الأحد 10 ربيع الآخر 1446 هـ :: 13 أكتوبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

مواقف تؤثر في النفوس


عناصر المادة
الخطبة الأولى
دعوة الله لنا للاتعاظ بأخبار من سبق
مواقف أثرت في نفوس الكفار فأسلموا
موقف الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- مع الإسكافي
موقف الإمام عبدالله بن مسلمة القعنبي -رحمه الله-
موقف مؤثر لاحد الدعاة في أدغال إفريقيا
المواقف المؤثرة التي تكون عند الموت
موقف مؤثر في الأخوة
موقف مؤثر بسبب معروف قديم
مواقف مؤثرة في حياة الأئمة والعلماء
موقف مؤثر وعبرة من أحوال من سبق
موقف الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- مع حجاب ابنته

الخطبة الأولى

00:00:05

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلّم على البشير النذير والسراج المنير، محمد بن عبد الله -صلى الله عليه- وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنه تمر بالإنسان في مسيرة حياته ومراحل عمره مواقف كثيرة متنوعة، وكثيراً ما تكون هذه المواقف ذات أثرٍ كبيرٍ في النفس تغني عن مواعظ خطابية ودروس بلاغية بما تؤثر فيه في نفس السامع.

دعوة الله لنا للاتعاظ بأخبار من سبق

00:01:05

وكذلك حين تُنقل مواقف الآخرين، وقد قال --: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ[الأنعام: 111].
فندبنا ربنا -- إلى الاتعاظ بأخبار من سبق كما في آيات كثيرة أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ [يوسف: 109].
وكم نُقلت إلينا من القصص في القديم والحديث مما فيه عبرة وعلم وموعظة وقدوة، ومثل هذه المواقف تحيا بها النفوس، ويتجدد فيها الإيمان.

مواقف أثرت في نفوس الكفار فأسلموا

00:02:16

قد تحدث في بلاد المسلمين، وقد تحدث في بلاد الكفار، قد تقع لكافر يدخل في الإسلام وقد تقع لمسلم قد عصى ربه حيناً من الدهر، وقد تقع لأحد أهل العلم والإيمان، وهو تفيض نفسه ويجود لله.
وفيما يلي عدد من هذه المواقف والقصص في كل واحدة منها عبرة يكون فيها أخذ بدرس وإحياء لإيمان.

اجتمع مسلمان في حديقة عامة في إيطاليا فأذن أحدهما وأقام، وأمّ الآخر، فقاما يصليان، فوافق هذا وجود عدد من المسلمين في هذه الحديقة فصاروا ينضمون إليهم واحداً في إثر واحد، فلما انتهت الصلاة تقدم شرطي إيطالي كان واقفاً يراقبهم، وسأل الإمام بتعجُّب: ماذا تفعلون؟
قالوا: نصلي لله.
قال: وما هذا الدين؟
قال: الإسلام.
قال: أريد أن أدخل فيه وأن أعتنقه.
قال: ولماذا؟
فقال الشرطي: نحن نعلم الطلاب الملتحقين في السلك العسكري ست سنوات كي ينضبطوا، وكيف يصفون صفاً واحداً ويتحركون سوياً بإتقان، وأنتم خلال خمس ثوانٍ اصطفّ عشرون رجلاً لا يعرف بعضكم بعضاً واتبعتم قائدكم بكل دقة؟ فأشهد أن الذي علمكم هذا ليس بشراً، وهكذا كانت بداية دخول الرجل في الإسلام.
ومن ذلك ما رآه بعض الكفار لمشهد المسلمين في الحرم المكي، والصلاة تُنقل مباشرة، والحرم يعجّ بالمصلين قبل إقامة الصلاة، فسأل مسلم ذلك الإنسان: كم من الوقت تظن أن هؤلاء يحتاجه ليكونوا صفوفاً منظمة في رأيك؟
فقال: ساعتين إلى ثلاث.
فقالوا له: إن هذا المسجد أربعة طوابق.
فقال: إذن، 12 ساعة.
فقالوا له: إن لغاتهم مختلفة.
فقال: لا يمكن اصطفافهم حينئذ.

