الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
القرض بين الله والعبد
عباد الله: خلقنا الله -تعالى- في هذه الدنيا للابتلاء: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة الملك:2]، وخلق في الدنيا فتنًا، يبتلي بها عباده؛ كالمال، واستخلفهم فيه على تفاوت بينهم، لينظر كيف يعملون، وجعل الله الأجر العظيم فيمن يتغلب: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20]، فيخرجه في أنواع وجهات الصدقات المختلفة، بالليل والنهار، سرًا وعلانية، من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
إذا كان المقترض غنيًا كان المقرض أشد رغبة في إقراضه، فإذا كان المقترض ينمي المال الذي اقترضه، ويرده إضعافًا مضاعفة، هذه عادته، وهذه قدرته، كانت الرغبة في إقراضه أشد، وإذا كان يرد بالإضافة إلى مال القرض، ومضاعفاته، ونمائه وثمرته، يضيف إليه شيئًا عظيمًا من عنده زائدًا، من غير جنس القرض، كان ذلك أشد رغبة من المقرض في الإعطاء، فإذا كان المقترض لا حاجة له في القرض أصلاً، وهو مستغن عنه، لن يستعمله، ولن ينفقه، ولن يقربه من جهة الاستعمال والحاجة، فكيف تكون الرغبة؟ قال تعالى: مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [سورة الحديد:11]، هو الغني، يطعم ولا يطعم، يجير ولا يجار عليه: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا [سورة الحـج:37]، لا يحتاج إلى أحد من خلقه، ومع ذلك يسمي الصدقة من عباده: قَرْضًا [سورة البقرة:245]، ويسمي هذا العمل منهم: قَرْضًا، مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [سورة الحديد:11] الله غير محتاج، الغني عن كل العباد، والأموال، عنده خزائن السماوات والأرض، يده ملأى لا تغيضها نفقة، وهو يعطي ويعطي ويعطي ولا ينقص مما عنده شيء، لكن كرم العبد الذي يقوم بهذه العبادة، بأنه مقرض: مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [سورة الحديد:11].
شروط القرض الحسن
ما هو القرض الحسن؟
ثلاثة شروط:
أولاً: أن يكون من مال طيب.
ثانيًا: أن يكون بطيب نفس.
ثالثًا: ألا يكون معه: مَنًّا وَلاَ أَذًى [سورة البقرة:262]، واحدة في المال نفسه: طيبًا من غير حرام، ولا خبيث، وواحدة بينه وبين ربه: طيبة به نفسه، يرجو الأجر، نفسه سخية في الإعطاء، لا تتردد؛ لأنه يعلم الخلف العظيم عند الله.
والثالثة بينه وبين الفقير، لا مَنًّا وَلاَ أَذًى لا مع الإعطاء، ولا بعد الإعطاء، لا يعطيه وهو يمن عليه، ولا يذكره بعد ذلك، لا مَنًّا وَلاَ أَذًى هذا القرض الحسن: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [سورة الحديد:11]، ويربي الله التمرة، حتى تصبح مثل جبل أحد، وأكبر، وبالإضافة إلى هذه المضاعفات: وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ إضافي من غير جنس القرض، الصدقة من عنده -تعالى-: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ.
الصدقة في سبيل الله
الله جعل في القرآن أمثالاً لا يعقلها إِلَّا الْعَالِمُونَ، لا يفهمها إلا أولوا الألباب، وفائدة العلم: أنه يفهمك بماذا ضرب الله المثل، وما هو المثل، وأين المشبه، وأين المشبه به، وما هو وجه الشبه، لا يعقلها إِلَّا الْعَالِمُونَ، مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [سورة البقرة:261]، عجباً! إنه جعل المشبه: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ وما ذكر النفقة والصدقة نفسها، المشبه بهم، في فلاح وحَبَّةٍ هناك متصدق وصدقة، ما ذكر الصدقة، ذكر المتصدق، وهنا المشبه به، يوجد فلاح، وحَبَّةٍ ما ذكر الفلاح ذكر الحبة فقط، ذكر من كل طرف أهم ركنيه: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [سورة البقرة:261]، الحبة أين توضع؟ تحت الأرض، إذًا: هي خفية، ليست ظاهرة، لكن يظهر أثرها بعد ذلك، هذه إذًا إشارة إلى خفاء وإخفاء الصدقة: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ [سورة البقرة:261].
