الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اغتنام ليالي رمضان بالدعاء
عباد الله: ونحن في الليالي الأخيرة من شهر رمضان، وهي أعظم الليالي، وفيها الليلة التي طلب النبي ﷺ ممن كان يريد أن يتحرى ليلة القدر أن يجتهد فيها، وكذلك المسلم إذا شارف الشهر على الانتهاء يزيد في الطاعة، ويقبل على الله زيادة.
ومن أعظم العبادات التي تكون في مثل هذه الأيام التوجه لله تعالى بالدعاء، وقد سبق الكلام عن بعض الآداب والشروط المتعلقة بالدعاء، وهنا مزيد حول هذه العبادة العظيمة التي أمر الله بها، وهي من صميم التوحيد، التوجه إلى الله، سر الدعاء: توجه العبد إلى ربه، يطلب منه، وتوحيد هذه الوجهة، فهو لا يطلب من غيره، يدعوه خوفاً وطمعاً، رغباً ورهباً، هكذا ينبغي أن يكون المسلم.
آداب الدعاء
ومن الأمور المهمة وهو أعظمها الإخلاص لله في الدعاء، هو أوكد الآداب، بل هو الشرط العظيم في هذه العبادة، فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَسورة غافر14. هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ سورة غافر65. ولذلك فهم العلماء من قوله تعالى: فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أن الإجابة مشترطة بالإخلاص.
قال ابن مسعود : "إن الله لا يقبل من مسَّمع ولا من مراء ولا لاعب ولا داعٍ إلا داعياً دعاءً ثبتاً من قلبه".
والإخلاص في الدعاء يستوجب الاعتقاد أن المدعو هو القادر وحده على قضاء حاجتك، أن يعلم الداعي ألا يقدر على حاجته إلا الله، وأن كل الوسائط في قبضته سبحانه، ومسخرة بتسخيره، هذا هو الأمر العظيم الذي يجعل الدعاء مستجاباً، ثم التوبة والرجوع إلى الله؛ لأن المعاصي من الأسباب الرئيسة في منع قبول الدعاء، فينبغي للداعي أن يبادر إلى التوبة والإنابة قبل دعائه، ليكون مؤهلاً لأن يقبل الله دعاءه.
وقد كان الأنبياء يحثون أممهم على التوبة والاستغفار، ويخبرونهم باللغة التي يفهمها أهل الدنيا، لغة المادة والمال والزرع، يقولون لهم كما قال نوح لقومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًاسورة نوح10-12.
إن الاستغفار بالإضافة للنجاة يوم القيامة فهو سبب للعطاء في الدنيا، وقال هود لقومه: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْسورة هود52. وقال عن هذه الأمة: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا سورة هود3.
والمعاصي سبب لرد الدعاء، فإذا استغفر العبد وأناب، وتطهر من رجسها كان خليقاً أن يستجاب له.
ثم التضرع والخشوع والتذلل لله، والرغبة والرهبة، هذه روح الدعاء، فالله يحب من عبده إذا دعاه أن يتضرع إليه، ويتملق له، ويتذلل، ويقرع بابه، ويديم القرع، ولا يحب من يسأل سؤال غافل لاهٍ بلا تضرع، ولا إقبال، قال : ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ سورة الأعراف55.
ومن العدوان كما قال شيخ الإسلام: "أن يدعوه غير متضرع، بل دعاء هذا كالمستغني المدل على ربه، وهذا من أعظم الاعتداء؛ لمنافاته لدعاء الذليل، فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتدٍ، ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَسورة الأعراف55. فالذي لا يسأل بتضرع إذن يكون معتدياً.
وقد وصف الله تعالى زكرياً وأهله بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ سورة الأنبياء90. هذا التضرع هو حقيقة الدعاء، أثره في الإجابة واضح كما قال : قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةًسورة الأنعام63.
ثم بالإضافة إلى التذلل والتضرع، والتمسكن يكون الإلحاح والتكرار، وعدم الضجر والملل، يكون من آدابه أيضاً، يكرر دعاءه مرتين أو ثلاثاً، والثلاث وردت في سنة النبي ﷺ، كما قال ابن مسعود : أن رسول الله ﷺ كان يعجبه أن يدعو ثلاثاً، ويستغفر ثلاثاً. رواه أبو داود ورجاله ثقات.
وقالت عائشة رضي الله عنها في قصة سحر النبي ﷺ: فدعا ثم دعا ثم دعا. رواه مسلم.
وكان ﷺ من تكراره وإلحاحه ينوع، فيقول: اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني[رواه مسلم771]. كان يمكن أن يوجز مرة واحدة، لكن لما صار المقام مقام تضرع وافتقار، وإظهار للعبودية فصل في ذلك وبسط، وتذلل بين يدي الله ، ونوع الطلب، وهذا بخلاف البسط والتفصيل الذي لا فائدة من ورائه، كما ورد عن بعض الصحابة في نهي أولادهم عنه.
