الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، و نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أما بعد:
ثواب تشييد المساجد في الإسلام
فإن المساجد لله، قال الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًاالجن:18 ويجب الإخلاص بالعبادة فيها: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَالأعراف:29، وشرع الجهاد لحمايتها وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًاوكان أول بيت وضع للناس مباركا فيه ذاك المسجد الحرام وهذه المساجد التي أذن الله وشرع أن ترفع ليذكر فيها فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَاروتطهر وتنظف خدمة لأهلها قال تعالى: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِوبنائها فيه أجر عظيم، قال النبيﷺ: من بنى لله مسجداً يبتغى فيه وجه الله ولو كمفحص قطاة لبيضها أو أصغر بنى الله له بيتاً مثله في الجنة[رواه أحمد:2156]، هذه القطاة التي تحفر لبيضها ما تركد عليه مبالغة في بيان فضل إعمار المساجد ولو كانت صغيرة.
وقوله: من بنى للهمعناه: أخلص النية فيه، قال بعض العلماء: من كتب اسمه على مسجد بناه فهو بعيد عن الإخلاص، وينبغي أن يكون من مال حلال، ويجب أن تبنى المساجد في الأمصار والدور والأحياء، وجعل الأجر مستمرا لمن بناها لما بعد موته لقولهﷺ: إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً نشره، وولدا ًصالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته، وحياة تلحقه بعد موته[رواه ابن ماجه:242] وهو حديث حسن.
هؤلاء الذين يعمرونها ينبغي أن يكونوا من المؤمنين: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَالتوبة 18 إنها العمارة الحسية بالبناء والعمارة المعنوية بذكر الله فيها، فإذا كان فإذا كان الذي يعمرها متصفاً بهذه الصفات فما بالك إذاً بمن هو محروم من هذا العمران في قلبه؟ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَالتوبة19 فلما تفاخرت قريش المشركة على المسلمين في المدينة بأنها تعمر البيت الحرام أجيبوا بهذه الآية؛ ولذلك فإن الله فضح المنافقين الذين عملوا مسجدا ضد الدعوة، وللتفريق بين المؤمنين، فقال منبهاً على أن بعض الناس ربما يقيمون المساجد للإضرار بالمسلمين قال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَالتوبة107 مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه إذا أنشى بغرض خبيث، ويقوم بدورٍ باطلٍ، قال تعالى: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَالتوبة:108 ، ولذلك هدم المسلمون مسجد الضرار وصار مكانه مزبلة كما جاء في بعض الروايات.
آداب إتيان المساجد
ينبغي أن تؤسس المساجد على نيةٍ صالحة لذكر الله، والدعوة إليه، وتعليم العلم، وإقامة العبادة والصلوات، أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ومنع الناس من الصلاة فيها جريمة كبيرة: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، وهؤلاء اليهود اليوم في فلسطين عمدوا إلى كثير من مساجد المسلمين منذ عام 48وما بعدها إلى هدمها وجعلها مستودعات، وخمارات، ومراقص، وملاهي، وثكنات، ونحو ذلك من أنواع الأشياء التي خربوا بها مساجد الله تعالى، ثم يطالبون بتدنيس المسجد الأقصى، وأن يُجعل لهم وقت معلوم يتقاسمون فيه إتيانه مع المسلمين، ونسأل الله أن يخسف بهم، وأن يعطل خطتهم، وأن يجعلهم يبوؤن بالفشل الذريع عاجلا غير آجل.
عباد الله : إن للمساجد في الشريعة آداب وأحكام:
أولا: الإخلاص في إتيانها قال ﷺ: من أتى المسجد لشيءٍ فهو حظه [رواه أبي داود: 472]، أي: من قصده لشيءٍ فهو نصيبه يحصل له عنده، فمن أتاه لصلاة حصل له أجرها، أو لزيارة بيت الله، وتعلم العلم، أو إرشاد جاهل حصل له ذلك، ومن أتاه من أجل مقابلة غني يأخذ من ماله، أو فرجة، أو إنشاد ضالة، أو مد اليد لسؤال الناس، فليس له من حظٍ إلا ما نواه.
