الخميس 28 ربيع الآخر 1446 هـ :: 31 أكتوبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

مضت سنة من عمرك


عناصر المادة
الخطبة الأولى
التاريخ الهجري من خصائص هذه الأمة
قصة البداية بالتاريخ الهجري
كن في الدنيا كأنك غريب
إذا أمسيت لا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت لا تنتظر المساء
الخطبة الثانية
المبادرة بالأعمال الصالحة

الخطبة الأولى

00:00:05

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَآل عمران: 102، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاالنساء: 1، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاالأحزاب: 70-71.

أما بعد:

التاريخ الهجري من خصائص هذه الأمة

00:01:02

فقد قال الله وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًاالإسراء: 12،  وتتعلموا بهذا أوقات الفروض المفروضة عليكم في ساعات الليل والنهار، وتتعلمون ما يتعلق بالفرائض من الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام؛ لأنها تكون في الأيام والشهور والسنين، فانظر إلى ارتباط العبادات الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، وغير ذلك، ارتباط هذه العبادات بمعرفة السنين والحساب، وقد جعل الله لهذه الأمة أمراً مميزاً تعرف به أوائل شهورها، وانقضاء سنواتها، وهو ما ذكره في قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّالبقرة: 189،  ويتخبط الكفرة في السنين في ابتدائها وانتهائها، والشهور في ابتدائها وانتهائها، فيقولون: عن هذا ثلاثين، وعن هذا واحد وثلاثين، وعن آخر ثمانٍ وعشرين، وليس عندهم بينة ولا دليل، وعندنا نحن المسلمين البينة والدليل في ابتداء الشهر وانتهائه بظهور هلاله، واختفائه بعد ذلك، وظهور هلال الشهر الذي يليه، فهذه أمة الدليل والبرهان، ربطت عباداتها بهذه الشهور والسنين، كما أمر الله هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَيونس:  5،  ولأجل ذلك صارت هذه الشهور القمرية، وهذه السنة الهلالية، صارت الأهلة هي المواقيت، وهذه السنة القمرية هي التي نؤرخ بها، هذا من خصائص هذه الأمة، قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِالبقرة: 189،  وجعلت مواقيت ليس في العبادة فقط، وإنما حتى في أمور الدنيا المتعلقة بالدين كعدة النساء، عدد النساء، ومدة الحمل، ووقت الدين، وأجرة الأجير، ونحو ذلك.

قصة البداية بالتاريخ الهجري

00:04:17

أما هذه السنة الهجرية فإن ابتدائها بالهجرة قصة، وقد ذكر السخاوي -رحمه الله تعالى- في كتابه الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ الآثار في سبب البدء بمحرم، واعتماد بداية السنة وانتهائها، وقد ذكر العلماء ذلك في كتبهم أيضا آثاراً تدل على قصة البداية بالتاريخ الهجري، فقد جاء في بعض الكتب المسندة من كتب أهل العلم أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم: أرخ بالمبعث بعثة النبي ﷺ وقال بعضهم: أرخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها، وذلك سنة سبع عشرة، فلما اتفقوا على التاريخ أن يكون من الهجرة، فقال بعضهم: ابتدأوا السنة برمضان، وقال عمر: بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه.

أما التاريخ فلابد أن يكون له بداية، والبداية مرتبطة بنبي هذه الأمة، فهو الذي بعثت على يديه، وخرجت على يديه، فالتاريخ بذلك على أربعة احتمالات: أن يؤرخ بمولده، ثانياً: أن يؤرخ بمبعثه، ثالثاً: أن يؤرخ بهجرته، ورابعاً: أن يؤرخ بوفاته، فهذه الأحداث الأساسية في حياة النبي ﷺ أما مولده فليس بأعظم من بقية المناسبات على الإطلاق، فإن البعثة أعظم من المولد، فإن مجرد الولادة لم يحدث فيها شيء عظيم للأمة بحد ذاتها، لكن المبعث حدث فيه نزول الوحي، وهو تحول عظيم، والهجرة فرقت بين الحق والباطل، وكانت بداية الانطلاقة للسيطرة الإسلامية على العالم، وأما وفاته ﷺ فإن التاريخ بها ليس فيه تلك المزية العظيمة، ويوقع من تذكر الأسف والحزن ما لا يحسن أن يبتدأ به، فبقينا بين المبعث والهجرة، فرأى الصحابة أن التحول الأعظم في التاريخ الإسلامي في تاريخ هذه الأمة، والحدث الأجل، والذي كان فعلاً بداية الانطلاقة الكبرى، والهيمنة الإسلامية هو هجرة النبي ﷺ فلذلك اقترحوا الابتداء بها.

