المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120]، لقد جاءت هذه الآية في سورة هود التي نزلت على النبي ﷺ في فترة؛ هي من أحرج الفترات التي مرت بها الدعوة في مكة، فاحتاج النبي ﷺ والمؤمنون إلى مواساة، وأنس، وتثبيت، فجاءت هذه القصص لتثبتهم في غمرة هجوم أهل الباطل الشرس ضد جنود الحق، وكذلك فإن هذه القصص عبرة لأولي الألباب، كما قال الله -تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[يوسف: 111].
وهذه القصص التي في القرآن موجود بعضها عند اليهود والنصارى، بل كثير منها موجود من جهة العموم، يعرفون قصة يوسف من جهة العموم، يعرفون قصة أصحاب الكهف من جهة العموم، بعضهم يعرفونها لكن التفصيلات التي جاءت في القرآن لا توجد عندهم، بل إنهم قد اختلفوا في أشياء، وجاء القرآن يفصل بينهم، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل: 76]، فأكثره قد فصل بينهم فيه في هذا الكتاب العزيز، ولذلك فإننا لسنا بحاجة إليهم، وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف: 22].
لا تستفت في أهل الكهف أحدًا من أهل الكتاب، عندك المرجع، وعندك الكفاية، ولذلك فإن اللجوء إلى الإسرائيليات لمعرفة التفاصيل ليس من الحكمة في شيء، فهذه الإسرائيليات كثير منها كذب وافتراء على الأنبياء، وفيه مالا يليق بهم، والقصص عن الماضين غيب، فإننا لم نكن معهم، كما قال الله تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا[هود: 49].
هذا بعد سياق قصة نوح، وقال في ختام قصة يوسف: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف: 102].
وقال في قصة مريم: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44].
فإذًا هذه القصص بالنسبة لنا غيب لأننا لم نشهدها، ولم نسمعها، ولم نعاصرها من قبل، ولذلك لا يجوز أن نأتي على الغيب بشواهد من الإسرائيليات الموجودة عند الكفار في كتبهم من أهل الكتاب، فإن الله قد أغنانا عنها.
وهذه الإسرائيليات الموجودة ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما يوافق ما عنده، فهذا نأخذ به بطبيعة الحال.
والقسم الثاني: يخالف ما عندنا، ويصادمه ويضاده، فهذه نرفضه ونكذب به.
والقسم الثالث: لا يوافق ولا يخالف، فقد يكون فيه تفصيلاً معينًا ليس مذكورًا في القصة التي وردت في الكتاب والسنة، كذكر بعض البقرة الذي ضرب به القتيل من بني إسرائيل فحيي، مثل هذا نحن لا نصدق ولا نكذب، لأنه قد يكون حقًا فنكذبه، وقد يكون باطلاً فنصدقه، فالنبي ﷺ رخص لنا في رواية أخبارهم غير المصادمة للشريعة، لكنه قال: لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإنه قد يكون حقًا تكذبونهم به، وقد يكون باطلاً تصدقونهم به [سنن أبي داود: 3646، وضعفة الألباني ضعيف الجامع: 5052]، ولذلك فهذا موقفنا من الإسرائيليات.
أهمية قصص القرآن
وبالنسبة لهذه القصص، فإنها بديعة الطريقة، عجيبة الأسلوب، صادقة الخبر، بتدبرها تظهر السنن الربانية، فإنه في نهاية كل قصة يكون فيها خبر التمكين والنصر للمؤمنين، والهلاك والعذاب للمكذبين، كما قال الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120].
وهذه القصص ليست مخترعة بل إنها واقعة حقًا وحقيقة، كما أخبرنا ربنا ، وينبغي أن يكون موقفنا منها الاعتبار والتفكر كما تقدم، وما نعجب أشد العجب ما الذي أصاب هذه الأمة حتى غضت النظر عن القصص التي قصها ربها عليها في كتابه، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وحتى أن بعض الناس المرتدين في هذا العصر زعم أن في القرآن خرافات مثل عصا موسى، وقصة الكهف، ولا شك أن هذا الكلام كفر وردة، وخرج عن ملة الإسلام.
وكذلك فإن هذه القصص فيها نوع من التربية عظيم، فإن التربية بالقصة من ألوان التربية المهمة، فإن الحادث المرتبط بالأسباب والنتائج تهفو إليها الأسماع، فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضين كان حب الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس.
وكذلك نستفيد منها الإيمان بالرسل، فإننا وإن كنا نؤمن بهم بجميعهم على وجه العموم والإجمال، لكن لما تأتي تفاصيل قصة بعض الأنبياء بالدقائق والأحداث؛ فإن ذلك يزيدنا إيمانًا بهم على إيمان.
وكذلك فإن في هذه القصص تقرير للإيمان بالله، وتوحيده، وإخلاص العمل له .
وكذلك فإن فيها عبرة للمؤمنين يقتدون بها في سائر المقامات، كالعبودية، والدعوة، والصبر، والثبات، والطمأنينة، والسكون، والصدق، والإخلاص لله رب العالمين.