أيها الإخوة:
الله يغضب إن تركت سؤاله | وبُني آدم حين يُسأل يغضب |
كلما ألححت عليه كلما أحبك، كلما أكثرت سؤاله كلما قربك، كلما كررت الدعاء كنت أحرى بإجابته، أما المخلوق فإذا كررت السؤال عنده تبرم منك، وثقل ذلك عليه، وصرت عنده هيناً منبوذاً مطروداً، ولكن الرب على العكس من ذلك تماماً، يحب الملحين في الدعاء.
الدعاء في الرخاء والشدة
ثم الدعاء في الرخاء والإكثار منه في وقت اليسر والسعة فإن من شأن العبد الصالح أن يلازم الدعاء في حالتي الرخاء والشدة، وغير الصالح هو الذي لا يلتجئ إلى الله إلا في وقت الشدة، قال الله : وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ سورة يونس12، وقال : وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ، مالاً بعد فقر، وصحة وشفاءً بعد مرض، وإنقاذاً بعد مهلكة، ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا سورة الزمر8، وقال : فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ سورة الزمر49. إنها استدراج، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ، وقال : وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ سورة فصلت51.
تلك الطبيعة البشرية التي تنسى، وتغفل، الذين اضطربت بهم السفن، وتلاطمت بهم الأمواج يخلصون لله بالدعاء، وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ، لا ولي، ولا ميت، ولا صنم، ولا بشر، وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا سورة الإسراء67. وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ سورة لقمان32.
فإذن تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، هذه هي القاعدة في الحديث الصحيح الذي جاء عن النبي ﷺ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة[رواه أحمد2803]. إذا أردت أن يستجيب الله لك في الشدة فادعه في الرخاء، لا تقتصر بدعائك على نزول المكروه، على وقت نزول الضر، على وقت نزول المرض أو الفقر أو الحاجة أو الخوف، ادعه في حال الأمن، ادعه في حال الصحة، ادعه في حال الغنى حتى يستجيب لك إذا دعوته في حال الفقر والمرض والخوف.
عباد الله: إن التعرف على الله يكون من خلال دعائه، وقضاء فرائضه، وأداء النوافل، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينهوهذا موضع الشاهد، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه[رواه البخاري6502].
ما دام العبد مع الله في كل وقت فالله لا يخذله ولا يتخلى عنه في وقت الشدة، ويحفظه في وقت الرخاء، وهكذا، من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء[رواه الترمذي3382]. رواه الترمذي وهو حديث حسن.
خفض الصوت بالدعاء
ومن الآداب خفض الصوت بالدعاء، ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ سورة الأعراف55. النبي ﷺ لما لاحظ أن بعض أصحابه جاهروا بالتكبير وصاحوا به في السفر، إذا صعدوا صاحوا، قال: أيها الناس أربعوا على أنفسكم، هوناً ما، أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم[رواه البخاري4205، ومسلم2704]. إنكم تدعون سميعاً قريباً.
وفسرت عائشة رضي الله عنها قوله تعالى: وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ سورة الإسراء110. أي: بدعائك، وكذلك الإمام أحمد رحمه الله قال: ينبغي أن يسر دعاءه؛ لقوله تعالى: وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ، كانوا يكرهون أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء، لماذا؟ من باب الإخلاص، واستشعار معية الرب.
قال الحسن البصري رحمه الله: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل قد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يفعلوه في سر فيكون في علانية أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم ، يقول الحسن: ذلك أن الله تعالى يقول: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً سورة الأعراف55. وذلك أن الله تعالى ذكر عبداً صالحاً ورضي قوله فقال: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّاسورة مريم3.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في فوائد إخفاء الدعاء أموراً متعددة فمنها:
أنه يدل على عظم إيمان صاحبه؛ لأنه يوقن أن الله يسمع الدعاء الخفي؛ لأن المشركين كانوا يقولون: لا يسمع إن أسررنا، ويسمع إن جهرنا، ورد الله ذلك إنه يسمع السر وأخفى.
وكذلك فإنه أعظم في الأدب؛ لأن الملوك لا ترفع الأصوات عندهم، ولله المثل الأعلى.
وكذلك فإنه أبلغ في التضرع والخشوع؛ لأن المتضرع الخائض ذليل مسكين، والمسكين صوته منخفض، وليس بمرتفع، إذا سأل فإن مسكنته وتضرعه تضعف صوته، فهو لا يصيح ولا يزعق.
وكذلك فإن إخفات الصوت بالدعاء أبلغ في الإخلاص، وأبلغ في اجتماع القلب على الله، بخلاف الصياح الذي يحدث تشويشاً.
