الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
نص قصة ثمامة بن أثال
فالقصة التي سنتحدث عنها -إن شاء الله-، من قصص أصحاب النبي ﷺ في عهده ، هي قصة رجل من زعماء المشركين، هداه الله -تعالى- في مسجد النبي ﷺ؛ روى قصته الإمام البخاري ومسلم وأحمد -رحمهم الله-، يقول أبو هريرة : "بعث رسول الله ﷺ خيلاً قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: "ثمامة بن أثال" سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي ﷺ، فقال: ما عندك يا ثمامة؟، فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسل تعط منه ما شئت، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله ﷺ، حتى كان بعد الغد،فقال: ما عندك يا ثمامة؟، قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله ﷺ، حتى كان من الغد، فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟، فقال: عندي ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال رسول الله ﷺ: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين أبغض إلى من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟
فبشره رسول الله ﷺ، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة، قال له قائل: "أصبوت؟" في رواية البخاري ومسلم: قال: لا، ولكن أسلمت مع رسول الله ﷺ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها رسول الله ﷺ"[رواه البخاري:4372، ومسلم: 4688، وأحمد:9832]. هذه قصة "ثمامة بن أثال" الحنفي سيد أهل اليمامة .
أهداف ومقاصد غارات وبعثات النبي ﷺ
لقد بعث النبي ﷺ كعادة المسلمين دائماً في جهاد واستعداد- معارك أو سرايا، أو جولات استطلاعية، تقوم بها خيل المسلمين حول المدينة، وتبعد لإرهاب أعداء الله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ[الأنفال: 60].
وكذلك: تغير على المشركين، وتحبط كل محاولة لغزو المدينة.
وكان هناك للنبي ﷺ ضربات وقائية، وكان هناك مفاجأة للعدو ومباغته.
فالنبي ﷺ جهاده إذا استطلعناه في عدد من الفنون، والمجالات العسكرية.
فإما أن تكون حرب مواجهة مع كفار قريش، مثل معركة بدر، ومعركة أحد، ومعركة حنين، ونحو ذلك.
وإما أن تكون غارات مفاجئة على مواقع العدو الذي يستعدون لغزو المدينة، فيحبطوا محاولاتهم واستعداداتهم في مهدها، كما حصل في غزوة بني المصطلق، أغار عليهم وهم غارون، أخذهم على حين غرة، وكانت قد وصلت إليه أخبار بأنهم يستعدون لقتاله.
أو تكون سرايا استطلاعية، كما أرسل النبي ﷺ عدداً من السرايا يأتونه بالأخبار، كما بعث عشرة من رجاله، عيناً في معركة ماء الرجيع.
وإما أن يكون خروجهم، لتنفيذ مهمة معينة، كاغتيال كافر، كما حصل في اغتيال سَلاَّمُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ اليهودي، ومقتل كعب بن الأشرف.
وقد تكون المهمات الحربية، لتحطيم بعض أوثان الجاهلية، كما أرسل خالد بن الوليد، وغيره من الصحابة لتحطيم وتحريق أوثان كان أهل الجاهلية يعبدونها.
وقد تكون الغارات التي يرسلها ﷺ للاستيلاء على قوافل للمشركين، في حرب اقتصادية، ونهب أموال الكفار التي أباحها الله؛ لأنهم من المحاربين، وأموال المحاربين حلال.
أقسام الكفار وكيفية التعامل معهم
فإن الكفار عند المسلمين على ثلاثة أنواع:
كافر مسالم، وكافر محارب، وكافر ذمي، يعيش في بلاد المسلمين، تحت حماية المسلمين، ويدفع الجزية.
والمعاهد مثله، بينه وبين المسلمين عهدا، أو دخل رجل، كسفير للكفار يبلغ رسالة، يعطى أماناً، حتى يبلغ الرسالة ويخرج.
فمواقف المسلمين من الكفار، بحسب أحوال الكفار أنفسهم.
فهؤلاء الكفار المحاربون، أموالهم حلال للمسلمين، فلو نهب المسلمون في فلسطين –مثلاً- أموالاً لليهود، فهي حلال عليهم؛ لأن هؤلاء اليهود محاربون، فأموالهم حلال للمسلمين.
وكذلك لو نهب المسلمون في كشمير -مثلاً- أموال الهندوس الذين يحاربونهم، وقطعوا القوافل، ونهبوا البضائع، أو نهبوا أموال الجيش الذي يقاتلهم، فهي حلال للمسلمين.
لكن نهب مال الكافر المسالم الذي لا يحارب المسلمين، أو الكافر المعاهد، فلا يجوز.
والمعاهد الذي أعطاه المسلمون العهد والأمان -وليس الكفار ولا المجرمون ولا المنافقون ولا الطواغيت-؛ ماله محترم، له حرمته، ولا يجوز أن ينهب.
وهناك بعض المسلمين الذين يعيشون في بلاد الكفار، أو في بلاد الغرب ينهبون أموالا، أو يسرقون أموالا من شركات اتصالات، وشركات نقل عام، بحجة أنهم كفار، وهذا جهل؛ لأن المسلم الذي دخل بلادهم بعهد، فلا يجوز له أن ينهب الأموال العامة عندهم، ولا يستطيع أن يثبت أن أصحاب شركة الهاتف هذه، أو أصحاب شركة النقل هذه، محاربون للإسلام، فإن المحارب للإسلام هو الذي رفع السلاح على المسلمين، وأعان على حربهم.
فقد يتساهل بعض المسلمين في الأخذ من أموال الكفار، بحجة أنهم حربيون، مع أن المسألة ليست كذلك.
فينبغي أن ينزل كل شيء في موضعه، وإلا تصبح القضية ظلم، فهناك أناس حربيون لا شك فيهم؛ كاليهود في فلسطين، حربيون مائة في المائة، ومحتلون، وغاصبون، وقاهرون، وباغون، ومحاربون ومقاتلون، كل ما يمكن أن ينطبق على الكافر المحارب فيهم، فهؤلاء كل أموالهم حلال للمسلمين.