ومعنى ذلك: أن هذا المنفق في قلبه من معاني الإيمان، وهو يرجو الأجر عند ربه، فيه من معاني الإخلاص والإيمان، الشيء العظيم جداً، فهو يعطي وقلبه مليء بالرجا من الله، بالخلف والنماء والمضاعفة: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [سورة البقرة:261]، سَنَابِلَ من جموع الكثرة، الصيغة في اللغة صيغة جمع التكثير.
والعادة: أن يأتي مع السبعة: أنها عدد، ليس كثيرًا دون العشرة، أن يأتي معه صيغة جمع التقليل، كما جاء في سورة يوسف: وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ [سورة يوسف:46] هنا قال: سَبْعَ سَنَابِلَ، سَنَابِلَ من جموع التكثير، وهو يقصد ويريد، أن هذه الحبة ستتحول إلى شيء عظيم، كثير: فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ [سورة البقرة:261] من السبعمائة حبة.
من الإعجاز الإلهي في التشبيه القرآني: أن يصور لك غير المرئي بالشيء المحسوس المرئي، أجر الصدقة غير محسوس، ولا ملموس، ولا مرئي، لكن انظر إليه في تشبيهه وتصويره، من بلاغة القرآن العظيمة من البيان الإلهي: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [سورة الشعراء:195] عندما يصوره لك بشيء مرئي: أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ، والسنابل معروفة مرئية محسوسة: فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ [سورة البقرة:261]، وليس فقط أن تكون الحبة سبعمائة حبة، وإنما أكثر من ذلك، بحسب الإخلاص والإيمان في قلب المنفق المتصدق، فقال بعد السبعمائة: وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة:261].
لما ذكر في سورة البقرة أهل النفاق الذين يعملون أعمال خيرية: كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [سورة البقرة:264]، حجر صلب أملس: عَلَيْهِ تُرَابٌهل القاعدة هذه أسفل التراب؟ هل الأرضية أسفل التراب، مهيأة لإنبات أي شيء؟ صَفْوَانٍ أملس أبداً، ولذلك: إِذَا جَاءهُ شيء من المطر، غسل التراب، ولم ينبت شيئًا، هذا قلب الكافر، أو الفاجر، أو المنافق، نفسه إذا أنفقت لا تخرج شيئًا، ولا نماء، وذكر مثل المؤمن: كجَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [سورة البقرة:265] في مكان متوسط، مرتفع الهواء، يأتيه الشمس: وأَصَابَهَا وَابِلٌ وإذا لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ فتنبت: فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ [سورة البقرة:265]، ثم ذكر مثلاً عجيبًا، فقال: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ [سورة البقرة:266] بستان عظيم: مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ من أنفس الثمار، النخيل والأعناب، يؤكل رطبًا ويابسًا، وهو فاكهة الرطب، وغذاء التمر، ودواء، سبع تمرات في الصباح، وخصوصًا من تمر العارية، تقي السم والسحر، وكذلك قوت غذاء، انظر إلى صدقة الفطر، وقد أجاز الشرع إخراجها من الطعام، ونص الفقهاء: التمر والزبيب، من العنب: مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فلا تحتاج إلى سقي، وجهد، الأنهار التي بطبيعتها سارحة في هذه الأرض، وليس فقط في هذه الجنة نخيل وأعناب: لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ.
