الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ سورة آل عمران 102.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْس وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء 1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا سورة الأحزاب 70-71.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تكلمنا في الخطبة قبل الماضية عن بعض أبواب الخير التي فيها أجر عظيم يجهلها كثير من المسلمين، أو يُهملون فيها، وكنا نُريد إكمال تلك الخطبة بخطبة أخرى، كما فعلنا في المنكرات التي استهان بها الناس، وقطعنا بين ذلك وهذا بخطبة عن حكم مشاركة الكفار في أعيادهم؛ لمناسبة تلك الخطبة في ذلك التاريخ، ومعلوم ما شاهدناه أيها الاخوة! من مشاركة كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها للكفرة، وشاهدنا بأعيننا ما أخبرنا عنه ﷺ من أنَّ هذه الأمة ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة، بل وجدنا بعض أبناء المسلمين يتحمسون لأعياد الكفار أكثر مما يتحمس الكفار أنفسهم، وأشرنا إلى أنَّ الأعياد التي ابتدعها الكفرة كلها محرمة في دين الله، وإن كان ظاهرها الخير، وإن كان ظاهرها الفائدة، فمثلاً: لا يجوز الاحتفال معهم بعيد ميلاد المسيح ولو كان المسيح ، كما لا يجوز لنا نحن أن نحتفل بميلاد الرسول ﷺ ولا أن نعمل بدع وموالد، وكذلك لا يجوز الاحتفال بعيد الأم، ولا عيد الأب، ولا عيد الطفولة، ولا عيد المعلم، ولا عيد الوطن، ولا عيد الثور، ولا عيد الثورة ونحو ذلك، ولا عيد العمال، ولا عيد الربيع، إلى آخر هذه البدع التي جاءتنا من الكفرة.
وقد آلمني قصة نقلها لي بعض الإخوان، فقال: إن رجلاً من المسلمين دخل على أمه قبل فترة من الزمن، فقالت له: أين هديتي؟ فقال لها: وأيةُ هدية؟ فقالت: ألا تعلم بأنَّ اليوم عيد الأم؟! وهذا فلان صاحبك، أو قريبك قد أهدى لأمه هدية بهذه المناسبة! فلماذا لا تهدي إلي؟! تغلغلت البدع حتى عند بعض العجائز، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأولئك الكفرة المجرمون يبرون بأمهاتهم يوماً من السنة، ويعقونهن في باقي الأيام، فأي بر هذا؟! وديننا يأمرنا أن نَبر أمهاتنا، وآباءنا كل يوم، وكل ساعة، فأيهما أعظم؟! وتحويل البر وسائر الأنواع من الخيرات إلى مناسبات معينة في السنة يحتفل بها ثم تُنسى هذه الأمور في بقية السنة، ليس من العقل والدين في شيء.
ونعود أيها الاخوة! في هذه الخطبة إلى إتمام الكلام عمَّا سبق أن بدأناه بأبواب من الخير استهان بها الناس أو غفلوا عنها:
زيارة الإخوان تورث محبة الله
قال رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله له، على مدرجته، ملكا فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله ، قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه. [رواه مسلم 2567]. حديث عظيم في فضل السفر، وشد الرحال لزيارة الإخوة في الله، وهذه سنة مضيعة؛ إذ قلما يُسافر أناسٌ في هذا الزمان سفراً سببه ونيتهم فيه زيارة إخوانهم في الله في الأماكن الأخرى، وهذا أمر لو تحقق لساعد في إقامة العلاقات والروابط بين المسلمين، ولو تناءت ديارهم، وتباعدت أقطارهم، وعندما يُسافر المسلم بمشقةِ السفر ليزور أخاً له في الله، فإنه يُدلل على قيام أركان الأخوة الإيمانية في قلبه.
وقال ﷺ: ما من أحد ينصر مسلماً في موطن يُنتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يُحبُّ فيه نصرته[رواه الطبراني في الكبير 4735].حديث حسن، وقال: من ذبَّ عن لحم أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يُعتقه من النار[رواه أحمد 27609]. رواه أحمد وهو حديث صحيح.