وقد يكون بعض الكفار أموالهم حلال، ولكن جنس الطائفة، أو من نفس الديانة أموالهم محترمة، فليس كل نصراني محارب، ولا كل يهودي محارب، بحسب حاله.
وهذه المسألة مما يعين في قضية الموقف من أموالهم؛ لأن بعض المسلمين -كما ذكرنا- عن جهل، وعن هوى، يسلبون أموال الكفار، بدون حجة شرعية، وهذا حرام لا يجوز.
النبي ﷺ أغارت خيل له قِبل نجد، وكانت في ذلك الزمان ديار كفر، فلم يستول عليها المسلمون بعد، ولم تطبق فيها الشريعة، أغاروا عليها، وأسروا رجلاً مهماً، وهو "ثمامة" سيد أهل اليمامة، اليمامة: منطقة معروفة في نجد اليمامة.
فأُتي به إلى النبي ﷺ، لقد كان المسلمون يُرهبون الكفار فعلاً، وكان الكفار في قلق وانزعاج دائم؛ لأن المسلمين في غارات، وحراسات مستمرة، لا يشعر الكفار بالأمان، وهذا من دوافع دخول كثير منهم في الدين، حتى يأمنوا على أنفسهم: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ[رواه البخاري: 25، ومسلم: 138] صارت أموالهم محترمة.
لقد أسرت خيل المسلمين ذلك الرجل المهم عند الكفار، وهو سيدهم، فكان ذلك ضربة معنوية قاصمة لأولئك الكفرة؛ لأن سيدهم قد أُخذ.
أسباب وبواعث تغير حياة "ثمامة أثال"
ربط"ثمامة بن أثال" في سارية المسجد
وكان النبي ﷺ قد ملئ حكمة، وبُعد نظر، ولذلك أمر: بأن يربط "ثمامة" ليس في خيمة، ولا في بيت مغلق، أو في سجن، وإنما وضع في المسجد، وربط إلى سارية -عمود- من سواري المسجد.
إن ربط "ثمامة" إلى سارية من سواري المسجد، معناها: أنه يرى يومياً كيفية حياة المسلمين في المسجد، وكيف يأتون إلى الصلاة مبكرين، وكيف يصلون، ويجلسون يدعون، ويذكرون الله، يُرفع الأذان يطرق مسامع "ثمامة" خمس مرات في اليوم، وتقام الصلاة، ويسمع قراءة النبي ﷺ، وسماع قراءة النبي ﷺ وحدها في غاية التأثير؛ فجبير بن مطعم يقول: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ[الطور: 35- 37]كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ"[رواه البخاري: 4854].
فسماع قراءة النبي ﷺ وحدها مؤثرة.
وظائف المسجد في العهد النبوي
ثم إن المسجد مكان للصلح؛ كقصة كعب بن مالك، وابن أبي حدرد؛ لما توسط النبي ﷺ بينهما، فوضع صاحب الحق شيئاً من حقه، وأمر الآخر أن يبادر بالسداد.
ومكان للتزويج، وعقد النكاح، والتوفيق بين المسلمين، ومكان لاستضافة الغرباء، وإكرام من لا بيت له؛ كأهل الصفة.
ومكان لجمع التبرعات والصدقات؛ كما في قصة مجئ قوم مجتابي النمار إلى المسجد، فأمر النبي ﷺ المسلمين بالصدقة.
ومكان لإرسال الجيوش والبعوث، ومكان تجلب إليه الغنائم، وتقسم على حسب شرع الله، ومكان تجمع فيه زكاة الفطر، وتقسم على الفقراء، ويؤتى فيه خراج البحرين، ويوضع في المسجد.
ومكان للأسئلة والإجابات، ومكان حلق الذكر، ودروس العلم، ومكان الخطب النبوية المؤثرة، والمكان الذي يجتمع فيه المسلمون في المدينة إلى النبي ﷺ؛ ليوقروه ويعظموه ويطيعوه، ﷺ.
والمكان الذي يأتي فيه الناس يصلون النوافل، ويصلون التراويح جماعة أحياناً.
فهذا المشاهد الموجودة في المسجد كفيلة بالتأثير في النفوس.
ولذلك النبي ﷺ من حكمته أمر بربط "ثمامة" في المسجد، وليس في أي مكان آخر.
وحول موضوع ربط دخول في المسجد سنتحدث في آخر الدرس -إن شاء الله-، هل يجوز إدخال الكافر إلى المسجد أم لا؟
حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع "ثمامة بن أثال" وعفوه عنه
النبيﷺ جاء إلى "ثمامة" قال: ماذا عندك؟ ما الذي استقر في ظنك أن أفعله بك؟ ماذا تظن يا "ثمامة" أني فاعل بك؟
فأجاب: بأنه يظن بالنبي ﷺ ظن خير، وأنه ليس ممن يظلم، وأن ظنه به أنه يعفو ويحسن، وأنه إذا قتله، فإنما يقتل ذا دم، وفي رواية: "ذا ذم"[رواه أبو داود:2681، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود: 2679].
"تقتل ذا دم" يعني صاحب دم لدمه، موقع يشتفي قاتله بقتله، يعني كأنه يقول: إذا قتلتني تقتل شيئا كبيرا، يحق لك انتقاماً، وتقتل رئيسا، وتقتل عظيما من العظماء.
وأما رواية: "ذا ذم" فمعناها: ذا ذمة، لكن لم يكن لهذا الرجل ذمة، ولهذا استبعدها بعض العلماء.
والنووي حاول أن يوجه الرواية هذه، فيقول: "ذا ذمام وحرمة في قومه"[المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج:12/88].
وليس أن ثمامة صاحب ذمة، أو أن المسلمين قد أعطوه عهداً مثلاً.
الوجه الثاني: "إن تنعم تنعم على شاكر" يشكر لك منتك وفضلك علي.
وفي اليوم الثاني، والثالث، عرض على ثمامة ما عرض عليه من قبل، وسئل عما سئل عليه من قبل.
والنبي ﷺ لما رأى موقف "ثمامة" كما هو، أمر بإطلاقه.
قال بعض العلماء: أن "ثمامة" قد وافق في هذه المخاطبة قول عيسى : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[المائدة:118].
