الجمعة 20 رمضان 1445 هـ :: 29 مارس 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

34- ما جاء في عبادة رسول الله ﷺ 1


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

فقد قال الإمام الترمذي -رحمه الله- في كتابه الشمائل المحمدية: باب ما جاء في عبادة رسول الله ﷺ.

المراد بالعبادة هنا: عبادات النوافل الزائدة على الواجبات، وقد ذكر المصنّف -رحمه الله- في هذا الباب سبعًا وعشرين من الأحاديث النبوية، فقال:

عن المغيرة بن شعبة، قال: "صلى رسول اللهﷺ حتى انتفخت قدماه، فقيل له أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، قال:  أفلا أكون عبدًا شكورًا " [رواه البخاري: 1130] وهذا الحديث قد رواه الإمام البخاري -رحمه الله- في كتاب الجمعة، باب قيام النبي ﷺ.

"حتى ترم قدماه" يعني: تتورم، وأخرجه مسلم -رحمه الله- كذلك في باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة من كتاب صفة القيامة والجنة والنار.

وحديث أبي هريرة الذي يليه، قال: "كان رسول اللهﷺ يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: "أتفعل هذا وقد جاءك أن الله تعالى قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا " وقد تفرّد به المصنّف -رحمه الله- وحسّن إسناده الحافظ في الفتح.

والثالث عن أبي هريرة ، قال: "كان رسول الله ﷺ يقوم ويصلي حتى تنتفخ قدماه، فيقال له: يا رسول الله تفعل هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال:  أفلا أكون عبدًا شكورًا "، وهذا الحديث قد رواه ابن ماجة أيضًا، وصححه البوصيري في الزوائد.

صلّى رسول الله ﷺ حتى انتفخت قدماه، يعني تورمتا من طول قيام الليل، الصحابة تعجبوا قالوا: أتتكلف هذا، يعني تلزم نفسك بهذه الكلفة والمشقة، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وذلك لأن الله قال لنبيه ﷺ في آية من أحب الآيات إلى نبينا، آية من أحب الآيات، فرح بها فرحًا شديدًا جدًا جدًا:  إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ  [الفتح: 1- 2] ، ولم يكن قد أوحي إليه من قبل أن الله غفر له ما تأخر، فإنه قد أخبر في نصوص أن الله غفر له ما تقدم، لكن ما تأخر هذه البشارة العظيمة في هذه الآية، كانت هذه الآية من أشد ما فرح به النبيﷺ من البشائر من ربه، وَيُتِمَّ ‌نِعْمَتَهُ ‌عَلَيْكَ ‌وَيَهْدِيَكَ ‌صِرَاطًا ‌مُسْتَقِيمًا  [الفتح: 2]، فقالوا له: إن الله بشّرك بهذا، فما الحاجة إلى كثرة العمل.

قال ابن بطال -رحمه الله-: "في هذا الحديث: أخذ الإنسان نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك ببدنه"، لكن هذا لابد له من قيد؛ لأننا نعلم أن النبي ﷺ قاوم محاولات الإضرار بالبدن؛ كالتي تعلقت بالحبل، والذي وقف في الشمس، لا ينطق ساكت، واقف وفي الشمس، لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم، ظن أن هذا نذرًا مشروعًا، لكن هذا تعذيب نفس بلا فائدة، فمنعه أيضًا، ولما حاول بعضهم أن يصوم ولا يفطر، ويقوم ولا ينام، ولا يأكل اللحم، ولا يتزوج النساء؛ قاوم النبي ﷺ هذه النزعة أيضًا.

إذن، نحن كيف نجمع بين هذه الأشياء وبين ما فعله ﷺ، نقول:

أولاً: الأشياء التي أنكرها إما أن تكون غير مشروعة؛ مثل الذي نذر أن يقوم ولا يقعد، وفي الشمس لا يستظل ويسكت ولا يتكلم، هذه ليست من عبادات هذه الأمة، نعم كان فيمن كان قبلنا، إِنِّي ‌نَذَرْتُ ‌لِلرَّحْمَنِ ‌صَوْمًا ، يعني سكوتًا عن الكلام فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا  [مريم: 26]، وزكريا أوحى إليهم بالإشارة  أَنْ ‌سَبِّحُوا ‌بُكْرَةً ‌وَعَشِيًّا  [مريم: 11]، لأنه نذر صيامًا عن الكلام، لكن هذه الأمة ما فيها صمت بلا كلام لمدة ثلاثة أيام أو غيرها غير مشروع في ديننا، فإما أن يكون نهى عن أشياء؛ لأنها ليست بمشروعة، أو أنها تسبب الإملال المفضي إلى ترك العبادة نهائيًا.

