الخطبة الأولى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَآل عمران: 102، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاالنساء: 1،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاالأحزاب: 70 - 71.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني المسلمين: تكلمنا في الخطبة الماضية عن النصيحة، وذكرنا أنها من واجبات المسلم، وأنه لا يمكن أن يقوم المجتمع الإسلامي على قوائم صحيحة إلا إذا كانت النصيحة أحد أركانه، وقواعده، وأساسياته، وذكرنا -أيها الأخوة- شبهة يتعلق بها كثير من الناس اليوم إذا ما جئت لتنصحهم، وهو أن يقول لك: أنا حر فيما أفعل، أنت لا تتدخل في شؤوني الخاصة، وأنا أفعل ما أريد، وقد يقول بعضهم -أيها الأخوة-: حديثا عن رسول الله ﷺ يستشهد به على صحة زعمه ودعواه، وهو قوله ﷺ: من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه، فيقول هذا الظالم الجاهل بأمور الدين، والفاقد لحقيقة الشريعة، وروح الإسلام، والذي ينزل أحاديث رسول الله في غير موضعها يقول: لا تتدخل فيما لا يعنيك، فتلقى مالا يرضيك، أو ما سمعت رسول الله يقول: من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه.
يستشهد الكثيرون -أيها الأخوة- محتجين على دعاة الإسلام بهذا الحديث، ونحن فيما يلي نبين لكم -إن شاء الله- شرح هذا الحديث، وما المراد به، وبطلان ما يتعلق به هؤلاء الجهلة بهذا الحديث، وأن تعلقهم به ينم عن جهل تام بمعناه.
هذا الحديث من الأحاديث الجامعة التي بني عليها الدين
فأما الحديث -أيها الإخوة- وقد رواه جماعة من أهل العلم منهم الإمام الترمذي -رحمه الله-عن أبي هريرة مرفوعاً، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه لا شك فيه.
والمسلم -أيها الإخوة- ينبغي له أن يحرص على مثل هذه الأحاديث التي يكون فيها هذه العبارة: من حسن إسلام المرء، لأننا -أيها الإخوة- إذا أردنا أن نكون مسلمين حقاً وحقيقة فلابد أن نحرص على كل ما يحسن إسلامنا، لا بد أن نحرص على كل ما يقوي هذا الإسلام، ويحسنه، ويجمله، ويكمله؛ ولذلك كان لا بد من إمعان النظر في مثل هذا الحديث.
وهذا الحديث -أيها الإخوة- قد عده علماء الإسلام من الأحاديث القليلة الجامعة التي بني عليها الدين، قال الإمام أبو عمر بن الصلاح -رحمه الله تعالى-: "جملة آداب الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث: "آداب الخير كلها تتفرع من أربعة أحاديث:
"قول النبي ﷺ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، وقوله : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وقوله للذي اختصر له في الوصية: لا تغضب، وقوله: لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
هذه الأربعة الأحاديث التي عليها مدار الخير وأزمته، ومنها -أيها الإخوة- هذا الحديث الذي نحن بصدده، وقال أبو داوود -رحمه الله-: "اجتهدت في جمع المسند فوجدته أربعة آلاف حديث ثم نظرته ثم نظرت فإذا مدارها على أربعة أحاديث" وذكر هذا منها.
فأما قوله : من حسن إسلام المرء، فقد جاء بالتعبير بالإسلام هنا ليدخل فيه جميع الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة التي تدخل في تعريف الإسلام، وقوله : تركه يعني: ودعه، والكف عنه، والابتعاد بجميع وسائل الترك.