قال: أطلقوا "ثمامة" قال: قد عفوت عنك يا "ثمامة" وأعتقتك في رواية ابن إسحاق[فتح الباري: 8/88].
وقيل كذلك في رواية ابن إسحاق: "أنه لما كان في الأسر جمعوا ما كان في أهل النبي ﷺ من طعام ولبن، فلم يقع ذلك من ثمامة موقعا، فلما أسلم جاءوه بالطعام، فلم يصب منه إلا قليلا"[فتح الباري: 8/88].
ولكن النبي ﷺ بعد ذلك أمر بإطلاقه.
إسلام "ثمامة بن أثال"
لما أطلق لم يرجع إلى قومه؛ لأن ما شاهده من المشاهد كفيل بأن يجعل الهداية تدخل إلى قلبه، فذهب واغتسل، وأسلم، ونطق بالشهادتين، فبشره النبي ﷺ بالجنة، ومحو ذنوبه، وتبعاته السابقة.
ثم أخبر النبي ﷺ عما أحس به من محبته للنبي ﷺ، ومحبة دينه، ومحبة بلده، فانقلب البغض إلى حب، وانقلبت الكراهية إلى محبة، واتضح من خلال التأثير كيف تنقلب مشاعر المدعو عكس ما كانت عليه.
لو وجد المدعو في بيئة سليمة، وتعرض لمؤثرات صحيحة، ووجد في جو طيب؛ فإنه يتأثر.
وهكذا حصل ل"ثمامة"، ربط في هذا المكان، فتأثر، فانقلبت مشاعره، فإنه كان يكره النبي ﷺ، ويكره دينه، ويكره بلده، فصار أحب الوجوه إليه وجهه ﷺ، وأحب البلاد إليه بلده، وأحب الدين إليه دينه، وهكذا..
زد على ذلك: أن المنَّة التي منَّ بها ﷺ على هذا الرجل؛ أثرت فيه، منّة شكرها هذا الرجل فعلاً، وكان شكره: أنه أسلم، وتابع النبي ﷺ.
تغيير الإسلام "ثمامة بن أثال" وقلبه لمشاعره
لقد كان مفهوم المسلمين في السابق للإسلام أمراً عجيباً، حتى مع أنهم حديثو عهد به، فإن هذا الرجل كان سيد قومه، وهو مشرك كافر، أُخذ ووضع في المسجد، وفي هذه الأيام الثلاثة رأى المجتمع الإسلامي من الداخل، رآه عن قرب، فقد كان هناك إشاعات كثيرة عن النبي ﷺ، وعلى المسلمين، يطلقها اليهود والمنافقون ومشركو قريش، وغيرهم، ولكن الآن رأى ثمامة بأم عينيه المجتمع الإسلامي من الداخل، كيف يعيش المسلمون، رأى النبي ﷺ بنفسه وشخصه، لقد زالت كل الهالات الإعلامية السيئة التي نسجها الكفار حول المسلمين، وحول الدعوة، وحول النبي ﷺ، لقد رأى ثمامة الصورة الحقيقية.
كرم النبي ﷺ وعفوه عن ثمامة
ثم صادف ذلك الإنعام من النبي ﷺ عليه: بأن مَنَّ عليه، وأطلقه دون قيد أو شرط أو فدية، أو أي مقابل، إنه الكرم النبوي،حيث قال: أطلقوا ثمامة دون أي مقابل.
فهذه الأشياء مجتمعة لا شك أنها أثرت في الرجل، فقلبت مشاعره.
والذي نريد أن نقوله: إن الدخول في الدين لم يكن فقط كلمة تنطق، بل هو تغيير جذري في المشاعر، لا يؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا يؤمن حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، ولا يؤمن حتى يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار.
فعملية الدخول في الإسلام والهداية تُحدث تحولات في المشاعر، فليست القضية قضية نطق بالكلام، أو عبارات تقال، وليست شعائر تؤدى بالجسد، وإنما تغيير داخلي، في القلب، وفي الأحاسيس، وفي المشاعر، فينقلب الكره حبا، والبغضاء مودة، وهكذا حصل ل"ثمامة" .
استفتاء "ثمامة بن أثال"عن عمرة نوى القيام بها قبل إسلامه
هل انتهت القضية على هذا؟ هل الإيمان هذا الذي ولده الإيمان فقط؟
لا، فالرجل لما أسلم كان يريد أن يؤدي عمرة، وما حكم العمرة التي كان يريد أن يؤديها؟
عليه أن يستمر في عمل الخير، والعمرة عمل خير، والمشركون كانوا يعتمرون، ويحجون،لكن على مذهبهم الباطل، وعقيدتهم الباطلة، فيطوفون حول أصنام الكعبة، وقريش كانت تذهب إلى مزدلفة ولا تتجاوزها؛ لأنهم يقولون: نحن أهل الحرم، فلا نتعدى الحرم مثل بقية الناس إلى عرفات.
وكان بعضهم يطوف بالبيت عريانا، فالحج والعمرة كان على مذهبهم الفاسد.
فهذا الرجل أسلم، كان يريد أن يؤدي عمرة، فقال: "يا رسول الله إن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟".
تصور أن زعيماً من زعماء الكفار يسلم ثم يأتي مباشرة ليستفتي! وليس من السهل على زعيم قبيلة أو عشيرة، أو سيد مطاع في قومه أن يأتي ليسأل ويستفتي، لكن كان دخول الصحابة في الدين انقلاباً شاملاً في النفس، يقلب كيان الرجل، فلما سأل النبي ﷺ أمره أن يعتمر.
إذاً، إذا كان الكافر يريد أن يعمل عمل خير قبل الإسلام وأسلم؛ فإنه يستمر في عمل الخير الذي كان يريد أن يعمله.
ذهاب "ثمامة بن أثال" لأداء العمرة
ولم تنته المسألة عند هذا، ونحن نريد أن نفحص عملية التغيير التي حدثت لهذا الرجل؛ لأن هذه العملية فيها عبرة، بها نكتشف الفرق بين إسلام العامة، وكيف كان يسلم الصحابة؟.
إذا أسلم الواحد على عهد النبي ﷺ، إسلامه كان يعني أشياء كثيرة، يعني انقلابا كاملا، وتحولا جذريا.