ثانيًا: نهى عن أشياء تسبب الإملال، الملل المفضي المؤدي إلى ترك العبادة نهائيًا؛ مثل: قصة زينب وتعلقها بالحبل، نهى عنه وأمر بقطع الحبل، أو لأشياء هي من الغلو في الدين؛ مثل: عدم الزواج، وعدم أكل اللحم، أو لأن أصحابها ظنوا أنهم سيأتوا بأفضل مما جاء به النبي ﷺ كالذين أرادوا أن يصلوا الليل كله بلا نوم، ويسردوا الصيام بلا إفطار، قال: لا صام من صام الأبد، من صام الأبد فلا صام ولا أفطر، ولذلك أعلى ما فيها أن تصوم يومًا وتفطر يومًا هذا أفضل الصيام، ولا أفضل من هذا، أما أن يحدث للبدن شيء من الضرر لكن يطاق، يعني مثلاً تورم القدمين هذا يحصل بتوالي السنوات في طول القيام، مثلاً خشونة الجلد في بعض المواضع في الأقدام أو في الركب أو في الجبهة نتيجة طول السجود، فهذا ليس بضرر عظيم على البدن، ولا يأتي يعني من غلو، وإنما يأتي من طول العبادة، طول العبادة عبر السنوات الطويلة، فإذا صار في مشقة محتملة لا تؤدي إلى ملل، ولا إلى انقطاع عن العبادة فنعم، ولذلك ابن حجر -رحمه الله- قيّد كلام ابن بطال، قال: "ومحل ذلك ما إذا لم يفضي إلى الملال؛ لأن حال النبي ﷺ كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل من عبادة ربه، وإن أضر ذلك ببدنه، بل صح أنه قال: وجُعلت قرة عيني في الصلاة ، فإن خشي الملل فلا ينبغي له أن يُكره نفسه، وعليه يُحمل قول النبي ﷺ: خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يملّ حتى تملوا  ".

هنا أيضًا ينبغي أن نقول: إن معنى قوله: "فإن خشي من الملل فلا ينبغي له أن يكره نفسه" أي في غير المجاهدات التي لا بد منها، لأن الإنسان ربما يقول: أنا غير الفرائض ما أتحمل، أنا لا أتحمل نوافل، ويمكن في التراويح مثلاً يقول: أنا فقد ركعتين، حدودي ركعتين، طيب أنت إذا روضت نفسك ترتاض وإذا جاهدتها تقبل، إذًا ينبغي أن تجاهد نفسك، وليس أن تقول من أول مرة: أنا مليتن وأخشى أن أنقطع عن العبادة، وأنا حدي الفرائض فقط، وأنا حدي هذه الواجبات ولا أزيد، فقوله: "خذوا من الأعمال ما تطيقون": الإنسان ممكن يطيق يعني أن يصلي ثلاثًا أو خمسًا مع الوقت يجاهد فيزداد، وقوله: "أفلا أكون عبدًا شكورًا" أي: إذا أكرمني الله بغفرانه، أفلا أكون شكورًا لإحسانه، لقد أحسن إلي بغفران ذنوبي.

وقال القرطبي: "ظن من سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة أنه إنما يعبد الله خوفًا من الذنوب، وطلبًا للمغفرة والرحمة" فقال له: أنت ما تحتاج إلى هذا، لأن الله غفر لك، وأنت آمن من العذاب، "فأفادهم بأن سبب العبادة والاجتهاد فيها ليس فقط خوف العذاب"، يعني: ليس هذا هو السبب الوحيد الذي يجعل الإنسان يعبد الله، فقط لينجو من جهنم فقط، لا، وإنما شكر على النعم، أفلا أكون عبدًا شكورًا، فأخبرهم أنه ليس الحامل له على العبادة هذه فقط خشية النار وابتغاء المغفرة، فيقال له: طيب أنت مغفور لك، وآمن من النار، وإنما من أسباب العبادة أيضًا أراد أن ينبههم على أن من أسباب العبادة أيضًا الشكر، الشكر وليزداد درجات عند ربه، أليس الإنسان يبتغي الأحسن حتى في الجنة وفقط أنه يريد أن يدخل الجنة في أدنى درجة، ألا يريد أن يعلو فيها، أليس ما ذكر الله من المراتب العليا، إن أهل الدرجات العلى يتراءون، أهل الجنة يتراءون من فوقهم من أهل الدرجات العلى كما تراءون الكوكب الدري، كما تراءون الكوكب الغابر في الأفق، فإذًا هذا كفيل وكافي أن الإنسان يندفع لمزيد من العبادة، إن في الجنة غرفًا يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها، قيل لمن هي يا رسول الله؟ فأخبرهم لمن هي، وأخبرهم أن الجنة في الجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أفلا يكون هذا حافزًا على المزيد من العبادة، إذًا ليس فقط المقصود من العبادة فقط أن الإنسان ينجو من النار، وإنما أيضًا يبتغي المراتب والدرجات عند الله، الدرجات العلى والنعيم المقيم، "أفلا أكون عبدًا شكورًا": فأشكر الله على ما أنعم به علي.