وكذلك فإنه لما قال عن عبده: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةًسورة الأعراف55. فهذا يعني أنه يدل على أن أصحاب ذلك المقام يعلمون حقاً قرب ربهم منهم، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌسورة البقرة186. وهذا قرب خاص، قرب من الداعي ومن العابد، ولذلك كان أعظم ما يكون العبد، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد [رواه مسلم482]. مع أنه تحت تحت، والله فوق فوق، ولكنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
ثم إن إخفاء الدعاء أدعى لدوام الطلب فلا يحصل ملل، ولا يحصل تعب، وكذلك فإن الذكر من هذا الباب إلا إذا كانت السنة الجهر به، كالأذان والخطبة، وتكبيرات الصلاة، فإنه يجهر بها، ولكن في غير المواضع التي جاء الجهر فإن السنة إخفات الذكر أيضاً، وخفض الصوت به.
التوسل الى الله بأسمائه الحسنى
ومن الآداب العظيمة، والأسرار الكبيرة في الدعاء، التوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، إما في أول الدعاء أو في آخره، وانظروا إلى دعاء الصالحين من قبلنا:
رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ وهب: هذا هو الطلب، وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ سورة آل عمران8. فالوهاب من أسمائه مناسب للطلب وهو هَبْ، وكذلك: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ سورة الأعراف151، وكذلك: أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَسورة الأعراف155، وكذلك: وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُسورة البقرة128.
ومن هنا قال العلماء في قوله تعالى: وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا سورة الأعراف180. أن العبد يستعمل الاسم من أسماء الله الحسنى المناسب للطلب، المناسب للدعاء، ولا يقول: يا موجود، أو يا شيء، أو ذات، اغفر لي وارحمني، وإنما يسأل بكل مطلوب بالاسم المناسب له، وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا.
وكذلك فإن الدعاء بما ورد أنه الاسم الأعظم والاجتهاد في ذلك من أسباب الإجابة العظيمة، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قال فيها النبي ﷺ: دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ سورة الأنبياء87. إنه لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له[رواه أحمد1463]. حديث صحيح.
وسمع النبي ﷺ رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. فقال: لقد سأل الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب[رواه أبو داود1493]. رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
وكذلك فإنه سمع رجلاً ﷺ، سمع رجلاً يصلي ويقول: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. فقال النبي ﷺ: لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطىرواه الطبراني في الكبير4722.
الدعاء يكون بالألفاظ الحسنة
ولما كان الذين يكتبون الخطابات إلى الملوك والأمراء يختارون أحسن الألفاظ، وأنبلها، ويتركون كلما ينفر منه القارئ، بل يبحثون عمن يصيغ لهم الخطابات، فإن الله أولى من ذلك، أن يختار العبد في دعائه جوامع الدعاء، الألفاظ الحسنة، يختار ما ورد في السنة، يختار ما يحبه الرب ، وإذا كان طالب علم وعنده علم باللغة فإنه يراعي الإعراب أيضاً، يراعي الإعراف فلا يلحن أو لا يخطئ، وعلى هذا تحمل قصة الرجل الذي مر بالأصمعي وهو يقول في دعائه: يا ذو الجلال والإكرام، فقال: ما اسمك؟ قال: ليث، فأنشأ يقول:
ينادي ربه باللحن ليثٌ | لذاك إذا دعاه لا يجيبُ |
وأما العامي الذي لا يحسن اللغة، فإنه يعذر إذا لحن في دعائه، ولا يعتبر خطأه في الإعراب مانعاً من الإجابة.
قال ابن الصلاح رحمه الله: ثم إن الدعاء الملحون ممن لا يستطيع غير الملحون لا يقدح في الدعاء ويعذر فيه، أما صاحب العلم الذي يعلم الفاعل من المفعول به، فيخلط هذا بهذا، فيجعل السائل مسؤولاً والمسؤول سائلاً، فلا شك أنه خلل كبير.
استقبال القبلة، ورفع اليدين عند الدعاء
ثم إن استقبال القبلة -أيها المسلمون- استقبال القبلة من الآداب العظيمة في الدعاء، استقبال القبلة، والقبلة التي هي الجهة الفاضلة التي يتوجه إليها، وهي قبلة الصلاة، فكذلك هي قبلة الدعاء، والنبي ﷺ لما اشتد عليه أذى قريش استقبل الكعبة فدعا على نفر من قريش. كما جاء في البخاري، وفي حديث عمر : "لما كان يوم بدر نظر رسول الله ﷺ إلى المشركين، فاستقبل القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه".
ولكن استقبال القبلة ليس شرطاً في الدعاء، وقد لا يتهيأ دائماً، وقد ثبت أن النبي ﷺ في دعاء الاستسقاء دعا على المنبر وهو مستدبراً القبلة مستقبلاً الناس، فإذا تيسر فهو أحسن وأفضل.