إذًا، هذا رجل: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ مسن، شيخ متقدم في السن، الكبر، الهرم، ما عد قادر على الكسب، والعمل، وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء [سورة البقرة:266] إناث، أو مرضى، أصحاب عاهات، أيتام صغار، فمن كم جهة تعلقت نفسه بهذا البستان؟
أولاً: هو جَنَّةٌ بستان عظيم، ففيه أشجار كثيفة.
ثم الثمار نفيسة: نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ومتنوعة مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ، ولا يحتاج إلى تعب في السقي: تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، وهو -بعد الله- عيشه عليه، ومصدر دخله منه، وليس له غيره، وغير قادر على أن يكسب، بأي سبب آخر: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ، ويخشى على صغاره وإناثه، من بعده، فليس لهم -بعد الله- إذا ولى أبوهم إلا هذا البستان: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء، وفجأة: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ وتعلمون الإعصار كيف يدور، وفي جوف الإعصار عمود النار يتحرك، فيدمر الإعصار بقوة الريح، وتحرق النار الباقي: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ.
كيف تكون نفسية هذا الرجل؟ الإحباط والاكتئاب والانهيار.
خطر الرياء على الصدقة
هذا مثل، لكن مثل لماذا؟ لأي شيء؟ قال عمر وعنده ابن عباس: "رجل كان يعمل بطاعة الله، ثم انقلب، وصار يعمل بمعصية الله"، وقال المفسرون أيضاً: "المراؤون".
هذا الإعصار -أيها المسلمون- إعصار الرياء، إعصار المن والأذى، الذي يغير على أجر الصدقة، فيذهبها، فيأتي صاحبها يوم القيامة محتاجًا إلى حسنات أشد الحاجة، وأشد من احتياج صاحب الجنة على كبر سنه، وضعف ذريته، ومتعلق، ويريد الأجر من وراء أعماله، لكن ما في إيمان: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [سورة الفرقان:23]، ما في إخلاص، إعصار الرياء أذهب كل شيء.
خيبة الأمل الكبرى، والانهيار النفسي العظيم، يصور لك بهذا المثل الحالة النفسية لهؤلاء عندما يأتون يوم القيامة، لا إيمان، ولا إخلاص، أي شيء سيجنونه من أعمالهم؟ هَبَاء مَّنثُورًا.
نماذج رائعة في إخفاء الصدقة
أما -يا إخواني- عندما يكون إيمان وإخلاص، الله يضاعف القليل، واحد مدرس يختار أن يبقى في المكان النائي الذي عين فيه، مع إمكان نقله إلى بلد كبير ومدينة؛ لأن هناك فقراء، يشرف عليهم، ومدرس بحكم معرفته بالطلاب الفقراء من خلال التدريس، فهو يقوم بتوزيع الخبز على بيوتهم قبل الفجر، ليتمكن أهلهم من عمل شيء لهم يأخذونه إلى المدرسة، ومدرسة تأتي بالماء البارد إلى الطالبات طيلة أيام الاختبارات، ولا يعرف من هي، وأيتام وفقراء يجدون على أبوابهم طعامًا من جميع الأنواع، يؤتى به قبل الفجر، ولا يعلمون من يأتي به. وتاجر يجمع أولاده قبل موته، وعنده دفتر فيه الديون، لكن خصه بكتابة ديوان المعسرين، فيرمي به في النار أمامهم، ورجل ليس عنده ذرية يبني المساجد، ويقول: هؤلاء أولادي وذريتي! وآخر ضعيف ذات اليد، لكن ما تيسر له، ولو مناديل للمسجد، أو بعض قوارير المياه الباردة يضعها. وأخرى بسائقها على باب، وعلى سور، وعلى قارعة الطريق طاولة، فيها حاجات العمال، وهم ذاهبون صباحًا إلى أعمالهم، من إفطار يقوي، وآخر يدعو عمال وسائقي الحي، بعد صلاة الجمعة إلى الغداء كل جمعة، من ليس عنده ارتباط يدعوهم، يراعي غربتهم، وحشتهم، ضعفهم، فيؤنسهم.
