الخطبة الأولى
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران:102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء:1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب:70-71.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أدب الأسواق في الشريعة
عباد الله: اعلموا أن دينكم هذا تمام وكمال، وأن هذه الشريعة حسنة قد جاء الله فيها بكل ما يصلح أحوالنا وشؤوننا، وفرض فيها ما شاء من الأحكام لمصالحنا، وجاء فيها بما فيها من الآداب لأجل حسن عيشنا، وجاء في هذه الشريعة آداب الطعام، وآداب الشراب، والخلاء والجماع، وغيرها، ومن ضمن ما جاء فيها ذكر لآداب نحتاجها في السوق؛ لأن كل الناس يتعرضون لهذا.
أيها المسلمون: إن الأسواق لها أدب في الشريعة، ونزول السوق يحتاج إلى فقه في الدين، وقد أباحت هذه الشريعة التجارة لما يحتاج إليه العباد من انتقال السلع والأثمان، فكان من رحمة الله أن أباح لنا البيع والشراء: وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَاسورة البقرة:275، ومع ذلك ذكرنا ربنا في كتابه بالتجارة العظيمة الرابحة التي لا خسارة فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْسورة الصف:10-11.
عندما أباح الله البيع والشراء ذكرنا بأعظم عقد، وأرفع صفقة، عظم فيها الثمن والسلعة، والواسطة الذي جرى على يديه العقد: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُسورة التوبة:111.
إن الأسواق اليوم تكثر وتزداد، ولا يمضي زمن إلا ونسمع عن قيام سوق جديد، وإنشاء أسواق تجارية في الوقت الذي يكون فيه كثير من المسلمين على جانب من الجهل بالشريعة عظيم فيما يتعلق بالبيع والشراء آداباً وأحكاماً.
معركة الشيطان
أيها المسلمون: ينبغي أن يعلم المسلم وهو ينزل إلى السوق أن النبي ﷺ قال: أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها[رواه مسلم (671)]، وذلك لكثرة ما يحصل في السوق من المنكرات والمحرمات، هذا أمر معلوم في الشريعة، وعن سلمان قال: "لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها؛ فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته" [رواه مسلم (2451)] رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه، معركة الشيطان، شبه السوق، وفعل الشيطان بأهل السوق -من البائعين والمشترين رجالاً ونساءً- شبهها بالمعركة لكثرة ما يقع فيها من أنواع الباطل، كالغش والخداع والأيمان الكاذبة، والعقود الفاسدة، والنجش، والبيع على بيع أخيه، والشراء على شراء أخيه، والسوم على سوم أخيه، وبخس المكيال والميزان، أنواع الغش التجاري، وغير ذلك.
ومعنى أن الشيطان ينصب رايته في السوق دليل على أن الشيطان حاضر هناك وثابت هو وأعوانه، مركزهم ثابت ومستقر في السوق، فتفطن يا عبد الله.
ومعلوم أن من أعظم الأماكن منكرات في البلاد هي الأسواق، وأعظم ما يكون من المحرمات في الأسواق، ولذلك جاءت الشريعة بالأدب في السوق؛ لكثرة ما يحصل بها، وجاء وصف النبي ﷺ في التوراة كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سئل عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة، فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن" صفته في القرآن أكثر وأكبر "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًاسورة الأحزاب:45" هذا في التوراة، "وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفض ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق" [رواه البخاري (4838)]، لا يرفع صوته على الناس من سوء خلق، ولا يكثر الصياح عليهم، وفي هذا الحديث الإشارة إلى ذم أهل السوق الذين يكونون في اللغط والضحك، واللهو والزيادة في المدح والذم في السلع، والأيمان الكاذبة، ولذلك قال ﷺ: شر البقاع الأسواق [رواه الطبراني في الأوسط (7140)]، ونبهنا ﷺ إلى خفض الأصوات في الأسواق، وعدم رفعها، والمنع من البذاءة في الكلام؛ ولذلك يقال: أخلاق سوقية، وأخلاق السُّوَقة؛ نظراً لأن السًُّوَقة هم أسفل الناس أخلاقاً؛ ولأن تربية السوق هي أسوأ أنواع التربية، وجاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله قول النبي ﷺ: وإياكم وهيشات الأسواق[رواه مسلم (432)]، وفي لفظ أحمد: وهوشات الأسواق[رواه أحمد (4373)]، وهذه الهوشات والهيشات معلومة عند الناس، معلوم معناها، أي اختلاط الأسواق، ومنازعتها وخصوماتها، وارتفاع الأصوات واللغط فيها، والفتن التي تحدث فيها، إياكم وهيشات الأسواق، إياكم وهوشات الأسواق؛ يحذر ﷺ.