فلما رأى وقت إقامة الصلاة ماذا حصل ؟كان ذلك سبباً في إسلامه.

وهذا قسيس نصراني قد شهد جنازة رجلٍ عظيم من المسلمين ومعه جنازة أخرى، فإذا بالحركات هي هي في الجنازتين، حتى في شكل الجنازتين، لا فرق في الشكل والحمل والوضع والصلاة والرفع والحمل، فقال: لم تهزني كتبكم ولا رسائلكم بقدر ما هزني ما رأيتُ من جنازة هذا الرجل العظيم، وذلك الآخر الذي معه.

موقف الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- مع الإسكافي

00:06:19

ومن المواقف التي حصلت في القديم ما كان لجار أبي حنيفة -رحمه الله-، فيروى أنه كان لأبي حنيفة جار بالكوفة إسكاف، وهو صانع الأحذية ومصلحها، يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جنّه الليل رجع إلى منزله وقد حمل معه لحماً فطبخه، أو سمكة فشواها، ثم لا يزال يشرب الخمر، حتى إذا دبّ فيه الشراب، غنى وهو يقول:

أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر

ولم يزل يشرب ويردد هذا حتى ينام، وكان أبو حنيفة -رحمه الله- يصلي بالليل ويسمع صوته، فافتقده ليلة من الليالي، فلم يسمعه، فسأل عنه فقال: أخذه العس منذ ليالٍ وهو محبوس.
فصلى أبو حنيفة رحمه الله الفجر وركب بغلته واستأذن على الأمير، فقال: ائذنوا له وأقبلوا به راكباً ولا تدعونه ينزل حتى يطأ البساط -أي تكريماً له- ففعلوا به ذلك فلم يزل الأمير يوسع له في مجلسه، وقال: ما حاجتك؟
فقال: لي جار أخذه العسكر منذ ليالٍ فهل يأمر الأمير بتخليته؟
قال: نعم، وكل من أخذ في تلك الليلة.
فركب أبو حنيفة والإسكاف يمشي وراءه، فلما نزل أبو حنيفة مضى إليه فقال: يا فتى، هل أضعناك؟
قال: لا، بل حفظتَ ورعيتَ، جزاك الله عن حرمة الجوار كل خير.
وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان عليه. والقصة في تاريخ بغداد، ووفيات الأعيان.
وهكذا يكون الإحسان إلى المذنب من صاحب علم وبصيرة سبباً في خجله من نفسه وحيائه من رب العالمين وتوبته.
وكذلك كانت قصة خلف بن هشام المقرئ لما كان يشرب وخاطبه ابن أخته بموعظة من القرآن، وذكّره بالله --، فكان خلف يشرب النبيذ متأولاً، يتأول آية أنه ليس في النبيذ شيء، مع أن في كل ما يسكر نصٌ معلوم.
وكان خلف يقرأ -أي القرآن- فقرأ مرة سورة الأنفال وعنده ابن أخته في المجلس، فلما بلغ قول الله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ[الأنفال: 37]. استوقفه ابن أخته، فقال: يا خالي، إذا ميّز الله الخبيث من الطيب فأين يكون هذا الشراب؟

