الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد:
خصائص ليلة القدر
فها هو الشهر قد اقتربت نهايته، والخيل إذا قاربت نهاية المضمار، أخرجت أحسن ما عندها، وكان النبي ﷺ يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها؛ لأنهﷺ كما قالت عائشة: "كان يعتكف فيها، ويتحرى ليلة القدر خلالها، إنه إيقاظ للأهل، وشد للمئزر"، واجتهاد في العبادة، وإلحاح بالدعاء، وتلاوة للكتاب، وذكر للرب، وإخبات، وتضرع، وتوبة، إنه رجاء الله أن يعطي الأجر والثواب ويجزل، فهو كريم ، وفي هذه العشر ليلة القدر التي خصها الله -تعالى- بخصائص منها:
أنه نزل فيها القرآن كما قال -تعالى-: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِالقدر: 1، وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍالدخان: 3، ووصفها بأنها خير من ألف شهر، كما في قوله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍالقدر: 3، خير من عبادة ثلاثة وثمانين سنة، لما علم ربنا قصر أعمارنا في هذه الأمة بالنسبة لمن سبقنا من الأمم عوضنا خيراً كثيراً ، فجعل لنا مواسم تضاعف لنا الأعمال أضعافاً مضاعفة، ومن ذلك هذه الليلة، ووصفها بأنها مباركة، فقال: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍالدخان: 3، وكذلك فإنه : أخبر بتنزل الملائكة والروح جبريل ، ولشرفه خصه بالذكر، فيكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، الملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحلق الذكر، ووصفها بأنها سلام، أي: سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو أذى، وتكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم العبد من طاعة الله .
وسادسا: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍالدخان: 4، أي: يفصل من اللوح المحفوظ إلي الكتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وكل أمر محكم لا يبدل فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، وكل ذلك مما سبق علم الله -تعالى- به وكتابته له ولكن يظهر للملائكة ما سيكون فيها، ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، يفصل من اللوح المحفوظ إلى ألواح الملائكة، ماذا سيحدث في هذه السنة المقبلة من حياة، ووفاة، ورزق، وصحة، ومرض، وأحداث، كل ذلك يفصل في هذه الليلة.
وسابعا: أن الله تعالى يغفر في ليلة القدر لمن قامها إيمانا واحتسابا ما تقدم من ذنبه، كما قال ﷺ: ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه إيمانا بالله، وتصديقا بوعده، واحتساباً للثواب، وطلبا للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه، وفي هذا ترغيب عظيم لقيام هذه الليلة، وابتغاء وجه الله بذلك.
تحري ليلة القدر
ولهذا كان النبي ﷺ يلتمس هذه الليلة ويتحراها مسابقة منه إلى الخير، وهو القدوة للأمة ﷺ، فقد قال أبو سعيد الخدري : إن رسول الله ﷺ اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير، قال: فأخذ الحصير بيده، فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه، فكلم الناس، فدنوا منه، فقال: إني اعتكفت العشر الأول، ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم أتيت، فقيل لي: إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف.
ما معنى ليلة القدر؟ ما هو القدر؟ ذات قدر وعظم، ذات منزلة شريفة لهذه الخصائص التي اختصت بها، والذي يحييها يصير ذا قدر أيضاً، وقيل القدر تضييق من قوله -تعالى-: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُالفجر: 16، يعني: ضيقه؛ لأن الأرض تضيق بالملائكة؛ لأن الملائكة في تلك الليلة أكثر من عدد الحصى، تشريف للطائعين والعابدين ينزل الله ملائكته إلى الأرض في هذه الليلة ترحيباً وتشريفاً لهؤلاء القانتين العاكفين الذاكرين، وقيل: القدر بمعنى القَدَر؛ لأنه يقدر فيها أحكام السنة، كما قال: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍالدخان: 4، ويكفي في شرفها أن الله أنزل في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة، ذكر فيها شرف هذه الليلة، وعظم قدرها. ليلة القدر في العشر الأواخر، كما قال النبي ﷺ: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وفي أوتار العشر آكد، لحديث النبي ﷺ: تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، وقد اختلف العلماء في تعيينها أي ليلة هي من ليالي العشر؟ بناء على اختلاف الأدلة فيها، وقد قال النبي ﷺ: وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين، وفي رواية لمسلم: وإن أريتها ليلة وتر، وأني أسجد صبيحتها في ماء وطين، قال أبو سعيد الخدري: "مطرنا ليلة إحدى وعشرين فوكف المسجد في مصلى رسول الله ﷺ، صار الماء ينزل من السقف في جهة الإمام، ومكان النبي قال: فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح، ووجهه مبتل طينا وماء"، وورد في رواية أخرى عن أبي سعيد، لكنه قال: "فمُطرنا ليلة إحدى وعشرين"، وفي رواية قال ﷺ: التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى، وأرجى ليالي الأوتار ليلة سبع وعشرين، حلف على ذلك أبي ابن كعب لا يستثني، قال زر بن حبيش: فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله ﷺ: أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها.