الرجل ذهب إلى مكة لأداء العمرة؛ حتى إذا كان ببطن مكة لبى، فقيل: إنه أول من دخل مكة بالتلبية، وقيل: إن قريشاً، قالوا: لقد اجترأت علينا، وأخذوه يريدون قتله، فقال قائل منهم: دعوه، فإنكم تحتاجون إلى الطعام من اليمامة.
واليمامة منطقة كانت تمون مكة بالقمح -الحنطة- فتركوه.
كما كانوا يريدون قتل أبي ذر الغفاري فقام العباس يدافع عنه، ويقول: إن معبر قوافلكم على طريق قوم الرجل، وإن قتلتموه سيمنعون قوافلكم وينهبونها، فتحت ضغط العامل الاقتصادي يتراجع القوم عما كانوا يريدون، وإلى الآن والعامل الاقتصادي عامل له ضغط وتأثير.
لكنهم ما تركوه من جهة الاستهزاء، بل قالوا له: أصبوت؟ والصابئ هو الذي غير دينه، فأي شخص يغير دينه عن دين قومه تسميه العرب: الصابئ.
صبأ، يعني غير دينه عن دين قومه.
عزة ثمامة بن أثال وشجاعته
وتأمل كيف ينشئ الإسلام عزة في نفس المسلم إذا كان إسلامه صحيحا، فلم يسكت لهم على هذه الكلمة، وهم جماعة، وهو واحد، فقال: لا، ولكن أسلمت مع محمد ﷺ.
تهديد "ثمامة بن أثال" لقريش بالحصار الاقتصادي
ولم يكتفِ بالرد عليهم فقط، وإنما العزة دفعته إلى أن يهدد بالتهديد التالي، يقول:"ولا والله، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها النبي ﷺ".
واليمامة منطقة زراعية، كانت تصدر الحنطة إلى مكة.
والآن "ثمامة" فهم بإسلامه: أن الدين يتطلب منه: أن يتخذ مواقف من الكفرة، مواقف فيها مفاصلة، وفيها إرغام لأعداء الله، ومقاطعة اقتصادية.
فهذه الكلمة خطيرة، ولكن الرجل قالها، فلم يكن إسلامه إسلاماً بارداً، إسلام من يحبون الأعداء، ويتآلفون ويتأقلمون ويعيشون مع الأعداء في سلام وأمان.
رفض الإسلام للجاهلية وعدم تعايشه معها
بل كانت مواقف مواجهة؛ لأن طبيعة الدين تغيرية، والإسلام يريد أن ينقض الكفر والجاهلية، ولا يمكن أن يتعايش مع الكفر،والذي يريد أن يحدث تعايشا بين الإسلام والكفر؛ مجنون؛ لأن طبيعة الإسلام نسف الجاهلية، وتحطيم الأوثان، وإزالة المعبودات من دون الله، ونشر الإسلام: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ[الأنفال:39]. هذه طبيعة الدين.
-والآن- يراد أن يكون الدين رقيقا، دين سلام وعاطفة ومحبة للجميع، ودائماً يقولون: الإسلام دين مسالم!كيف هذا؟! هل هناك جهاد في الدين أم أنكم قد ألغيتم الجهاد؟!
ويقولون: الإسلام ليس فيه إرهاب! كيف ذلك؟!
وفيه إرهاب لأعداء الله، والله يقول: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ[الأنفال:60].
فإذا كنا لا نريد إرهاب أعداء الله، فمعناها: أن الدين رخو، وناقص، وقد عطلنا هذه الشعيرة.
فالذي يقول: هذا دين سلمي، ولا يوجد فيه قتال ولا اعتداء على أحد، فمعنى ذلك إلغاء الجهاد، وهذا ما يقصدونه، إذا فسروا الجهاد على أنه اعتداء، فنعم فيه اعتداء، لكنه اعتداء بالحق، وهناك اعتداء بالباطل، كأن تذهب إلى كافر مسالم أو لا يحارب الدين، ولا يقف في طريق نشر الدين، وتقتله، وتستولي على ماله؛ فهذا خطأ.
أما إذا وقفوا في طريق الدين ونشره، فيقاتلون.
ماذا فعل الصحابة في الفتوحات؟
لقد عرضوا الإسلام على رستم، وعلى رسل قيصر، وعلى قادة الفرس والروم، أي إذا دخلتم في الإسلام انتهت العداوة والبغضاء بيننا، على أن تخلّوا بيننا وبين شعوبكم، ندعوهم إلى الإسلام ولا نقاتلكم، أما إذا منعتمونا فسنقاتلكم، ونرهبكم، ونعتدي عليكم.
إن الدين في هذا الزمان يتعرض للتشويه، ويريدون حذف أشياء منه، يريدون إلغاء أي شيء يتعلق بإرهاب الكفار، وجهاد أعداء الله -مثلا- ونحو ذلك.
فالذي يقول: إن الإسلام ليس فيه أي مواجهات، ولا اعتداء، ولا قتال، ولا استيلاء على أموال الآخرين مخطئ في قوله.
وكيف ليس فيه استيلاء، وهذه الغنائم أليست استيلاء على أموال الكفرة المحاربين؟
إذاً، الإسلام فيه استيلاء على أموال الآخرين، لكن بالحق، ولذلك، قال العلماء: "أحل الحلال أموال المحاربين -وهي الغنائم-: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً [الأنفال:69].
لكن لا يمكن أن تكون الأمة في وضع صعب وهزيمة، والمرتدون فيها كثرة مسيطرون، والمنافقون فيها كذلك، ثم تحارب وتغنم! الأمة لا تستطيع أن تحارب وتجاهد وتغنم إلا إذا قامت على قدميها، وإذا صار الدين فيها محكماً، ورجع الناس فيها إلى الله، وصارت الجبهة الداخلية فيها متماسكة، وتمسَّك المسلمون بالدين، فعند ذلك يمكن الجهاد والغنائم.