فانظر الآن كم من إخوانك المسلمين يتعرضون للغيبة، ونهش اللحوم في المجالس أمامك وأنت تسمع! ثم قل لي بربك: ماذا فعلت أمام هذا الهجوم من هؤلاء آكلي لحوم البشر، كما شبههم الله ؟! هل قمت بحق الدفاع عن أخيك المسلم - على الأقل- حتى يُكتب لك هذا الأجر؟! وزد على ذلك حتى لا تكون ساكتاً في هذا المجال، والساكتُ عن الحق شيطان أخرس، ثم أننا قد استسهلنا -أيها الاخوة- غيبة إخواننا المسلمين في المجالس، حتى كانت هذه الانتقادات، وهذه الغيباتُ ديدن الكثيرين في مجالسهم لا يستطيعون الانفكاك عنها، ولو كان من عقلاء عبادِ الله من يقوم في المجالس يعظهم، ويقول: يا فلان! أمسك عليك لسانك لمَا حصل هذا الاستشراء الشيطاني، لهذه الغيبات للمسلمين في المجالس، وإنك تجد أن المغتاب يأتي إلى المجلس فيشترك هو ومن اغتابه قبل قليل في غيبة شخص ثالث وهكذا.
فضل عيادة المريض واتباع الجنائز
وقال ﷺ: ما من امرئ مسلم يعود مسلماً - عندما يمرض- إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه في أي ساعات النهار كان -أي ساعات النهار حدثت فيها هذه الزيارة حتى يمسي، من وقت الزيارة وحتى يمسي، وإذا زاره في الليل ابتعث الله له سبعون ألف ملك يُصلون عليه تلك الليلة حتى يصبح- وأي ساعات الليل كان حتى يصبح[رواه ابن حبان 2958]. حديث صحيح، وفي رواية أخرى: إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خِرافة الجنة[رواه أحمد 612].وخِرافة الجنة هو: الثمر الذي يُجتنى منها، فكأنه يمشي وتتساقط عليه ثمارُ الجنة، ويكون له مثل هذه الثمار في الجنة بحجم وبمدى ما مشى لزيارة أخيه المسلم، طالت المسافة أم قصرت إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خِرافة الجنة، حتى يجلس فإذا جلس غمرته الرحمة، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح[رواه أحمد 612].فيبتعث الله له هؤلاء السبعين ألفاً من الملائكة يدعون له، فانظر -رحمك الله- كم جمع هذا الحديث من الأجر والثواب المرغب للزيارة، ثم قل لي بربك: كم من المسلمين اليوم يهتمون بزيارة إخوانهم المرضى في المستشفيات، وفي بيوتهم؟! وإننا لنسمعُ أن فلاناً مرض ثم قام من مرضه ولم يره أحد، أو عاده نفرٌ يسير من أقربائه، زوروا مرضاكم وادعوا لهم عند حضوركم فُرشهم: فراش المرض، فإن الملائكة تؤمن والله يستجيب، وقد يُشفى من مرض خبيث ببركة دعائك أنت يا أيها الأخ المسلم، ولا تصطحب معك وَرداً، ولا تشابه الكفرة، بل سُن في زيارة المرضى سنة النبي ﷺ وهو بحاجة شديدة إلى دعائك، وسؤالك، واهتمامك، وليس إلى باقات الورد.
وقال ﷺ: من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معها حتى يُصلى عليها، ويُفرغ من دفنها -من البداية إلى النهاية- فإنه يرجعُ من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد -مثل جبل أحد من الأجر، هل رأيتم جبل أحد؟ إنه جبل عظيم، مثله أجرٌ لمن يتبع أخاه المسلم حتى يصلى عليه ثم يدفن- ومن صلى عليها ورجع -إلى بيته دون أن يحضر الدفن- قبل أن تدفن، فإنه يرجع بقيراط [رواه أحمد 10391].من الأجر، نصفُ ذلك الأجر مثل جبل أحد أجراً، فهل تريدون بعد ذلك من المرغبات أكثر لكي نتبع جنائز إخواننا المسلمين، ونشهد الصلاة عليهم، ودفنهم، ونتعظ بحضور ذلك الدفن، وبشهود المقابر؟!.