ورجح بعض العلماء أنها تنتقل وليست في ليلة معينة كل عام، قال النووي-رحمه الله-: "وهذا هو الظاهر المختار لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك، ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها.
وإنما أخفى الله -تعالى- هذه الليلة ليجتهد العباد في طلبها، ويجدّوا في العبادة، كما أخفى ساعة الجمعة وغيرها.
وقد كان سبب الاخفاء فيه عبرة، وهو تلاحي رجلان من المسلمين، فرفع العلم بتعيينها لأجل ما حصل من المخاصمة بينهما، وهذا من شؤم الاختلاف والمخاصمة والتلاحي بين المسلمين، لكن لعل في ذلك خيراً؛ لأن الناس يجتهدون في العشر كلها بدلاً من ليلة واحدة يجتهدون فيها ثم يتركون البقية، فيزدادون بذلك أجراً، إذا اجتهدوا في كل العشر.
قالت عائشة -رضي الله عنها-: يا رسول الله: أرأيت أن وافقت ليلة القدر ما أقول، قَالَ: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.
عباد الله: لا مناص إلا بالاجتهاد في العبادة، والتضرع إلى الله وكذلك الزيادة من ذكره، والحرص والمبالغة والسعي لمرضاته في هذه الليالي الشريفة فيما تبقى من الشهر.
أحكام زكاة الفطرة
ثم ستأتينا -إن شاء الله- زكاة الفطر هذه الصدقة العظيمة التي تجب في الفطر من رمضان، أضيفت الزكاة إلى الفطر؛ لأنه سبب وجوبها، فإذا أفطرنا بعد رمضان فلابد من تقديم زكاة الفطر شكراً لله .
حكمها: فرض، لقول ابن عمر: "فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر"، ولإجماع العلماء على أنها فرض.
وأما حكمتها: فقد قال ابن عباس : "فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللهو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"، أي: لا تحسب زكاة فطر، وهكذا يكون إخراجها طهرة، أي: تطهيراً لنفس من صام رمضان، والرفث هو الفحش من الكلام، وطعمة للمساكين، أي: طعام يأكلونه يوم العيد، من أداها قبل الصلاة، قبل صلاة العيد، فهي زكاة مقبولة، أي: زكاة صدقة الفطر، ووقت وجوبها: غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، فإذا غربت شمس آخر يوم من رمضان وجبت زكاة الفطر، فمن تزوج، أو ولد له ولد، أو أسلم قبل غروب الشمس فعليه الفطرة، إن كان أسلم، أو ولد الولد بعد غروب الشمس، لم تلزمه لم تجب عليه، وكذلك فإن من مات بعد غروب الشمس ليلة الفطر فعلية صدقة الفطر تخرج من تركته، وأما من مات قبل غروب الشمس فإنها لا تجب عليه حين إذن، تجب زكاة الفطر على المسلمين عن ابن عمر قال: فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاع من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين.
قال الشافعي -رحمه الله-: وفي حديث نافع دلالة على أن رسول الله ﷺلم يفرضها إلا على المسلمين، وذلك موافقة لكتاب الله ، فإنه جعل الزكاة للمسلمين طهوراً، والطهور لا يكون إلا للمسلمين، إذ أن الزكاة لا تطهر كافراً، تجب على المستطيع.
قال الشافعي -رحمه الله-: وكل من دخل عليه شوال وعنده قوته، وقوت من يقوته يومه، أي: يوم العيد، وما يؤدي به زكاة الفطر عنه وعنهم أداها عنهم وعنه، وإلا يكن عنده إلا ما يؤدي عن بعضهم أداها عن بعض، وإن لم يكن عنده إلا سوى مؤونة ومؤونتهم يومه، أي: يوم العيد فليس عليه، ولا على من يقوت عنه زكاة الفطر.