معنى: ما لا يعنيه: وأما جملة: ما لا يعنيه فهذه التي عليها المدار في الكلام، وهي اللب الذي فقده كثير من أصحاب العقول الجوفاء فغدت قلوبهم خاوية على عروشها، ماذا يفهم الناس الآن -أيها الإخوة- من قوله : ما لا يعنيه؟ يفهمون -كما قدمنا قبل قليل- يفهمون عدم التدخل بالشؤون الخاصة هذا هو فهمهم لهذا الحديث؛ فلذلك في عرفهم واستقر في أفهامهم أنه لا يجوز لك أن تتدخل في حريته الشخصية لكي تنصحه بأمر محرم هو مقيم عليه، أو خطأ ملازم له؛ ولذلك لا يقبلون نهائياً لأنهم يعتبرون أن الحرية التي هي داخلة في هذا الحديث تتعارض مع أمرك ونهيك لهم.
وأما كلمة: يعني فإنها تتعلق بالعناية، والعناية -أيها الإخوة- شدة الاهتمام بالشيء، فالمعنى يعني: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه أي: ما لا يهمه في دنياه وآخرته، ما لا يهمه في دنياه وآخرته، وكلمة: لا يعنيهلا تفهم -أيها الإخوة- كما قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "لا تفهموا بالهوى، وطلب النفس"، يعني: كل واحد يفهم ما لا يعنيه على كيفه، يقول: أنا أفهم أن هذا الأمر لا يعنيني، إذاً هو لا يعنيني، إذاً لا أتدخل فيه، لا، ما لا يعنيه، يعني: بحسب مقياس الشرع، وبحكم الشرع والإسلام؛ ولذلك -أيها الإخوة- كان لا بد من الرجوع في مصطلحاتنا وتعاريفنا ومفهوماتنا وتصوراتنا إلى الدين الحنيف دائماً، وعدم الاستقاء مما ترسب في النفس من مفهومات هذه الحياة الجاهلية، وإلا فإن الضلال ملازم حتماً لكل من فعل هذا.
الأشياء التي لا تعني المسلم
وترك ما لا يعني، -أيها الإخوة- يشمل: المحرمات، أو المشتبهات، أو المكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، وما لا يعني قد تكون في النفس، وقد تكون في الناس، قد يكون من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه في نفسه، أو تركه ما لا يعنيه في أمور الناس، فمن الأشياء التي تركها ما لا يعنيه في نفسه مثل اللهو واللعب، أو السفر الذي لا فائدة من ورائه، لا فائدة دينية، كطلب العلم، ولا فائدة دنيوية مشروعة، كالعلاج أو التجارة، هذا اللهو، أو اللعب، أو الأسفار هل تعنينا أيها الإخوة؟ هل تعنيك يا أخي المسلم؟ هل تعنيك في دنياك أو آخرتك؟ هل تعنيك؟ هل هي مهمة لك في دنياك وآخرتك؟ كلا -أيها الإخوة- بل إنها وبال على صاحبها؛ لأنها تورده موارد الهلاك.
ويدخل في هذا مثلاً مطالعة الأخبار الدقيقة، وقراءة المجلات أو الصحف في مقالاتها التي لا خير فيها، ولا بركة ترجى من وراء قراءتها؛ ولذلك ترى القراءة عند كثير من الناس شهوة، مجرد شهوة يقرأ ليقرأ، لكن لا يسأل نفسه ماذا يقرأ؟ ولماذا يقرأ؟ بل المهم عند بعض الناس الذين أوتوا شغفاً بالقراءة، المهم أن يقرأ؛ ولذلك ترى هذا الرجل يتخبط يمين شمال عشوائياً في قراءاته، فيقرأ الغث والسمين، ويقرأ الضار والنافع، وقد تتعدى قراءته إلى المحرمات من أنواع القراءة، مثل:
علم الكلام والفلسفة
قراءة الفلسفة وعلوم الكلام التي حرمها علماء الإسلام لما فيها من المضرة التي تشبع نفس صاحبها قسوة، فيقسو قلبه من ذكر الله ؛ ولذلك لا يجوز مطالعة كتب علم الكلام والفلسفة إلا لمن أراد أن يرد عليها من علماء الدين، أو المقالات الرديئة أو التي تثير شهوات النفس، وتحمل النفس على ما يشينها من الأخلاق غير الإسلامية.