فنكس رأسه طويلاً ثم قال: مع الخبيث.
قال: فترضى أن تكون من أصحاب الخبيث؟
قال: يا بُني امضِ إلى المنزل فاصبب كل شيء فيه.
وترك النبيذ فأعقبه الله الصوم، فكان يصوم إلى أن مات" [تاريخ بغداد: 9/270].
وهكذا بشر بن الحارث في زمن لهوه في داره وعنده رفقاؤه يشربون ويتغنون، فمرّ بهم رجل صالح، فدقّ الباب، فخرجت الجارية، فقال: صاحب هذه الدار حرٌ أم عبد؟
قالت: بل حرّ.
فقال: صدقتِ، لو كان عبداً لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو والطرب، فسمع بشر محاورتهما فسارع إلى الباب حافياً حاسرا ًوقد ولى الرجل الصالح، فقال للجارية: ويحكِ، من كلمكِ على الباب؟
فأخبرته، فقال: أي ناحية سلك الرجل؟
قالت: كذا.
فتبعه حتى لحقه، فقال: أنت الذي وقفت بالباب وخاطبت الجارية؟
قال: نعم.
قال: أعد عليّ كلامك.
فأعاده عليه، "لو كان عبداً لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو والطرب، فمرّغ بشرٌ خديه بالأرض وقال: بل عبدٌ عبد. ثم خرج تائباً" [التوابين لابن قدامة: 128].
وهكذا إذا كان الذي خرج منه الكلام حسن النية، يريد وجه الله، فإن الله يفتح له مغاليق القلوب.
قال أحدهم: كنت في المسجد أنتظر صلاة المغرب فأُقيمت الصلاة وصلّينا، وبعد ذلك نظرت إلى الخلف حيث لفت نظري شاب طويل الشعر، يلبس بنطالاً ضيقاً -من هذا الجينز- وقد فاته من الصلاة ما فاته، وبين أنا كذلك إذا برجل كبير السن، ينظر إلى الشاب ويتكلم مخاطباً الإمام بلهجة عامية، قائلاً: يا شيخ، ما رأيك بمن يدخل إلى المسجد كأنه داخل إلى سينما، ليس إلى مسجد؟

فرأيت الشاب يتصبب عرقاً، ويسرع في صلاته ثم يخرج من المسجد، فأخذ الإمام المكبّر، وقعد يتكلم عن التلطّف في النصيحة، وحسن استقبال الداخلين إلى المسجد، فلعله الآن في أول صلاة يصليها مع الجماعة، وكيف ينبغي أن يكون التعامل مع المقصرين.
ثم أخذ يدعو لذلك الشاب دعاءً  كثيراً بعدما ألقى موعظة على الحاضرين في احتواء المقصرين.
وبعد مدة من الزمن جاء ذلك الشاب وقد قصّ شعره ولبس الثوب وصلّى خلف الإمام ثم سلّم عليه، فقال: هل عرفتني؟
قال: لا.
قال: أنا ذلك الشاب الذي لبس الجينز الضيق، فو الله إني سعيد اليوم بلقائك.   
ذلك اليوم الذي خرجت فيه من المسجد بعد أن تكلم علي الرجل المسن، وذهبت قريباً من المسجد ظننت أنك لما أخذتَ المكبر ستدعو عليّ، فلما سمعت كلامك ودعاءك لي، أثّر ذلك فيّ جداً فتبت إلى الله فجزاك الله خيراً.

موقف الإمام عبدالله بن مسلمة القعنبي -رحمه الله-

00:15:00

والإمام المحدّث عبد الله بن مسلمة القعنبي، راوي الموطأ وشيخ البخاري ومسلم.
يحكي عنه بعض من عرفه، قال: "كان يشرب النبيذ ويصحب الأحداث، فدعاهم يوماً وقد قعد على الباب ينتظرهم، فمر شعبة بن الحجاج -رحمه الله- على دابته والناس خلفه يُهرعون، يريدون السماع من شعبة، فشعبة من أمراء المؤمنين في الحديث.
فلفت هذا المنظر نظر ذلك الشاب، فقال: من هذا؟ من هذا الذي يزدحم عليه الناس ويركضون وراءه؟
فقيل له: شعبة.
قال: ومن هو شعبة؟
قالوا: محدّث.
فقام الشاب ولحق بشعبة واستوقفه وعليه إزار أحمر، ومعلوم الحديث في النهي، نهي الرجال عن لبس الأحمر الخالص.
فقال: له الشاب: حدّثني.
قال: ما أنت من أصحاب الحديث حتى أحدّثك.
فأشهر الشاب سكينه، وقال: تحدثني أو أجرحك.
فقال شعبة: "حدثنا منصور عن ربعيّ عن أبي مسعود ، قال: قال رسول الله ﷺ: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت فوقف الشاب برهة ثم رمى سكينه ورجع إلى منزله فقام إلى ما عنده من الشراب فأراقه، ثم قال لأمه: الساعةَ يجيء أصحابي، فإذا جاءوا فرديهم، ضعي لهم طعاماً فإذا أكلوا فأخبريهم بما صنعتُ من الشراب، ومضى ذلك الشاب من وقته فلزم الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- فأخذ عنه، ثم رجع إلى البصرة، ولكن كان شُعبة قد مات فلم يسمع منه إلا ذلك الحديث، فصار القعنبي -رحمه الله- بعد ذلك من أعظم حفّاظ الحديث في أمة محمد ﷺ. [التوابين لابن قدامة: 133].