والزينة عندها ثانياً: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَالأعراف:31، ولهذه الآية يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم العيد، ويوم الجمعة، من الغسل، والطيب، والسواك، ولبس الثياب الحسنة، وخصوصا البيضاء لقوله ﷺ: إلبسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم [رواه أبو داود:3878 ] قال ابن كثير: وإسناده جيد ، وإحسان الطهارة قبل الإتيان إليها، وعدم القيام بعملٍ ينافي الأدب وهو يمشي إليها ، قال ﷺ: إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامداً إلى المسجد فلا يشبكن بين يديه فإنه في صلاة [سنن أبي داود:562]،حديث صحيح.
وهذا التشبيك ربما يكون كنايةً عن ملابسة الأمور والخوض فيها، أو تشبيك الأحوال عليه وتعسرها، وهو هيئةٌ منافية للأدب، خصوصاً عندما يضع يديه المشبكتين خلف ظهره وهو يمشي، ولا يدخل في هذا النهي، التشبيك بقصد التمثيل، وتصوير المعنى كما وقع في حديث: المؤمن للمؤمن كالبنيان، وفي الحديث كراهة التشبيك من خرج إلى المسجد للصلاة، في الطريق وفي المسجد، وفي الصلاة، ويقدم اليمنى عند الدخول، كما أخبر في الحديث: إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي ﷺ وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك " وإذا خرج فليسلم على النبيﷺ ويقول :" اللهم إني أسألك من فضلك، اللهم اعصمني من الشيطان[صحيح مسلم: 713]حديث صحيح. وكان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم فإذا قالها فإنه إذا قال ذلك حفظ منه سائر اليوم[رواه أبو داود: 466]. حديث صحيح؛ ولهذا المسجد أدبٌ بأن لايجلس فيه مباشرةً إذا دخله، فليس كالبيوت ولا كغيره من المجالس والأماكن، وإنما لابد له من تحية إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين[رواه البخاري:433].
مظاهر لبعض المنكرات في المساجد
وقال ﷺ: من أشراط الساعة أن يمر الرجل في المسجد لايصلي فيه ركعتين وأن لا يسلم الرجل إلا على من يعرف[رواه الطبراني:9489]، رواه الطبراني وصححه الألباني، فهتان ركعتان تحية المسجد، وإذا دخله فلا يخرج منه بعد الأذان لقوله: إذا أذن المؤذن فلا يخرج أحدٌ حتى يصلي[رواه أحمد:10933]،رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح، ولما رأى أبو هريرة رجلا خرج من المسجد بعد الأذان قال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم ﷺ، فإن كان لحاجةٍ طارئه جاز ذلك، والنهي لمن ليس له عذر، والنساء لايدخلن في هذا الحديث؛ لأنهن غير مأمورات بصلاة الجماعة في المسجد، فإذا أرادت أن تنصرف بعد الأذان فلا حرج، ومن الأخطاء أن يتعمد المصلي مكاناً معيناً في المسجد، لايصلي إلا فيه، لما جاء في الحديث الصحيح: نهى النبي ﷺ أن يوطن الرجل في المكان بالمسجد كما يوطن البعير[رواه أبو داود:862] أي: يألف مكانا معلوما مخصوصا به يصلي فيه لا يغيره، وبعض الناس يتخذون أماكن وراء الإمام يصلون فيها دائماً ويطردون من أتى قبلهم إليها ، فهذا من مبلغ الجهل العظيم الذي بلغ بهم، وربمارأى الإنسان منهم فقال: أنت تظننا أولاد البارحة أو اليوم في هذا الجامع، نحن من أربعين سنة ًنصلي في هذا المكان، ومعلوم أن من سبق إلى مكانٍ في المسجد فهو أحق به؛ ولأن هذا المساجد بنيت لذكر الله فلا يصلح أن تتخذ مكاناً للبيع والشراء، ولذلك قال ﷺ: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا "لاأربح الله تجارتك"، وإذارأيتم من ينشد فيه ضالته فقولوا" لارد الله عليك ضالتك " زاد مسلم: فإن المساجد لم تبن لهذا[سنن الترمذي:1321] ولذلك لا يعلن عن المفقودات بالصوت في المسجد عن الأولاد الضائعين لعموم الحديث، وإنما ينادى على مثل ذلك خارج باب المسجد، فقد جاء في الحديث الحسن عند أحمد:" أن النبي ﷺ: نهى عن الشراء والبيع في المسجد و أن تنشد فيه ضالةٌ وأن ينشد فيه شعرٌ، ونهى عن التحلق قبل صلاة يوم الجمعة[رواه أبو داود:1079]،
ولذلك لايجوز أن تجعل بسطات بضائع داخل سور المسجد ولاتعليق الدعايات التجارية داخله وأما إنشاد الشعر فالمقصود به الشعر المذموم جمعاً بين النصوص، كمثل إنشاد حسان للشعر في المسجد بحضرة النبي ﷺ وإقراره على ذلك، وأما بالنسبة بالنهي عن التحلق فإنه لعلة عدم قطع الصفوف ؛ لأنهم قد أُمروا بالتبكير والتراصِ فيها والتحلق قبل الجمعة ينافي هذا.