وكذلك -أيها الإخوة- ولهذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في علم الكلام والفلسفة قال: "هو علم لا يستفيد منه الذكي، ولا ينتفع به البليد" لأن البليد لا يفهم مثل هذا الكلام، والذكي لا يحتاج إليه؛ لأن عنده من الذكاء ما يمكنه من الاحتجاج بنصوص القرآن والسنة في إقامة الحجج على المبطلين، وأهل البدع والشهوات، ويدخل في هذا أيها الإخوة الخوض في المسائل التي لا ينبني عليها عمل كما هي القاعدة العظيمة الفاذة من قواعد عقيدة المسلمين "كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه"؛ ولهذا كان من سنة السلف في مصنفاتهم:
أن أحدهم إذا حكي خلافاً في أمر لا يستفيد منه المسلمون عقب بقوله "والخلاف في هذه المسألة لا ينبني عليه عمل، ومما لا مصلحة للمسلمين، ولا فائدة من الخوض فيه" كما يفعل الأجلاء من المصنفين، أو الاسترسال -أيها الإخوة- في التفكيرات، أو الاسترسال وراء الخواطر المستحيلة الوقوع، أو الفرضيات التي لا طائل من ورائها، فترى واحد من الناس مثلاً يفكر، ويقول: يا ترى لو دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فهل سيخلق الله أقواماً جدد على هذه الأرض فيعملوا، ثم مرة أخرى يقوم عليهم الحساب والحشر، ما هي الفائدة -يا إخواني- من التفكير في هذه المسألة؟
ولهذا عاب السلف المسائل المتكلفة والمفترضات، ترى كثير من الناس عندهم فراغ في أفكارهم، وعندهم فراغ في أوقاتهم، فبماذا يشغلون فراغهم؟ يشغلونه، أيها الإخوة، بالتفكير في هذه المسائل التي لا طائل من ورائها كما يحدث عند أولئك الفارغين، فترى أحدهم يقول: البيضة قبل أم الدجاجة؟ وماذا تستفيد -يا أخي- في دينك وفي دنياك إذا عرفت جواب هذه المسألة؟
وقس على ذلك في كثير من الأمور، وعلى رأسها الخوض في كيفية صفات الله، فترى الشيطان يوحي في عقول أوليائه، التفكير كيف يد الله؟ كيف عرش الله؟ كيف كلام الله؟ كيف قدم الله؟ وهكذا من المسائل التي لا يجوز الخوض في التفكير فيها مطلقاً، بل إننا نؤمن بها، ونسلم بها، ونقر بها على ظاهرها المفهوم منها من المعاني في كلام العرب، لا نغير عليها بسهام التأويل أو التحريف أو التشبيه والتجسيم، بل نتلقاها بالقبول كما تلقاها السلف الصالح.
وكذلك -أيها الإخوة- الخوض في تفاصيل القضاء والقدر، الخوض في تفاصيل القضاء والقدر وإعمال العقل فيها ينتج عنه إلحاد، وتكذيب بأوامر الشرع، وما جاءت به الرسل؛ ولهذا ورد في شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز -رحمه الله- هذا الحديث: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه عند كلامه عن الحكم في الخوض في تفاصيل القضاء والقدر، نؤمن أن ما يجري بقضاء الله وقدره، يكفي هذا -أيها الإخوة-، ونؤمن أن للإنسان إرادة ومشيئة داخلة تحت إرادة الله ومشيئته، نؤمن بهذه القواعد الكلية، لكن لا نخوض بعقولنا القاصرة في أشياء لم يعطى للعقل المجال للخوض فيها؛ لأنها من الأمور الغيبية.
السؤال عما لا فائدة فيه
وكذلك -يا إخواني- الاشتغال بما لا يفيد في البحث كاسم كلب أصحاب الكهف ما اسمه؟ ماذا يفيدنا؟ ما عدد مسامير سفينة نوح؟ ماذا يفيد معرفتها؟ وهكذا وهكذا من المسائل التي يشتغل بعض طلبة العلم بالبحث فيها وليست مما يفيده بل هي داخلة قطعاً في هذا الحديث.
ويدخل فيها -أيها الإخوة- كذلك كثير من الهوايات التي يشتغل بها الناس اليوم، قولوا لي بالله عليكم، ما هي الفائدة التي ترجى في صلاح الدين أو الدنيا من الاشتغال بجمع الطوابع مثلاً؟ أو الاشتغال بجمع التحف النادرة؟
ترى بعض الأثرياء في بيوتهم أقسام خاصة للتحف النادرة، واللوحات الفنية التي اشتراها من معارض العالم، سبحان الله العظيم!
أيها الإخوة: ماذا يفيدنا الاشتغال بهذه الأشياء؟ ماذا يفيد الاشتغال بقراءة كتب بالفلوكلور الشعبي، والتقاليد الشعبية، أو الأكلات الشعبية الموجودة في بلدان العالم، بعض الناس عندهم هوايات عجيبة تدل فعلاً على أن عقولهم فارغة، ما عندهم ما يشتغلون به، لا يعرفون من كتاب الله وسنة رسوله ما يفيدهم وينفعهم؛ ولذلك ينصرفون لهذه الهوايات، ماذا تعود عليهم بالنفع؟
لو أن إنساناً اشتغل بجزء من وقته في رياضة بدنه –مثلاً- لقلنا هذه هواية طيبة نافعة إذا التزم فيها بأحكام الشرع، ولكن بعض الهوايات لا فائدة ترجى متها مطلقاً لا في الدين ولا في الدنيا، فالاشتغال بهذه الأشياء -أيها الإخوة- أليس داخلاً في قول رسول الله ﷺ: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه؟
فضول الكلام
وكذلك أهم ما يدخل في هذا الحديث ترك فضول الكلام، وحفظ اللسان عن لغو الكلام؛ لأن الله يقول -يا إخواني-: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ق: 17، يتلقى المتلقيان ما يصدر من هذا اللسان يتلقاه المتلقيان عن اليمين وعن الشمال ويدونونه، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌق: 18، فلذلك كان الاشتغال بما لا يعنيك من أنواع الكلام مسجل عليك، وأنت محاسب عنه، ولذلك -أيها الإخوة- يقول الله -تعالى-: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍيونس: 61.
كل هذه الأشياء -أيها الإخوة- مسجلة ومدونة ومسطرة في هذه الكتب، هؤلاء الذين يشتغلون بهذه الأشياء الفارغة ماذا يكون حال وجوههم عندما ترى صفحات أعمالهم يوم القيامة، وقد دونت فيها هذه الأشياء، اشتريت التحفة الفلانية من متحف كذا بقيمة كذا وكذا، ويسأل عن ماله فيما اكتسبه، وفيما أنفقه.
أيها الإخوة: نحن نحتاج إلى مزيد من إدخال الإسلام وقواعده في أمور حياتنا؛ لأننا مع الأسف الشديد لا نملك فهماً صحيحاً للإسلام إلا من رحم الله، بل إن أفهام المسلمين اليوم قاصرة، كثير منهم أفهامهم قاصرة يفهمون الإسلام عند حد معين، عند المسجد فقط، عند الصلاة فقط، إذا جاء رمضان نصوم، وقت الزكاة نزكي فقط، لكن ليس عنده استعداد أن يفهم أن الإسلام يدخل فيما هو أكثر من ذلك، يدخل حتى في هذه التحف التي يضعها في بيته، يدخل حتى في هذه الهوايات التي يشغل بها معظم أوقاته.
عجباً لهؤلاء الناس لا يحسون بأن هناك معاداً بعد الموت! لا يعقلون بأن هناك حساباً! لا يفهمون أن الله تعالى سيحاسبهم عن كل وقت أمضوه! سبحان الله العظيم!