آداب مهمة
وندب ﷺ إلى السماحة في البيع والشراء، والقضاء والاقتضاء، ودعا بالرحمة لمن يكون خلقه كذلك، فقال: رحم الله امرئ سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى[رواه البخاري (2076)] سمح البيع، سمح الشراء، لا يكثر المماكسة والمنازعة والمهاوشة، بل إنه سمح فيها، نعم إنه لا يُخدع، ولا يستغفل، ولا تنطلي عليه حيل البائعين، ولكن لا يهاوش، ولا يكثر المماكسة، ولا يحصل منه المشادة بينه وبين البائع.
وبين ﷺ أمراً من سيئ الخلق، وسيء العادة التي يقع فيها كثير من الناس في الأسواق، ذمه ذماً شديداً، وحذر منه، وهو كثرة الأيمان والحلف، فقال ﷺ: الحلف منفقة للسلعة [رواه البخاري (2087)] يعني: ينفِّقها، يروجها، والرواج عكس الكساد، الحلف منفقة للسلعة، ولكنه في ذات الوقت ممحقة للبركة، فما فائدة أن تروج سلعته، وتمحق بركتها؟! الحلف منفقة للسلعة نعم، هو يروج السلعة، ولكنه ممحقة للبركة.
وحذر ﷺ أشد التحذير من صورة كريهة لمن يستغلون لفظ الجلالة بأبشع صورة في هذه الحالات في الأسواق، فقال ﷺ: ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: أشيمط زانٍ ما حمله كبر سنة على التوبة، ولا استحيا من الله، وقد وخط الشيب شعره، ولكنه مستمر في عمل الفواحش، أناس يسكنون في دول أخرى تحول رواتبهم إليها بعد التقاعد ليقعوا في الفواحش، وأناس أعذر الله إليهم؛ فبلغهم الستين، وهم لا يزالون في مغامزة الخادمات! أشيمط زانٍ، وعائل مستكبرفقير يتكبر! على أي شي؟! ورجل، هو الثالث ورجل جعل الله بضاعةً؛ لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه، يا مندوبي المشتروات، ويا أيها البياعون، ورجل جعل الله بضاعةً؛ لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه [رواه الطبراني في الصغير (821)] لقد استغل لفظ الجلالة، لم يكرمه؛ وإنما جعله في كل شيء، في كل بيعة وشرية يحلف، ما قدر الله حق قدره، ولو قدر الله حق قدره ما استخدم اليمين في الطالعة والنازلة.
الأسواق والفقه في الدين
ويحتاج النازل إلى السوق إلى التفقه في الدين، روى الإمام الترمذي بإسناد حسن إلى عمر بن الخطاب أنه قال: "لا يبع في سوقنا إلا من تفقه في الدين" [رواه الترمذي (487)]، يعلم أحكام البيع والشراء، يعلم أنه يجب أن تكون السلعة معلومة مضبوطة منضبطة، لا يصح بيع المجهول، ويعلم أنه لا يجوز بيع الغرر، وما هي صفته، ويعلم أنه لا بد من تحديد الثمن، ويعلم الفرق بين البيع والربا، ويعلم الشروط المحرمة في البيوع.