ويوجد في كثير من القصص أحكاما فقهية وشرعية؛ يعرفها أهل العلم، كما استدل أهل العلم من قوله: وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف: 72]، على جواز عقد الجعالة والكفالة، بابان من أبواب الفقه، دليلهما في هذه الكلمات من الآية في قصة يوسف.
وكذلك فإن في هذه القصص التسلية عن المؤمنين فيما يلاقونه من أنواع التكذيب، والاتهام الباطل من الكفار.
وفيها إبراز أن الأنبياء كلهم جاءوا بشيء واحد، وهو التوحيد والإسلام، وإن اختلفت شرائعهم.
وكذلك فيها أن الابتلاء لا بدّ أن يحدث للمؤمنين، وأن هذه سنة الله فيهم، وأن وظيفة الرسل البلاغ، وأنهم لا يملكون للناس نفعًا ولا ضرًا، وقد يوجد لنبي ولد كافر لا يغني عنه شيئًا، وقد يوجد لنبي أب كافر لا يغني عنه شيئًا، وقد يوجد لنبي زوجة كافرة لا يغني عنها شيئًا.
وكذلك فإننا نستفيد من القصص التي ذكرها ربنا مواعظ الآفة التي وقع فيها كل قوم، فنستفيد معرفة عيب قوم نوح في غوايتهم، وغرورهم، وقوم فرعون في ثروتهم وعتوهم، وقوم لوط في فاحشتهم، وقوم عاد في قوتهم وبطشهم، وقوم ثمود في أشرهم وبطرهم، وقوم مدين في تطفيفهم للمكيال، وإخسارهم للموازين، وبني إسرائيل في تمردهم، وتحايلهم ونكوصهم.
وكذلك فإننا نستفيد من هذه القصص في مقارعة أهل الكتاب الحجة بالحجة والبيان.
وكذلك فإننا سنكون شهداء لكل نبي على أمته يوم القيامة، ومن شروط الشاهد أن يعلم ما يشهد به، والدليل على هذه الشهادة قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت، فيقول: نعم، فيقال: لأمته هل بلغكم، فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيدًا، فذلك قوله : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة: 143] [رواه البخاري: 4487].
ثم إن في هذه القصص بيان لبلاغة القرآن الكريم، وهذه الخصيصة العظيمة، كيف جاء هذا النسق، وهذا الأسلوب البديع في القرآن الكريم، وهو ولا شك معجزة من الله تعالى لنبيه ﷺ، فهذا طائفة من فوائد القصة، وشيء من التربية بالقصة.
تفسير قصة بني إسرائيل مع البقرة
ولنشرع الآن في ذكر قصة من القصص في هذا القرآن، وهي قصة البقرة، وكنا قد مررنا بهذه القصة في تلاوتنا في سورة البقرة في التراويح، قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ[البقرة: 67] الآيات.
وهذه القصة خلاصتها أنه وقع جريمة قتل في بني إسرائيل في زمن موسى، ولم يعرف القاتل، وتدافعوا في ذلك وصارت الاتهامات متبادلة، وأراد الله تعالى- أن يكشف لهم القاتل بواسطة معجزة مادية محسوسة، فأوحى إلى موسى أن يأمرهم يذبحوا بقرة، أي بقرة كانت، بدون تحديد لمواصفاتها، ولكن طبيعة اليهود في التلكؤ والمماطلة والجدال جعلتهم يسألونه عن عمر البقرة أولاً، ثم عن لونها ثانيًا، ثم عن عملها ثالثًا، وأخيرًا ذبحوها، وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71]، وأمروا بضرب القتيل ببعضها، فضرب فأحياه الله، فأخبر عن قاتله، وقال: قتلني فلان، ثم قيل: إنه قد مات في وسط دهشة بني إسرائيل، وهذه القصة ولا شك من القصص العظيمة التي قصها علينا ربنا في القرآن الكريم عن بني إسرائيل، لنأخذ منها العبرة والعظة، وهذه القصة لا شك قد اكتنفتها إسرائيليات، وجاءت في بعض تفاصيلها أخبار لكننا على الموقف السابق، لا نحتاج إلى هذه التفصيلات، لأنه لو كان فيها خيرًا لنا وفائدة لذكرها ربنا ، فنحن لا نستفيد شيئًا إذا عرفنا أن البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة هو الذنب، أو غضروف الكتف، أو الرجل، أو الرأس، هذا لا يفيدنا هذا التفصيل، فإن كان ورد في بعض الإسرائيليات، فإننا في غنية عنه.
هذه القصة توضح بجلاء تنطع بني إسرائيل، وتشددهم في الأحكام، وكيف أن الله شدد عليهم، وقد كره لنا كثرة السؤال، وجاءت هذه القصة بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر في النظر إليها تحريكا، ويهز النفس للاعتبار بها هزًا، وقال الله تعالى فيها: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة: 72]، هذا ذكرت فيه المخالفة، أو الاختلاف، فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا، ثم المنة في الخلاص بقوله: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة: 73]، ولكن وسيلة الخلاص من هذه الاتهامات وهذا الغلط ذكرت قبل السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فإننا أول ما نطالع الآيات وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67] نحن لا نعرف لماذا في البداية، لكن بعد ذلك عندما نقرأ التكملة: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة: 72].