حاجة الأمة الإسلامية إلى الدعوة والإصلاح قبل الجهاد
أما في هذا الوضع، فإن الأمة تحتاج إلى دعوة وإصلاح قبل أن تجاهد، فلا يمكن أن تجاهد وهي بعيدة عن الدين، فإن أكثر المسلمين شاردون عن الدين، ومنغمسون في المعاصي، وفي الفجور، وفي الفسق، هذا لا يصلي، وهذا يستهزئ بالإسلام، وهذا لا يعرف السنة، وهذا يعترف ببعض السنة، وهذا أهل بيته في غاية التبرج والفسق والفجور، وهذا بيته مليء بالمنكرات، كيف ستجاهد الأمة وهذا وضعها وحالها؟!
إذاً، فالأمة تحتاج إلى إصلاح وإلى دعوة قبل أن تقوم للجهاد في سبيل الله، وقبل أن تفكر في الغنائم، فكِّرْ في الدعوة أولاً، وفي إصلاح المسلمين، حتى يكونوا متهيئين بعد ذلك للجهاد والغنيمة.
ومع أننا غير قادرين على القيام بهذا الأمر، فإننا لا ننكره، بل إن الجهاد موجود في الدين، لكن نحن غير قادرين عليه.
لقد أحل الله غنائم الكفار، لكن نحن غير قادرين عليها؛ لأن وضعنا لا يسمح بالجهاد، وأخذ أموال الكفار، ولكن لا ننفيه، ونقول: ليس في الإسلام جهاد ولا غنائم، ولا أخذ أسرى الكفار؛ قتلاً أو مناً أو مبادلةً أو فداءً، هذا موجود في الإسلام.
دحض القرآن لفكرة التقريب بين الأديان
وبعض المنهزمين منا، يقولون: الإسلام دين السلام، أما الجهاد، فكان في الماضي وقد انتهى، أما الآن فلابد من التعايش السلمي، والتقريب بين المسلمين وبين اليهود والنصارى، وعقد لقاءات لهذا الأمر كيف التقريب؟ هذا نصراني يقول: الله ثالث ثلاثة، وأنا مسلم أقول: الله واحد، لا شريك له؟ كيف يحدث التقريب؟! ومن سيقترب من الآخر؟
ثم السؤال الآخر: كيف سيكون التقريب؟
معني ذلك أنك تسحب الطرفين إلى الوسط، أليس هذا هو التقريب؟ يهودي مسلم، أو نصراني مسلم! كيف يمكن أن يحدث؟
معنى ذلك أننا نتنازل وهم يتنازلون، وهم على كل حال كفار تنازلوا أم لم يتنازلوا فهم لا يختلفون، وسينتقلون من كفر إلى كفر أدنى منه قليلاً أو مثله، ونحن سوف نقترب إليهم، ومعنى ذلك: أننا سنداهن في دين الله، والله يقول: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[القلم:9] قالوا: يا محمد نعبد إلهك سنة، وتعبد إلهنا سنة.
ففكرة التقريب قديمة، فنزل قوله تعالى نسفاً لها: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:1-6].
لا يوجد تقريب، هما دينان مستقلان منفصلان، لا يمكن التقارب بينهما، إذا كان يريد أن يقترب مني، فأهلاً وسهلاً، لكن أن أقترب منه، فهذا كفر، لا أرضى به.
إن فكرة الحوار بين الأديان، وفكرة التعايش بين الأديان، وزمالة الأديان، وأن نجتمع في شيء اسمه: الملة الإبراهيمية، هذا من مخترعات اليهود، قالوا: هذه الملل السماوية تلتقي في إبراهيم، فإن اليهود والنصارى والمسلمين كلهم يرجعون إلى إبراهيم، فقالوا: ننشئ شيئاً اسمه: الملة الإبراهيمية، فنحن أصلنا يرجع إلى إبراهيم، ولا أحد يخطئ أحداً، ولا أحد يعتدي على أحد، ولا أحد يكفر أحداً، ولا أحد يضلل أحداً، ولا أحد يقول: إن الطائفة هذه في النار، ولا شيء، ونعيش في سلام وسبات ونبات، ونخلف بنين وبنات، إن هذا يعني الرضا بالكفر، وإقراره، والتعايش والتأقلم معه، ولذلك فهم يسعون بكل طريق إلى هذه الدعوة، وهم يعرفون أنهم إذا تنازلوا عن شيء من الدين، فلا يهمهم ذلك، فالنصراني لو قال: أنا لا أقول: إن الله هو المسيح، أنا أقول فقط: إن المسيح هو ابن الله، ونقول: إن المسيح ثالث ثلاثة، وأنتم -أيها المسلمون- أيضاً تنازلوا قليلاً، فلا تكفرونا، نحن فقط نطلب منكم ألا تكفرونا، لا تقولوا: إن اليهود والنصارى كفار، فإذا قبلنا نحن بهذا كفرنا؛ لأن الله قال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ[المائدة:73].
وأنت إذا قلت: نحن لا نكفر النصارى، فمعناه: أننا خالفنا القرآن صراحة، وكذبناه، نقول: إن الله كفرهم، لكن نحن لا نريد أن نكفرهم! ولذلك كان من نواقض الإسلام: من لم يكفر الكفار، أو صحح مذهبهم، أو رضي بهم، أو قال: إنهم يدخلون الجنة، وليسوا في النار، فقد كفر.
فلو جاء مسلم، وقال: إن النصارى الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، ليسوا بكفار، وليسوا من أهل النار، فإنه كافر، مكذب مناقض لما أنزله الله، ومصادم لما حكم به الله، ولم يرض بما حكم به الله.
فاليهود والنصارى يريدون منا في هذه الأيام تنازلاً مهماً جداً، وهو: ألا نكفرهم فقط، نقول: كلنا مؤمنون، وكلنا أهل ديانات سماوية، وكلنا أحباب، ودربنا واحد، لكن أنت تعبد الله بالطريقة الإسلامية، وذاك يعبد الله بالطريقة النصرانية، وكلها طرق ورسائل وأديان سماوية، فالذي يقول هذا كافر، وهو تمييع للدين، وتمييع للتوحيد.
أمر آخر: إننا إن لم نكفرهم، فقد رضينا بقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وأن الله لما خلق الخلق تعب، فاستراح يوم السبت، كما يقول اليهود في سبهم لربهم .