هذا الكلام ربما يقول بعض الناس: من الذي ليس عنده اليوم في البيت من الذي عنده طعامه فقط بغير زيادة، كل الناس في البلد عندهم طعام يوم العيد وزيادة حتى الفقير عنده زيادة يخرج زكاة فطره عنه وعن أولاده، لكن لو ابتعدنا قليلاً، وألقينا نظرة على ما يحدث اليوم لإخواننا في فلسطين مثلاً، تحت الحصار يوجد الآن أعداد من المسلمين ليس عندهم طعام يكفيهم، فضلاً أن يخرجوا زكاة الفطر، إذاً هناك أعداد من المسلمين ليس عندهم زيادة على قوت اليوم، وقد لا يجدون أكلاً في بعض الأيام تحت الحصار نفذت المؤن والأطعمة، فلا يستغربن مستغرب أن يقال: إذا لم يكن عنده إلا ما يطعمه نفسه وأولاده سقطت عنه، وإذا كان عنده زيادة لبعض الأولاد أخرج عن البعض دون البعض الآخر، هذه حالات متصورة واقعية اليوم في أرض فلسطين، وغيرها من أنحاء العالم الإسلامي، يخرجها الإنسان المسلم عن نفسه، وعمن ينفق عليهم من الزوجات والأقارب إذا لم يستطيعوا اخراجها عن أنفسهم، فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجوها هم؛ لأنهم المخاطبون بها أصلاً، فإذا أرادت المرأة الموظفة أن تخرجها عن نفسها لا يمنعها الزوج، وإذا أراد الولد المقتدر أن يخرجها عن نفسه لا يمنعه الأب، لكن إن أخرج عنه صحت، ولو أخرجت الزوجة عن زوجها، وأخرج الابن عن أبيه صح ذلك، وقد قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر صاع من تمر، أو صاع من شعير، على العبد، والحر، والذكر، والأنثى، والصغير، والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة"، يخرجها الإنسان عن نفسه وزوجته، ولو كان لها مال هو المكلف بالإخراج عنها أصلاً، هو مكلف بالإنفاق عليها شرعاً، ومكلف بزكاة فطرها أيضاً هذا هو الأصل، ويخرج أيضاً عن أبويه الفقيرين إذا كان يعيلهما يخرج عنهما أيضاً، وكذلك فإن اليتيم والمجنون كذلك تخرج الزكاة عنهما من قبل وليهما.
قال مالك -رحمه الله-: يؤدي الوصي زكاة الفطر عن اليتامى الذين عنده من أموالهم وإن كانوا صغارا، والذي أفطر في رمضان لعذر يخرج زكاة الفطر عن نفسه أيضاً، ولو ما صام؛ لأن تركه للصيام لعذر ككبير السن، والمريض مرضاً مزمناً، فإنه يخرج زكاة الفطر عن نفسه أيضاً.
كم هي؟ إنها مقدار صاع من طعام في صاع النبي ﷺ؛ لحديث أبي سعيد الخدري قال: كنا نعطيها في زمن النبي ﷺ صاعاً من طعام، والوزن -وزن الصاع- يختلف باختلاف ما يملأ به الصاع، فوزن صاع التمر يختلف عن وزن صاع الرز، يختلف عن وزن صاع القمح، يختلف عن وزن صاع الشعير، وهكذا باختلاف كثافة المواد التي يملأ بها الصاع، فهو وحدة حجمية، والمكيال مكيال أهل المدينة، كما أخبر النبي ﷺ، فالصاع الذي كان موجوداً في المدينة في وقت النبي ﷺ هو الصاع النبوي الذي تخرج بناءً عليه هذه الصدقة، وإذا قال هو: كم بالكيلو غرامات؟ ثلاثة كيلو غرامات من الرز تقريباً عن الشخص الواحد، من أي جنس تخرج هذه الزكاة؟ إنه من طعام الآدميين من تمر، أو بر، أو رز، أو غير ذلك، وقد جاء في حديث ابن عمر في الصحيحين أن رسول اللهﷺ: "فرض زكاة الفطر، صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين" وكان الشعير يوم ذاك من طعامهم" رواه البخاري.