أبواب الخير عظيمة -يا عباد الله-، أنواع الصدقات كثيرة، وليست فقط الصدقات المالية: على كل سلامى من أحدكم كل مفصل من الثلثمائة والستين مفصل في جسدك صدقة، حق لله في هذه المفاصل ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى[1]، وفي بضع أحدكم صدقة[2]، والنفقة على الأهل صدقة، وإنظار المعسر صدقة، والإعانة، والشفاعة، والحمل معه صدقة.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من المفلحين يا رب العالمين، اللهم اجعلنا لك مخلصين لك، ذاكرين لك، شاكرين يا رب العالمين، أعنا على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، الحي القيوم، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، لا إله إلا الله، يفعل ما يشاء، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، الرحمة المهداة، البشير والنذير، والسراج المنير، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وذريته الطيبين وأزواجه، وخلفائه الميامن، وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أهمية التاريخ الهجري
عباد الله: أظلكم شهر محرم، يكفي فيه اسمه، حرمه الله، مع الأشهر الحرم: يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ [سورة التوبة:36] من الأشهر القمرية، جعل الله الأهلة مواقيت للناس، نعمة من الله، احتاج الصحابة إلى تاريخ يؤرخون به رسائلهم، وخصوصًا الخلفاء الراشدين، فاستشار عمر المسلمين، أي سنة تكون هي رقم واحد؟ فلم يجعل الصحابة سنة ميلاده، ولا سنة بعثته، ولا سنة وفاته، رقم واحد، لكن نظروا ما هو الحدث الأعظم الذي حصل به نقطة تحول عظيمة في تاريخ الإسلام، وكان له ما بعده، فوجوده الهجرة، فجعلوا الهجرة، هي السنة رقم واحد.
لكن هذه السنة، لا بدّ لها من رأس، لا بدّ لها من بداية، فبأي شهر تبدأ؟ نظر عمر ، فإذا رجوع الناس من موسم الحج، كأنه يعني بداية جديدة في الأمصار والبلدان، وأن الاستعدادات للهجرة بدأت في محرم، فجعل المحرم أول السنة رقم واحد، فهذا الشهر رقم واحد في السنة، وعدوا إلى وقت عمر كم سنة من الهجرة؟ وانطلق التاريخ الإسلامي الذي نعتز به، ولا نرضى بديلاً عنه، لا ميلادي، ولا غيره، هذا تاريخنا.
وقفات مهمة مع عاشوراء
هذا الشهر الذي يستحب: الإكثار من الصيام فيه، فيه يوم عظيم، وهو يوم عاشوراء، ولنا مع عاشوراء وقفات:
أولا: هذا يوم عظيم.
ثانيًا: نجى الله فيه موسى ومن معه، وأغرق وأهلك فرعون ومن معه، وذكرهم بأيام الله، وتجيش في نفوس المسلمين العبرة العظيمة، من وراء هذا، أن الله ينصر دينه، وينصر عباده، مهما طال ليل الظلم، ومهما كانت قوة الظالمين، فالله قادر على أخذهم.
وإذا قال الناس: الآن هؤلاء المسلمون يقتلون في الشام، وغيرها؟ وقد تمالئ الكفار عليهم؟ والقوة عند الكفرة؟ وماذا عند المسلمين، والمسلمون في ذل، وفي ضعف، وفي هوان؟ وليس هناك بوادر أمل؟ ونحن من سيئ إلى أسوأ؟
الكلام نفسه قاله المؤمنون مع موسى: أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا [سورة الأعراف:129]؟ ما في فائدة، ولما هربوا من فرعون: قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[سورة الشعراء: 61] هالكون! هالكون!، قَالَ كَلَّا [سورة الشعراء:62]، وحصلت معجزة عظيمة، ونجى الله المؤمنين، وأهلك فرعون ومن معه، والله قادر أن يجعل هذا الإهلاك في كل عصر، ولكن يمهل لحكم عظيمة، ولكن تدمير الكفار سيأتي قطعًا؛ انهيار اقتصادي، حرب عليهم عالمية، الله على كل شيء قدير.