من بر الوالدين زيارة وصلة أصحابهم
وقال ﷺ: من أحبَّ أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده [رواه ابن حبان 432].حديث صحيح، وكثير من المسلمين إذا مات آباؤهم أو أمهاتهم انقطعت الصلة بين الأولاد وبين أصحاب الأب، ويتعذرون بفارق السن ونحو ذلك، والبر بالأب يقتضي أن تزور إخوانه، وزملاءه، وتصلهم بشتَّى أنواع الصلات، والتحيات، حتى تكون باراً بأبيك، ويصل برك إلى أبيك في قبره، أنتم يا من تسألون: مات الأب ماذا نفعل له من القُرَب؟ أخبرنا ماذا نفعل له من الطاعات؟ إحدى الأشياء التي تستطيعون فعلها أن تصلون إخوان آبائكم، وزملاءهم، وأصدقاءهم بعد أن يُولي الأب.
وقال ﷺ: من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أيُّ حلل الإيمان شاء يلبسها[رواه الترمذي 2481].من ترك اللباس تواضعاً لله، بعض الناس يتركون اللباس لعدم القدرة على شرائه، بعض الناس يتركون اللباس بخلاً على أنفسهم، لكن إذا تركت اللباس والمقصود اللباس الغالي، اللباس مرتفع الثمن، إذا تركته تواضعاً لله، لا لشيء آخر، وأنت قادرٌ عليه، فإن الله يُعوضك يوم القيامةِ على رءوس الخلائق من حُلل الإيمان في الآخرة، تلبسها تواضعاً لله، ولا يعني هذا أيها الأخوة! أن نلبس الثياب المتسخة، التي تنفر الملائكة، وعباد الله المسلمين منا، و لا يعني هذا أن نترك التزين لمجالس العلم، والوعظ، والخطب، وفي المساجد، كلا، بل هذه هي السنة، ولكن انظر اليوم لحجم المصروفات التي ينفقها الناس على ثيابهم، وكم تبلع الأسواق التجارية، ومحلات الملابس من أموال المسلمين، والملابس التي تجدد كل موسم بدون حاجة، لمجرد أن الموضة قد بطلت كما يزعمون! لتعلم بعد ذلك كم من الأموال تذهب هدراً والمسلمون في أقطار الأرض يحتاجون إليها؟!.
ثواب السواك والخروج إلى الصلاة
ويقول ﷺ: إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليستك -ليستعمل المسواك السواك- فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته –بعدما يستعمل السواك في الليل- وضع ملك فاه على فيه -فم الملك على فم العبد المصلي- فلا يخرج من فيه شيء -من فم العبد آيةٌ- إلا دخل فم الملك [رواه البيهقي في شعب الإيمان 1938]. لأنه استاك، فيضعُ الملكُ فاه على فم العبد، فلا تخرج آيةٌ من المسلم إلا تدخل في فم الملك، حديثٌ صحيح، وفي حديث آخر مرسل وصحيح مرسل صحيحٌ رواه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة، يوضح الأمر: إذا قام الرجل يتوضأ ليلاً أو نهاراً فأحسن الوضوء واستن، ثم قام فصلَّى، أطاف به الملك ودنا منه حتى يضع فاه على فيه، فما يقرأ إلا في فيه، وإذا لم يستن أطاف به ولا يضع فاه على فيه[مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر ص110]. فانظروا! إلى فائدة هذا السواك في قيام الليل كيف أجلَّ الله صاحبه بإرسال هذا الملك المخصص لهذا الغرض.
وقال ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: إذا تطهر الرجل ثم مرَّ إلى المسجد يرعى الصلاة -ما أخرجه إلا الصلاة ولا هو مشتغلٌ في شيء في خروجه إلا للصلاة- كتب له كاتبه -ملك الحسنات- بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات -بكل خطوة- والقاعد يرعى الصلاة –القاعد ينتظر الصلاة في المسجد، ينتظر إقامتها- كالقانت -كالقانت في الليل- ويكتبُ من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه[رواه أحمد 17440]. فهذا إخلاص النية في إتيان المساجد لشهود صلاة الجماعة، نهدي الحديث إلى المتأخرين عن الصلوات، الذين لا يحتسبون أجراً ولا ثواباً، اللهم إلا العادة في الخروج، ونُهدي كذلك إلى الذي إذا تأخرت إقامة الصلاة شيئاً فإنهم يتململون في مجالسهم، ويتلفتون يميناً وشمالاً، وينظرون في ساعاتهم كأن خطباً جليلاً ومصيبة حلَّت بهم، ينتظرون متى يخرجون كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ سورة المدثر 51. مع أن جلوسهم في المسجد ينتظرون الصلاة له أجر كأنَّهم في الصلاة، بل كأنهم من القانتين، فهل تُرى بعد ذلك سيستعجلون وليس وراءهم حاجة تُلجئهم إلى الاستعجال؟.