وعن أبي سعيد الخدري قال: كنا نخرج في عهد رسول الله ﷺ يوم الفطر صاع من طعام، وقال أبو سعيد: وكان طعامنا الشعير، والزبيب، والأقط-اللبن المجفف-، والتمر، فتخرج من غالب قوت البلد الذي يستعمله الناس، وينتفعون به سواء كان قمحاً، أو ذرة، أو رزاً، أو تمراً، أو عدساً، ونحو ذلك، أما إخراجها مالاً فلا يجوز؛ لأن الشارع فرضها طعاماً لا مالاً، وحدد جنسها وهو الطعام، فقال: فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر صاعاً من طعام، لم يقل: درهماً أو درهمين ولا ديناراً، لم يقل: مالاً، وإنما قال: صاعاً من طعام، فلا يجوز العدول عمَّا فرضه رسول اللهﷺ إلى غيره، وإذا أخرجها نقوداً صارت خفية، والشارع يريدها ظاهرة تجمع أمام الناس يأتون بها في المساجد وغيرها، والصحابة أخرجوها طعاماً، ونحن نتبع ولا نبتدع، ثم إخراج زكاة بالطعام ينضبط بهذا الصاع، أما إخراجها نقوداً فلا ينضبط، فعلى سعر أي شيء يخرج؟ ثم قد تظهر فوائد لإخراجها قوتاً كما في حالات الاحتكار، وارتفاع الأسعار، والحروب، والغلاء، فقد يجد الناس النقود، ولا يجدون ما يشترون به، احتكر التجار الحبوب، وارتفعت الأسعار جداً، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان.
ولو قال قائل: النقود أنفع للفقير، ويشتري بها ما يشاء، وقد يحتاج شيئاً آخر غير الطعام، ثم قد يبيع الفقير الرز ويخسر فيه.
فالجواب عن هذا كله: أن هناك مصادر أخرى في الشريعة لسد احتياجات الفقراء في المسكن، والملبس، وغيرها من زكاة المال، والصدقات العامة، والهبات فلتوضع الأمور في نصابها، ولنلتزم بما حدده الشارع الذي فرضها صاعاً من طعام طعمةً للمساكين، تؤدى قبل صلاة العيد، كما في الحديث أن النبيﷺ أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، ووقت الدفع يوجد له وقت استحباب، ووقت جواز، وقت استحباب صباح يوم العيد قبل الذهاب إلى المصلى، ولهذا يسن تأخير صلاة العيد يوم الفطر ليتسع الوقت لمن عليه إخراجها، ويفطر قبل الخروج، أما وقت الجواز فهو قبل العيد بيوم أو يومين، إذن يجوز إخراجها يوم الثامن والعشرين من رمضان، ويوم التاسع والعشرين من رمضان؛ لأنه يحتمل أن يكون رمضان تسعاً وعشرين.
عن نافع قال: كان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى أنه كان يعطي عن بني، نافع يقول: أن ابن عمر كان يعطي الزكاة عن أبنائه، إذاً يجوز أن يخرج الإنسان صدقة الفطر عن غيره، ولو من غير أقاربه، إذا رضي المخرج عنه، إذا رضي أن تخرج عنه فأخرج، فأنت مأجور وهو تجزأه هذه الصدقة، وكان ابن عمر يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين.
ومعنى قوله: "الذين يقبلونها" أي: الجباه الذين نصبهم الإمام لجمع زكاة الفطر، وعن نافع أن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو بثلاثة، بيومين إذا كان الشهر تسعاً وعشرين، وبثلاثة إذا كان الشهر ثلاثين.
ويحرم تأخيرها بعد صلاة العيد وتكون قضاءً، واستدل لذلك بحديث: "من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".
اللهم إنا نسألك أن تعيننا على أداء ما فرضته علينا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا ممن قبلت عملهم، ورفعت درجتهم، وغفرت ذنوبهم يا أرحم الراحمين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ومصطفاه من خلقه، وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وذريته وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: يجب أن تصل زكاة الفطر إلى مستحقها قبل صلاة العيد، فلو لم تجد الفقير ووجدت له وكيلاً فدفعتها إلى الوكيل جاز ذلك، ثم هو يوصلها إليه، تصل إلى الفقير أو وكيله قبل صلاة العيد.