ثم قال: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة: 73]، عرفنا السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فإذًا تقديم ذبح البقرة كان فيه تشويق للسامع إلى معرفة ما وراء القصة، وما هو السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، ثم يفاجأ الشخص، وهو يقرأ بحكاية السبب، وقد حصل عنده تشويق سابق لمعرفة السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فتتوجه الفكرة بأجمعها لتلقي ذلك، وتظهر الحكمة في أمر الله تعالى لأمة من الأمم بذبح بقرة خفية، وظاهر الأمر أن نبيهم موسى أمرهم بذبح بقرة غير معينة، ولكنهم تنطعوا وتشددوا، فشدد الله عليهم، فقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67].
أي: بقرة كانت، وكونهم بحثوا في صفاتها تكلف منهم، كان ينبغي لهم أن يتنزهوا عنه، وأن يمتثلوا الأمر بذبح البقرة، ولو كان هناك صفة، معينة فيها لذكرها لهم ربهم على لسان نبيهم، ولذلك عنفهم الله -تعالى- في قوله: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة: 68]، وفي قوله: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71]، وعلمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولاً، وجاء عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه قال: "لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأت منهم، لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم". [تفسير الرازي: 2/145].
وقد كانوا محتاجين إلى ذبح البقرة لمعرفة القاتل، والله تعالى لم يذكر لهم صفة معينة في أول الأمر، فدل ذلك على أنه يجزئ أي بقرة، ولو كان البيان متعينًا لجاء، فكلفوا بالبداية بذبح أي بقرة كانت أولاً، وثانيًا كلفوا أن تكون لا فارضًا ولا بكرًا بل عوان بين ذلك، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكونوا بقرة صفراء، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كلما شددوا في السؤال شدد الله عليهم بصفات إضافية في هذه البقرة، ولما أمرهم موسى بذبح البقرة، قالوا له: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة: 67].
يعني: أتجعلنا مكانًا للهزء والسخرية، أتهزأ بنا، أتتخذنا سخريًا، بهذا يواجهون نبيهم، نبي يأمرهم بأمر يقولون: أتهزأ بنا، أتسخر منا، هل هذا خطاب يليق بنبي، هل هذا أدب ينبغي للنبي، هذا من شأن بني إسرائيل الذين تمردوا على نبيهم، وظنوا أنه يلاعبهم، ظنوا أنه يهزأ بهم، وأشعر جوابهم هذا ما ثبت من فظاظتهم، وسوء أدبهم، ولذلك رد موسى عليهم بقول: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة: 67]، لأن الهزء في أثناء التبليغ لا يليق بنبي، كيف يهزأ نبي وهو يبلغ قومه؟ كيف يجعل في التبليغ مجال للسخرية، والاستهزاء، والمزاح، والضحك، والعبث؟ لا يمكن، ولذلك تجلى سوء أدبهم لما قالوا له: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة: 67].
وفي قول: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة: 67]، فائدة بديعة في دفاع الداعية عن نفسه، إذا اتهم بشيء باطل، وهذا الهزء في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهل، وسفه نفاه موسى عن نفسه، وأكد أنه جاد غاية التأكيد، وقال: أَعُوذُ بِاللَّهِ [البقرة: 67]، ألتجئ واعتصم به، أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة: 67]، الذين يتقدمون في الأمور بغير علم، فرموا موسى بالسفه والجاهلية، ودافع موسى عن نفسه، وقال: التجئ إلى الله واعتصم بتأديبه إياي من الجهالة والهزء بالناس، وكان موسى حكيمًا لما قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [البقرة: 67]، ما قال: أنا آمركم، أو اذبحوا بقرة، لأن موسى يعلم طبيعة هؤلاء القوم، ويعلم تلكؤهم، ويعلم تباطؤهم، ويعلم تمردهم، ولذلك قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [البقرة: 67].
بين لهم أن الأمر من الله حتى يقطع عليهم الطريق على التأخر في التنفيذ، أو التحايل، ويقطع عليهم الطريق في المناقشة، ربما قالوا له: أتيت به من عند نفسك، هذا رأيك الشخصي، أن نذبح بقرة لكنه، قال لهم بكلمات واضحة ومحددة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً[البقرة: 67]، بقرة هذه نكرة في سياق الأمر تفيد العموم، أي بقرة، التنكير هنا يفيد العموم، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67].