ومما يخالف أدب المسجد جلوس الناس فيه للحديث في أمر الدنيا، لما جاء عن أنس مرفوعاً : يأتي على زمان الناس يحلقون في المسجد وليس همهم إلا الدنيا، وليس لله فيهم حاجة، لاتجالسوهم[رواه الطبراني:10452]، وفي لفظٍ: سيكون في آخر الزمان قومٌ يجلسون في المساجد حلقاً حلقا إمامهم الدنيا[رواه الطبراني:10452] هذا قصدهم وموضوع حديثهم إمامهم الدنيا، فلا تجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة " أورده الألباني في السلسلة الصحيحة، وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسن، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريماً، كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله تعالى- "وتجوز المناظرة في مسائل العلم دون المراء والجدل، ويباح فيه عقد النكاح، والقضاء، والحكم، وتعليم العلم، ونحو ذلك من الأمور .
ومما يقع من المنكرات: إعراض بعض الناس عن حلق العلم؛ للكلام في الدنيا، أو الانصراف، وقد جاء في الحديث: وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه[رواه البخاري:66، ومسلم:2176] ، وينبغي أن لا ترفع الأصوات في المسجد ولايجهر المصلون على بعضهم على بعضٍ بالقرآن، وعن مالك -رحمه الله-: "يُخرج من المسجد من يفعل ذلك"، وقد خرج رسول الله ﷺ على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فقال: أيها الناس كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعضٍ بالقراءة[رواه الطبراني:4620]،
وسئل شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله - عن مسجدٍ يقرأ فيه القرآن بكرةً وعشية، ثم على باب المسجد شهود يكثرون الكلام ويقع التشويش على القراء، فهل يجوز ذلك؟ فأجاب: الحمد لله، ليس لأحدٍ أن يؤذي أهل المسجد، أهل الصلاة، أو القراءة، أو الذكر، أو الدعاء، ونحوذ لك مما بنيت المساجد له ، فليس لأحدٍ أن يفعل في المسجد ولا على بابه أو قريباً منه مايشوش على هؤلاء، ثم استشهد بالحديث السابق، فإذا كان قد نهي المصلي أن يجهر على المصلين فكيف بغيره؟ ومن فعل مايشوش به على أهل المسجد، أو فعل مايفضي إلى ذلك مُنع من ذلك، والله أعلم.