إذا لم تستحِ فاصنع ما شئتكان لها وقع في قلب ذلك الشاب، إنه حديث رسول الله ﷺ.
وهذا درس في الدعاة إلى الله أن يستعملوا نصوص القرآن وألفاظ الحديث النبوي في الدعوة والموعظة.

موقف مؤثر لاحد الدعاة في أدغال إفريقيا

00:18:15

قال داعية من الدعاة إلى الله --: كنت في رحلة دعوية للحدود البرية بين دولتي السنغال وموريتانيا حيث يوجد عدد كبير من النازحين، وكان الطريق وعراً موحشاً أصابنا فيه شدة وتعب، قطعنا فيه مفازة بعد مفازة لا نرى إلا أمواجاً من السراب، ولا نكاد نصل إلى قرية من القرى المتناثرة هناك إلا ونجد من يحذرنا من قطاع الطرق ولصوص الصحراء، حتى يسّر الله لنا الوصول إلى مواقع اللاجئين، وقد أسدل الليل ظلامه، ووجدت صاحبي قد أعد لنا خيمة وضع فيها فراشاً بالياً هيأه للنوم.
أحسست في نفسي بشيء من الفخر أو العُجب: من الذي سبقنا إلى هذا المكان فصنع مثلما صنعنا؟ ومن الذي يستطيع أن يتحمّل كل هذه المتاعب؟
وخرجنا في الصباح نتجول في أنحاء المنطقة، حتى وصلنا إلى بئر يبعد كيلو متراً من مكان النازحين، يرتوي منه الناس ويستقون، فرأيتُ مجموعة من النساء يحملن على رؤوسهن قدور الماء، وبينهن امرأة سافرة بيضاء تعجبت من حالها، ثم علمت أنها شابة في الثلاثينات جاءت من النرويج من أقاصي أوروبا.

قال لي مرافقي: إن هذه معنا من سنة أشهر تلبس مثل القوم، وتأكل طعامهم، وترافقهم في أعمالهم، وتعلّمت بعض لغتهم القبلية، وأنها في نهارها تداوي المرضى من النساء والأطفال، ومعها صاحبتها تعلّم النساء الخياطة وبعض الأعمال اليدوية، وأنها تجتمع مع الفتيات الصغيرات أو الشابات تعلمهن قواعد في القراءة والكتابة، وفي بعض الليالي تعلمهن الرقص، وأن الناس هنا قد أحبوها لتواضعها وقيامها بخدمتهم، فكم يتيما ًمسحت رأسه، وكم من مريض عالجته.
فتعجبت والله أشد العجب من هذه المرأة النصرانية، التي جاءت إلى هذه القفار النائية وهي على ضلالتها تاركة مروج أوروبا الخضراء وحدائقها الغنّاء لتأتي إلى هذا المكان.
فقوّى ذلك عزمي على البقاء مع هؤلاء وتسابقت الأسئلة إلى خاطري، وقضى المنظر على كل عُجبٍ قام في نفسي تلك الليلة، وتصاغرت إليّ نفسي، وأحسستُ بالضعف والمهانة.
هذه المنصّرة المضللة تقوم بعملها بكل جلَد وصبر وهي على الباطل، ونحن ننتفش عُجباً ونتيه بأنفسنا لأجل طريق سلكناه، ومصاعب عبرناها، أفلا نكون أصبر من هؤلاء على قيامنا بالحق؟.
فأيقنتُ أننا -معاشر الدعاة- أحوج ما نكون إلى الإخلاص، واحتساب الأجر، والمزيد من البذل والتضحية، وانتصارنا على أنفسنا، وإحساسناً بالمسؤوليات الدعوية.