لا تنس يا عبد الله، وإذا وكل المزكي شخصاً بإخراج الزكاة فلا تبرأ الذمة حتى يتأكد أن الوكيل قد أخرجها ودفعها فعلاً إلى مستحقها، ويجوز توكيل الثقات، وإعطائهم المال ليشتروا به زكاة، المهم أن تصل في النهاية إلى الفقير طعاماً كما فرضها رسول الله ﷺ تعطى زكاة الفطر إلى الأصناف الثمانية الذين تصرف إليهم زكاة المال، واختار بعض العلماء، وهو قول مالكية، ورواية عن أحمد، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، تخصيصها بالفقراء والمساكين بالذات.
والأفضل أن يتولى الإنسان قسمها بنفسه، قال الشافعي: وأختار قسم زكاة الفطر بنفسه على طرحها عند من تجمع عنده، ويجوز أن يوكل ثقة بإيصالها إلى مستحقيها، أما إن كان غير ثقة فلا.
قال عبدالله بن المؤمل: سمعت ابن أبي مليكة ورجل يقول له: إن فلاناً أحد المفتين أمرني أن أطرح زكاة الفطر في المسجد، فقال ابن أبي مليكة: أفتاك العلج بغير رأيه، اقسمها، أي: تولى أنت قسمتها بنفسك، فإنما يعطيها ابن هشام -أي الوالي- أحراسه، ومن شاء أن يتلاعب فيها، فحثه على قسمها بنفسه ليتأكد من وصولها إلى مستحقيها، ولا بأس أن تعطى صدقة فطر العائلة لمسكين واحد، ولا بأس أن تقسم زكاة فطر العائلة على عدة مساكين.
قال ابن قدامة -رحمه الله-: فأما زكاة الفطر فإنه يفرقها في البلد الذي وجبت عليه فيه، أين أفطر الصائم، يخرجها في البلد الذي أفطر فيه سواءً كان ماله فيه، أو لم يكن؛ لأن سبب وجوب الزكاة الفطر، فينظر أين أفطر ففرقت في البلد الذي سببها فيه، وإن كان شخص يعمل هنا في هذه البلد وآهله في بلد آخر، وهو مسؤول عنهم سيخرج عنهم زكاة الفطر فإن أخرج عنهم وعنه هنا صح ذلك، وإن أخرج عن نفسه هنا وأرسل لأهله مالاً يشترون به طعاماً لتوزيعه هناك فلا بأس بذلك.
اختصاص هذه الأمة بعيد الأضحى وعيد الفطر
عباد الله: والعيد وما أدراكما العيد الذي يعتاد ويتكرر، هذه الأعياد شعارات لكل الأمم سواء كانت كتابية، أو وثنية، أو موحدة، وإقامة الأعياد ترتبط بغريزة وجبلة وشيء طبع الناس عليه، فكل الأمم يحبون أن تكون لهم مناسبات يحتفلون فيها، ويجتمعون، ويظهرون البهجة والسرور، ولذلك لا تجد ملة بوذية هندوسية وثنية إلا وتجد عندهم أعياداً.
الأعياد من خصائص الملل، والنحل، والمذاهب، والأديان، والأمم، ولذلك نهينا عن مشاركة غيرنا في أعيادهم، لأن قضية العيد قضية خصائص، فلا يجوز لنا أن نحتفل بعيد آخر غير العيد الذي شرعه الله لنا.
فكل يوم محدد في السنة يعود ويتكرر ويحتفل فيه تظهر فيه علامات البهجة والسرور، هذا عيد أيما كان سواءً كان القرقيعان، أو غيره، فلا يجوز الاحتفال به حرام، يوم معين في السنة يعود ويتكرر، وفيه مظاهر الابتهاج والاحتفال فلا يجوز الاحتفال به، ولا المشاركة فيه، سواءً كان من تقليد أو من ملة كافرة أو غير ذلك.
ما عندنا شيء يعود ويتكرر نحتفل به إلا عيد الفطر وعيد الأضحى، وأي مناسبة أخرى تعين في يوم معين في السنة تعود وتتكرر يحتفل فيها فهي بدعة وحرام، وهي عيد شاء من شاء، وأبى من أبى، فهي عيد لا تجوز المشاركة فيها ولا الاحتفال بها.