والشكر:

  1. معرفة إحسان المحسن، ومعرفة الإحسان.
  2. التحدث به،  وَأَمَّا ‌بِنِعْمَةِ ‌رَبِّكَ ‌فَحَدِّثْ  [الضحى: 11].
  3. الثناء عليه.
  4. استعمالها في طاعته.
  5. عدم استعمالها في معصيته.

فإذًا الشكر: الاعتراف للمنعم، ونسبة النعمة إليه لا إلى غيره، واستعمالها في الطاعات، وعدم استعمالها في المعاصي، والتحدث بها، ومعرفة إحسان المعطي والمان الذي منَّ بها.

والشكر له ثلاثة أحوال: بالقلب، وباللسان، وبالجوارح.

بالقلب: بمعرفة النعم، والرضا بها، وعدم إنكارها، وإثباتها للمنعم، ونسبتها إليه.

باللسان: التلفظ بشكره تعالى عليها.

بالجوارح: القيام لله بالطاعات، من صلاة، وصيام، وحج، وصدقة، شكرًا له عليها، اعْمَلُوا ‌آلَ ‌دَاوُودَ ‌شُكْرًا  [سبأ: 13]، الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول والنية، اعْمَلُوا ‌آلَ ‌دَاوُودَ ‌شُكْرًا .

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا

 الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله شكر، وأفضل الشكر الحمد.

قال محمد بن كعب فيما رواه عنه ابن جرير: "الشكر: تقوى الله، والعمل الصالح".

ولو قال قائل: هل للنبي ﷺ ذنوب؟ لما قال وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال بعضهم: أحسن ما قيل في هذا إنه من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين، طبعًا المقربون أعلى درجة، وكلما ترقوا في المقامات العليا رأوا ما كانوا فيه نقصًا، فيستغفرون الله من ذلك، وربما عدوه ذنبًا، يعني ممكن الإنسان يرتقي في الإيمان لدرجة أنه ينظر إلى أن إضاعة الوقت في المباحات ذنب، يعني هو بالنسبة له، بالنسبة له، فيبدأ يأخذ مثلاً بالمراتب العليا من الورع مثلاً، المراتب العليا من الزهد، مع أن هناك ناس يعني من العاديين ما عندهم من الورع هذا ولا الزهد هذا بهذه الدرجة.

أما يعني جواز الصغائر على الأنبياء فهي جائزة، يجوز أن يقع النبي في صغيرة، لكنه منزه عن الكبائر فضلاً عن الشرك طبعًا وعمل الكفر، فهذا معصوم منه، لكن ممكن يقع في صغيرة، ممكن يقع في خلاف الأولى، يعني قصة عبس وتولى، قصة الغنائم في بدر مثلاً،  وَتَخْشَى ‌النَّاسَ ‌وَاللَّهُ ‌أَحَقُّ ‌أَنْ ‌تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب: 37] ما كان يريد أن يتزوجها؛ لئلا يقول الناس تزوج زوجة ولده بالتبني، وكان ذلك عظيمًا عند العرب وشيء كبير من الكبائر يعني، فالشاهد أنه قد يقع منه مثلاً وَلَا ‌تَطْرُدِ ‌الَّذِينَ ‌يَدْعُونَ ‌رَبَّهُمْ ‌بِالْغَدَاةِ ‌وَالْعَشِيِّ  [الأنعام: 52]، صرف بعض الضعفاء لأجل أن يأتي هؤلاء، أو أراد أن يصرفهم ليجلس مع كبار قريش الذين قالوا: لا نجلس مع هؤلاء الأعبد، نحن نجلس مع هؤلاء الأعبد اصرفهم حتى نجلس معك، فوقع في نفسه أن يصرفهم، فيعني من هذا النوع هو إذا قصر يعني أو إذا نزل إلى هذا، أشياء محدودة معدودة.