لا يهم لونها، ولا حجمها، ولا عمرها، ولا عملها، ولا ثمنها، اذبحوا بقرة، المهم أن تذبحوا بقرة، لكن اليهود قوم بهت، لم ينقادوا للأمر، ولم ينفذوه فورًا، ولم يطيعوا الله ورسوله، وأنى لهم أن يفعلوا ذلك، فلذلك بدلاً من أن يوقروا نبيهم، وينفذوا أمرهم، تواقحوا عليهم، وأساؤوا الأدب، واعترضوا قائلين، أتتخذنا هزوًا، وكأنهم يقولون: عجيب ما هي الصلة بين ذبح البقرة، وبين كشف هوية القاتل، نحن جئناك في حل قضيتنا، نريد أن نعرف القاتل، وبما أنك نبي تعلم الغيب بإذن الله فأخبرنا من هو القاتل يوحى إليك، ثم أنت تطلب منا أن نذبح بقرة بدلاً من أن تكشف لنا عن القاتل، وهذا طلب مريب يدل على أنك تريد أن تتخذنا هزوًا، هذه طبيعة نفسية بني إسرائيل، يعتبرون أمر الله تعالى نوع من الهزاء والسخرية.
وثانيًا يظنون أن موسى بهذا الطلب يريد أن يشغلهم عن قضيتهم الأساسية في معرفة القتيل، وثالثًا يظنون أن موسى الجاد الذي هو من أولي العزم من الرسل يظنونه يسخر ويهزأ ويلعب من خلال الأوامر التي يوجهها لهم، وهذا يشبه ما فعله قوم إبراهيم لما قالوا له: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ [الأنبياء: 55].
ونفى موسى التهمة عن نفسه، وقال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة: 67]، وهذا دليل على أن السخرية والاستهزاء جهل.
وفيه فائدة تربوية مهمة، وهي أن الإفراط في المزاح وعدم الجدية من الجهل، وأن الشخص المزاح اللعوب الذي يكثر السخرية والاستهزاء إنسان جاهل، وبذلك نعلم أيضاً من هذه الآية خطورة الاستهزاء، والطرف التي يرويها بعض الناس التي يسموها النكات في قضايا عقدية أو شرعية، وان هذا أمر خطير يؤدي إلى الكفر والخروج عن الملة، كما يهزأ بعضهم بالجنة والنار، ويعلمون نكت، وطرائف على بعض أحكام الشريعة، وكذلك أن الذين حولوا حياتهم وحياة الآخرين إلى ضحك دائم بما يسمونه بالكوميديا اليوم، ويعملون لها مسرحيات وأفلام، ويكون هم الشخص هو الضحك، واللعب يتبين لنا أن هؤلاء الناس من الجاهلين، وكذلك يتبين أن المسلم الصادق جاد وملتزم قد يمزح، ولكنه لا يقول إلا حقًا، وقد يضحك، ولكن بأدب ووقار، وليس المعنى تحريم الضحك أو المزاح، بل إن المقصود هو منع تحويل الحياة إلى ضحك كلها ومزاح، وعدم جدية، فإن المسلم الجاد لا يرضى أن يكون من الجاهلين.
قالوا له: بعد ذلك، لما قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة: 67-68]، قولهم: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ[البقرة:68]، كأنهم يقولون: ربك أنت وليس بربنا نحن، ادْعُ لَنَا رَبَّكَ وهذا ربما دل على سوء أدبهم مع الله تعالى، وقد قالوا: أشياء كبيرة مثل هذا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 24]، وهذا يكشف عن طبيعتهم، ويبين الفرق بينهم وبين الصحابة في الأدب مع الله، صحابة نبينا ﷺ قالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285].
لما نزل قول الله : وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284]، شق ذلك على الصحابة، لكن ما تمردوا ولا رفضوا، قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ[البقرة: 285] فلما قرأها القوم، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] إلى آخر الآية التي فيها التجاوز عن الناسي والجاهل والمخطئ، الجاهل الذي لا يعلم الحكم، فهو معذور بجهله، لكن بنو إسرائيل يختلفون عن الصحابة تمامًا، ما قالوا: سمعنا وأطعنا، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة: 68].
قالوا: أنت حيرتنا، أنت أبهمت علينا الأمر كلامك غير واضح، يحتاج إلى تفصيل زيادة، حدد لنا عمر هذه البقرة، ما هي؟ ما عمرها؟ وكأنهم يقولون: لو حددت لنا عمر البقرة نكتفي وننفذ، فأجابهم بقوله: إِنَّهُ يَقُولُ [البقرة: 68]، مرة أخرى يعزو الأمر إلى الله، والتفصيل من الله، والحكم من الله، لا من عنده، إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة: 68]، لا فارض: يعني غير مسنة انقطعت ولادتها، وَلَا بِكْرٌ [البقرة: 68]، لم تلد بالمرة، وإنما المراد من ولدت قليلاً ولم تلد كثيرًا،عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة: 68].
يعني: سنها لا هو صغير ولا هو كبير متوسطة، حتى قيل: إن العوان معناها النصف في السن من النساء والبهائم، ولما ضيقوا ضيق الله عليهم، وجاء بهذا القيد الإضافي على البقرة، وقال لهم نبيهم وهو يحس بطبيعتهم ويعلمها: لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة: 68]، أكد عليهم الفعل لأنه يعلم حالهم، أكد عليهم الفعل، كأنه يقول: اذبحوها الآن على هذه القصة، ولا تكرروا السؤال، وإنما اندفعوا للتنفيذ فورًا.
