو يقول: لقد انتقل إلى رحمة الله فلان، أو يقول: المغفور له فلان قد مات في كذا وكذا، أو يقول: الشهيد فلان، أو مات شهيداً، ونحو ذلك، أو يقول، إلى آخر ذلك من الآيات التي يصدر بها النعي، وإلى آخر ذلك من الألفاظ، المرحوم فلان، يا أخي المسلم ما يدريك أنه مرحوم، ما يدريك بأنه انتقل إلى غضب الله وعذابه بدلاً من ينتقل إلى رحمته، ما يدريك بأن نفسه أمارة بالسوء وليست نفساً مطمئنة، كيف تحكم عليه بهذه الأحكام فتقول هذا من صاحب النفس المطمئنة، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِيسورة الفجر28-29، ما يدريك بأنه قد دخل الجنة عندما مات، ما يدريك بأن الله قد غفر أو لم يغفر له، ما يدريك بأنه شهيد، ربما كان غير شهيد، فلذلك أقرأ عليكم أيها الإخوة هذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله الذي يوضح لك بجلاء خطأ ونكارة ما يفعله الناس اليوم في هذه الأمور:
عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء الأنصارية امرأة من الأنصار قالت: بايعت رسول الله ﷺ، وأخبرت أنهم اقتسموا المهاجرين قرعة، لما هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة كانوا فقراء ليس عندهم مأوى ولا مكان يبيتون فيه، فإخوانهم الأنصار كانوا يحرصون عليهم أشد الحرص فتقول المرأة: اقتسموا المهاجرين قرعة، كل واحد من الأنصار يقول: أنا أريد فلان، أنا أريد فلان، والمهاجرين قلة في العدد أقل من الأنصار، فماذا فعل الرسول ﷺ؟ قسمها بالقرعة، يأتي برجل من المهاجرين فيقرع بين الأنصار فيخرج أن هذا من نصيب فلان، فيأخذه معه إلى بيته، ويسكنه في بيته ويكرمه ويطعمه، قالت هذه المرأة رضي الله عنها: فطار لنا عثمان بن مظعون، طار لنا في القرعة صار من نصيبنا عثمان بن مظعون المهاجري رضي الله تعالى عنه، وأنزلناه في أبياتنا، أكرمناه، فوجع وجعه الذي توفي فيه، نزل به المرض والوجع الذي أدى به إلى الوفاة، فلما توفي غسل وكفن في أثوابه، فدخل رسول الله ﷺ، فقالت المرأة: ما علمت منه إلا كل خير، ما رأته إلا عابداً مجاهداً في سبيل الله، تقول: رحمة الله عليك يا أبا السائب، وهي كنية عثمان بن مظعون، رحمة الله عليك يا أبا السائب، حتى هنا الكلام صحيح، دعاء بالرحمة له، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، أشهد أن الله قد أكرمك، فقال رسول الله ﷺ: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال رسول الله ﷺ: أما هو فقد جاءه اليقين جاءه الموت، والله إني لأرجو له الخير انظروا إلى التصحيح والتعليم، المرأة قالت: شهادتي عليك لقد أكرمك الله، ماذا قال الرسول ﷺ؟ والله إني لأرجو له الخير [رواه البخاري1243]، فلو قلت مثلاً: أرجو أن يكون فلان من أهل الجنة، أرجو أن الله قد أكرمه، نسأل الله أن يغفر له ذنوبه، نسأل الله أن يبلغه عليين، إلى آخر ذلك من ألفاظ الدعاء للميت، نعم، لا بأس، لكن إطلاق الحكم له بالجنة، وإطلاق الحكم له بالمغفرة أو الشهادة هذا مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن من عقيدتهم أنهم يقولون: لا يجوز الحكم لمعين بجنة أو نار إلا ما حكم له الوحي، فإذا حكم الوحي لأبي بكر أنه من أهل الجنة نحن نقطع أنه من أهل الجنة، إذا حكم القرآن أن أبا لهب في النار قطعنا بأنه في النار، غير ذلك من الأشخاص لا نقطع لهم بجنة أو بنار إلا ما ورد في الوحي، بل نقول: أن فلاناً عمله من عمل أهل الجنة، وفلان عمله من عمل أهل النار، وهكذا، ثم قال ﷺ مكملاً حديثة: والله إني لأرجو له الخير ووالله، انظروا أيها الإخوة إلى هذه العبارة ووالله ما أدري وأنا رسول الله ماذا يفعل بي؟، ولذلك تقول هذه المرأة: فما زكيت بعده أحداً أبداً.[رواه أحمد26911].