وترى فيها تنازع مصالح يعني ليست إثمًا محضًا، يعني حتى لما أراد أن يأخذ الفدية من مشركي قريش أسرى بدر يأخذ المال لنفسه يعني، لا، يأخذه للمسلمين لحاجة المسلمين، ومع ذلك يعني كان الرأي الأصوب أن يثخن فيهم، هؤلاء صناديد الكفر كان ينبغي أن يقطع رقابهم حتى لا يعودوا إلى قتال المسلمين مرة أخرى، وحتى يفت في عضد المشركين، وحتى يكون هذا يعني أقوى للمسلمين، وهذا فائدته أكبر من أخذ الفدية، فنجد أنه حتى الأشياء التي يعني وقع فيها من هذا النوع فيها تنازع المصالح وليست مفاسد محضة.

فالشاهد: أن النبي ﷺ قد يقع منه شيء من سهو أو تقصير ونسيان وهو في أعلى المقامات وأرفع الدرجات في العبادات والطاعات ولا يستغني عن الله ، لا يستغني عن ربه، وهو محتاج إلى فضل الله، محتاج إلى مغفرة الله ورحمة الله، و"لا أحد يدخل الجنة بعمله" ولا أنت يا رسول الله؟ "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته"، فالمؤمن يرى جميع طاعاته فيها نقص وفيها مدخولة وأنها قد لا تقبل، وإن قبولها مرتبط برحمة الله وعفوه، سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جاء في بعض الأحاديث، ومن كلام الملائكة أيضًا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، مع أن الملائكة دائمًا تعبد.

ثم قال رحمه الله: عن الأسود بن يزيد، قال: سألتُ عائشةَ عن صلاة رسول الله ﷺ بالليل، فقالت: "كان ينام أول الليل ثم يقوم، فإذا كان من السحر أوتر، ثم أتى فراشه، فإذا كان له حاجة ألمَّ بأهله، فإذا سمع الأذان وثب، فإن كان جنبًا أفاض عليه الماء من السحر، وإلا توضأ وخرج إلى الصلاة". هذا الحديث متفق عليه، رواه البخاري ومسلم.

سأل الأسود بن يزيد عائشة: "عن صلاة رسول الله ﷺ بالليل" يعني: التهجد والوتر، في أي وقت كان يقوم الليل، فقالت: "كان ينام أول الليل" يعني: بعد العشاء ينام، ينام إلى تمام النصف الأول من الليل؛ لأن هذا أعدل النوم، وأنفع النوم للبدن، وأنفع النوم للأعضاء وللقوة، فإنه ينام أول الليل ليعطي القوة حظها من الراحة، ويستيقظ آخر الليل ليعطي النفس حظها من العبادة، وهذا فيه جمع بين مصلحة القلب ومصلحة البدن، نحن طبعًا حياتنا الآن بالعكس تقريبًا كلنا، من الذي ينام بعد العشاء مباشرة؟ فإذًا لكن لو جربه الواحد ربما غير نظام حياته، لو نام بعد العشاء مباشرة سيقوم الساعة الثانية مثلاً نشيطًا؛ فيستطيع أن يصلي قبل الفجر وهو نشيط، ويعني يقوم لصلاة الفجر، ولو اضطجع ضجعة يسيرة تكفيه؛ لأن يقوم لصلاة الفجر نشيطًا، فلذلك كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه وينام سدسه، ينام نصف الليل في الأول، ويقوم ثلثه وينام سدسه، فبهذا تعطى النفس حظها من الراحة وحظها من العبادة، قالت: "ثم يقوم" وفي لفظ البخاري: "ويقوم آخره فيصلي" وفي لفظ مسلم: "كان ينام أول الليل ويحيي آخره"، بالإضافة إلى أن آخر الليل ينزل الله إلى السماء الدنيا ثلث الليل الآخر معلوم ماذا يكون من كرم الرب ونفحاته في ذلك الوقت، "فإذا كان من السحر": آخر الليل، "أوتر" أي: صلى الوتر، وكان ﷺ يوتر بثلاث يقرأ في الأولى: بـ سَبِّحِ ، وفي الثانية: بـ  قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، والثالثة: بـ  قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، ففيه استحباب أداء صلاة الوتر في آخر الليل عند وقت السحر لمن وثق من القيام.

قال النووي: "من كل الليل أوتر رسول الله ﷺ وانتهى وتره إلى السحر، فتظاهرت الأحاديث على الإيتار في آخر الليل، وأما من خاف ألا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، كما ثبت في حديث جابر قال: قال رسول اللهﷺ:  من خاف أن لا يقوم من آخر الليل؛ فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره؛ فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل  [رواه مسلم: 755]".