يستفاد من هذا أن الوسط هو الطيب، ولذلك الآن في الأضحية والعقيقة لا يجزئ أقل من ستة أشهر الضأن، وسنة في المعز، وأن من كان وسطًا في عمره هو أجود اللحوم، فلحم الحيوان الصغير الذي لا يزال في بداية نموه قد تنقصه بعض الفوائد، والكمية، ولحم الحيوان الكبير يكون قد قسا ويبس، وفقد بعض فائدته الغذائية، فيكون الوسط هو الأفضل، قال لهم نبيهم: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة: 68]، اتركوا المزاجية، والاعتراض، والتلكؤ، والسؤال الذي نهيتم عنه، واشرعوا في التنفيذ، لكن هل فعلوا ذلك، وهل امتثلوا الأمر، الجواب: لا.
وقوله: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة: 68]، دليل لما ذهب إليه أهل العلم من أن الأمر يقتضي الوجوب، أي: أمر في القرآن والسنة يقتضي الوجوب، إلا أن يصرفه صارف عن الوجوب إلى الاستحباب، وهذا هو الصحيح في أصول الفقه، أي أمر في القرآن والسنة يقتضي الوجوب حتى يصرفه صارف.
وكذلك من هذه الآية يستدل أيضًا على قاعدة أصولية أخرى تتعلق بالأمر، وهي "الأمر على الفور لا على التراخي"، فإذا أمرنا بشيء يجب أن ننفذ فورًا، وهذه حجة من ذهب من العلماء إلى أن الواجب الحج فورًا، إن الله كتب عليكم فحجوا [رواه مسلم: 1337].
أول ما تتمكن تحج، لا يجوز لك التأخير بدون عذر، فالأمر يفيد الوجوب، والأمر على الفور، لا على التراخي، وهذا مذهب أكثر الفقهاء.
لكن هل هم نفذوا على الفور؟ الجواب؟ لا، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة: 69]، انتقلوا إلى السؤال عن اللون، كان السؤال الأول عن عمر البقرة، الآن صار السؤال عن اللون، دائمًا اللجاجة تقود إلى سؤال جديد، الذي لا يريد الحق دائمًا يخرج لك أسئلة جديدة، الذي من طبيعته التلكؤ والنكوص يخرج أسئلة جديدة، كانوا يزعمون أن الإبهام في الأمر الذي أمروا به في العمر، فإذا بهم الآن يرونه إبهامًا من وجه آخر، ويقولون: إننا لا نعرف من لونها، ما اللون المطلوب؟ وكأنهم يقولون: لو عرفنا اللون ذبحناها، ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة: 69].
فلما شددوا شدد الله عليهم، ووضعهم في ضيق أشد، فأمرهم بذبح بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا[البقرة:69] مع أن اللون الأصفر الفاقع في البقر نادرـ لكن لما شددوا شدد الله عليهم، ولعل أهلها لا يبيعونها إلا بثمن مرتفع، هذه البقرة الصفراء الفاقع لونها التي تسر الناظرين، ولا شك أن هذا من التضييق عليهم، قال لهم: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة: 69]، والفقوع: أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه، ويقال في التوكيد: أصفر فاقع، وأسود حالك، وأبيض يقق، وأحمر قانن، وأخضر ناظر، فالمقصود بقوله: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة: 69].
يعني: شديدة الصفرة نقية، ما فيها إلا اللون الأصفر، ولا شعرة غير صفراء تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة: 69]، يعجب الناظرون إليها، حتى أن جمهور المفسرين أشاروا إلى أن الصفرة من الألوان السارة، ولذلك قالوا في أحكام المعتدة: إنها تترك الزينة الذهب والحلي والملابس الجميلة، فقالوا: فتترك الملابس الصفراء والحمراء إلى آخره، فيعتبرون أن الصفرة من الألوان السارة، فهو لون جميل محبب إلى النفوس، ومحبة الألوان الجميلة ليس مما ينافي الشريعة، سواء كان حيوانًا، أو فاكهة، أو طعامًا، أو لباسًا، أو أثاثًا، فالشريعة لا تحرم الاهتمام بالألوان الجميلة، لكن الفنون الجميلة هذه مما ينبغي أن تضع تحتها خطوطًا حمراء، لأنهم قد شغلوا بها عباد الله عن ذكر الله، وسموها فنون جميلة، وصار الواحد ينفق الساعات والأيام والشهور في لوحة يرسمها، ويتعب فيها، ويقولون: هذه أشياء تشجع عليها الشريعة الفن الإسلامي، قاتلهم الله أشغلوا الناس عن ذكر الله بالفنون الجميلة، الشريعة لا تحرم أن تستمع أن تمتع ناظريك ونفسك بالأزهار، وألونها، وتتأمل فيما خلق، وتسبح ربك على هذه الخلقة التي تسر الناظرين، لكن إنفاق الأوقات في النحت والتصوير والرسم بدعوى أن هذه فنون جميلة، والإسلام لا يحرم الفنون الجميلة، وليس للإسلام موقف من الفنون الجميلة، فاشلغوا الناس عن ذكر الله بهذه الهوايات السخيفة الفارغة المضيعة للأوقات.