يجب أن يكون البائع والمشتري عندهما فقه في الدين في مسألة البيوع والشراء، "لا يبع في سوقنا إلا من تفقه في الدين"، ولا يبيع حاضر لباد [رواه البخاري (2158)، ومسلم (1521)] ما معناه؟ "ونهى عن تلقي الركبان" [رواه البخاري (2158)، ومسلم (1521)] ما هو؟ "ونهى أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم"[رواه أبو داود (3499)] كيف هو؟ إلى آخر ذلك من أحكام البيوع التي منها قوله ﷺ: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما [رواه البخاري (2110)، ومسلم (1532)]، فهما بالخيار ما دام أنه في الدكان، فلو أخذ السلعة وأعطى الثمن له أن يفسخ البيع إذا أراد ما دام في الدكان لم يخرج، يجوز له العودة، وإذا أراد خيار شرط يشترط به على البائع أن يرد إليه السلعة في مدة معلومة، يقول له: أشترط إذا أخذت السلعة أن أردها إذا شئتُ خلال يوم أو يومين، يحدد مثلاً، فإن له ذلك، وخيار العيب إذا وجدها معيبة أن يردها، ولو تصرف فيها تصرفاً ينقص ثمنها، واكتشف فيها عيباً كيف يفعل، وكيف يقدَّر العيب، ويرد الثمن إلى المشتري، ويعطي أرش النقص إلى البائع.
إن البيع عبادة جاء في الشريعة كثير من الأحكام المتعلقة بها، فأين العالمون بهذا؟ ولا يختلف الناس إلا لعدم علمهم بأحكام الله في البيع والشراء، والذين يخبئون العيوب ويدلسون، ولو نظرت إلى ما يفعل المزارعون الذين يبيعون صناديق والفواكه والخضروات، والذين يجلبونها إلى دكاكينهم، كيف إذا كشفت الغطاء أو الطابق العلوي؟ سوف تكتشف من تحته ما هب ودب، وأنواع العيوب من الصغيرة والعفنة، وغير ذلك، فهل هؤلاء يعلمون معنى قوله ﷺ: من غش فليس مناتبرأ منه ﷺ، أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس[رواه الترمذي (1315)] قال ذلك ﷺ لما أصاب طعام البائع البلل، ومع ذلك الناس مستمرون في الغش، بعيدون عن الشريعة، شيء نراه يومياً، ومنكرات حادثة.
عن أبي هريرة قال: "نهى النبي ﷺ أن يبيع حاضر لباد" لا يكون له سمساراً، يقول: هاتها أبيعها لك بعد فترة من الزمن يكون سعرها قد ارتفع، فيتسبب في الغلاء لأهل السوق، "ولا تناجشوا" لا تزيدوا في السعر وأنتم لا تريدون الشراء، كم يحدث مثل هذا في المزادات والحراجات أيها المسلمون؟ فمثلاً يدخل بعض الدلالين وسط الناس ليرفعوا السعر إذا كان صاحبهم الدلال الآخر يبيع سيارة، فيكون الغش والخداع للناس، وهم الذين إذا تلقوا صاحب سيارة نزل بها إلى السوق والحراج اجتمعوا عليه يخفضون من سعرها، ويزهدونه فيها، في حالة تشبه الغصب، ولذلك تجد أكساب هؤلاء من أقل الناس بركة، من أقل الناس بركة الذين يبيعون في المزادات، فيرتكبون المحرمات، ويغشون الناس.
"ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خبطة أخيه" [رواه البخاري (2140)، ومسلم (1413)] لا يشتري على شراء أخيه ولا يسوم على سوم أخيه، فلو اتجه المشتري إلى البائع يحاوره ويماكسه، لا يجوز لإنسان أن يدخل بينهما حتى يصل النقاش إلى طريق مسدود عند ذلك يجوز لمشترٍ آخر أن يتدخل، أو بائع آخر أن يتدخل، في فترة المماكسة لا يجوز لأحد أن يتدخل، ولا يسوم على سوم أخيه، وإذا استقر الأمر، ورضي الطرفان، وبقي العقد لا يجوز لأحد أن يتدخل، وإذا تم العقد لا يجوز لأحد أن يتدخل، فيقول: تعال أبيعك بأقل، أو يأتي مشترٍ آخر يقول للبائع: ألغ الصفقة؛ أشتريها منك بأكثر، لا يبع على بيع أخيه، ولا يشتري على شراء أخيه، وإذا كان خلال فترة الخيار لا يجوز له أن يتدخل، إلا أن يكون تدخله من باب النصيحة بأن يقول له: اشتريتها بأكثر مما تستحق، أو بعتها -يا أيها البائع- بأقل مما تساوي، ولا يقل: تعال إلي أبيعك بأقل، أو أشتريها منك بأكثر، لا يجوز التدخل بين البائع والمشتري في حال المساومة، ولا بعد الاتفاق، ولا بعد العقد، ولا أثناء فترة الخيار، لا يجوز وهو حرام، كما أن الإنسان لا يخطب على خطبة أخيه، فلا يتقدم لخطبة بنت يعلم أن أخاه المسلم قد تقدم إليهم، إذا ركنوا لا يجوز له أن يتدخل، فإذا لم يركنوا، ولم يستقروا، وترددوا، أو ردوه، أو استأذن من الخاطب جاز له أن يتدخل، إذا لم يركنوا، ولم يستقروا، أو ردوه، أو استأذن من الخاطب الأول جاز له أن يتدخل.