المواقف المؤثرة التي تكون عند الموت

00:22:52

الموقف يكون أحياناً مؤثراً؛ لأنه نطق به إنسان على فراش الموت.
قال أحمد بن حفص: دخلت على أبي الحسن – يعني إسماعيل والد الإمام البخاري  -رحمه الله- وهو في سياق الموت، فقال في كلامه: "لا أعلم من مالي درهماً دخل عليّ من حرام ولا من شُبهة".
قال: فتصاغرت إليّ نفسي.

موقف مؤثر في الأخوة

00:23:32

وقد يكون الموقف مؤثراً؛ لأن الله يقدّر قدراً فيه درس عملي في عاقبة الإحسان مثلاً.
قال بعضهم: كان لي صديقان أحدهما هاشمي، وكنا كنفس واحدة -يعني نحن الثلاثة- فنالتني ضائقة شديدة وحضر العيد، فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على الشدة والبؤس، لكن صبياننا؟ هؤلاء المساكين، قد قطّعوا قلبي رحمة لهم.
وصبيان الجيران قد تزينوا هذه الليلة وأصلحوا ثيابهم، وأولادنا على حال رثّة، فلو احتلتَ بشيء نصرفه في كسوتهم.

فكتبتُ إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة عليّ بما حضر -بما تيسّر- فوجه إليّ كيساً مختوماً، ذكر أن فيه ألف درهم، فلما صار الكيس عندي، إذا بالصديق الآخر يوجه إليّ يشكو بما شكوتُ إلى صاحبي.
فوجهتُ إليه الكيس بحاله، وخرجتُ إلى المسجد، فأقمتُ فيه ليلي مستحيياً من امرأتي، ثم دخلتُ عليها في الصباح وأخبرتها بما فعلتُ، فاستحسنت ذلك ولم تعنفني عليه.
فبينا أنا كذلك إذ جاء صديقي الهاشميّ ومعه الكيس كهيأته، فقال لي: أصدقني عما فعلتَه فيما وجهتُه إليك؟
فعرّفته الخبر على وجهه، فقال: إنك وجّهت إليّ وما أملك على الأرض إلا ما بعثتُ به إليك، وكتبتُ إلى صديقي أسأله المواساة فوجّه إلي بكيسي وعليه خاتمي.
قال: فتواسينا الكيس أثلاثاً".
ما دام انكشفت القضية وعُرِف الأمر، توزّعنا ما في الكيس، فبلغ الخبر الخليفة، فأرسل إلينا بسبعة آلاف دينار، لكل واحد منّا ألفان وألف لزوجته" [وفيات الأعيان: 4/349].

موقف مؤثر بسبب معروف قديم

00:26:36

تقدم شخص بطلب وظيفة في شركة كبرى صاحبها من أغنى الأغنياء، دخل على شؤون الموظفين، وقدّم أوراقه، وطلب إعلامه بالنتيجة، وأُخبر بأن عليه أن ينتظر اتصالاً في حالة وجود حاجة، فخرج وهو متيقن كالعادة أن النتيجة ستكون سلبية وأن هذا الطلب مصيره إلى سلة المهملات.
ومضت أيام وفجأة جاء اتصال من متحدّث يطلب منه القدوم إلى الشركة في يوم موعود، لإجراء مقابلة.
فلبس أحسن ما وجده من ثيابه المتواضعة وذهب حسب الموعد وأبلغ موظف الاستعلامات باسمه، فقام له الآخر ناهضاً احتراما ًوأهلاً وسهلاً يا سيد فلان، وشرفتنا، تفضل؛ لأن رئيس مجلس الإدارة يريد أن يقابلك شخصياً بعدما اطلع على سيرتك الذاتية.