آداب الجلوس في المسجد
وأنت ترى في بعض الأماكن يوجد ضوضاء من عمال يشتغلون وقت الصلاة، أو محلاتٍ يرفع فيها أصواتٌ تضر بخشوع المصلين، وكذلك فإنه لاينبغي أن ترش المبيدات الحشرية أثناء الصلاة؛ لما فيه من إيذاء لآتين إلى المساجد، وهذا مما ينبغي أن ينتبه له ولغيره مما يؤذي المصلين والآتين إلى المساجد، وكذلك فإن الصبيان لابد من ضبطهم، قال شيخ الإسلام -رحمه الله- "يصان المسجد عما يؤذيه ويؤذي المصلين فيه، حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه ، وكذلك توسيخهم لحصره ونحو ذلك، لاسيما إن كان وقت الصلاة، فإن ذلك من أعظم المنكرات، وقال في حواشي الدرر:" رفع الصوت لغير حاجة، كما يكره للإمام يكره للمبلغ، وإذا كفى صوت الإمام فإن التبليغ حينئذٍ وراء الإمام بدعةٌ منكرة ، وفي الخطبة في المسجد يحضر الإنسان ذهنه وعقله ويبعد عن نفسه النعاس ويجاهده، وهناك إجراءٌ يفعله لو حصل له النعاس فقال ﷺ: إذا نعس أحدكم وهو في المسجد فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره وهذا الأمر للندب، والحركة تُذهب الفتور الموجب للنوم، وهكذا، فإذا بقي يجاهد نفسه في النعاس قال الشافعي:" لا أكرهه أي: مادام يجاهد نفسه"، ويستحب تنظيف المساجد وتطيبها وتجميرها، خصوصاً يوم الجمعة، وكان نعيم المجمر -رحمه الله- ملقباً بالمجمر؛ لأنه كان يجمر المسجد ويطيبه بالبخور، وينبغي أن تصان عن كل وسخٍ، وقذرٍ، وعيدانٍ، ومخاطٍ، وخرقٍ، وتقليم أظفارٍ، وشعرٍ، ورائحةٍ كريهة، وقد قال ﷺ: إن هذه المساجد لاتصلح لشيءٍ من القذر والبول والخلاء إنما هي لقرءة القرآن وذكر الله والصلاة[رواه مسلم: 285] ولذلك قال:من أكل من هذه البقلة الثومِ والبصلِ والكراث فلا يقربن في مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم[رواه مسلم:564]، وقال: من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئاً فلا يقربن في المسجد، ياأيها الناس أنه ليس لي تحريم ما أحل الله، ولكنها شجرةٌ أكره ريحها[رواه مسلم:565، وأحمد:11084] رواه الإمام أحمد ومسلم ، وقد جاء في روايةٍ أيضا: رواه أبو داود ، وفي روايةٍ أيضاً: من أكل ثوم أو بصل فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته[رواه النسائي: 6645] والمقصود أكله نيئاً، فهذه الملائكةُ وهؤلاء المصلون يتأذون بذلك، وكل ماكان يؤذي المصلين من رائحة سماكٍ أو دخانٍ أو غيرذلك من أنواع العرق، وروائح الجوارب والآباط لابد أن تزال، ويحرص على عدم إزعاج المصلين بها.
وأما النخامة في القبلة فإنها تبعث يوم القيامة وهي في وجه صاحبها كما جاء في الحديث الصحيح مثل البلغم الذي يلفظه الإنسان من حلقه، وقال ﷺ: من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة تفله بين عينيه[رواه أبو داود:3824] وقال واعظاً الناس: مابال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع أمامه ،أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه فإن تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه فإن لم يجد فليقل هكذا يعني: في ثوبه، والنخاعة والنخامة التي تخرج من الفم ممايلي أصل النخاع فشيءٌ ينزل من الرأس وشيءٌ يصعد من الصدر النخامةُ والنخاعة، وقال ﷺ: عرضت علي أمتي بأعمالها حسنها وسيئها فرأيت في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق، ورأيت في سيئ أعمالها النخاعة في المسجد لم تدفن[سنن ابن ماجه:3683]حديثٌ صحيح، قال النووي: ظاهره أن الذنب لايختص بصاحب النخاعة بل يدخل فيه كل من رأها ولم يزلها.