فإذاً، لا يمكن التقريب بين المسلمين وغير المسلمين، وهذه فكرة يهودية، وهذا مذهب خبيث باطل، وزمالة الأديان -أيضاً- فكرة كفرية، لا يجوز إقرارها أبداً، وإذا كان المقصود بالحوار هو التقارب، فهي مصيبة.
وأما إذا كان الحوار لإقناعهم بالحق، ودعوتهم إلى الله، فنعم: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ[العنكبوت:46].
التناقض بين الإسلام والكفر
فنعرف من خلال قصة "ثمامة" : أن الإسلام ينشئ في نفس المسلم تلقائياً مناقضة الشرك ومحاربته، وتحدي المشركين، وهذا "ثمامة" لم يرضَ عندما، قالوا له: أصبوت؟ قال: لا والله، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله ﷺ.
ثم تحداهم بالخطر الاقتصادي، وأن لا تأتيهم حبة حنطة، بدون موافقة النبي ﷺ، فهكذا كان المسلم يُسلِم ويفهم كل هذه الأشياء.
واليوم بعض المسلمين يعيشون في الإسلام سنوات طويلة، ولا يفهم عشر ما فهمه "ثمامة"، فإنه أسلم، واتخذ كل هذه المواقف مباشرة، فهم ما يقتضيه الدين، فهم معنى: "لا إله إلا الله" وما تقتضيه هذه الشهادة.
واليوم كثير من المسلمين لا يفهمون في سنوات طويلة بعض ما فهمه "ثمامة"، ويرفضون أن يتخذوا مواقف شبيهة بما اتخذه ثمامة ﷺ.
بعض الفوائد المستفادة من قصة ثمامة بن أثال
الحديث -طبعاً- فيه من الفوائد: المنّ على الأسير الكافر.
وكذلك: أثر المنَّة على الكفار، في تحبيبهم في الدين.
وكذلك: الاغتسال عند الإسلام.
وجمهور العلماء: على أن الاغتسال مستحب، يعني ليس بواجب.
لكن الكافر إذا أراد أن يسلم، يقول لك: كيف أسلم؟
تقول: اغتسل، وانطق الشهادتين، أو انطق الشهادتين واغتسل؛ لأنه إذا كان بالغاً لا يخلو أن يكون على جنابة، ومادام أنه قد دخل في الإسلام، أي أنه سيصلي، وعليه جنابات من قبل، فعليه أن يزيلها بالاغتسال، فإذا كان لأجل الدخول في الدين، فالغسل مستحب، وإذا كان من أجل الطهارة، ورفع الجنابة، فلا بد أن يغتسل، وأن يصلي.
كذلك في هذا الحديث أيضاً من الفوائد: أن الكافر إذا أراد عمل خير، ثم أسلم، فإنه يشرع له أن يستمر في فعل الخير هذا.
فلنفترض: أن كافراً أراد أن يُنشئ ملجأ للأيتام، وضع الأساسات، واشترى الأرض، ثم أسلم، وقال: ماذا أعمل في المشروع؟
نقول: أكمل، أسلمت على ما أسلفت من خير.
وفي الحديث –كذلك-: ملاطفة الذي يرجى إسلامه من الأسرى، إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام.والنبي -عليه الصلاة والسلام- يمر عليه كل يوم، ويسأله عن ظنه، ويهتم به، ولاسيما الرجل الذي إذا أسلم تبعه قومه، ومن قديم -وإلى الآن- المعظمين عند الناس، إذا أسلموا يكون لإسلامهم أثر على بقية الذي يتبعونهم.
كذلك في الحديث: بعث السرايا إلى بلاد الكفار، وأسر من وجد من الكفار، خصوصاً الناس المؤثرين، وكذلك:أن لإمام المسلمين الخيار في قتل الأسير، أو المنَّ عليه، أو المبادلة به، أو أخذ الفدية.
وقد حدث في بعض المعارك السابقة بين المسلمين والنصارى، فاتفق المسلمون مع النصارى على مبادلة الأسرى، ونصب جسر على النهر.
وكانت الطريقة: أن ينطلق الأسير الكافر من أول الجسر، والأسير المسلم من الطرف الآخر، ويمشي كل واحد إلى معسكر فريقه، ثم ينطلق الأسير الثاني مع الأسير الثاني، وهكذا تتم المبادلة بهذه الطريقة، وفي آخر المبادلة انتهى أسرى المسلمين، وبقي أسرى كفار عند المسلمين، فأطلقهم الخليفة منّةً، وإظهاراً لعفو المسلمين، وسمو المسلمين وعلوهم، فإن المنَّة تكون مؤثرة إذا كانت من طرف قوي، أما إذا كانت مِنَّة من طرف ضعيف هزيل، فلا تعتبر منّة، وإنما تعتبر إلجاء، وتفسر على أنها هزيمة وإرغام، أي: أنهم أطلقوهم مرغمين وخائفين إذا لم يطلقوهم من الانتقام.
أما إذا صارت المنّة من طرف قوي، ومن موقع قوة، فهذه يكون لها أثر، ولذلك إطلاق "ثمامة" كان مؤثراً، ليس لأن المسلمين يخافون من قومه، فهم قد وصلوا إلى قومه، وأسروا رئيسهم، فهم قادرون على أن يدخلوا ديارهم، ويقتحموها، ويصلوا إليهم، لكن هنا تم العفو من موقع القوة، ولذلك أثر.
حكم دخول الكافر إلى المسجد
كذلك في هذا الحديث: جواز ربط الكافر في المسجد، وهذه هي مسألة: ما حكم دخول الكافر إلى المسجد؟
والذي يتبين لنا من خلال الأدلة الشرعية التي وردت في الموضوع: أن دخول الكافر إلى المسجد، إذا كان فيه مصلحة، فلا بأس به، كما حدث في قصة "ثمامة"، أو من بلغ بعض الرسائل من بعض المشركين إلى النبي ﷺ ودخل وسلمها إياه.
وبناءً عليه، لو قيل: هل يجوز أن يبني المسجد كفرة؟
نقول: الأولى أن يبنيه المسلمون؛ لأن الكفار غير مؤتمنين، لكن لو كانوا مؤتمنين، فبنوه جاز بناؤهم، إذا لم نجد من المسلمين من يبينه.