فإذن، الأفضل آخر الليل في حق الذي يثق أو يغلب على ظنه أنه سيقوم في آخر الليل، فإن لم يثق ولم يغلب على ظنه فيوتر في أول الليل، أبو هريرة من هذا النوع ؛ ولذلك قال: "أوصاني خليلي أن لا أنام إلا على وتر"، لأنه إذا نام ممكن ما يقوم في آخر الليل، ثم في حديث الأسود عن عائشة: "ثم أتى فراشه": لينام السدس السادس من الليل، إذن، الليل يقسم ستة أقسام: كان يصلي السدس الرابع والخامس، وينام السدس السادس، إذًا الليل يقسم إلى ستة أقسام، لو قلت ما هي السنة بالتفصيل يعني الدقيق جدًا في قضية النوم والصلاة في الليل، فنقول: يقسم الليل إلى ستة أقسام: ينام السدس الأول والسدس الثاني والسدس الثالث، كم هذا؟ نصف الليل، ويصلي السدس الرابع والسدس الخامس، وينام السدس السادس تمهيدًا أو قبل قيامه لصلاة الفجر مباشرة، هذه السنة بالضبط في كيفية فعله ﷺ لمن أرادها وحرص عليها، فهذا تفصيلها، من بعد العشاء ستة أقسام: اقسم الوقت إلى الفجر، من بعد العشاء إلى الفجر اقسمه ستة أقسام، فينام السدس الأول والثاني والثالث، ويقوم يصلي السدس الرابع والخامس، وراحة السادس قبل الفجر، ثم يصلي الفجر، فهكذا كان نومه وصلاته ﷺ.

وقال لنا: "أحب صلاة إلى الله صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله صيام داود"، طيب ما هي صلاة داود؟ قال: "كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه"، هذا هو، هذا الذي يفعله ﷺ، "ويصوم يومًا، ويفطر يومًا" رواه الشيخان.

وإتيان الفراش للراحة بعد القيام لإعادة البدن النشاط، وعن عائشة قالت عن النبيﷺ: "ما ألفاه السحر عندي إلا نائمًا"، فهكذا كان، يعني في السدس الأخير ينام، يقوم في الوقت الذي ينادي الله فيه هل من سائل، هل من تائب، هل من مستغفر، طيب قولها: "فإذا كان له حاجة" يعني: إلى أهله، "ألم بأهله": فجامع زوجته، ويؤخذ من هذا أن التهجد يسبق قضاء الحاجة من الزوجة، ثم يذهب في راحة، فيقوم على الفجر، فإن كان على جنابه اغتسل، قالت: "فإذا سمع الأذان وثب": قام بسرعة، نحن نقوم على مراحل، ولذلك تضيع علينا الصلاة، أما هو ﷺ يقوم بسرعة وثب، "فإذا سمع الأذان وثب": وهذا فيه إقبال على العبادة بنشاط، وعدم التثاقل، وعدم التكاسل كالمنافقين،  إِنَّ ‌الْمُنَافِقِينَ ‌يُخَادِعُونَ ‌اللَّهَ ‌وَهُوَ ‌خَادِعُهُمْ ‌وَإِذَا ‌قَامُوا ‌إِلَى ‌الصَّلَاةِ ‌قَامُوا ‌كُسَالَى [النساء: 142]، وقال ﷺ: "أثقل الصلاة على المنافقين: العشاء والفجر". رواه البخاري، هذا في العصر الأول يمكن في العصر هذا أثقل الصلوات على المنافقين: العصر والفجر.

وفي الحديث: وصفت عائشة -رضي الله عنها- قيام النبي ﷺ إلى الصلاة بالوثوب بسرعة ونشاط حين يسمع الأذان، ويؤيد هذا ما جاء عن الأسود بن يزيد قال: سألت عائشة ما كان النبي ﷺ يصنع في بيته، قالت: "كان يكون في مهنة أهله -يعني: خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة". رواه البخاري.

وقولها في الحديث: "فإن كان جنبًا أفاض عليه من الماء": اغتسل، غسل جميع البدن، "وإلا توضأ وخرج إلى الصلاة": إذا كان ليس على جنابة يكتفي بالوضوء.

ثم قال رحمه الله: عن كريب عن ابن عباس أنه أخبره أنه بات عند ميمونة وهي خالته، قال: "فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله ﷺ في طولها، فنام رسول الله ﷺ حتى إذا انتصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل، فاستيقظ رسول الله ﷺ فجعل يمسح النوم عن وجهه، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلق فتوضأ منها، فأحسن الوضوء، ثم قام يصلي، قال عبد الله بن عباس: فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله ﷺ يده اليمنى على رأسي، ثم أخذ بأذني اليمنى ففتلها، وصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ست مرات، ثم أوتر" وهذه إحدى الكيفيات أن صلاة الليل ثلاثة عشر ركعة حديث ابن عباس، "ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام ﷺ فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح"؛ إذًا ما هاتان الركعتان الخفيفتان؟ سنة الفجر.