وللنصارى أعياد ستأتي فمنها عين رأس السنة، وعيد الشكر، وعيد العطاء، ونحو ذلك مما يسمونه، كرسمس، نيويير، سانكفن وغيرها، كلها أعياد يحرم علينا المشاركة فيها، هذه قضية تميز قضية خصائص.
قال أنس : قدم رسول الله ﷺ ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجهلية، فقال رسول الله ﷺ: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر، هذا العيدان من شعائر الله التي ينبغي إحياءها، وإدراك مقاصدها، واستشعار معانيها، وهي شيء يميزنا نحن عن الأمم الأخرى، من خصائص عقيدتنا، فينبغي مراعاتها، ويحرم صوم يومي العيد.
أحكام وآداب العيد
وصلاة العيد ذهب بعض العلماء إلى وجوبها، وهو مذهب أبي حنيفة، واخيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقالوا: أن النبي ﷺ واظب عليها، ولم يتركها مرة، واحتجوا بقوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْالكوثر: 2، أي: صلاة العيد والنحر بعده، وأن النبي ﷺ أمر بإخراج النساء لشهادتها حتى التي ليس عندها جلباب تستعير جلباباً.
وقال بعض العلماء: إنها فرض كفاية، وهو مذهب الإمام أحمد، وقال بعضهم إنا سنة مؤكدة، واحتجوا بحديث الأعرابي، فينبغي على المسلم أن يحرص على حضور صلاة العيد، وعلى شهودها، خصوصاً وأن القول بوجوبها قول قوي، ويكفي ما في شهود العيد من الخير والبركة، والأجر العظيم، والاقتداء بالنبي ﷺ.
ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى، كما قال عمر ، إلى المصلى فأول شيء يبدءون به الصلاة، إذا غربت شمس آخر يوم من رمضان، يبدأ التكبير وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْالبقرة: 185، فإذا أكملتم العدة فكبروا الله إلى أن يخرج الإمام على الناس في المصلى، هذه التكبيرات يكبر كل واحد بمفرده، الله أكبر ويحمد الله ويثني عليه في تكبيرات صلاة العيد، ويصلي على النبي ﷺ ويدعو، ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي ﷺ ويدعوا، هكذا بين التكبيرات في صلاة العيد.
ولا نافلة في المصلى قبل صلاة العيد لا نافلة، أما إذا صلوها في مسجد من المساجد فإن للمساجد تحية ركعتان ليس لأجل العيد لكن لأجل المسجد، فليس لها سنة قبلها، والمشروع لمن جلس ينتظر صلاة العيد أن يكثر من التهليل والتكبير؛ لأنه شعار ذلك اليوم، يخرج العواتق وذوات الخدور والحيض وليشهدن الخير، ودعوة المؤمنين، ويعتزل الحيض المصلى كما قال النبي ﷺ.
العاتق التي بلغت الحلم أو قاربت، أو استحقت التزويج، وذوات الخدور المستورات في البيوت من الأبكار، وحتى الحيض يخرجن للصلاة بغير زينة، الزينة في العيد للرجال، والنساء غير متزينا.
والاغتسال من آداب العيد، والأكل قبل الخروج تمرات سنة يأكلهن وتراً سداً لذرية الزيادة في الصوم، والتكبير السنة العظيمة التي يستحي منها عدداً من الناس مع أنه يجهر بها، ويعلى فيها ذكر الله، والتهنئة الطيبة التي يتبادلها الناس بينهم أمر طيب، والتجمل للرجال والذهاب من طريق، والعودة من طريق آخر.