ولو قال قائل: عندنا شخص كافر في الشركة، يحب أن يرى المسلمين في المسجد، ويحب أن يرى الصلاة، فهل يجوز أن نأتي به إلى المسجد، ونجعله في الخلف ينظر إلى صلاتنا، ويتأمل أحوالنا في المسجد؟
نقول: نعم.
إذا كان لا ينجس المسجد، ولا يرفع الصوت، ولا يحدث، ولا يأتي بالكاميرات ليصور، ولم يأتِ بالشورت، كما يقع في بعض الأماكن، فإذا جاء بدون محاذير شرعية، وجلس في الخلف، ونظر إلى صلاة المسلمين، فلا حرج في ذلك، لعل الله أن يهديه، ولعله أن يتأثر.
وتجد بعض المستعجلين من المصلين، ربما يدخل ويراه، فيشتمه، ويطرده إلى الخارج، ويقول: ومن الذي أدخلك؟ وأنت نجس والمسجد لا يدخله نجس؟ ويطرده من المسجد.
فينبغي للمسلم أن يكون حكيماً، ونجاسة الكفار نجاسة معنوية، وليس معنى ذلك: أنك إذا لمست الكافر صارت يدك نجسة، ويجب عليك أن تغسلها، وإنما المشركون نجس نجاسة الشرك، ونجاسة الكفر، ونجاسة المعتقدات التي يدينون بها، أما جسده وعرقه وجلده، فهو طاهر، وليس بنجس، إلا إذا دهن نفسه بالنجاسة، ولوث نفسه بالنجاسة من بول وغائط، فهذه مسألة أخرى.
إذاً، يجوز أن ندخل كافراً إلى المسجد إذا كان لا يؤذي فيه، لكي يرى صلاتنا، ويرى ديننا، ويسمع كلامنا، فإن النبي ﷺ ربط "ثمامة" في المسجد.
أما أن يدخل للتصوير، ولفحص النقوشات، والفن الإسلامي، والكلام الفارغ الذي نهى عنه النبي ﷺ، فقد نهى عن تزويق المساجد وتزيينها؛ فهذه مسألة أخرى تختلف عما نحن بصدده.
بعض أحكام المسجد وآدابه
تقديم الرجل اليمنى عند الدخول
أما بالنسبة لآداب المسجد، فهي كثيرة؛ منها: تقديم الرجل اليمنى عند الدخول؛ كما جاء معلقاً في البخاري عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما-، ويقول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم؛ من الشيطان الرجيم[رواه أبو داود:466، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: 485، وفي صحيح الترغيب والترهيب: 1606].
اللهم صل على محمد[حسنه الألباني في الكلم الطيب: 91، رقم: 64]. اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج يقول: اللهم إني أسألك من فضلك [رواه مسلم: 1685].
- المحافظة على نظافة المسجد وعدم توسيخه
وكذلك لا يقذر أحد المسجد بنعليه، خصوصاً إذا كان فيه سجاد، فلذلك يجعلهما في مكان لا يؤذي بهما أحداً.
أما إذا كان المسجد -مثلاً- مفروشاً بالرمل، أو بالحصى -كما كان ذلك في عهده ﷺ، فإنه إذا دخل بنعليه يجعلهما بين رجليه، لا يجعلهما على يمينه، حتى لا يؤذي من عن يمينه، ولا يجعلهما عن يساره، حتى لا يؤذي من عن يساره، ولا يجعلهما خلفه، حتى لا يؤذي من وراءه، إنما يجعلهما بين قدميه.
وإذا كانت المساجد مفروشة -كما هو الآن- فتجعل النعال خارج المسجد.
كذلك، فإن المسجد ينبغي أن يصان عن كل وسخ، وقذر، وقذاة، ومخاط، وبصاق، وتقليم أظفار، ونتف شعر، أو إزالته، وقد كانت أرض المسجد حصباء في عهد النبي ﷺ، فكان البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها، وقد غضب النبي ﷺ، وتغيظ، لما رأى نخامة في قبلة المسجد، فحكها بالزعفران ﷺ.
صيانة المساجد عن المجانين والصبيان الغير مميزين
وينبغي صيانة المساجد عن الصغار الذي لا يميزون، وليس في وجودهم مصلحة، ولا فائدة.
وكذلك المجانين، كما نص على ذلك العلماء، قالوا: ويسن أن تصان المساجد عن صغير ومجنون. والمقصود بالصغير: المؤذي أو الذي يصيح ويزعق، والذي ليس في دخوله فائدة.
وأما الصبي المميز، فإنه يدخل المسجد، ولا بأس بذلك.
كذلك لو كان طفلاً صغيراً بيد أمه، لكنه لا ينجس المسجد، يقول أحد الأئمة: الصبيان في رمضان اتخذوا مساجدنا مراحيض، تأتي به أمه من غير لباس، ومن غير حفاظات، فيبول على فرش المسجد، وكل يوم نبحث عن أماكن البول ونغسلها، ثم إن السجاد ملتصق بالأرض، ولو كان حصى أو تراباً لصببنا عليه الماء وذهبت النجاسة في باطن الأرض.
فبعض النساء والرجال يأتون بالصبيان إلى المسجد، فيأكلون ويشربون على سجاده، ومعلوم أن إتلاف السجاد حرام، فإنها من وقف المسجد، ومن ممتلكاته، فيأكلون عليها، ويصبون عليه الأشربة والأطعمة، ويبولون عليها، وهذا منكر واضح.
- عدم البيع والشراء في المسجد
كذلك، فإن المساجد لم تبن للدنيا، فيمنع فيها البيع والشراء، ومن فعل، فيقال له: لا أربح الله تجارتك. وكذلك: يمنع فيها التكسب بالصنعة، كالخياطة، وغيرها.
ولا يجوز أن يقعد فيها الصنّاع، مثلاً: الذي يصلح الأحذية، وكذلك الذي يرقع الثياب، أو يخيطها.