ولهذا أيها الإخوة كان بعض السلف يهتمون جداً بعدم الاشتغال في فضول الكلام.
ودخل على بعض السلف في مرضه ووجهه يتهلل فسألوه عن سبب تهلل وجهه؟ فقال: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي سليماً للمسلمين.
وقال شاعر الإسلام:
اغتنم ركعتين في ظلمة الليل | إذا كنت فارغاً مستريحـا |
وإذا ما هممت بالخوض في الباطل | فاجعل مكانه تسبيحــا |
إذا هممت في الخوض في الباطل، إذا جاء في خاطرك أو جاء في بالك أن تخوض في أمر من أمور الباطل، فاقلب هذه الموجة واجعل مكان الخوض في الباطل تسبيحاً، تسجل لك الحسنات بدلاً من السيئات.
التدخل في الخصوصيات
ويفهم بعض المسلمين من هذا الحديث فهماً صحيحاً، وهو أن بعض الناس عندهم فضول زائد، عندهم فضول غير شرعي، غير محمود؛ فلذلك يدسون أنوفهم في خصوصيات غيرهم وهي لا تتعارض مع الشريعة.
أيها الإخوة: أن نتدخل في شؤون الآخرين إذا كان الآخرون مقيمون على معاصي، أو يرتكبون منكرات هذا تدخل مشروع محمود لا إشكال فيه بل هو مطلوب، لكن أن ندس أنوفنا في أشياء من المباحات التي يشتغل فيها الناس، وليست تتعارض مع الشريعة الإسلامية، فيتدخل الإنسان فيها من باب حب التطلع، أو الاستطلاع، أو الفضول هذه من المسائل المذمومة التي تدخل في هذا الحديث، وإنكار الذي يتدخل عليه على المتدخل صحيح لا شك فيه.
أنت تريد أن تجعل في بيتك مثلاً شيئاً تستفيد منه، أو تغير في بناء البيت، أو تشتري شيئاً مباحاً، فيأتي واحد ويقول: لماذا تشتري كذا؟ ولماذا تفعل كذا؟ ولماذا؟ وهكذا، هذا التدخل في الباحات مذموم، ما دخلك أنت بطريقة بناء بيت فلان؟
وما دخلك بترتيب مجلس فلان الفلاني؟ واحد يريد أن يرتب مجلسه بهذه الطريقة وطريقة مباحة لا إشكال فيها، فيأتي بعض الناس يقول له: لا هذا ما يصلح، وهذا كذا، من باب التحكم لا من باب النصيحة، يتحكم هكذا بعقله في ترتيب أشياء فلان، ما دخلك أنت في ترتيب أشياء فلان؟
هنا -أيها الإخوة- يكون صحيح، يكون من الصحيح منع هذا الشخص، وإيقافه عند حده، وكذلك هؤلاء الناس الذين يسألون الأسئلة المحرجة، واحد أتى من مكان لا شبهة فيه ولا إشكال، فيأتي واحد يقول له: من أين جئت؟ كنت عند من؟ وإلى أين ستذهب؟ وهذا شخص ملتزم بأحكام الدين لا يخشى عليه شيء، فلماذا تسأله هذه الأسئلة التي لا يريد الإجابة عنها؟
واحد لا يريد أن يطلعك أنه تقدم مثلاً إلى بيت فلان ليخطب منهم، وجاء من هذا البيت ورأيته في الطريق يسير، فقلت له: من أين جئت، وهو لا يريد أن يخبرك هو حر لا يريد أن يخبرك، ولا تستطيع أن تجبره على أن يقول، بل إن دس أنفك في هذا الشأن يعتبر من الاشتغال فيما لا يعنيك، أما إن كان هذا الرجل إنسان في بداية طريقه في التدين، ويخشى أن يكون قد أتى من مكان فيه منكر.