ابن عباس كان صغيرًا ، بات مرة عند خالته ميمونة، من الذي أرسله ليبيت عند خالته ميمونة؟ أبوه، العباس أرسل ابنه عبد الله ليبيت تلك الليلة مع النبي ﷺ في بيته ليتعلم منه ويستفيد؛ لأنه غلام معلم فَهم ثَقف لَقِن، ولذلك أرسله وليكون له مكانة عند النبي ﷺ وليروي عنه هذا من فطنة العباس وحسن تربيته لولده، أرسل ولده عبد الله ليبيت عند النبي ﷺ.

قال: "فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله ﷺ في طولها": والوسادة معروفة التي تكون تحت الرأس، وفي هذا دليل على جواز نوم الرجل مع امرأته مستورين بحضرة بعض محارمها، فإذًا لو أن هذه الحجرة اضطجع الرجل، واضطجعت زوجته، واضطجع من الطرف الآخر مثلاً أحد محارمها لا مانع، ما دام أن هؤلاء أو الرجل وزوجته مستورين في هذا المبيت؛ فلا يضر أن يبيت معه في نفس الحجرة ثالث من محارمها، وإن كان مميزًا، وابن عباس أيضًا لم يكن يعني ليس لم يكن ذلك الوقت رجلاً لكنه كان مميزًا، وربما توضح أيضًا رواية شيئًا من سبب هذا، فيقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "بت عند خالتي في ليلة كانت فيها حائضًا"؛ ومعلوم أنها إذا كانت حائضًا فلا يقربها زوجها، فناسب يعني: الآن الرجل ليس له حاجة بزوجته، فإذًا لن يضيق عليهما لو بات عندهما، وهذه الكلمة أو الرواية وإن لم تصح طريقًا -كما قال القاضي- لكنها في المعنى حسنة جدًا، إذ لم يكن ابن عباس ليطلب المبيت في ليلة للنبي ﷺ فيها حاجة إلى أهله؛ لأنه معلوم أن النبي ﷺ كان يقسم لزوجاته، ولكل زوجة حق، فلم يكن ابن عباس لينغص على خالته في ليلة لها حاجة لزوجها أو لزوجها حاجة إليها.

فنام رسول الله ﷺ، وفي رواية في الصحيحين: "فتحدّث رسول الله ﷺ مع أهله ساعة ثم رقد"، قال النووي: "فيه جواز الحديث بعد صلاة العشاء للحاجة والمصلحة"، إذن، كلام مع الزوجة في مصلحة في حاجة "وهو كان يكره النوم قبلها" يعني: قبل صلاة العشاء لئلا تضيع صلاة العشاء، وكان يكره النوم قبل العشاء؛ حتى لا تضيع العشاء، "ويكره الحديث بعدها": حتى  لا تضيع الفجر.

"فنام رسول الله ﷺ حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل فاستيقظ رسول الله ﷺ فجعل يمسح النوم عن وجهه": يمسح النوم يعني يمسح أثر النوم؛ لأن النوم معنوي، يعني ليس مثل التراب والغبار والأذى الذي يمكن أن يُمسح، فهو شيء معنوي، فإذن، مسح أثر النوم ما معناه؟ الإنسان أول ما يقوم من الفراش، يكون حاله متغيرًا، فيمسح أثر النوم عن عينيه ووجهه، على أن هناك بعض الأشياء الحسية التي تُرى أيضًا في العين من جراء النوم، فإذن، ليس شرطًا أن يمسح فقط شيئًا معنويًا، وإنما للنوم آثار حسية أيضًا، إذن، فنام رسول الله ﷺ، تحدّث مع أهله ساعة ثم رقد، وحديث هذا للحاجة والمصلحة، مع أنه كره النوم قبل العشاء والحديث بعده، حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، فاستيقظ رسول الله ﷺ، انتصف قلنا الآن خلاص نام السدس الأول والثاني والثالث، فانتصف الليل فجعل يمسح النوم عن وجهه، يعني أثر النوم يمسحه عن وجهه، "ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران"، وفي رواية البخاري: "قعد فنظر إلى السماء فقرأ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [آل عمران: 190]... إلى آخر الآية، وفي رواية لمسلم: "فخرج فنظر في السماء، ثم تلا هذه الآية في آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [آل عمران: 190]، حتى بلغ: فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ  [آل عمران: 191]، ثم رجع إلى البيت".