النهي عن اتخاذ المساجد طرقاً
واتخاذ المساجد طرقاً لمجرد المرور واختصار الطرقات منافيٍ للأدب معها؛ ولذلك قال في الحديث الحسن: لا تتخذوا المساجد طرقاً إلا لذكرٍ أو صلاة[رواه الطبراني:13219] ، قال شيخ الإسلام -رحمه الله- " ليس للمسلم أن يتخذ المسجد طريقاً فكيف إذا اتخذه الكافر طريقاً، فهذا يمنع بلا ريبٍ، وليس لأحدٍ أن يتحجز من المسجد شيئا لاسجادةٍ يفرشها قبل حضوره، ولا بساط ولاغير ذلك ، وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه، لكن يرفعها ويصلي مكانها، في أصح قولي العلماء، فهذا هو الحل الوسط العدل، كما قال شيخ الإسلام في هذه الأشياء التي تحجز بها الأماكن في المساجد، وأصحابه ليس ممن ذهب يتوضأ ويرجع وإنما شخصٌ نائمٌ في البيت، أو يأكل هناك ويستريح وسجادته قدمت قبله من سائقه وخادمه إلى المسجد يحجز بها المكان ظلماً، فإذا عرفته بأن هذه السجادة لهذا النوع من الناس فأزلها وصلي مكانها وليس عليك حرجٌ حينئذٍ، وهؤلاء من المنكرات التي تترتب على أفعالهم أنهم يأتون متأخرين يتخطون الصفوف، يتخطون رقاب الناس، ولذلك فإن بعض هؤلاء ربما دفعوا مالاً لمن يحجز المكان، وذاك يأخذ المال ويمضي، ويأخذ مقابل حجز المكان مما تراه أحياناً في المسجد الحرام.
نسأل الله أن يجعلنا من المتأدبين بالأدب في بيوته، وأن يرزقنا حبها وإتيانها على الوجه الذي يحبه، وأن يجعلنا ممن يعمرها بذكره أنه سميعٌ مجيب، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً رسول الله -صلى الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
النهي عن زخرفة المساجد
عباد الله، إن بيوت الله تعالى يجب أن يتولى تصميمها المهندس المسلم الذي لديه فقهٌ بأحكام المساجد، فإن هناك أنواعًا من المسائل الشرعية متعلقة بتصميم المساجد ومن ذلك: تخصيص مكان للنساء بمدخل بعيدٍ عن الرجال لا يكشفه، وقد قال ﷺ: لوتركنا هذا الباب للنساء[سنن أبو داود:462] وذلك لمنع الاختلاط، ويسن الإذن للنساء للمسجد على أن لاتمس طيباً إن كان بها فلتغتسل منه حتى يزول.
ومما يتعلق كذلك بهذا الأمر عدم المبالغة في تزويق عدم المبالغة في بنيانها والابتعاد عن تزويقها، وقد قال ﷺ: ما أمرت بتشييد المساجد[رواه أبو داود:448] أي: ما أمرت برفع بنائها ليجعل ذريعةً إلى الزخرفة والتزيين ومشابهة أهل الكتاب، وبعض المساجد يصممها نصارى فتكون كهيئة الكنيسة، وبعضها ربما تكون على هيئات عجيبةٍ غريبة لا تناسب بيوت الله أصلاً، وربما جعلوا فيها زخارف على هيئة الصلبان نكايةً في المسلمين، وربما أخفوا بعضاً من ذلك.
أيها الأخوة: إنما زخرفت اليهود والنصارى معابدها حين حرفوا كتبهم، كما قال العلماء، وقال في هذا الحديث: ما أمرت بتشييد المساجددلالة على أن السنة في بنيان المساجد القصد وترك الغلو، وقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة المال عنده لم يغير المسجد.
وأول من زخرفه الوليد، وسكت كثيرٌ من الناس خوف الفتنة، وقد قال ﷺ: إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم[رواه ابن أبي شيبة: 30237]حسنه بعض أهل العلم، زخرفتم أي: حسنتموها بالنقوش والتزويق، والدمار أي: الهلاك، لماذا؟! لأنه يشغل القلب، ويلهي عن الخشوع والتدبر؛ ولذلك قال العلماء: إنه لا يزوق المسجد، وما يوضع فيه من الذهب والفضة فهو حرام، وروى البخاري أن عمر أمر ببناء المسجد وقال: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر، وهذا التشديد والمبالغة في التزويق والزخرفة، والتلوين، وجلب العمال من أقصى المغرب؛ لزخرفتها، فيه إضاعة أموال، لو أنها اغتنمت في بناء مساجد بأماكن أخرى لأدى ذلك إلى منفعةٍ عظيمة، وقبة مسجدٍ اليوم يبنى بها عشرة مساجد في أماكن أخرى من الأرض، وقال ﷺ: " من أشراط الساعة، وفي رواية: لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد[رواه البيهقي:4299]
أي: يتفاخرون بتشييدها، ويراؤون بتزيينها، كما فعل أهل الكتاب بعد تحريف دينهم، وبعض الناس يقول قياساً فاسداً، يقول: بيوتنا مزينة وبيت الله أولى! تقيس على أي شيء؟ على عقلك الذي فيه انحراف مقابل النص، هل يجوز القياس مقابل النص؟! هل يجوز للإنسان أن يفكر ويخرج باستنتاج مخالف للنص؟! لا يجوز ذلك.