نعود إلى قصتنا لما بين لهم أنها بقرة صفراء فاقع لونها، هل نفذوا ذلك؟ وهل سارعوا إلى ذبحها؟ الجواب: لا، بل إنهم عمدوا إلى سؤال ثالث في مشوارهم من المماطلة، والتلكؤ، والتباطؤ عن تنفيذ أوامر الله، فالآن قالوا: كان الإبهام في العمر، ثم صار الإبهام في اللون الآن يقولون: ما عمل هذه البقرة، ماذا تعمل؟
تحرث تزرع، تسقي لا تفعل، ماذا تعمل هذه البقرة؟ ما عملها؟ ثم إنهم لما أرادوا أن يسألوا سؤال ثالث كأنهم يعني استثقلوا السؤال الثالث أبدوا عذرًا، فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة: 70]، كرروا السؤال بعد الحال، والصفة عن الحال والصفة، ولا شك أنه تنطع بعد تنطع، ولذلك قيل: إن بعض الخلفاء كتب إلى عامله اذهب إلى القوم الفلانيين فقطع أشجارهم، وهدم بيوتهم، فكتب إليه العامل يقول: بأيهما أبدأ بتخريب البيوت أو بقطع الأشجار؟ فرد عليه الخليفة يقول: إن قلت لك: بقطع الشجر ابدأ ستقول لي بسؤال آخر: بأي نوع من الشجر أبدأ.
وكذلك كتب أحد الأمراء إلى وكيله، يقول: إذا أمرتك أن تعطي فلانًا شاة، سألتني أضأن أم ماعز؟ فإن بينت لك، قلت: أذكر أم أنثى؟ فإن أخبرتك، قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني.
فهؤلاء قالوا: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70]، هات عمل هذه البقرة، وضح لنا وظيفة هذه البقرة، لقد تشابه الأمر واختلاط ولا ندري أي بقرة هي المطلوبة من بين البقر.
وهذا فيه فائدة كبيرة وهي أن الاشتباه والالتباس نتيجة طبيعية للحيرة، ضريبة يدفعها كل من يترك التشريع الرباني الميسر ويذهب إلى التشديد والتعقيد، مثال الموسوسين، الشخص الموسوس الذي تقول له: توضأ بهذه الكيفية، ترى أنه يأتي لك بأسئلة شديدة، المطلوب إزالة النجاسة، يقول وهل يلزم نتر الذكر، أو عصره، أو القفز، أو النحنحة، أو الربط والقيام والقعود، أو النزول من درجات السلم، كل هذا من تشديدات الموسوسين.
إذًا هذه القضية وهي قضية الحيرة، والاشتباه والالتباس تحدث نتيجة طبيعية للتشديد والتعقيد، والبحث عما لا يلزم البحث عنه شرعًا، ولذلك ترى الموسوس يعيش في عذاب، يعيش في حيرة، يعيش في هم وغم بسبب تشديده على نفسه، الآن لما أخبروا بهذه الصفات المطلوبة منهم في البقرة يا ترى أين سيجدونها؟ ومتى سيجدونها؟ وكم سيكون ثمنها؟ وهل هم مستعدون لدفع الثمن؟ ولذلك فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] وقالوا لنبيهم بعبارة يشتم منها رائحة سوء الأدب قالوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة: 71].
يعني بعد البيان الثالث الآن جئت بالحق، كأنهم يقولون: الذي قبل هذا ما كان حق، الآن حصحص الحق، وكأنه كان يتكلم بالباطل موسى حاشاه.
قال لهم في الصفة الثالثة: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا [البقرة: 71]، أما قوله: بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ [البقرة: 71].
الذلول من الدواب بينت الذل، التي ذللها الذين يستخدمونها، تُثِيرُ الْأَرْضَ [البقرة: 71]، يعني: تقلبها للزراعة، يعني: أن هذه البقرة التي أمرتم بها ليست بذلول تثير الأرض، وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ [البقرة: 71].
ولا يستقى عليها الماء لسقي الزرع، ويحمل عليها الماء، ويستقى بها الماء، وإنما هي مُسَلَّمَةٌ [البقرة: 71]، يعني: خالية من العيوب، مسلمة من العيوب، مسلمة من العمل، يعني: كأنها عند أهلها للنظر والاستمتاع، وليس للعمل والكد، لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ[البقرة: 71].
وإنما هي مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا[البقرة: 71] يعني: لا عيب أو لا خلط في الألوان، فلما سمعوا هذه الأوصاف، ولما يبقى متسع لمزيد من التساؤلات، فإنه قد عرفوا العمر، واللون، والعمل، فماذا بقي؟ كان الأمر يسيرًا فعسروه، وكان واسعًا فضيقوه، وفي النهاية ذبحوها، فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71].