منكرات الأسواق
ولكثرة ما يحدث في الأسواق من المنكرات والبيوع والشراء، نصح النبي ﷺ بالصدقة، فروى النسائي رحمه الله عن قيس بن أبي غرزة قال: "أتانا النبي ﷺ ونحن في السوق، فقال: إن هذه السوق يخالطها اللغو والكذب؛ فشوبوها بالصدقة"[رواه النسائي (3799)] يا معشر التجار، شوبوا بيعكم بالصدقة.
أما تغيير المنكرات في السوق فهو واجب عظيم من واجبات الدين، وأمر مهم من أمور الشريعة، قد أهمله الناس وفرطوا فيه، فرتعت المنكرات في أسواقنا؛ اختلاط الرجال بالنساء، وأنواع المعاكسات والمطارات ورمي الأرقام، وإركاب الشباب للفتيات في سياراتهم، صار السوق ليس مكاناً للبيع والشراء فقط، وإنما صار مرتعاً وخيماً للرذيلة والفساد، ومكاناً تعقد فيه الصفقات على أي شيء؟! الزنا، الفواحش، الخلوة المحرمة، اللقاء المحرم، وهكذا، وهذا أمر مشاهد، وكم من حالات الطلاق حدث بسبب ذلك، وكم كان هذا من أسباب الانهيار الأسري، وتفكك العائلة.
وأما ما يباع في السوق من السلع المحرمة، وما يقام فيها من أنواع الميسر، وقد نبهنا على هذا مراراً، وقلنا: يا عباد الله، هذا السحب الذي يجري على الأرقام كل من أراد أن يشتري يأخذ رقماً، ثم يجري السحب على الأرقام، نوع من أنواع الميسر، والمقامرة المحرمة، لا تجوز في الشريعة، أمر يسبب زوال البركة من أرباح التجار، وبعضهم يعلن السحب ويجتمع الرجال والنساء أمام دكانه، أو المحل، وقد حدث مرة في سوقنا هذا أنه سحب رقم فتاة واقفة بين الرجال، فأعلن الرقم؛ فقفزت وصفقت مكانها، وحسرت عن يديها أمام الناس! أمام الرجال! وهي تزغرد وتصيح! ونسأل الله أن يلطف بنا وندعو ونقول: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ونعلن إنكارنا لكل منكر ومحرم.
روى الإمام أحمد في مسنده عن ضمرة بن حبيب قال: قال عبد الله بن عمر: "أمرني رسول الله ﷺ أن آتيه بمدية" شفرة، "فأتيته بها، فأرسل بها، فأرهفت، ثم أعطانيها، وقال: اغد علي بهامن اليوم التالي، "ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة، وفيها زقاق خمر" القرب من الجلد فيها خمور، "فأخذ المدية مني، فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته" التي أمامه شقها، "ثم أعطانيها" المدية، "وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي، وأن يعاونوني، وأمرني أن آت الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته، ففعلت، فلم أترك في أسواقها زقاً إلا شققته" [رواه أحمد (6130)] قال العلامة أحمد شاكر: إسناده صحيح.
فيجب إنكار المنكرات، وأما الحذر من نزول النساء إلى السوق بهذا الوضع المشين فأمر لا يخفى عليكم، قال علي : "أما تغارون أن يخرج نساؤكم؟ فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج -الأجانب على المدينة، القادمون من الروم-، فألا تستحيون أن يذهب نساؤكم إلى السوق فيخالطن هؤلاء العلوج وغيرهم.