النهي عن المدح لا يعني الجفاف في المعاملة
نقطة أخيرة في هذه الموضوع، عندما نقول بالنهي عن المدح والتمادح والثناء، إننا لا نعني أيها الإخوة بأي حال من الأحوال، الجفاف في معاملة الناس، وعدم الثناء على من يستحق الخير، وأنه إذا ورد أمامنا ذكر عالم أو رجل من المخلصين أن لا نقول له كلمة مدح أو ثناء البتة، كلا.
أيها الإخوة: ولا يعني ذلك أيضاً بأننا في حال الدعوة إلى الله نترفق بالناس ونستثير كوامن الخير في أنفسهم بالثناء على ما فيهم من الخير، أنت كداعية عندما تريد أن تدعو الناس لا تذهب للرجل وتقول له في وجهه: افعل كذا وكذا بدون مقدمات تستثير بها عاطفته، تفتح قلبه، فمثلاً تقول للرجل: أحسب أنك من أهل الخير هلا فعلت كذا وكذا، أحسب أنك من أهل طاعة الله لم لا تفعل كذا، أو تقول مثلاً للرجل وهو يصلي، تقول له: يا أخي أنت من أهل الصلاة والحمد لله وفيك خير كبير وفيك إيمان ما دمت من أهل الصلاة لماذا لا تكمل هذا الإيمان بالإقلاع عن المعصية الفلانية والفلانية،
وقد قال الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس عيباً | كنقص القادرين على التمام |
هذا الأسلوب أيها الإخوة مطلوب، تشجيع طلبة العلم أثناء تعليمهم، بقول المعلم للرجل: أحسنت. مثلاً، والثناء عليه لا بأس بذلك، تشجيع الناس الذين يفعلون الخير بالكلمات الطيبة لا بأس بها بشرط أن يؤمن بأنهم لن يأخذوا كلامك هذا ويفسد نياتهم ويتركون العمل، وذلك بأن تقتصد في المدح وتعطي كل رجل الألفاظ المناسبة لحاله بغير أن تخرجه عن الحد المشروع، ولذلك أيها الإخوة أبو سفيان المشرك لما أسلم كيف أسلم؟ من الأسباب التي دعته للإسلام أن الرسول ﷺ أنزله منزلة فيها إظهار لبعض قدره حتى يؤلف قلبه على الإسلام، فلذلك قال ، قال مخاطباً أهل مكة: من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن دخل دار أو بيت أبي سفيان فهو آمن[ رواه أبو داود3022]، لماذا قال هذه الجملة؟ أعطى هذا الرجل شيئاً من المنزلة لعل الله أن يهديه، فأعطى أبا سفيان هذه المنزلة تأليفاً لقلبه، وهذا قدوة نقتدي بها أيها الإخوة في باب الدعوة إلى الله .
وفقنا الله وإياكم لمعرفته حق المعرفة، وعبادته حق العبادة، وأن نقوم بحقوق الله جل وعلا وأن نقيم حدوده في أعمالنا وجوارحنا وألسنتنا، ونسأله تعالى أن يقينا وإياكم آفات اللسان فإنها مهلكة، اللهم اجعلنا من الطائعين لك سراً وجهراً، ومن القائمين بحقوقك في الليل والنهار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار.