الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
التأمل في الأحكام يدلك على الحكيم
عباد الله: من أسمائه تعالى: الحكيم، الذي أحكم كل ٍشيء خلقه، وكذلك أحكم شرعه وما أنزله على عباده، وكان كتابه قد أحكمت آياته ثم فصلت، وكذلك شرعه ، ولله الحكمة البالغة، حكيم في شرعه، حكيم في قدَره، حكيم في ثوابه وعقابه .
وهذه الأحكام التي لدينا من الله الصادرة عن حكمته تعالى، ليس عند البشر مثلها، ولا يستطيعون، ولو اجتمعت عقولهم من أولهم إلى آخرهم على أن يأتوا بمثلها لم يمكنهم ذلك، ومن تتبع الحكمة في أحكام هذه الشريعة وجد العجب العجاب؛ فإن فيها الحكمة في مصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والْإِحْسَانِ وإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [سورة النحل:90].
وتأمّل كذلك في هذه العبادات، وفي وقوف العباد بين يديه بغاية الذل والخضوع في هذه الصلاة، وما فيها من الانحناء لله، ثم وضع الجبهة -أعلا ما في جسد الإنسان- على الأرض خضوعًا لرب العالمين.
وتأمّل ما في هذا الصيام من تربية النفس على الصبر، وكبح جماحها، وتضييق مجاري الشيطان، وتوحيد المسلمين، وإشعار الغني بألم الجوع عند الفقير، ونحو ذلك من الحكم العظيمة الكثيرة.
وتأمل ما في هذه العقوبات والحدود التي جاءت بها الشريعة من أنها كفارة لأهلها، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فيه في الدنيا -يعني أقيم عليه الحد- فهو له كفارة، فهي تزجر الآخرين، وتكفر عن فاعلها، ولحد واحد يُقام في الأرض خير لهم من أن يمطروا أربعين صباحًا[1].
وفي بعض الحدود خزي لأهلها، وكذلك كفٌّ وردع ومنع سريان الكفر كحد المرتد، وشفاء صدر أهل القتيل، والانتصار للمظلوم.
الحكمة في الرش من بول الذكر وغسل بول الأنثى
وتأمّل فيما جاءت به الشريعة من رش بول الرضيع الذّكَر الذي لم يأكل الطعام، ووجوب غسل بول الأنثى في كل الحالات، فهذا يكثر حمل الرجال والنساء له كما يدل عليه الواقع المشاهد.
وأيضاً، مسألة الانتشار، وعدم انتشار فهذا ينتشر، وذاك يقع في مكان واحد بحسب المخرج.
وأيضاً، تأمل ما في غسل الجنابة من وقوع الماء على جميع الجسد الذي خرج منه ذلك السائل الذي هو خلاصة ما في الإنسان، ويخرج كأنه من جميع جسده، حتى وصفه الله بأنه: "سُلالاً" فقال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ [سورة المؤمنون:12]، يسيل من جميع البدن، فليس كالبول والغائط يُغسل موضع خروجه فقط، وكلام قدماء الأطباء، وكذلك المحدثين منهم، والواقع المشاهد مما يحصل من النشاط من الغسل من الجنابة؛ بخلاف ما لو لم يفعل ذلك.
وتأمل في الوضوء، وما فيه من غسل هذه الأطراف المعرضة للجو، وما فيه مما لا تستره الثياب عادة.
وكذلك هذه الأطراف والجوارح التي تُفعل بها المعاصي، فإذا توضأ خرج من العينين ومن الأذنين، ومن اليدين والقدمين آثار ما فُعل بهما من المعاصي، خرّت خطاياه من أطراف شعره، ومن بين أنامله وخطايا رجليه، وأصابعه، وهكذا، ثم تأمل في التوجه إلى القبلة من جمع الخاطر، وتوحيد المسلمين، وإقبال النفوس على -الله -، وتعظيم شعائر الله تعالى، وأن ذلك أجمع للخاطر، وأحضر للخشوع، وحضور القلب.
الحكمة من فرض الصلوات
وكذلك ما جعل الشرع من الصلوات الخمس في هذه الأوقات في أول نهاره، وبعد أن يعود من كسبه لقيلولته، وقبل أن ينطلق مرة أخرى إلى نشاطه في العصر، ثم بعد أن يعود إلى بيته إذا بدأت الظلمة تحل، وما كان بعد ذلك من صلاة العشاء في الليل، وهكذا قُسمت الصلوات على أوقات اليوم والليلة، تراعي حال السكن، وحال الراحة، وحال الكسب، وحال القرار، ويكون في ذلك وصلٌ للعبد بربه في كل الأحوال، وتعميم هذه الصلة على أطراف الليل والنهار، فأما صلاة الليل ففيها الجهر، حيث يكون القلب أشد مواطأة للسان مما في النهار؛ ولذلك كان صلاة الليل جهرية، وصلاة النهار سرية إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وطْئًا وأَقْوَمُ قِيلًا [سورة المزمل:6].
وكذلك إذا صارت المجامع الكبار في النهار كالعيدين، والاستسقاء، فإنه يكون جهرًا.
وتأمّل ما في قصر الرباعية في السفر، وعدم قصر الثنائية إذ يكون فيها إجحاف، وكذلك الثلاثية التي لا يمكن شطرها بخلاف الرباعية التي تقصر إلى ركعتين، وتأمّل في حكمة الشارع في جمع أهل البلد في صلاة الجمعة، وفي الجمع الأكبر في صلاة المشهد، والعيد، وفي جمع الأمة في الحج؛ حيث يلتقون، ويتعارفون، ويقيمون ذكر الله، وتذكّرهم عباداتهم باتحاد المسلمين، وأهمية ذلك.
وأيضاً، فإن في هذه العبادات من الأسرار البالغة الشيء الكثير، فأنت ترى مثلاً الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، فالصلاة تتكرر كل يوم، ولها صلاة في بقية الشهر يكون لها بها عوض بخلاف الصوم، فإنه لا يكون إلا شهرًا في السنة، ولا يشق عليها كما يشق عليها قضاء صلوات كل الشهور، فأُمرت بقضاء الصوم الذي لا يكون إلا في شهرٍ واحد، ولم تؤمر بقضاء الصلاة.
الحكمة في أحكام الطلاق
وتأمّل في إيجاب العِدَّة على المطلقة، فينكشف ما في الرحم من الجنين لو وجد.
وكذلك تفخيم أمر النكاح، وأنه ليس بوابة يُدخل فيها ويخرج بلا أدنى شيء، كلا، لكن له عِدَّة تنبه على خطره، وعلى أمره، وأيضاً تمكن الرجل من العودة، والمرأة تنتدم، فتطاوع وتلين في هذه العدة.
ولذلك كانت العدة في بيته لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولَا يَخْرُجْنَ [سورة الطلاق:1].
ومن الأخطاء الكبيرة الذهاب بالمرأة إلى بيت أهلها إذا وقع الطلاق، أو خروجها منه إذا طلقها زوجها، وكل هذا حرام لا يجوز، بل إنها تبقى عنده يتمكن من مراجعتها متى شاء، ولها أن تتزين له، هذا في عدة الطلاق الرجعي، فلما كان الطلاق الثالث، وكان غير رجعي، كانت العدة ليست في بيته، وإنما تذهب إلى أهلها، وتعود إلى وليها الأول، حيث أن الرجوع غير ممكن.
وتأمّل فيما جُعل من حد الطلاق بالثلاث؛ بحيث لا يكون فيه تعلُّق وظلم للمرأة، كما لو أطلق العدد، فقيل: طلق، وأرجع في آخر العدّة، وأطلق وأرجع بلا عدد، ظلم كبير سيقع على المرأة.
وكذلك لو قيل لك: لا رجعة لك من أول طلقة أبدًا، فجعلت الثلاث، وإذا علم الرجل أنه لا يعود إلى زوجته إذا طلق ثلاثًا إلا بعد أن تنكح زوجًا غيره، نكاح رغبة لا نكاح مخادعة، ونكاح التيس المستعار، وإنما نكاح رغبة، ولا بدّ من وطء، وأنه يقضي منها وطرًا، كان في ذلك نوع تردد في نفسه أن يضِن، ولا يطلق؛ لأنه يعلم بأنها لن تعود إليه إلا بعد زوج، وكذلك فإن في هذه العِدَّة من ذهاب آثار الزوج الأول، وما قالوا عنه اليوم: "البصمة الوراثية" للزوج، التي تبقى في الرحم مدة، فلا تزول إلا بعد انقضائها، ويتبين الحمل لو كانت حاملاً في هذه العدة، وأيضاً، وقد قالوا: إنها إذا ولدت زالت الآثار بالولادة، وتغير ما يتغير في بطانة الرحم، وعنق الرحم، حيث تعلق تلك البصمة، ولكن نحن مع شرع الله، ونحن مع حكمه؛ سواء عرفنا الحكمة، أو لم نعرف تلك الحكمة.
وتأمل -يا عبد الله- في إيجاب العِدَّة على المرأة المتوفى عنها زوجها، مراعاة للحزن أولاً، فتبقى مدة بعيدة عن الزينة، وهذا مما يناسب الحزن، وكذلك تقر في بيتها، وأيضاً هي ممنوعة من الزواج بعد موت زوجها؛ لحقِّ زوجها الذي مات، فليس هذا العقد عقد الزواج أيضاً ببوابة تخرج وتدخل دون وجود مدة تتهيأ بها نفسيًا للزوج الجديد إذا أرادت، وتقضي حق الزوج الذي مات من عظم حق الزوج أيضاً، وكذلك يتبين ما في رحمها.
ولما كانت ممنوعة من الخطّاب والنُّكاح منعت من الزينة في الحداد، فشرع الله تعالى كله حكمة، وكله عدل.
نسأل الله أن يفقهنا في دينه، وأن يجعلنا ممن يتبع شرعه.
اللهم أحيينا مؤمنين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أشهد أن محمدًا رسول الله حقًا، والداعي إلى سبيله صدقًا، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه، وذريته، وخلفائه الميامين، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الحكمة في أحكام النكاح
هذه الشريعة بما فيها من الأحكام في تسهيل عقد النكاح، كلمتان: زوجتك، وقبلت، ورضى الأطراف، والشَّاهدان بتوثيقه، إذ تترتب عليه حقوق عظيمة، ولذلك كان ميثاقا غليظا، كما وصف الله، ولكنه لم يعسر على عباده الدخول فيه، ليس له إجراءات كثيرة تعقده، وإنما يكون الدخول فيه بهاتين الكلمتين اليسيرتين، فما أرحم الله بعباده .
وحتى في القضايا الكبار إذا وصلت المسألة إلى الملاعنة، والقذف بالزنا فإن في ذلك حكمًا عظيمًا فإن القذف في الأصل بالزنا فيه حد القذف ثمانون جلدة في ظهر القاذف، وقد يطلع هو على شيء بحكم خصوصية العلاقة، والدخول، والخروج فإذا تكلم حُدّ في ظهره، وإذا سكت سكت على أمر عظيم، فماذا يكون إذا أراد الملاعنة؟
قال في الزوج في الخامسة: أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ [سورة النور:7]، وفي الزوجة: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا [سورة النور:9].