ونهى ﷺ: أن يتباهى الناس بالمساجد[صحيح ابن خزيمة:1322] في الحديث الصحيح " أن يتفاخروا بها، أن يقول الرجل: مسجدي أحسن، فيقول الآخر: بل مسجدي، وكذلك يدخل فيه المباهاة في إنشاءها وعمارتها، ولذلك فإن العمارة الحقيقية هي بذكر الله تعالى فيها.
وهناك أشياء مهمة في العزل الحراري، والتكييف، والصوت، وغير ذلك من الأمور، لكن هذا شيءٌ، والمبالغة بالزخرفة والنقش والتلوين وكتابة الآيات في المحاريب، ونقش الأسماء الحسنى، وأسماء الخلفاء، وآل البيت، وغيرهم، هذه قضية أخرى من البدع، ولا شك في ذلك ، لم يكن يفعله السلف، لم يكن يفعله النبي ﷺ ولاأصحابه.
النهي عن المبيت والسؤال في بيوت الله
وأما المبيت في المسجد فإن كان بحاجةٍ كالغريب الذي لاأهل له، والغريب الفقير الذي لا بيت له، ونحو ذلك يبيت بقدر الحاجة لابأس، ثم ينتقل عنه إذا زالت حاجته، كما كان أهل الصفة، أما أن يجعل المسجد بيتاً ومقيلاً دون حاجة فلا يجوز ذلك، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله - وقال: النوم في المسجد للمحتاج مثل الغريب والفقير الذي لا سكن له فجائزٌ، ويجب التفريق بين الأمر اليسير وأصحاب الحاجات، وبين مايصير عادةً ويكثر لغير حاجة، وأما اتخاذ المساجد للسكنى وحفظ القماش، وحفظ المتاع، فما علمت مسلماً ترخص في ذلك، هذا كلام أهل العلم - رحمهم الله تعالى-، وكذلك فإن موضوع الشحاذة في المسجد مما ينبغي أن يعالج، قال شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله -: "أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد إلا لضرورة، فإن كان به ضرورةٌ وسأل في المسجد ولم يؤذ أحداً بتخطيه رقاب الناس ، ولم يكذب فيما يرويه، ويذكر من حاله، ولم يجهر جهراً يضر بالناس " هذا في فتاويه في المجلد الثاني والعشرين، وكثيرٌ من هؤلاء الشحاذين كذبة أفاكون، ثم يجهرون جهراً يضر بالناس، ويقطعون عليهم الأذكار، ويبالغون في رفع الصوت والصياح، وبعضهم يجيد التمثيليات الدرامية، ويتباكى في المسجد ويذرف دمعاً سخيناً، وربما أعطى موعظةً قبل أن يبدأ! لو كان ألقاها بغير سؤالٍ لجنى الناس تأثراً عظيماً ، ولذلك نص العلماء على تحريم الموعظة لأجل السؤال، وأن يبدأ بما يرقق القلوب ثم يعلن أنه يشحذ مالاً ، والمشي بالنعال جائزٌ إذا كانت نظيفةً طاهرةً ، وكان مسجد النبي ﷺ مفروشاً بالحصى، ومساجد المسلمين بالرمل والتراب، فيدلكها عندما يدخل ويطهرها ثم يصلي فيها، قبل أن يدخل يدلكها ثم يدخل فيصلي فيها ويخالف اليهود، أما عند فرش المساجد الآن فإن الدخول بالحذاء فيه توسيخٌ للسجاد، ويعلق به أشياء تؤذي المصلين، ولذلك لايفعل أمراً يتلف هذا الوقف، السجاد الموقوف على المسجد.
وكذلك فإن النبي ﷺ أمر بحفظ المساجد من كل ما يؤذي حتى السلاح أمر بالقبض على نصال السهام إذا دخل فيها، ويجوز لمن به عذرٌ دائم ٌكسلس البول الإتيان إلى المسجد إذا أمن تلويثه أما إذا لم يأذن فلا يأتيه.