مثلاً أضرب لكم مثالاً: أب يقول لولده ولد فيه وفيه، ولد ليس حاله مطمئناً تماماً، يأتي إليه أبوه يقول له: من أين جئت؟ أين كنت؟ هنا لا يصح للولد أن يقول: ما لك دخل أنا أكون في المحل اللي أكون فيه، أو أن يقول له مستهزئاً: في المحل اللي كنت فيه.
هنا -أيها الإخوة- هذه التربية تقتضي أن يخبر الولد أباه أين كان، تقتضي هذا، من حق الوالد هنا أن يتدخل، ويسأل الولد أين كان؛ لأنه قد يكون كان في مكان فيه منكر، مكان لا يصلح ولا يجوز أن يكون فيه، هل يعتبر هذا تدخلاً؟ كلا -أيها الإخوة- هذا النوع من التدخل محمود، ولكن أن تسأل إنساناً مستقيماً من المسلمين لا شبهة عليه مطلقاً، كامل العقل، ويعلم ما يفيده مما لا يفيده، أين كنت؟ وإلى أين أنت ذاهب؟ ومن هو الشخص الذي كنت تحدثه قبل قليل؟ وأنا رأيتك مع فلان تتكلم، ماذا كنت تقول له؟ أو يكون اثنان يتكلمان في موضوع خاص فتدخل بينهما، وتحشر نفسك بينهما، هذا لا يصح -أيها الإخوة- وهو عين المنهي عنه في هذا الحديث.
فنسأل الله أن نكون من الذين يعرفون حدود الله، ويفقهون كلام الله، وأحاديث رسوله فينزلونها على معناها الذي أريد بها، وصلى الله على النبي الأمي والحمد لله أولاً وآخرا.
الخطبة الثانية
الحمد لله معز من أطاعه، ومذل من عصاه، أشهد ان لا إله إلا هو قاهر كل من تغطرس وتجبر وتعدى حدود ما أنزل الله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين بشيراً ونذيرا، وداعياً إلى بإذنه وسراجاً منيراً.
أيها الإخوة: بعد أن عرفنا المعنى العام لهذا الحديث، وما يمكن أن يدخل فيه، وعرفنا كذلك أنه من آداب الإخوة الإسلامية ألا تزعج أخاك المسلم بأي وسيلة من وسائل الإزعاج مثل هذه الأسئلة الفضولية، أو التدخل بشؤونه الخاصة التي لا تتعارض مع الشريعة، أو التدخل الذي ليس من ورائه نفع له في دينه أو دنياه.
فاعلموا -أيها الإخوة- أن هذا التدخل يفضي إلى فصم عرى الأخوة، وإلى إذابة هذه الروابط، وإيجاد العداوات بين المسلمين؛ لأن النفس فطرت على عدم حب التعالي عليها، والتدخل في شؤونها، ولهذا كان من آداب الإخوة احترام حرمات أخيك المسلم، وقد حرم رسول الله ﷺ أن ينظر المسلم في كتاب أخيه بغير إذنه.
واحد عنده ورقة خاصة قد قلبها ووضعها على الطاولة، أو قد أغلقها ووضعها في الدرج، لا يجوز لك أن تأتي أنت وتفتش في أدراجه وتخرج هذه الأوراق وتقرأ فيها، هذا تدخل فيما لا يعنيك.
وكذلك -أيها الإخوة- ما يفعله كثير من الناس عندما يريد أن يعرف شغل كل إنسان فيما هو، فيقول له: ماذا لديك؟ فيقول: أنا مشغول، فيقول: ما هو الشغل الذي لديك؟ ويبدأ يحقق معه في سؤال وجواب، حالة عجيبة جداً تسترعي وتلفت الانتباه، وتنئ عن ضحالة تفكير هذا الشخص، وقلة فقهه في الدين.