قال النووي -رحمه الله-: "وفيه استحباب قراءة هذه الآيات عند القيام من النوم"[شرح النووي على مسلم: 6/46]، آخر آيات من آل عمران تستحب أن تُقرأ عند القيام من النوم، وفيه جواز قول سورة آل عمران وسورة البقرة وسورة النساء خلافًا لما ادعاه بعضهم أنه يجب أن تقول: السورة التي تذكر فيها البقرة، السورة التي يذكر فيها آل عمران، السورة التي يذكر فيها العنكبوت، السورة التي يذكر فيها النمل، لا يلزم، سورة النمل، سورة البقرة، سورة العنكبوت، وهكذا، أصلاً العرب كانت تسمي القصيدة بأغرب كلمة فيها أحيانًا، فلا غرابة أن تسمى سورة العنكبوت، وسورة النمل، وسورة النحل، وسورة البقرة، وسورة الفيل، في عدة سور أسماؤها على أسماء الحيوانات، لكن هي مذكورة فيها، وفيها عجائب، يعني فيها ذكر أعجوبة للنمل أو النحل أو الفيل أو البقرة أو ... فيها أعاجيب، ولذلك سميت عليها، ثم الإنسان يتذكر الإنسان الشيء الغريب النادر يتذكر، فيسمى بالشيء الغريب النادر ليبقى عالقًا في الذهن.

"ثم قام إلى شن معلق فتوضأ منها": وهذه هي القربة من الجلد البالي القديم، شنٌ معلق بها ماء توضأ منها، "فأحسن الوضوء": وأسبغه وأكمله وأتمه، توضأ وضوءًا بين وضوءين لم يكثر وقد أبلغ يعني لم يكثر صب الماء ومع ذلك أسبغ الوضوء واستوفى عدده المسنون، "ثم قام يصلي": فتسوّك وتوضأ "ثم قام فصلّى" في رواية مسلم، وهذا معناه قيام الليل بالقرآن في الصلاة، وأنه سنة، وأن النبي ﷺ عمل بها وندب إليها.

وقد جاء عن عبد الله بن سلام أنه قال: "لما قدم رسول الله ﷺ المدينة انجفل إليه الناس، فكنت فيمن خرج ينظر إليه"، من الذي يتكلم عبد الله بن سلام، كانت ديانته اليهودية، خرج مع الناس لينظر إلى النبي ﷺ وهو داخل المدينة وقادم من مكة، قال: "فكنت فيمن خرج ينظر إليه، فلما تبينت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب"، هذا وجه ليس بوجه كذاب، "فكان أول ما سمعته يقول: يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام " [رواه الترمذي: 2485، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 7865].

والذي عليه العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين أن قيام الليل فضيلة لا فريضة، ولو كان فرضًا لكان مقدارًا مؤقتًا معلومًا وله وقت ونصوص تدل على وجوبه، قال عبد الله بن عباس: "فقمت إلى جنبه"، وفي رواية البخاري: "فقمت فتمطيت كراهية أن يرى أني كنت أتقيه، فتوضأت فقام يصلي فقمت عن يساره" ومعنى أتقيه: يعني أرتقبه، يعني كره ابن عباس أن النبي ﷺ يشعر أنه كان يراقبه في غفلة، "فتمطى": يعني ينبهه إلى أنه على قرب قيام الآن بخلاف ما لو قام فجأة فيشعر أنه كان قبلها مراقبًا له، وهذا من أدبه الجم على صغر سنه، "فوضع رسول الله ﷺ يده اليمنى على رأسي": مؤنسًا له، هذا قيام ليل، قال: "ثم أخذ بأذني اليمنى ففتلها": الأخذ بالأذن هنا فيه مقاصد، فتلها يعني: دلكها، وفي رواية الشيخين: "فأخذ بأذني فأدارني"، لأنه أول ما وقف عن يسار النبي  ﷺ فأداره فجعله عن يمينه، فإذا صلى الإمام ومعه مأموم واحد، فأين يكون المأموم؟ عن يمين الإمام، فإذا جاء المأموم وخالف السنة وصلّى عن الشمال، فماذا تفعل أنت يا أيها الإمام؟ تديره من شمالك إلى يمينك من خلفك، فأنت لا تجعله يمر بينك وبين السترة، وإنما من الخلف، تديره من خلفك، تجعله عن يمينك.

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية قيل له: أنت تزعم أن كل حركة تعملها بدليل، وأنك تتبع السنة، فمن أين أتيت مسك أذن المصروع عند القراءة ونهر الجني أو الشيطان المتلبس فيه؟ فقرأ عليهم حديث البخاري: "فأخذ بأذني ففتلها" فاستشهد لهم بالحديث.

فصلّى ركعتين ركعتين النهاية ست مرات يعني ثلاثة عشر ركعة، قال النووي: "فيه أن الأفضل في الوتر وغيره من الصلاة أن يسلّم من كل ركعتين، وأن الوتر يكون في آخره".