فضحك سعيد في نفسه وقال: يا صديقي، لعلك خلطتَ بيني وبين شخص آخر، أنا مجرد إنسان بسيط طالب وظيفة بسيطة.
فقال: ألستَ سعيد بن فلان بن فلان وعندك موعد الساعة الخامسة؟
فقلت: نعم.
فقال: أنا لست مخطئاً، وموعدك مع رئيس مجلس الإدارة.
فدخلتُ ذلك المكتب الفخم وإذا بمديره يستقبلني ناهضاً احتراماً، وحاولت أن أشرح له أيضاً أن الأمر فيه لبسٌ، فأكّد لي أنه ليس هناك لبس في الأمر، ثم أدخلني إلى ذلك المكتب الفخم ورئيس مجلس الإدارة جالس، فلما رآني نهض من كرسيه، وأخذني بالأحضان، وقال: أهلاً بالعزيز الغالي.
فتلعثمت، وقلت: أشكرك يا سيدي على هذه الحفاوة البالغة، ولكن الغالب أنك تحسبني شخصاً آخر وأنا لا أعرفك من قبل، فتبسّم الرجل وذهب إلى درج مكتبه، ثم أخرج صورة صغيرة قديمة، وأراني إياها، فبُهتّ لأن هذه صورة والدي، فقال لي: من هذا؟
قلت: هذا أبي.
قال: أين هو؟
قلت: مات.
قال: مات الرجل الطيب -رحمه الله- وجعل الجنة مثواه.

فجعلتُ لا أفهم كيف أن كبيراً من أثرياء البلد يعرف أبي وأبي كان رجلاً عادياً؟
فقال: دعني أخبرك بالحكاية...
منذ سنوات طويلة كنت شاباً في مقتبل العمر، وكنت فقيراً، وفي أحد الأيام كنت أريد أن أتقدّم بطلب وظيفة مثلما تفعل الآن، ولكن المشكلة أني لم أكن أمتلك أية نقود كي أذهب إلى المدينة لأطلب وظيفة، فجلستُ حائراً مهموماً في محطة الحافلات، لا أدري من أين أُحصّل ثمن التذكرة.
وكان بجانبي رجل رآني مهموماً، فسألني فأخبرته عن حالي، فمدّ يده في جيبه وأخرج محفظته واستخرج كل ما فيها من أوراق نقدية وأعطاني إياها، وقد استغربت وأخبرته أني لا أستطيع قبولها، ولكن مع إصراره الشديد أخذتها، وسألته كيف أردها له؟
فقال: لا تردها لي، ولكن إذا منّ الله عليك فاجعل صدقة جارية لك أن تساعد كل يوم رجلاً محتاجاً.

وأنا لا أعرف من هو، ولما افترقنا وأخرجت النقود إذا بصورة بين النقود قد نسيها ذلك الرجل دخلت بين الأوراق، فاحتفظت بها ذكرى لذلك الرجل، مضيت إلى المدينة فتوظفت وترقيت ثم تاجرت وأسست شركتي وازدهرت أعمالي، وبحثت عن والدك في كل مكان فلم أجده.
ومن يومها وأنا كل يوم أساعد شخصاً لا أعرفه، تارة في محطة حافلات، وتارة في المسجد، وتارة في المستشفى.
وأنا لا زلتُ على العهد بيني وبين أبيك، واعلم أني لم أكن افحص طلبات التوظيف منذ عشرين سنة، إلا أن شيئاً دفعني أن أطلب من مدير التوظيف في ذلك اليوم أن يرسل إليّ ملفات التوظيف الجديدة.

وأخذتُ أتفحصها واحداً واحداً، فلما وقعت عيني على صورتك عرفتك، فأنت صورة طبق الأصل لوالدك، والحمد لله الذي هيأ لي أن أرد جميلاً من جمائله وفضلاً من أفضاله، واعلم أنك الآن معيّن في مكتبي الخاص.