العيد وأحوال المسلمين
ليت شعري كيف يعود هذا العيد، ويأتي على أقوام من المسلمين يرزحون تحت الحصار؟ كيف يأتي هذا العيد على قوم من المسلمين في مجاعة؟ كيف يأتي هذا العيد على قوم من المسلمين وهم بأمس الحاجة إلى عون إخوانهم؟ هذه أحوال إخواننا في فلسطين هذه الأيام خوف ورعب، أصيب الناس بالأمراض نتيجة للحزن والهم، أصبح الأخ لا يرى أخاه، والأب لا يرى ابنه، والزوج لا يرى زوجته أحياناً بسبب الحواجز العسكرية والإغلاقات التي تمتد إلى أيام بل وأسابيع، رجل عجوز ضل في هذه الظروف في البيت ذهبت زوجته لتزور ابنتها التي تبعد عنها ربع ساعة، لم تستطع بسبب الحواجز، وبقي ذلك الذي أصيب بمرض السكري راقداً وحده في البيت ليس عنده من يخدمه، ليت شعري كيف يأتي العيد على هذا المسكين؟ يعيشون حياة قاسية جداً، المواد الغذائية لا تكاد تصل إليهم، لا يطبخون على النار على الحطب لمنع أنابيب الغاز من دخول القرى؛ لأن الصهاينة قالوا: إن فيها أسلحة، هناك أماكن ممنوع عنها الطعام، ودخول المؤن يحاصرها اليهود، وحواجز ينصبونها، ويأمرون الناس بخلع ملابسهم ويعرونهم ويجردونهم لا يراعون حر صيف ولا برد شتاء، وتبدأ الاعتقالات عند الحواجز، وتهان النساء في تلك الحواجز، لما أنزلت ركاب سيارة أجبرهم اليهود على المشي بسرعة والركض، وامرأة مسكينة مريضة كبيرة في السن لا تستطيع المشي بالسرعة، فقاموا بإطلاق الرصاص لإخافتها فأخذت تجري فسقطت ميتة، يحجز الدجاج عند المعابر فلا يسمح لهذه الشحنة بالدخول إلا بعد أن تنبعث منها الروائح الكريهة.
أما مرض الفشل الكلوي، والكبد الوبائي بسبب الماء الذي لا يصلح حتى للبهائم، فإنه شيء منتشر والعلاج شحيح ومكلف، ذهب شاب وله أربع أخوات مصابات بالكبد الوبائي، فوجد الإبرة بمائة دولار والشاب لا يملك درهماً، واضطر للذهاب لمصر لجلب الدواء الرخيص البودرة بدلاً من الإبر التي لا يستطيع توفيرها، فيحتاج إلى سفر ليذهب فيعود للعلاج.
وكذا يحبس الطلاب عن جامعاتهم، والأولاد عن مدارسهم، مسلسل يومي من التعذيب والإهانة، ثم يأتينا سؤال من أرض فلسطين لقد خرج رجالنا للعمل، ثم نصب اليهود الحواجز فأخذوهم منعوهم لا ندري متى سيعود إلينا أزواجنا، كيف نفعل بالنسبة لزكاة الفطر؟ هذا سؤال من الأسئلة الآن كيف نفعل بزكاة الفطر والرجال المكلفون بالإنفاق الذين سيخرجونها لا ندري عنهم في اعتقال، في حبس، في الطريق، كيف نفعل بزكاة الفطر؟ تسأل المرأة والزوجة والأم في البيت.
عباد الله: إن حال المسلمين عصيبة والله، تحتاج إلى توبة إلى الله، وإنابة إليه، وبذل المعروف، وأداء الصدقة، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، ومد اليد التبرع.
عباد الله: إن إخوانكم بأمس الحاجة إلى مساعدتكم.
اللهم إنا نسألك برحمتك أن ترحم هؤلاء المستضعفين، اللهم خفف معاناتهم، وارزقهم الصبر على ما أصابهم، أفرغ عليهم صبراً، وثبت أقدامهم، وانصرهم على اليهود الكافرين، اللهم كن معهم ولا تكن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم إنا نسألك أن تطعم جائعهم، وأن تحمل حافيهم، وأن تكسوا عاريهم، يا سميع الدعاء، اللهم أخز اليهود، اللهم زدهم عذاباً فوق العذاب، اللهم زدهم عذاباً فوق عذابهم بالأمس يا رب العالمين، اللهم اجعل عذابهم أضعافاً، فرق شملهم، وشتت جمعهم، واجعل دائرة السوء عليهم، وأخرجهم من بيت المقدس أذلة صاغرين، اللهم لا تذقهم أمناً ولا طعاماً، أشدد وطأتك عليهم، اللهم اجعلها عليهم سني كسني يوسف، اللهم نكس راية أهل الصليب، واجعل أمرهم في سفال، وشأنهم إلى زوال، اللهم قوض دولهم، وفرق ولاياتهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم إنا نسألك الفرج العاجل لهذه الأمة يا أرحم الراحمين، اللهم تقبل صيامنا وقيامنا واغفر لن ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَالصافات: 180 - 182.