وفي هذا الحديث: أنه ﷺ صلى ثلاث عشرة ركعة، وفي رواية مسلم: "فتتامت صلاة رسول الله ﷺ من الليل ثلاث عشرة ركعة"، وعند البخاري: "ثم قام فتوضأ واستن فصلى إحدى عشرة ركعة"، فما وجه الجمع الآن بينهما؟ في رواية: ثلاث عشرة ركعة صحيحة هذه رواية مسلم، وفي رواية إحدى عشرة ركعة رواية البخاري، قال ابن حجر: "والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن عدم تعددها، وإلا قلنا مرة صلى ثلاث عشرة ومرة صلى إحدى عشرة" وخلصنا، يعني نقول تعددت أنه بات مرتين، بات مرتين مرة صلى معه إحدى عشرة ومرة صلى معه ثلاث عشرة، لكن الأرجح أن القصة ما تعددت، إذن لابد لها من مخرج، قال: "فلهذا ينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات فيها، ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى ممن خالفهم فيه ممن هو دونهم، لاسيما إن زاد أو نقص، والمحقق من عدد صلاته في تلك الليلة إحدى عشرة، وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن يكون منها سنة العشاء، ولا يعكّر على هذا الجمع إلا ظاهر سياق الباب، فيمكن أن يحمل قوله: صلى ركعتين ثم ركعتين، أي قبل أن ينام، ويكون منها سنة العشاء، وقوله: ثم ركعتين، يعني بعد أن قام" [فتح الباري لابن حجر: 2/484]، هذه محاولة ابن حجر الجمع قال بترجيح المسألة، ذهب إلى الترجيح.

"ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن" أي: وضع جنبه على الأرض، وفي رواية: "اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ"، "فقام فصلى ركعتين خفيفتين": وهما سنة الصبح، وفي رواية: "فآذنه بلال بالصلاة فصلى ولم يتوضأ" وذلك لأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه.

وكان يقول في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، واجعل لي نورًا [رواه البخاري: 6316،  ومسلم: 763].

قال العلماء: سأل النور في أعضائه وجهاته، وهذا فيه بيان الحق وضياؤه والهداية إليه، فسأل النور في جميع أعضائه وجسمه وتصرفاته وتقلباته وحالاته، وجملته في جهاتها الست حتى لا يزيغ شيء منها عنه.

وأخيرًا: حديث ابن عباس قال: "كان النبي ﷺ يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة"، ونرجع مرة أخرى إلى القضية، قال ابن القيم: "أما ابن عباس فقد اختُلف عليه، ففي الصحيحين وذكر حديث الثلاث عشرة، لكن جاء عنه مفسرًا أن معها ركعتي الفجر، فقال الشعبي: سألت عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر عن صلاة رسول الله ﷺ فقال: ثلاث عشرة ركعة؛ منها: ثمان، ويوتر بثلاث، وركعتين قبل صلاة الفجر، وحصل الاتفاق على إحدى عشرة ركعة، واختُلف في الركعتين الأخيرتين؛ هل هما ركعتا الفجر أو غيرهما.

وعن عائشة: "أن النبي ﷺ كان إذا لم يصل بالليل منعه من ذلك النوم أو غلبته عيناه صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، فإذا فاتته الصلاة من وجع أو غيره صلى ثنتي عشرة ركعة بعد ارتفاع الشمس"؛ لأنه كان إذا عمل عملاً أثبته، وإذا نام من الليل ومرض أو مرض صلاها ثنتي عشرة ركعة بالنهار.

وقال ﷺ: من نام عن حزبه أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل  [رواه مسلم: 747].

والحزب المقصود الجزء من القرآن الذي يصلي به؛ لأن المصلي قيام الليل يجعله جزء من القرآن في الصلاة.

والحديث يدل على مشروعية اتخاذ ورد في الليل، وعلى مشروعية قضائه إذا فاته لنوم أو عذر، وأن من فعله ما بين الفجر إلى صلاة الظهر كان كمن فعله في الليل، ولكن هذه الفضيلة خاصة لمن غلبته عيناه بنوم أو عذر كمرض، وليس لكسل، يعني واحد قال: دعنا ننام في الليل الآن بكرة النهار عندنا اثنى عشرة ركعة مثل الليل، نقول: لا، هذا لمن كان معذورًا في ترك قيام الليل.

والحديث يدل على مشروعية اتخاذ ورد من الليل إذا فات الإنسان قضاه، وهذا القضاء معناه أنه غير صلاة الضحى؛ أن هذا قضاء قيام الليل، هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.