وكذلك إذا كان على طهارة، كما جاء في استشهاد أبي عامر ، وطلب الدعاء منه، ووصل الطلب إلى النبي ﷺ عن طريق أبي موسى: "قام ﷺ فدعا بماءٍ فتوضأ ثم دعا له"، وكذلك فإن الوضوء ليس بلازم، إذ المضطر قد لا يسعفه الوقت للاستعداد بالوضوء، لكن إن تهيأ فهو أحسن.
ثم يفتتح دعاءه بالثناء على الله، والحمد له، والصلاة على النبي ﷺ.
والصلاة على النبي ﷺ سؤال للرب أن يذكر نبيه عنده في الملأ الأعلى، وإذا سألت الرب ذكرت في سؤالك من يحبه الرب بطريقة مشروعة مثل الصلاة على النبي ﷺ، يكون هذا أرجى في قبول الدعاء، ولذلك كل دعاء محجوب ما لم يصل على النبي ﷺ، والنبي ﷺ لما سمع رجلاً دعا فلم يصلِ عليه، قال: لقد عجل هذا، تعجل واستعجل.
ثم رفع اليدين، رفع اليدين علامة الفقر والطلب، رفع اليدين، ولذلك كانت السنة أن يجمع يديه، فيرفع يديه كالذي يطلب شيئاً، يمدهما فيلصقهما، ويبسطهما، كالذي يطلب شيئاً من آخر، كيف يفعل؟ يجمع يديه، يبسطهما، ويمدهما يسأل، وكذلك العبد إذا دعا ربه، يدعو ربه هكذا، وهي من علامات الافتقار إلى الله ، وهذا قد ثبت في نحو من مائة حديث، فهو من الأمور المتواترة، إلا إن كان في دعاء الجمعة مثلاً فإنه بأصبعه يشير ولا يرفع يديه، لا الخطيب ولا المأمومون، كل مكان ودعاء لم يرد فيه رفع اليدين لم نرفع، وفي بقية المواضع نرفع كما جاء ذلك في السنة، إلا في الاستسقاء في خطبة الجمعة يرفع الإمام ويرفع المأمومون كذلك.
أما مسح الوجه بالدين بعد الفراغ من الدعاء فإن طرقه كلها ضعيفة جداً، فلعله لا يتقوى بذلك، كما أشار عدد من أهل العلم؛ ولذلك قال العز بن عبد السلام: لا يفعله إلا جاهل.
قال النووي رحمه الله: "لا يندب".
وقال ابن تيمية: "وأما رفع النبي ﷺ في الدعاء فيه أحاديث كثيرة رفع اليدين، وأما مسحه وجه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان لا يقوم بهما حجة". والله أعلم.
أوقات استجابة الدعاء.
ثم -أيها المسلمون- تحري الأوقات الفاضلة ومنها الأسحار، قبيل الفجر، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ سورة الذاريات18. وقت النزول الإلهي في ثلث الليل الأخير، يوم الجمعة وقت الإجابة فيه أقوى ما ورد وقتان: ما بين جلوس الإمام على المنبر إلى الفراغ من الصلاة، فيدعو بين الخطبتين، ويدعو كذلك بعد الأذان إلى أن يشرع الإمام أو الخطيب في الكلام، ويدعو بعد نزول الإيمام، وعند إقامة الصلاة، ويدعو في الصلاة.
وكذلك الوقت الآخر قبل المغرب يوم الجمعة، قبل المغرب بساعة، من أوقات الإجابة العظيمة، فإذا كان في المسجد ينتظر صلاة المغرب فإنه يكون في صلاة، فإنه يكون مصلياً يدعو.
ثم في شهر رمضان المبارك، ولاسيما في العشر الأواخر منه؛ لأنه موسم الخيرات، وزيادة عطايا الرب، وقال ﷺ: إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة[رواه مسلم1079]. معنى ذلك أن الدعاء فيه دعاء عظيم، فادعو في هذه الأيام أيها المسلمون فإن الرب قريب وباب الرحمة مفتوح.
ويوم عرفة مشهد عظيم، وكذلك ما بين الأذان والإقامة، ثم يتحرى الأماكن الفاضلة، ففي عرفة والمشعر الحرام، والجمرتين، والصفاء والمروة، وغير ذلك إذا تيسر.
والأحوال الفاضلة، إذا كان في وقت اجتماع الهمم، إذا كان في وقت اضطرار، إذا كان القلب مجتمعاً، في الحال الفاضلة، فإن الدعاء عند ذلك يكون له أثر عجيب ومفعول عجيب.
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يتقبل دعاءنا، اللهم تقبل دعاءنا إنك سميع مجيب قريب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.