ما كادوا يفعلون ما أمروا به، ولذلك فإن الله تعالى ذمهم، وعابهم على هذا الفعل، وشدد عليهم، وجعل الأمر شاقًا عليهم، وكذلك جعل عليهم شاقا في اللحوم، وما يأكل منها، والشحوم، وحرم عليهم أشياء فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160].
وهذا التباطؤ والتلكؤ يدل على نفسية لا تريد العمل، ولا تريد التنفيذ، نفس المؤمن فيها شوق، ولهفة، وهمة، وحيوية للتنفيذ، لأن هذا هو أمر الله، فالمؤمن يتحمس لتنفيذ أمر الله، ولكن المنافق يتكاسل، ويتباطأ، ويتحايل، ويتهرب، فإذا فشلت المحاولة نفذ مضطرًا مكرهًا مرغمًا، فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71]، لكن المؤمن إذا نفذ الصلاة والحج ينفذ بطواعية نفس، وسرور نفس، ومسارعة، واستسلام لا اعتراض، ولا تلكؤ، أما المنافق وطبائع اليهود، هذا هو، وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 142]، ولذلك الإنسان يجرجر نفسه إلى الطاعة جرجرة، ومرة يفعل ومرة لا يفعل، ويسأل أهل العلم، فإذا أجابوه، اعترض بسؤال آخر، وتراه يجادل لا للتعلم، ولكن لإضاعة الوقت، ولعله ينفذ من الحكم ويجد له مخرج من هذه الفتوى، فهذه طبيعة يهودية إسرائيلية بغيضة من بني إسرائيل، ومعلوم أنه ليس المقصود الآن مجرد الذبح، المقصود الأساسي المبادرة للتنفيذ، الله أمرنا بذبح الضحايا والهدايا، وقال: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج: 36].
يعني: سقطت بعد نحرها، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج: 36-37].
وبعدما ما ذبحوها تنتقل الآيات بعدما ذكر الله أنهم ذبحوها، ولولا أنهم استثنوا ما ذبحوها، ولذلك لما قالوا: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة: 70].
لو ما استعملوا المشيئة كان ما ذبحوها أبدًا كما قال المفسرون، وهذا من بركة المشيئة فإنها معينة على تنفيذ الأمر، ولذلك قال الله: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف: 23-24].
بعدما انتهت قضية شروط البقرة وذبح البقرة أعلمنا الله لماذا أمروا بذبحها، وهذا تشويق في القصة، وجذب للانتباه أنه أتى بالسبب ثم أتى بالقضية الأصلية، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: 72].
هذا أول القصة حصل أولاً قتل الشخص، ثم تنازع فيه الناس، فأراد الله أن يكشف الحقيقة، فأمرهم بذبح البقرة ليضربوه ببعضها، فيحيا القتيل، فيخبر عن قاتله، ومعنى قوله تعالى: فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة: 72].
يعني: تدافعتم خصام واتهام، كل واحد يدرأ عن نفسه التهمة، ويلقيه على الآخر، يدعي براءة نفسه، ويتهم غيره، والله -تعالى- يريد فضح سر القاتل والعارفين به، ولذلك قال: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: 71]، لأنكم تريد التغطية على القاتل، والإيقاع بقوم أبرياء، تتهمون بالقتل لإخفاء القاتل الحقيقي، والله لا يخفى عليه مكركم، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة: 72-73]، اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، قلنا: إنه ورد في الإسرائيليات ذكر لهذا البعض الذي أمروا أن يضربوه به، لكن ماذا يفيدنا لو ما عرفنا؟
وماذا يضرنا لو لم نعرف؟ لا يضرنا شيء، ولذلك ما ذكره الله لنا، ولو كان فيه منفعة لنا لذكره لنا ربنا، لما ضربوه ببعضها أحياه الله، حيي بإذن الله، فكان في ضربه حكمة بالغة في تقديم دليل واضح على بعث الله للناس بعد الموت، وأن الله قد بعث لكم واحدًا من الأموات، فهو قادر على بعث الأموات كلهم إذا ماتوا، كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة: 73].
فإذًا الكلام فيه حذف وتقدير، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة: 73] فأحياه الله: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة: 73]، مثلما أحيا هذا الشخص، وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ [البقرة: 73]، أي علاماته الدالة على كمال قدرته.