والغضب أشد من اللعنة؛ وذلك أنه نادرًا ما يذكر الرجل فراشه بالقذف واللعان ويوصلها إلى هذه المرحلة في الغالب إلا وهو صادق، وليس دائمًا، ولكن غالبًا إذ لن يجعل الألسن تلوك العرض، ويكشف حال أهله، وأقرب الناس إليه بسوء إلا إذا، وقع، ومع ذلك لو كان كاذبًا فعليه لعنة الله، وبهذا اللعان يدرأ عن نفسه حد القذف، فماذا لها هي؟ إذا اعترفت فالحكم معروف، وإذا أرادت أن تنفي عن نفسها هذا فالملاعنة في المقابل، وفي هذه الحالة لا يصلح رجوع بأي حال من الأحوال لا بعد زوج، ولا بلا زوج، ولذلك كان عاقبة الملاعنة الفرقة الأبدية.
إنها أحكام عظيمة -يا عباد الله- قطع يد السارق في ربع دينار، فهذا هو النصاب الذي لو بلغه المسروق قُطعت يد السارق مع الشروط الأخرى؛ من الحرز، وألا تكون ضرورة كمجاعة، ونحو ذلك.
ثم نجد أن دية اليد في الشريعة خمسمائة دينار إذا أُتلفت من آخر، وجبت الدية عليه، فكيف قطعت في ربع دينار، ووديت بخمسمائة، وقد أجاب عن ذلك علماء الإسلام:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها | ذل الخيانة فافهم حكمة الباري |
لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت.
الحكمة في النهي عن القضاء حال الحكم
وتأمّل الحكمة في النهي عن القضاء في حال الغضب،لا يقضين حكم بين اثنين، وهو غضبان[2]، وأيضاً، لا يقضي حتى يسمع من الطرفين، ولا يتم القضاء إلا بذلك فالغضب يشوش الذهن، والعقل، ويمنع كمال الفهم، واستيفاء النظر.
وتأمّل الحكمة من الاكتفاء في القتل بشاهدين دون الزنا، فلا بد من أربعة شهود؛ مع أن القتل أعظم.
فلو فرض أربعًا في القتل لضاعت دماء، وأما في الزنا فإن الشرع يتشوف إلى الستر، ولذلك لم يكن شاهدان بكافيين في إثبات الحد عليه، فلا بدّ من أربعة، يتشوف الشارع إلى الستر، وعدم إعلان هذه الأشياء.
ولكن إذا وصلت القضية إلى حد أن هناك أربعة شهدوا عليه بالفاحشة، فأيُّ مجاهرة هذه التي جاهر بها؟، وأي إعلان هذا الذي أعلنه؟ ولذلك فإنه يحدُّ ولا كرامة.
وتأمّل الفرق بين حد القذف بالزنا دون الكفر، فلو قال: يا كافر، لا يُحدّ بثمانين في ظهره، لكن إذا قال: يا زاني، يُحدُّ بثمانين في ظهره، كما قال الله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، ولَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، وأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة النور:4].
وهذا في غاية المناسبة؛ فإن القاذف غيره بالزنا لا سبيل للناس إلى العلم بكذبه، فجعل حد الفرية تكذيبًا له، ثمانين تبرئة لعرض المقذوف، وتعظيمًا لشأن الفاحشة، وأما من رمى غيره بالكفر فإن الغالب أن كفر ذاك سيكون معلومًا إما بالنفي، وإما بالإثبات، فخفاء الزنا ليس كخفاء الكفر، ولذلك جعل له حتى في القذف فرقًا بين القذف بالكفر، والقذف بالزنا مع غلظ القذف بالكفر، والإثم العظيم في ذلك، من قذف أخاه بالكفر وهو بريء حار عليه، ورجع ذلك عليه، نسأل الله السلامة، والعافية.
وعندما نقول -يا عباد الله-: الحكمة ليست كل الحكمة، وهذا شيء ظني مما اتجهت إليه أنظار العلماء، وإلا فإن العلم كله لله، علام الغيوب، سبحانه، هو أعلم بما حكم، وبما شرع.