مواقف مؤثرة في حياة الأئمة والعلماء

00:33:16

قد يكون الموقف أحياناً مؤثراً؛ لأن الشخص يُصدم بكلمة تنبهه إلى جهله، تنبهه إلى حاله، فينبعث فيه مثلاً الرغبة في التعلُّم.
ابن حزم -رحمه الله- ذكر أن سبب اندفاعه إلى الفقه: جنازة حضرها، فدخل المسجد فجلس ولم يصلّ ركعتين
فقال له رجل: قُم صلّ تحية المسجد، وكان قد بلغ ستاً وعشرين سنة.
قال: فقمتُ فركعتُ ركعتين.
فلما رجعنا من الصلاة على الجنازة دخلتُ المسجد فبادرتُ بالركوع فقال لي إنسان: اجلس، ليس هذا وقت صلاة، وكان بعد العصر.
قال: فانصرفتُ وقد حزنتُ، وقلت: يأمرني واحد بالصلاة وينهاني الثاني عن الصلاة.
وسألت عن الفقيه، فقيل لي: هو أبو عبد الله بن دحّون، فقصدته، وأعلمته بما جرى، فدلني على موطأ مالك، فبدأت به عليه وتتابعتُ قراءتي عليه وعلى غيره، وفتح الله عليه" [سير أعلام النبلاء: 18/199].
الإمام الشافعي -رحمه الله- كان مشواره في طلب العلم أيضاً بادئاً من كلمة حوّلت مساره؛ لأن الشافعي -رحمه الله- كان مهتماً بالشعر في أول أمره، ولم يكن مهتماً بأمور الشريعة.
قال: "كنت امرئً أكتب الشعر وآتي البوادي فأسمع منهم"، وكثير من الشباب عندهم اهتمامات شعرية الآن مثلاً.
قال: "وقدمتُ مكة وخرجت وأنا أتمثّل بشعر للبيد، فضربني رجل من ورائي، فقال: رجلٌ من قريش ثم ابن المطلب رضي من دينه ودنياه أن يكون مع الشعر؟ ما الشعر؟ الشعر إذا استحكمتَ فيه قعدتُ معلماً، تفقّه يُعلِكَ الله.

قال: "فنفعني الله بكلام ذلك الرجل، ورجعت إلى مكة وكتبت عن ابن عيينة ما شاء الله أن أكتب، ثم كنت أجالس مسلم بن خالد الزنجي، ثم قدمتُ على مالك، فكتبت موطأه... وهكذا". [حلية الأولياء: 9/70].
المازري -رحمه الله- شارح صحيح مسلم، تعلّم الطب، ومن العجيب أن يتعلّم بعض شرّاح الحديث والمشتغلين به علماً كعلم الطب، لكن ذلك كان بسبب كلمة قالها له يهودي.
فإن المازري -رحمه الله- مرض مرة، فلم يجد من يعالجه إلا يهودي؛ لأن الشافعي -رحمه الله- قال: "نِعم العلم هذا الطب لكن تركناه لأهل الكتاب" [سير أعلام النبلاء: 10/57]. يتأسف أن المسلمين تركوا علم الطب لأهل الكتاب، فصاروا محتاجين إلى اليهود والنصارى، ومن الذي لا يحتاج إلى طبيب في حياته؟
مرض المازري -رحمه الله- مرة فلم يجد من يعالجه إلا يهودي، فلما عوفي على يده، قال له اليهودي مصارحاً: "لولا التزامي بحفظ صناعتي -يعني لولا المحافظة على السمعة- لأعدمتُك المسلمين".
أنا أعطيتك شيء يفتقدوه المسلمون.
قال: "فأثّر هذا في نفسه، وأقبل على تعلم الطب حتى برع فيه، وصار يفتي في الطب كما يفتي في العلم والفقة.كما في: [تاريخ الإسلام: 11/661،  وسير أعلام النبلاء: 20/105].
وقال أبو علي البغدادي -رحمه الله-، قال أبو نصر النحوي -رحمه الله-: "كنا نختلف إلى أبي علي البغدادي في وقت إملائه النوادر في جامع الزهراء، فبينا أنا ذات يوم في بعض الطريق إذ أخذتني سحابة، فما وصلت إلى مجلسه إلا وقد ابتلت ثيابي كلها – من المطر – وحوله أعلام أهل قرطبة، فأمرني بالدنوّ منه، وقال لي: مهلاً يا أبا نصر، لا تأسف على ما عرض لك، فهذا شيء هيّن يضمحل عنك بسرعة، بثياب تبدلها، ولقد عرض لي ما أبدى بجسمي ندوباً يدخل معي القبر، ثم قال لنا: كنت أختلف على ابن مجاهد -يعني أذهب إلى ابن مجاهد رحمه الله- فأدلجتُ إليه لأتقرب منه،  فلما انتهيت إلى الدرب الذي كنت أخرج منه إلى مجلسه ألفيته مغلقاً وعسُر علي فتحه، فقلت: سبحان الله، أبكّر هذا البكور وأُغلب على القرب منه؟