واذكروا الله عند دخول السوق: من دخل السوق، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، بنى له بيتاً في الجنة [رواه أحمد (329)، والترمذي (3428)]رواه أحمد والترمذي، وصححه جماعة من أهل العلم.
وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما.
اللهم اجعلنا لك من الذاكرين، واجعلنا شاكرين لنعمائك، اللهم اجعلنا من عبادك الأخيار الذين يقولون بالحق وبه يحكمون.
اللهم إنا نعوذ بك من الغفلة والعيلة والمسكنة، اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله العلي الوهاب، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، لا إله إلا الله يحكم ما يريد، لا معقب لحكمه وهو اللطيف الخبير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، جاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سوق في الجنة
أيها المسلمون: إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم؛ فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً[رواه مسلم (2833)]، فهنيئاً لمن كانت آخرته في سوق الجنة، وتباً لمن كان سوق الدنيا سبب تعاسته وشقائه وحرمانه، وخذلانه في نفسه، وارتكابه للمنكرات، وتباً للذين يغشون الأسواق لارتكاب المحرمات، ينتهكون بأبصارهم التي أمر الله بغضها العورات.
ترقيق للقلوب وتذكير للغافلين
وهلم بنا لنرقق قلوبنا بشيء من ذكر حال إخواننا المسلمين المنكوبين، هذه الأخبار التي يجب أن لا تبعث على اليأس، لكن نرقق قلوبنا بذكر مآسي إخواننا، ونشاركهم في شعورهم ومشاعرهم، نشارك بما نستطيع، ولعل في هذا نوع من التذكير للغافلين والعصاة إذا رأوا حال المسلمين المنكوبين، وما هم عليه لعلهم يستحيون من ارتكاب المنكرات عندما يسمعون بأخبار إخوانهم، نرقق قلوبنا بذكر مآسي إخواننا، ونشاركهم في شعورهم ومشاعرهم، نشارك بما نستطيع، ولعل في هذا نوع من التذكير للغافلين والعصاة إذا رأوا حال المسلمين المنكوبين، وما هم عليه لعلهم يستحيون من ارتكاب المنكرات عندما يسمعون بأخبار إخوانهم، مأساة المسلمين في بلاد البوسنة، من أواخر الأخبار، والأخبار مع الأسف لا تأتي إلا من الكفرة في الغالب، ليس مصدر إلا هم، القافلة التي شقت طريقها خارجة من مدينة المآسي، حاملة النساء والأطفال خرجت في طريقها إلى بلدة أخرى، ونزلت في الملعب الرياضي في المدينة، وهرع أهالي البلدة الجديدة لاستقبالهم، وكان استقبالاً مهيباً، وهرع رجال الإنقاذ إلى حمل المسنين والأطفال الذين ارتفع صراخهم، واختلط بنحيب الكبار، فيما تعانق الأقرباء والغرباء عناقاً مؤلماً، واستقبل من حضر من الأطباء الجرحى والمصابين، وحملت الممرضات الأطفال الرضع، وعدد من الممرضات لا شك من المبشرات بالنار، وهرعت المتطوعات إلى توزيع الأطعمة والمشروبات الساخنة على اللاجئين، بعد رحلة قاسية في الشاحنات المكشوفة في طقس شديد البرودة، وتحت سماء تمطر قذائف صربية لا تهدأ، وصاح شاب في وجوه الصحفيين الأجانب الذين توافدوا من أقطار الدنيا، وهو يشير إلى مئات الأطفال والنساء والشيوخ الذين افترشوا أرض الملعب الرياضي، وهم يرتدون أسمالهم البالية، وبدا الإرهاق الشديد والجوع الكافر عليهم -هكذا يعبرون، ونحن نقول: قضاء الله وقدره-، يقول صائحاً: هذه أوروبا، هذه أوروبا، يقول في وجوه الصحفيين، نعم، هؤلاء أصحاب الحضارة والمدنية، أصحاب التقدم العلمي والتقني، الذين