كذلك: الاهتمام بالعبادات، لما جاء النبي ﷺ المدينة، ووجد اليهود: ما هذا الذي تصومون؟ فأخبروه، فالنبي ﷺ اهتم بأمر العبادة، المسألة فيها صيام، وهكذا المؤمنون يهتمون بالعبادات.
ثم انتزاع الفضائل من الآخرين: نحن أحق وأولى بموسى منكم[3] أنتم مشركون، كفرة، يا أيها اليهود، ونحن مسلمون، موحدون لله، وموسى منكم، وإبراهيم منا، ونحن منه، ولستم منه، فهو بريء منكم؛ لأنه جاء بالتوحيد والدين والإيمان، وأنتم كفرة مشركون بالله، فصامه، وأمر بصيامه.
ثم مخالفة المشركين، ولذلك أراد أن يصوم تاسوعاء مع عاشوراء، مخالفة المشركين، قضية مهمة، فأين الذين يشابهونهم في أعيادهم ويشاركونهم في مناسباتهم، ويسيرون على منوالهم؟ من تشبه بقوم فهو منهم [4].
عاشوراء يوم مظلوم، أهل البدع يعملون فيه مآتم الشرك، ويسمونه: العزاء، مواكب العزاء الشركية، ينادون غير الله، وبعض أهل السنة يعملون فيه أنواعًا من البدع.
وننبه -أيها الإخوة- على قضية اللغط في تعيين عاشوراء والجدال، مع أنه يجب المصير إلى أهل العلم، وأهل العلم الذين تراؤوا الهلال، وتحروا الترائي، ولم يثبت دخول محرم مساء الثلاثاء، ليلة الأربعاء، فعلى القاعدة النبوية: أتموا العدة، أكملوا العدة، أكمل ذي الحجة ثلاثين، كما أكمل ذي القعدة ثلاثين، وصار الأربعاء ثلاثون من ذي الحجة، والخميس واحد محرم، والخميس الذي بعده ثمانية، والجمعة اليوم تسعة، والسبت عشرة، والحمد لله، القضية لا تحتاج إلى كل اللغط والجدل، والكلام الذي لا طائل من ورائه؛ لأن أهل العلم بينوا، فقط بقي قضية البحث عن بيانهم.
حكم صيام السبت
ثم خاض بعض الناس في قضية: صيام السبت، وقد بين أهل العلم، وليس أهل العلم واحدًا، أهل العلم كثر من القديم والحديث: أن حديث النهي عن صيام السبت إلا فيما افترض عليكم، ضعيف، أو شاذ، أو منسوخ، وقد ذكر هذا عدد من الأئمة، كالزهري، والأوزاعي، والطحاوي، ومالك، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن القيم، وشيخه ابن تيمية، وابن حجر، وغيرهم، ومن المعاصرين، عبد العزيز بن باز، وغيرهم، بينوا ذلك.
فإذًا، هذا يدل على أن ذاك الحديث شاذ، أو منسوخ، أو ضعيف، كما بين أكثر الأئمة والعلماء. وبعضهم قال: لا يفرد، فيصوم مع الجمعة، ويصوم معه الأحد، لكن تحريم صومه هكذا إلا في الفريضة لا يثبت، والحمد لله على نعمته.
ونسأل الله أن يتقبل منا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وأدخلنا جنتك، وأعذنا من نارك، يا رب العالمين، اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا، ربنا وتقبل دعاءنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، استر عيوبنا، واقض ديوننا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، اللهم اهد ضالنا، واجمع على الحق كلمتنا، يا رب العالمين، آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، أغننا من فضلك، اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201].
أحسن خاتمتنا، يا رحيم، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الصافات:180- 182].