وكذلك فإن من البدع الزيادة في إنارة المساجد في المناسبات كرمضان ورجب وغير ذلك، وبعض الناس ربما يتخذ أماكن لإنشاد الصوفية، بل فيها طبلٌ كما في بعض بلدان العالم الإسلامي وأشنع البدع على الإطلاق بناء المساجد على القبور، وأسؤها ماجعل في جهة القبلة، وهذا منكرٌ تجب محاربته، والصلاة في مسجد بني على قبر باطله تجب إعادتها وهدم المسجد، إذا كان القبر أولاً ؛ لأن البناء على قبر لايجوز، أما إذا أُدخل القبر في المسجد، ودفن في المسجد بعد بناءه فإن القبر يستخرج ويدفن في المقبرة، ومن البدع وضع قبعاتٍ أو أغطية رأسٍ عند باب المسجد يلبسها كل داخل، وبعض المبتدعة يخلع سراويلهم عند الدخول.
استمرار البدعة ليس دليلاً لمشروعيتها
ومن المنكرات استعارة الكتب الموقوفة على بعض المساجد، أو أخذ المصاحف من المسجد وهي موقوفه على المسجد، لايجوز إخراجها منه، فبأي حق يخرجونها؟ ويطلق بعض الناس العنان لأطفالهم في تشويه المصاحف وتمزيقها، والكتابة عليها، والرسم، ونحو ذلك من أنواع الأذى لمصاحف بيت الله وكل ماحصل في مسجد في بدعٍ استمرت فليس استمراره أبداً عذراً ولا دليلاً على صحة البدعة، قال العلامة القاسمي- رحمه الله -:" يحتج بعض الناس في دمشق على جواز هذه البدع واستحسانها بكونها موجودةً في جامع بني أميه وهو شيخ الجوامع في الشام وبكون مدرسيه الماضيين سكتوا عليها وهذه حجةٌ فاشية في كثيرٍ من الأمور التي تساهل بها أهل النفوذ الماضيين فترى العامي إذا ليم على البدعة إذا ليم على بدعةٍ وجه إليه اللوم وأرشد إلى الصواب فيها يستدل بفعل شيخه أو المكان الفلاني أو الدعوة أوالبدعة الفلانية وأن هذا مسكوتٌ عنه ولم ينكره أحد ولو كان خطأً لغير وهذا ليس بحجةٍ على الإطلاق، الحجة كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ فإذاً بقاء أمرٍ على ماهو عليه سنوات طويلة ليس دليلاً على جوازه ولا على مشروعيته، فينبغي أن يعلم المسلمون هذا، وأن لايحتجوا بالواقع، وإنما يحتجوا بالشريعة، وهذه قضية مع الأسف الشديد غير منتبهٍ إليها لكثير من المسلمين.
وأما دخول الكافر إلى المسجد فإن ترتب على ذلك مصلحة شرعيه، مثل أن يطلب رؤية المصلين لمعرفة هذه الصلاة، وربما يتأثر، وربما يسلم فلابأس بذلك، إذا دخل نظيفاً، وقد ربط النبي ﷺ ثمامة في المسجد، وأما أن يدخل فيه للتصوير والفرجه فمنكر من المنكرات، ويقع ذلك من عددٍ من السياح في كثيرٍ من مساجد العالم الإسلامي.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، اللهم اجعلنا بذكرك أمنين مطمئنين ، اللهم واجعلنا من أهل بيوتك يارب العالمين ، اللهم ارزقنا الصلاة في بيوتك كما تحب وترضى ، اللهم إنا نسألك صلاح الذرية والأمن في البلد ، اللهم إنا نسألك البركة في الرزق وسداد الدين، وستر العيب يارب العالمين ، اللهم اكبت عدونا ، اللهم اكبت عدونا، اللهم أهلك اليهود والنصارى الروس وغيرهم ممن يحارب المسلمين، اللهم عليك بهم يارب العالمين، اللهم زلزل بهم الأرض، وأسقط عليهم كسفاً من السماء وأتهم بعذابٍ أليم ، سبحانك سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَسورة الصافات:180-182، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.