غزو الفضاء كما زعموا غزاهم الله، وأنزل بهم سطوته ونقمته، هؤلاء الساكتين عن الجرائم الذين يمِدون الصرب من طرف خفي ومعلن، ويتقاسمون الأدوار لكي يقع المسلمون في أحضان طرف من أطرافهم، في لعبة مأساوية يعيشها المستضعفون من المسلمين، زلاتا إبراهيمي القادمة من تشريسكا قالت: هربا إلى أعلى الجبل، وشاهدنا بيوتنا وهي تحترق، ورأينا الناس وهي تذبح كالخراف، واستطعت أن أهرب إلى توزولا في هجرة ثانية، وأضافت وهي تشير إلى جرح في رأسها، لقد رجمتنا النساء الصربيات بالحجارة، ونحن نمر بمناطقهم، وقلن لنا، وأرجو أن تدققوا في هذه العبارة: لقد ذبحنا رجالكن، ولن تتمكن من الإنجاب ثانية، وسيصل رجالنا إليكن في توزولا للقيام بهذه المهمة، إن زوجي تشريسكا، ويوجد هنا، جرح في تشريسكا، ويوجد هنا في توزولا، وسيعود إلى الحرب، فليس لنا خيار آخر، وأضافت العجوز، عجوز أخرى: لقد هاجرت خمس مرات، ومات زوجي في أيام الحرب من الجوع، وهي تصطحب معها أربعة أحفاد أبوهم في الجبهة، وقالت: كنا نأكل علف الماشية، وطعام الحيوانات، وأوراق الأشجار، وخلال تسعة أشهر كاملة حصلت كل عائلة من عشرة أشخاص على ستة كيلوغرامات من الطحين فقط، عشرات الأطفال الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم في الحرب، كانوا في عداد القافلة، وبعضهم أرسلته عائلته من دون أن تتمكن من اللحاق به في القافلة نفسها، وقال أحدهم: ذُبح أبي وعمي وأخي، وقال آخر عنه: لا تسألوه فلن يجيب، لقد ذبح أبوه وعمه وأخوه، إنه لا يستطيع الكلام، نحن هنا وحدنا، ولا ندري ماذا سنفعل غداً، وروت امرأة: مات في الشاحنة التي كنت فيها أربعة أطفال أثناء الطريق، بعضهم دهسته الأقدام نتيجة الازدحام الشديد، وأضافت باكية، إن أماً فقدت ابنها، ورفضت أن تواصل الرحلة، ونزلت في أول قرية للمسلمين، لتدفن طفلها، وقالت: لا حاجة بعد ذلك للهجرة، وتحدثت عجوز بصعوبة في الثمانين: معي حفيداي وأولادي، الرجال في الجبهة، وزوجاتهم لا نعلم عنهن شيئاً، ولم يبق لنا شيء في الحياة حتى لو أردنا العودة، كنا ننام في العراء، حاولنا أن نعيش بكل الوسائل الممكنة، وأكلنا حتى طعام الحيوانات، وأخرجت قطعة سوداء يصعب وصفها، أو شمها ورائحتها منبعثة، قالت: هذا طعام الخيل كنا نأكله، وقال في الخامسة عشر ولد: قصفونا بكل أنواع الأسلحة، وأحرقوا بيوتنا ودمروها، وذبحوا إمام المسجد عمي، وكنا نأكل من الطعام مرة كل يومين، وقالت امرأة: لا أعلم عن زوجي شيئاً، كان يعمل في جمهورية الصرب، واختفى وهو في طريق مجيئه إلينا.
فلعل القلوب ترق من سماع هذه الأنباء، ولعل بعض الغافلين منا يستيقظوا، سواءً كانوا غافلين في تصوراتهم عن الكفرة، أو كانوا غافلين في معاصيهم، لعلهم يستحيون، ويقولون: لا يعقل أن نستمر في المعاصي وهذه حال إخواننا.
اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فأكسهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم أنزل بطشتك ونقمت باليهود والنصارى والمشركين، اللهم أنزل بهم بأسك وعذابك الذي لا يرد عن القوم الكافرين.
اللهم عجل بنصر الإسلام والمسلمين قريباً قريباً يا رب العالمين، اللهم عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، لا نطلب النصر من غيرك إنك أنت ناصر المستضعفين، وأنت أرحم الراحمين.
اللهم اجعل فرجنا قريباً، اللهم اجعل فرجنا قريباً، وردنا إلى الإسلام رداً جميلاً.