الذكر سبب لدخول الجنة
وقال ﷺ: خصلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة، هما يسير، ومن يعمل بهما قليل، يسبح في دبر كل صلاة عشرا، ويحمد عشرا، ويكبر عشرا، فذلك خمسون ومائة باللسان كيف صارت خمسين ومائة؟! عشرة في ثلاثة بثلاثين بعد كل صلاة، في خمسة بمائة وخمسين في اللسان وألف وخمسمائة في الميزان لأن الحسنة بعشر أمثالها، وهذا إحدى كيفيات الذكر بعد الصلاة، وورد: التسبيح ثلاثاً وثلاثين، والتحميد ثلاثاً وثلاثين، والتكبير ثلاثاً وثلاثين، وتمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وورد: سبحان الله خمساً وعشرين، والحمد لله خمساً وعشرين، ولا إله إلا الله خمساً وعشرين، والله أكبر خمساً وعشرين، فهذه مائة، وورد كيفية ثالثة: سبحان الله عشراً، والحمد لله عشراً، والله أكبر عشراً، فهذه كيفية أخرى، فنوع بهذه الكيفيات، وإن كان الأكثر التسبيح ثلاثاً وثلاثين كما هو واضح من الروايات.
ثم قال ﷺ الخصلة الثانية، وهي: ويكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين فصار المجموع مائة: أربعة وثلاثين تكبيرة، وثلاث وثلاثين تحميده، وثلاث وثلاثين تسبيحة قبل النوم فذلك مائةٌ باللسان، وألفٌ في الميزان[رواه أبو داود 5065]. فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة[رواه الترمذي 3410]. ألا تريدون أن يغفر الله لكم، ألفين وخمسمائة حسنة بهذه الأذكار بعد كل صلاة وقبل النوم. حديث صحيح.
وقال ﷺ: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة [رواه أحمد 18959].غنيمة تُجر إليك وتساق مهداة بغير تعب؛ لأنَّ النهار قصير، عدد ساعات الصيام قصيرة، ثانياً: لا جوع، ولا عطش، ولا شمس، ولا حر، فقال: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة تُهدى وتقدم بلا تعب كبير، ونحن الآن في فصل الشتاء ينبغي الاستكثار من الصوم.
وأقول أيها الإخوة: خارج الخطبة رافعاً العتب أرجو أن تعتبروا أنَّ هذا الكلام الذي تسمعونه كأنكم تقرؤونه من كتاب، فإن مسئوليتي والله عظيمة، وأنا لا أرى أنني أقوم بهذه الأمور ثم أنصحكم بها، بل إنني أتواصى وإياكم -إن شاء الله- بالحق والصبر، فاعتبروها كأنكم تقرؤونها في كتاب.
وقال ﷺ: أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تُدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إلي أن من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضىً يوم القيامة.[رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج 36]. وأكمل لكم الحديث في الخطبة الثانية مع التعليق عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وأرجوا من إخواني التقدم حتى يدخل إخوانهم الواقفون.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، جلَّ شأنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي هدى الله به الناس وأرسله رحمةً للعالمين، فبيَّن لنا أبواب الخير وأمرنا أن نلجها، وبيَّن لنا أبواب الشر وحذَّرنا من ولوجها.
أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس
قال ﷺ: أحب الناس إلى الله أنفعهم من الأعمال -أيها الإخوة- ما يقتصر نفعه على الشخص، ومنها ما يعم اثنين أو ثلاثة، ومن الأعمال ما يعم نفعها خلقٌ كبيرٌ من الناس، فكلما كانت المنفعة لعباد الله أكثر كلما كان أجرك أكثر وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضيَ عنه ديناً، أو تطردَ عنه جوعاً بعض الناس يذبحون للضيوف، لكن قد لا يعزم إلا كبار القوم والضعفاء شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء، ويترك الفقراء[رواه البخاري 5177].وعندما يذبحون قد لا يدور في بالهم النية الحسنة بإطعام الناس، وإطعام الطعام، وإنما العادات تقتضي التقاليد، ولا يدور في باله الأجر المترتب على إطعام الطعام، وهذه غفلةٌ عظيمة، يقول: ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليِّ من أن أعتكف في المسجد شهراً هذا الأجر، وزد على ذلك ما تنشئه هذه الأعمال في نفس الأخ المسلم الآخر، ذكر لي أحدهم قال: رأيت رجلاً قد فسد عليه إطار سيارته في الطريق، وهو واقف يؤشر للسيارات، فنزلت إليه فأخذت هذا الإطار وليس عنده ما يُعبّأ به، وليس عنده إطار احتياطي، ثم أخذنا الإطار بسيارتي، وذهبنا إلى الورشة البعيدة وأصلحناها، ورجعنا إلى السيارة وركّبت له الإطار، وهو قائم لا يتحرك، ثيابه ناصعة البياض وصاحبنا قد اتسخت ثيابه، يقول: هذا الرجل كان مندهشاً طيلة الوقت، كيف؟! السبب في عدم المشاركة أنه مندهش، كيف أقف؟ ثم آخذه إلى المكان البعيد ثم أرجعه ثم اشتغل له بنفسي؟! فانتهزتها فرصةً لأدعو الرجل إلى الله وأذكره، وإذا به يقول: إن لي ولداً مثلك، متدينٌ مثلك، لكني في الحقيقة أقوم عليه، وأنتقده، وأظن أنه يضيع نفسه ودراسته بهذا التدين، والآن من تصرفك بان لي حقيقة الأمر، وهذا - أيها الإخوة- من فوائد مساعدة الناس، وأن يقوم المستقيمون بتقديم الخدمات للناس، كي ما يهدي الله بهم هذه الفرق والطوائف.
وقال ﷺ: ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضىً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإنَّ سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل[رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج 36].
في كل كبد رطبة أجر
وقال ﷺ: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسك بفيه ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له[رواه مسلم 2244]. فالله شكر له صنيعه فغفر له: في كل كبد رطبة أجر[رواه مسلم 2244].بل إنَّ بغياً من بغايا بني إسرائيل -زانية- بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها -خفها- فاستقت له به فسقته إياه فغفر لها به[رواه مسلم 2245]. بأي شيء؟ ! برحمة هذا الحيوان.
وقال ﷺ: اتق الله! ولا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط[رواه أحمد 20633]. كم يأخذ الو قت إذا جاء إنسان بشيء فارغ فتملأه له ثم تملأ لنفسك؟ لا شيء! لكن لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً، فقد تكون هذه مرجحةً لكفة حسناتك يوم القيامة.
وقال ﷺ: أتحب أن يلين قلبك؟ فقال: نعم، قال: أدن اليتيم منك، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك؛ فإن ذلك يلين قلبك، وتقدر على حاجتك[رواه أبو نعيم في الحلية ج1 ص214]. مسح رأس اليتيم يُلين القلب، فإذا رأيت يتيماً -أيها المسلم- فامسح على رأسه، وهو: كل من مات أباه ولم يبلغ سن الحلم دون البلوغ فإنه يتيم، فامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، فإن الله يلين قلبك، ويأجرك على هذا أجراً عظيماً.
وقال ﷺ: من كظم غيظا وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور شاء [رواه الترمذي 2493]. كظم غيظاً: غضب وكظم الغضب، اغتاظ وكظم الغيظ، وتوقف ولم ينتقم، دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء، على أي شيء؟! على أنه كظمَ الغيظ.
أبواب الخير كثيرة، ولكن من الوالجون؟ أبواب الخير أجورها كثيرة ولكن من الذي يعمل؟ ومن رحمة الله أن عدَّد لنا أبواب الخيرات، وضاعف الحسنات، ولكن الناس -نحن أيها الإخوة- في كسل وخمول، انشغال بالمعاصي، وغفلة عن الخيرات.
نسأل الله أن يُحبب إلينا الإيمان، وأن يزينه في قلوبنا، وأن يُكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأن يجعلنا من الراشدين، اللهم ليِّن قلوبنا، وثبتها يا مقلب القلوب، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً، اللهم انصر إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم أهلك اليهود وأعداء الدين، اللهم واجعلهم غنيمةً للمسلمين، اللهم قنا شر أنفسنا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءوَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
وقد سألنا بعض الإخوان عن بعض أحكام المسح على الخفين وسنجملها لكم في عشر نقاط بعد الصلاة لمن شاء أن يستمع.