فإن قيل: إن الهجرة في ربيع الأول حدثت، وقد ابتدأوا بمحرم، فقال العلماء: ابتدأوا؛ لأن العزم على الهجرة كان في محرم؛ إذ أن البيعة التي وقعت من الأنصار كانت في ذي الحجة، فابتدأ عزم النبي ﷺ على الهجرة من محرم، ثم إن عمر رأى مناسبة عظيمة جداً، وهي أن ذلك منصرف الناس من حجهم، وبعد الانصراف من الحج يكون البدء بهذا الشهر الكريم، ولذلك جمع عمر الصحابة، فقال بعضهم: أرَّخ بالمبعث، وقال بعض: أرَّخ بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، ثم قال: ابدأوا بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه، ووافقه عثمان وعلي -رضي الله تعالى عنهما-، ومشى على ذلك الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- وقد كانت هناك أسباب تاريخية ولاشك؛ ولذلك قال علي بل أرَّخ بالهجرة، فإنها فرقت بين الحق والباطل، وأظهرت الإسلام، وقد كان الإسلام في مكة سراً، وكان المسلمون مستضعفون، وأظهرت الإسلام، فاجتمع رأي المسلمين على الابتداء بسنة الهجرة، إذ هي السنة التي عز فيها الإسلام وأهله، فلذلك صارت السنة هجرية بالشهور القمرية التي أرادها الله، وكانت بدايتها من محرم، ونحن الآن على مشارف نهاية سنة هجرية، وابتداء سنة أخرى، والذي نريد أن نأخذه من العظة والعبرة من هذه النهاية، وتلك البداية القادمة.

أيها الأخوة: إن هذه السنين التي تمضي، هذه السنوات التي تمضي وتنقضي من أعمارنا لا بد أن يكون لنا معها وقفة حساب وتأمل، وإلا فإن مجرد انقضاء السنوات والأيام ليس بكافٍ في معرفة العبد للشيء دون أن يكون له تدبر فيه.

كن في الدنيا كأنك غريب

00:10:13

وبهذه المناسبة نريد أن نتدبر حديثاً شريفاً من أحاديث النبي ﷺ يتعلق بتصرم الأيام والشهور والسنين، وانقضائها، ومعرفة قيمة الزمن في حياة الإنسان المسلم، روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

يعلمنا النبي ﷺ في هذا الحديث قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي أن يتخذ الدنيا وطناً ومسكناً فيطمئن إليها، ولكنه ينبغي أن يجعل نفسه على جناح سفر، يهيئوها للرحيل، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِغافر: 39 اعبروها ولا تعمروها.

من ذا الذي يبني على موج البحر دارا تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا

ودخل رجل على أبي ذر في بيته، وكان معروفاً بالزهد، فجعل يقلب بصره في بيت أبي ذر، فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟ لا أرى أثاثاً، ولا فراشا، قال: إن لنا بيتاً نتوجه إليه، ليس هذا بيتنا الذي نجعل فيه متاعا، إن لنا بيت إقامة دائمة نتوجه إليه، قال: إنه لابد لك من متاع ما دمت هاهنا، فقال أبو ذر : إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه، لا يتركنا في المنزل.

ودخلوا على بعض الصالحين، فقلبوا بصرهم في بيتهم، فقالوا: إنا نرى لك بيت رحل، رجل مرتحل، فقال: أمرتحلٌ؟ لا وإنما أطرد طرداً، لا أرتحل بإرادتي، ولكن أؤخذ منها أخذا، أما المسافر يرتحل بإرادته.

قال بعض العلماء: "عجبت ممن الدنيا موليةٌ عنه والآخرة مقبلة إليه، يشتغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة".

وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الضعن، -أي: الانتقال- فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يضعن، فأحسنوا -رحمكم الله منها- الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".

أيها المسلمون: إن الناس على نوعين: مقيم، أو غريب، فالغريب لا يشعر بالراحة في مكان الغربة، ويريد أن يعود بأسرع وقت إلى وطنه، ولذلك شبه النبي ﷺ المسلم في الدنيا بهذه الحالة: كن في الدنيا كأنك غريبالغريب لا يطمئن إلى البلد يشعر بالوحشة، يريد الانتقال، يريد العودة، ولأنه غريب فإنه لا يهتم ببناء بيت ملك وشيء يستقر فيه، ولا يخطط على هذا الأساس، لا يخطط على الاستقرار، ولذلك تجد أكثر المغتربين في البلدان التي يعملون فيها ما يوفرونه يرسلونه إلى بلدانهم الأصلية، ولا يعمرون بيوتا، أو ينفقون فيها كثيراً، ويمشون الحال بأثاث يسير؛ لأنهم يريدون تجهيز البيت في بلد الإقامة حتى إذا انتهت فترة غربتهم رجعوا إلى بلدهم الأصلي، فوجدوا البيت قد عمر، والأثاث قد وضع، والأمور قد جهزت فيستقرون في بيوتهم.

كن في الدنيا كأنك غريبعبارة كلها مدلولات عميقة، لو سافرت إلى الخارج لتجلس أياماً أو شهوراً مدة يسيرة تستأجر، وتستأجر شيء بسيط، وتأخذ لك أشياء يسيرة؛ لأجل أن الفترة محدودة، فإذاً: كن في الدنيا كأنك غريبنزل نفسك منزلة الغريب، لا تتخيل الإقامة في بلد الغربة، ولا يتعلق القلب ببلد الغربة، بل القلب متعلق بموطنه الذي سيرجع إليه، ومرام الحال الرجوع إلى بلد الإقامة، ومن كان في الدنيا كهذه الحال التي وصفها النبي ﷺ فلا هم له إلا بالتزود لما ينفعه في وطنه، فلا ينافس أهل البلد التي هو غريب فيها، ولا يجزع من الذل عندهم؛ لأنه عما قريب سيفارقهم، ولذلك قال الحسن -رحمه الله-: "المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن، وللناس شأن، لما خلق آدم أسكن هو وزوجته الجنة، ثم أهبطا منها، ووعد الرجوع إليها وصالح ذريتهما، وعدوا كذلك فالمؤمن أبداً يحن إلى وطنه الأول، وحب الوطن من الإيمان.

كم منزل للمرء يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل

وقال ابن القيم -رحمه الله- معبراً عن هذا المعنى:

فحيا على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو( الشيطان الذي أخرجنا من الجنة وأبانا)

ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نئ وشقت به أوطانه فهو مغرم

 (يحن إلى البلد الأصلي)

وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكموا

وكان عطاء السليمي -رحمه الله- يقول في دعائه: "اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غداً بين يديك".

فإذاً هذه حال الدنيا، وهذا المثل الذي ينبغي أن يكون عليه، والمسافر يحصل زاد السفر، ولا يستكثر من متاع الدنيا، ولذلك أوصى النبي ﷺ بعض أصحابه أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب.

يعني: كحمل المسافر، فهل يحمل المسافر معه غرفاً وأثاثا ومتاعاً، أو يحمل حقائب يسيرة يخفف منها ما يستطيع لأجل أن لا تثقله في سفره ولا تشق عليه؟

قيل لمحمد ابن واسع -رحمه الله-: كيف أصبحت؟ قال: "ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة من الآخرة".

وقال الحسن: يا بن آدم، إنما أنت أيام مجموعة كل ما مضى يوم مضى بعضك، ابن آدم: إنما أنت بين مطيتين يوضعانك، يوضعك النهار إلى الليل، والليل إلى النهار حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا بن آدم خطرا، إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهى ذلك بهم إلى بلدهم.

وكتب بعض السلف لأخيه، يا أخي: يخيل لك أنك مقيم، بل أنت دائب السير تساق مع ذلك سوقاً حثيثاً، الموت موجه إليك، والدنيا تطوى من ورائك، وما مضى من عمرك فليس بعائد إليك، كيف يفرح  بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته.

قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة، قال: منذ ستين سنة أنت تسير إلى ربك؟ يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسيره؟ أتعرف معنى ما تقول؟ أنا لله عبد وإليه راجع، إنا لله وإنا إليه راجعون، راجعون وعائدون ولا شك، فمن علم أنه لله عبد وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول، فليعد للسؤال جوابا، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: وما هي؟ قال: تحسن فيما بقي من عمرك يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وبما بقي.

إذا أمسيت لا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت لا تنتظر المساء

00:20:05

أيها المسلمون: لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار، وتقريب الآجال، هذه سنة كاملة قد مرت، وانقضت من أعمارنا، ذهب واحد على سبعين من عمرك، أو واحد على ستين، أو واحد على خمسين، أو واحد على أقل أو أكثر، الله يعلم، ذلك إنما مضت مرحلة، وانتهت السنة بحلوها ومرها، وشرها وخيرها، وحسنها وسيئها، وكل ذلك مكتوب، ومسطور، ومحفوظ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌق:  18، بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ الزخرف: 80أين عاد؟ وأين الأقوام من قبلنا؟

قد صحب الدهر عاد وثموداً وقروناً بين ذلك كثيرة، فأصبحوا قدموا على ربهم، ووردوا على أعمالهم، وقد أحيط بنا من كل جانب.

ووصية ابن عمر في الحديث: "إذا أمسيت لا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت لا تنتظر المساء" ما معناها ؟ معناها كن قصير الأمل، لا تتأمل أن تعيش إلى الغد بل لا تتأمل، لا تأمل وأنت الآن في الظهر أن تعيش إلى الليل.

اجتمع ثلاثة من العلماء فقالوا لأحدهم: ما أملك؟ قال: ما أتى عليَّ شهر إلا ظننت أني سأموت فيه، فقال صاحباه: هذا أمل تنتظر عندك أمل شهر، فقال لأحدهم: فما أملك؟ قال: ما أتت عليَّ جمعة إلا ظننت أني سأموت فيها، فقال صاحباه: هذا أمل أين قصر الأمل؟ تأمل أسبوعاً، وما يدريك؟ فقال للثالث: ما أملك؟ فقال: ما أمل من نفسه في يد غيره؟ ماذا يكون أمل من نفسه بيد غيره؟ لا شيء، فإذاً الأمر كما يقول بعض السلف: ما نمت نوماً قط فحدثت نفسي أني سأستيقظ منه، وإنما ظني أني ربما أموت فيه.

وكان حبيب أبو محمد يوصي كل يوم ما يوصي به المحتظر عند موته، وكان يبكي كلما أصبح وأمسى، فتسأله امرأته، فيقول: أخاف إذا أمسيت ألا أصبح، وإذا أصبحت ألا أمسي.

وقال بعضهم لأهله: أستودعكم الله قبل أن ينام، كان يقول لأهله: أستودعكم الله، فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها.

وقال بكر المزني: إن استطاع أحدكم ألا يبيت إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه فليفعل، فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا، ويصبح في أهل الآخرة، ما أنزل الموت كنه منزلته من عد غدا من أجله، كم من مستقبل يوماً لا يستكمله، وكم من مؤمل لغدٍ لا يدركه.

كانت امرأة متعبدة في مكة إذا أمست قالت: يا نفس الليلة ليلتك لا ليلة لك غيرها، فاجتهدت، فإذا أصبحت قالت: يا نفس اليوم يومك لا يوم لك غيره، لا تعيشين بعده، اعملي ما تستطيعين، اجتهدي فاجتهدت، وهكذا دأبها.

ولما قدم بعض السلف رجلاً ليصلي إماماً رفض، فألحوا عليه، فقال: إني صليت بك صلاة الظهر لا أصلي بكم العصر، يتقدم غيري، فقال له موبخاً: أنت تحدث نفسك أنك تصلي صلاة أخرى، نعوذ بالله من طول الأمل، وطرق بعضهم باب أخيه، فسأل عنه، فقيل له: ليس هو في البيت، فقال: متى يرجع؟ فقالت بنت في البيت: من كانت نفسه بيد غيره من أين يعلم متى يرجع؟ هذه تربيتهم لبناتهم -رحمهم الله تعالى- وهذا معنى حديث النبي ﷺ: نعمتان مغبونان فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ، فحصل الغبن من أي شيء؟ من جهة أنهم لا يدرون القيمة، لا يدرون قيمة الزمن، ولذلك يذهب البلوت، والمسلسلات، ومتابعة الدش، وبرامجه، وقتل الوقت، والسهرات الفارغة، وتضييع الأوقات، وعلى الأرصفة، وفي الرقص، والغناء، وفي السفريات العابثة، تهدر الأوقات هدراً، أعظم من هدر المال، الوقت يهدر أعظم من هدر المال، ولذلك: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ، لا يعرفون القيمة، فهم ينفقون بلا حدود، وينفقون بلا تخطيط، ويصرفون بلا فائدة ولا عائد.

اللهم أصلح حالنا، اللهم أصلح شأننا، اللهم يسر أمرنا، ذكرنا بلقائك، اللهم اجعل لقائنا بك حسنا، واجعل قدومنا عليك قدوماً مفرحا، اللهم إنا نسألك أن تجعل لنا خلفة في الليل والنهار، وأن تجعلنا ممن أعنتهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:26:03

الحمد لله الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًاالفرقان: 62،الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَالأنعام: 1، أحمده واشكره، واثني عليه ولا أكفره، هو الذي خلقنا من العدم واوجدنا، وانعم علينا من النعم، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌإبراهيم: 34،  وأشهد أن محمداَ رسول الله الهادي من الضلالة، والمنقذ من الغواية، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم صلي على محمد كما تحب وترضى، وارضَ عن آله وأصحابه الطيبين الذي نشروا سنته وتمسكوا بالعروة الوثقى، وارضَ عن التابعين وعنا يا أرحم الراحمين.

المبادرة بالأعمال الصالحة

00:27:04

عباد الله: في وصية ابن عمر العظيمة: "وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك"، تعليم باغتنام الأعمال الصالحة في حال الصحة، قبل أن يحول بين الإنسان وبين الأعمال الصالحة المرض والسقم، واغتنام الحياة قبل أن يحول بين الإنسان والاستفادة منها الموت.

فانظروا رحمكم الله، إلى المرضى على أسرة المستشفيات لا حراك بهم، لا يستطيعون قياماً إلى الصلاة، ولا وقوفاً بين يدي الله، ولا يستطيعون صياماً فقد أقعدهم المرض، وأصحاب الأمراض المزمنة كثيرون، وهم شواهد على نعمة الله على الأصحاء، المرضى شواهد على نعمة الله على الأصحاء.

فلما يقول لنا ابن عمر : "وخذ من صحتك لسقمك" يعني: تجهز في حال الصحة، واستعد بالأعمال، واجتهد قبل لا تدري لعله يأتيك سقما، يأتيك مرض، يأتيك شيءٌ مقعد، وهذا معنى حديث النبي ﷺ: بادروا بالأعمال يعني: اجتهدوا فيها وبادروا إليها قبل أن يكون مرض مقعد، أو فقر مشغل، أو موت يقطع عن العمل، ماذا ننتظر الفقر المنسي، أو الغنى المطغي، أو المرض المفسد، أو الهرم المفند، أو الموت المجهز، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر؟

لقد وعظنا الله في القرآن فقال: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَالمؤمنون: 99، 100.

عباد الله: حياة المسلم خير، حياة المسلم نعمة، حياة المسلم طاعة، الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة من الأعمال بتسبيحه أو ركعة، ومنهم من لعله يسأل الرجعة إلى الدنيا، ولا يقدر فقد حيل بينهم وبين العمل، ورؤيَ بعض الصالحين في المنام يقول: قدمنا على أمر عظيم نعلم ولا نعمل، وأنتم تعملون ولا تعلمون، والله لتسبيحة أو تسبيحتان أو ركعة أو ركعتان في صحيفة أحدنا أحب إليه من الدنيا وما فيها، كل يوم يعيش المؤمن غنيمة؛ لأنه يصلي ويصوم ويتصدق ويستغفر ويجتهد بالأعمال الصالحة، وأما الفاسق والكافر فعمره ضرر عليه، ولو أخذه الله ولم يمهله ربما يكون في ذلك خير له.

أيها المسلمون: يا عباد الله: ذكروا أنفسكم، نذكر أنفسنا جميعاً، مما مضى من العمر وإن فات وإن طالت أوقاته فقد ذهبت لذاته، وبقي تبعاته ومسؤولياته، وكأنه لم يكن إذا جاء الموت، أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ۝ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ ۝ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ الشعراء: 205-207.

أيها المسلمون: يا أبناء الخمسين: زرعٌ دنا حصاده، يا أبناء الستين: هلموا إلى الحساب، يا أبناء السبعين: ماذا قدمتم وماذا أخرتم؟ ويا أبناء الأربعين: اجتهدوا إذا أتتك الأربعين فخذ حذرك، ويا أبناء العشرين: كم مات من أقرانكم وتخلفتم؟ ويا أبناء الثلاثين: أصبتم بالشباب على قرب من العهد فما تأسفتم، ويا أبناء الأربعين: ذهب الصبى وأنتم على اللهو وقد عكفتم، ويا أبناء الخمسين: تنصفتم المائة وما أنصفتم، ويا أبناء الستين: أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم أتلهون وتلعبون وقد أسرفتم.

عباد الله: يا من تمر عليه سنة بعد سنة، وهو مستثقل في نوم الغفلة والسنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا فعام، يا من يشاهد الآيات والعبر فكلما توالت عليه الأيام والشهور ولا ينتفع بما يسمع من الآيات والسور، ولا بما يرى من عظائم الأمور، ما الحيلة في من سبق عليه الشقاء في الكتاب المسطور؟ فإنه لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، من لم يجعل الله له نوراً فماله من نور.

عباد الله: على مشارف هذه السنة ونهايتها، وابتداء العام القادم نذكر أنفسنا بهذه التذكرة، ونجدد العهد مع الله –تعالى- بأن نتوب إليه وأن ندخل في العام الجديد ونحن تائبون، وقد وقدنا العزم على العمل فهل نحن عاملون، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَالنحل: 90، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمة يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَالعنكبوت: 45.