فإن قال قائل: ما للقصة لم تقص على ترتيبها؟ وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل أولاً، والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها؟ وأن يقال: وإذ قتلتم نفسًا فادارأتم فيها، فقلنا اذبحوا بقرة، واضربوه ببعضها؟
لكن لا شك أن في تقديم هذا وتأخير ذاك بلاغة واضحة في شد الانتباه والتشويق كما ذكرنا، وأنه أراد أن يظهر تباطؤ اليهود، وتلكؤهم، وتقاعسهم، ويقرعهم على هذا الاستهزاء وترك المسارعة للامتثال، وأن هذه القضية أخطر من قضية التدارؤ في قتل هذا الشخص؛ لأن عدم تنفيذ الأوامر هذه خطيرة، فكأنه قدم القصة المتعلقة بها على القصة المتعلقة بإحياء القتيل؛ لأن هذه مشكلة أكبر، وينبغي بيانها، وإيضاحها، وربما يكون تقديمه من هذه الجهة أحسن وأبلغ، وكأنه ذكر لنا قصتان قصة التلكؤ، وقصة القتيل، بينما لو ذكرت بالعكس لكانت قصة واحدة، فهو وصل لنا القصة الأولى بالثانية، في قوله: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة: 73] اتصلت القصتان، لما واحد الضمير اضربوه ببعضها اتصلت القصتان، لكن لما ذكر ذلك أولاً ثم هذه ثانيًا، وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا [البقرة: 72]، ذكرها بعد، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67].
صارت كأنها قصتان كل قصة لها مغزى أبلغ من أن تكون قصة واحدة، وعلى أية حال في القرآن أسرار كثيرة قد تخفى، ويعلم كثير منها أهل العلم.
بعض الفوائد الدروس المستفادة من القصة
وفي قوله تعالى: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة: 67]، دليل على منع الاستهزاء بالدين كما تقدم.
وفي قوله تعالى: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا [البقرة: 71]، تكلم العلماء في هذه الآية على قضية بيع السلم، وأنه يجوز بيع الحيوان سلمًا إذا ضبطت صفاته، كما ضبطت في هذه الآية؛ لأن العلماء قد اختلفوا في حكم بيع السلم في الحيوان:
فادعى بعضهم أنه لا يجوز لأنه لا يمكن ضبطه، وهم الحنفية.
وذهب الشافعي رحمه الله، ومالك والأوزاعي، والليث، وغيرهم إلى الجواز جواز بيع السلم في الحيوان، واستدلوا بالآية.
ما هو بيع السلم؟ معلوم أنه القاعدة الأصلية لا يجوز بيع ما لا تملك، شيء لا تملكه لا يجوز لك أن تبيعه، لكن الحاجة تدعو أحيانًا إلى أن يبيع الإنسان ما لا يملك، فأباحت الشريعة بيع السلم، يجوز أن تبيع شيئًا ليس عندك إذا كان يمكن ضبطه، وذكرت الصفات الضابطة له، وقدم الثمن في مجلس العقد، إلى آخر شروط بيع السلم.
فمثلاً يجوز أن تقول لشخص: أشتري منك مثلاً ثمرًا هذه صفته، ولم يظهر الثمر بعد، ويمكن ما زرع أشتري منك قمحًا على رأس الحول هذه صفته، وهذا وزنه، وهذا ضبطه، ونحو ذلك، وتقدم الثمن كاملاً، يجوز بيع السلم في هذه الحالة، تقول لشخص سيسافر إلى أمريكا يأتي بسيارة تقول: أشتري منك سيارة صفتها كذا وكذا وكذا، وتقدم الثمن كله بمجلس العقد، ثم يأتي لك بالسيارة على الصفات.
ومن شروط بيع السلم تحديد المدة، يعني: مدة التسليم، على أية حال الآن موضوعنا ليس بيع السلم لكن استدلوا بهذه الآية على جواز السلم في الحيوان.
وهذه القصة فيها فوائد كثير ذكرنا بعضها سابقًا:
ومنها: إظهار العجرفة وسوء الأخلاق في بني إسرائيل؛ ليتجنبها المسلمون، وحرمت الاعتراض على الشارع، ووجوب المبادرة إلى تنفيذ أمره ونهيه، والندب إلى الأخذ بالمتيسر، وكراهية التشديد في الأمور، وفائدة الاستثناء، وأنهم لو لم يقولوا: إن شاء الله ما نفذوا أصلا، وتحاشي الكلمات التي قد يفهم منها الاستهزاء بالأنبياء، وهذا الآن جدل قائم على فيلم قد صور، ومثل فيه لمز بيوسف ، هذا الذي يثور حوله الجدل في هذه الأيام، الأفلام التي فيها تمثيل أدوار الأنبياء ما في شك أنها سخرية بالأنبياء، يطلع لك واحد ممثل فاسق فاجر يمثل دور في الحب والغرام والعشق المحرم في تمثيلية وفيلم، ثم يطلع يمثل دور نبي، ثم لو أتيت بأتقى الناس الآن هل يرقى أن يكون في مستوى نبي حتى يمثل دوره، فلا شك أن تمثيل أدوار الأنبياء مما يقل من شأنهم، ويظهرهم بمظهر غير المظهر الذي أظهره الله تعالى في كتابه، فلذلك حرام تمثيل أدوار الأنبياء، طبعًا وهم يحاولون المناورة والمداورة، وأنا لم نقصد، ولكن التفاصيل التي قدموها تبين أنهم قصدوا ذلك، وهذا من محاربة الأعداء لنا في تاريخنا، هم حاربونا بأشياء كثيرة، ومنها مح