- عدم الإعلان عن المفقودات في المسجد
كذلك، فإن المساجد لا تتخذ مكاناً للإعلان عن المفقودات، وإذا قال أحد في المسجد: "من وجد لي كذا وكذا؟" فيقال له: لا ردها الله عليك؛ لحديث: مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَلْيَقُلْ:لاَرَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا [رواه مسلم: 1288].
فإذا سمعت من ينشد ضالة في المسجد، يقول: من وجد لي كذا؟ من وجد مفاتيح سيارتي؟ من وجد بطاقتي؟ من وجد محفظتي؟فقل له: "لا ردها الله عليك" فالمساجد لم تبن للإعلان عن المفقودات.
وكذلك: الإعلان عن الأشياء الضائعة، فلا يقال: هذا مفتاح .. هذا كذا .. وإنما يكون هذا خارج المسجد، يوضع إعلان خارج المسجد: وجد محفظة، وجد مبلغاً من المال، وجد ساعة.
- عدم اتخاذ المسجد طريقاً
كذلك: لا يتخذ المسجد طريقاً، بحيث يدخل من باب، ويخرج من باب؛ لاختصار الطريق.
فهو لا يدخل المسجد للصلاة، ولا لتحية مسجد، ولا لحلقة علم، ولا لشيء، إنما يتخذه فقط لاختصار الطريق.
ولا يشهر فيه سلاحاً، لأجل أن لا يجرح المسلمين.
- عدم المرور بلحم نيء في المسجد
وكذلك، قالوا: لا يمر فيه بلحم نيء، حتى دم الذبيحة لا يكون على المسجد. ولا يتخذ سوقاً.
- عدم إنشاد الأشعار السيئة في المسجد
وكذلك: لا ينشد فيه أشعار مذمومة، وكذلك لا يتكلم فيه بالباطل، وكذلك لا يصيح فيه.
- عدم رفع الصوت في المسجد إلا لحاجة
بل ينبغي صيانة المسجد عن الصياح.
وهذا من الأشياء -مع الأسف- فيها مخالفة بينة، في عدد من المساجد بعض الناس يصيحون صياحا، يزعقون وينادون بصوت مرتفع، دون أن تكون هناك مصلحة شرعية.
ليس رفع الخطيب صوته، أو الواعظ، وإنما هو في أمور الدنيا، أو الخلافات.
أحياناً بعض المساجد يختلف شخص مع الإمام، أو شخص مع شخص آخر، أو المؤذن مع الخادم، أو الخادم مع شخص، وتجد صياحا في المسجد، وهذا لا يليق بالمساجد أن يكون فيها مثل هذا أبداً.
- عدم اتخاذ المسجد مكانا للمبيت والنوم
وكذلك: فإن النوم في المسجد، لا بأس به، بشرط أن لا يتخذ مبيتاً ومقيلاً، وفندقاً، ومنامة، لشخص، اللهم إلا إذا كان لابد منه؛ كأن يكون ليس له مكانا آخر؛ مثل أهل الصفة، كانوا يأوون إلى المسجد.. فهذا مثل الفندق، يدخلون ينامون فيه، فهذا لا يكون إلا عند الحاجة الماسة التي لا بد منها.
لما كان ابن عمر ليس له بيت، ما له يبيت في المسجد، حتى تزوج، وفتح الله عليه.
فأما النوم اليسير، والنوم المؤقت، كنوم المعتكف -كما ذكرنا- فلا بأس.
وعلي لما صار بينه وبين فاطمة شيء، ذهب ونام في المسجد.
- عدم زخرفة المساجد وكتابة الآيات على جدرانها
أما بالنسبة لزخرفة المساجد بالذهب والفضة، أو النقوش، فهذه كلها منهي عنها، وهو الفسيفساء والزرقة.
وكذلك: كتابة الآيات في الجدران، ك "الله، و"محمد" و"الأسماء التسعة والتسعين"، وأسماء النبي ﷺ"، و"أسماء العشرة المبشرين بالجنة"، فكل ذلك بدع في بدع، ما أنزل الله بها من سلطان.
كذلك: فإنها في بعض المساجد، في بعض البلدان في العالم الإسلامي، تجعل حلق ذكر، للصوفية والمبتدعة، وضرب الشيش، وضرب الدف، وضرب الطبول، وربما استعملوا المزامير، ونحو ذلك، ويقولون: هذا مولد! وهذا حلقة ذكر!.
حلقة ذكر على أصوات هذه الأدوات؟! وإنما هو من الشيطان، وفي سبيل الشيطان.
- عدم دخول الحائض والنفساء للمسجد
وكذلك: فإن دخول الحائض والنفساء ممنوع، لما قد يسبب ذلك في تلويثه.
أما مرورهما فيه، كأن تأتي الحائض، وتأخذ شيئاً، أو تنادي شخصاً مثلاً، ونحو ذلك، فلا بأس بذلك.
- عدم بناء الحمامات داخل المسجد
وكذلك: فلا يجوز بطبيعة الحال البول فيه، وفي بعض المساجد الحمامات داخل المسجد، وهذا غلط.
فينبغي أن يبنى الحمام خارج المسجد، ويجعل مدخله من خارج، وليس من داخل، فلا يجوز وضع المراحيض -مكان قضاء الحاجة- في داخل المساجد.
وأفتى شيخ الإسلام -رحمه الله-: "بعدم جواز أن يبول في وعاء في المسجد" يعني حتى لو وعاء، أو شيء مؤقت، كذلك لا يفعل، يخرج من المسجد، ولا يؤمن التلويث في مثل هذا.
- عدم جواز استخدام مقتنيات وأدوات المسجد في الأمور الشخصية:
كذلك: لا يجوز استعمال أدوات المسجد في الأمور الشخصية؛ كأن يقول –مثلاً-: -يا أخي- عندنا عرس، ممكن نستعير ميكرفونات المسجد، ونرجعها؟
نقول: لا يجوز.
ممكن نأخذ -يا أخي- فرش المسجد، عندنا هنا اجتماع في البيت، وعندنا ضيوف، ونحتاج إلى فرش، ممكن نأخذ فرش المسجد، ثم نرجعها؟
نقول: أبداً لا يجوز.
وبعض الناس يأخذون مصاحف المسجد، ي