الاهتمام بأمر المسلمين مما يعني المسلم
وكذلك، يا إخواني، بعد أن عرفنا المعنى العام لهذا الحديث نرجع إلى ما بدأنا به، فنقول هل يكون الآن من الصحيح عندما يقال للإنسان أو يذكر بأحوال المسلمين في أفغانستان، أو فلسطين، أو الفلبين، أو أي مكان من أراضي المسلمين، يذكر بحال المسلمين، هل يقول: والله أنا ما لي دخل فيهم، ولا تعنيني أمورهم هذه أشياؤهم الخاصة، هؤلاء ناس يدافعون عن أراضيهم، أنا مالي دخل فيها، ولا أدعو لهم، ولا أتبرع لهم، ولا أناقش أمورهم، لكن في الوقت الذي هو يعلم الأكلات الشعبية في أبعد بلد من بلاد الأرض، هذه أمور عجيبة!
يهتم بالترهات والتوافه، وإذا جئت تحدثه عن أمور المسلمين قال لك: هذا الأمر ما يعنيني وما يخصني، بل إنك أحياناً تقول له: جارك هذا مقيم على منكر أنصحه -يا أخي-، يقول: هذا جاري بيني وبينه جدار مالي دخل فيه، هو يفعل ما يريد، وأنا أفعل ما أريد، ولكنه في نفس الوقت يشتغل بأتفه الأمور، ويهتم بها.
أيها الإخوة: من القواعد العظيمة في الإسلام: "أن من لم يهتم بأمور المسلمين ليس منهم" قاعدة جليلة ذكرها العلماء، ولذلك كان كثير من السلف والخلف يطرقون، ويهتمون، ويفكرون بأحوال إخوانهم المسلمين في أنحاء العالم، وماذا يستطيعون أن يقدموا لهم، وهذا العالم والداعية الذي أنجبته أرض مصر الطيبة، العلامة الشيخ محمد رشيد رضا، كان كثيراً ما يفكر بأحوال المسلمين، ويطرق ويمضي، الأوقات الطويلة وهو يفكر ماذا يفعل؟ حتى أن أمه يوماً من الأيام تراه مطرقاً وهو يفكر فداعبته وهي تقول له: إه، هو في حد اليوم مات في الصين؟.
هكذا بلغت حال هذا الرجل، وهكذا يجب أن يكون حالنا -أيها الإخوة-، أن نفكر في أحوال المسلمين، ماذا نستطيع أن نقدم لهم؟ ليس أحوال المسلمين البعيدين فقط، إخوانك القريبين أهل، أخوك المسلم الذي يعيش معك في بيتك، أو في مدينتك، في مدرستك، في عملك.
هؤلاء -أيها الإخوة- إن لم نكن نحن مسؤولون عن تسوية أخطائهم، وتعديل انحرافاتهم ونصحهم فمن المسؤول عنهم إذاً؟ أليس رسول الله ﷺ يقول في الحديث الصحيح: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا،أو كما قال ، وهذا الحديث في صحيح البخاري معروف.
فإذا كل واحد قال: أنا ليس لي علاقة بالناس، أنا لا آمر بالمعروف، ولا أنهى عن المنكر، ولا أنصح أحداً، فإن سفينة المجتمع -أيها الإخوة- ستغرق لا محالة، كما هي قد قاربت على الغرق تماماً في هذا العصر الذي عدم فيه الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والناصح في دين الله إلا من رحم الله ، فإذاً يكون بهذا قد اتضح معنى الحديث، وزال اللبس، ولم يعد هناك حجة لأحد إذا جئت لتنصحه في أمر من أمور الدين، أو من الدنيا فيه نفعه أن يقول لك: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، اللهم واجعل رحمات منك وبركات منك نازلة علينا بالليل والنهار، وارزقنا من لدنك رزقاً حسنا، اللهم آمنا في بلادنا، اللهم واجعل بلادنا آمنة مطمئنة وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد بلدنا هذا بسوء فأشغله بنفسه، واردد كيده في نحره، اللهم واجعلنا في سعة من الرزق، واجعلنا في عافية في الدين، والبدن، والأهل، والمال، وامنن علينا بالعفو والمغفرة.