فنظرتُ إلى سرب بجنب الدار فاقتحمته، فلما توسطت ضاق بي ولم أقدر على الخروج ولا على النهوض.
فاقتحمته أشد الاقتحام حتى تخرقت ثيابي وأثر في لحمي، وانكشف شيء من العظم، ومنّ الله عليّ بالخروج.
وافيت مجلس الشيخ على هذه الحال، فأين أنت مما عرض لي؟ وأنشد:

دببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دونه الأزُر
فكابدوا المجد حتى ملّ أكثرهم وعانق المجد من أوفى ومن صبر
لا تحسب المجد ثمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبِرَ

قال أبو نصر: "فكتبناها عنه وسلاّني بما حكاني، وهان عندي ما حصل بثيابي، ثم استكثرتُ من الاختلاف إليه ولم أفارقه حتى مات -رحمه الله-". [الصلة في تاريخ أئمة الأندلس: 620].
قلنا : الموقف يكون مؤثراً إذا كان في النزع الأخير، ويكون فيه درس.
قال بعضهم: "حضرتُ أحد العباد وهو يحتضر، فقال وقد عرق جبينه وأُمسك لسانه -لا يستطيع الكلام- مشيراً إلى الوضوء، قال: فوضأته ونسيتُ تخليل اللحية، فقبض على يدي وأدخل أصابعي في لحيته، فبكيتُ وقلت: أي شيء يتهيأ لرجل لم يذهب عليه تخليل لحيته في الوضوء حين نزع روحه وإمساك لسانه وعرق جبينه، فكان في ذلك تأثير كبير في الاهتمام بالسنة والمحافظة عليها من هذا الموقف" [حلية الأولياء: 10/371].

موقف مؤثر وعبرة من أحوال من سبق

00:41:42

قال ابن قتيبة: "حدّثني رجل من أصحاب الأخبار أن المنصور -يعني الخليفة- سمر ذات ليلة، فذكر خلفاء بني أمية وسيرتهم وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، فكان همهم قصد الشهوات، وإيثار الملذات، والدخول في معاصي الله ومساخطه جهلاً منهم باستدراج الله وأمناً من مكره. فسلبهم الله الملك والعز، ونقل عنهم النعمة.

فقال له صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبيد الله بن مروان لما دخل أرض النوبة هارباً فيمن اتبعه، سأل ملك النوبة عنهم وقد أُخبر فجاءهم وكلمهم كلاماً عجيباً لا أحفظه، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس ونسأله عن ذلك، فأمر المنصور بإحضار عبيد الله بن مروان الأموي، وسأله عن القصة؟
قال: يا أمير المؤمنين قدمتُ أرض النوبة.

وفي نهاية حكم بني أمية هرب من استطاع منهم الهروب؛ لأنه قد قتل منهم الكثير والبحث عن البقية جارٍ.
فهرب هذا إلى بلاد النوبة، قال: هربت بأثاث سلم لي، فافترشته بها وأقمت ثلاثاً.
فخُبّر ملك النوبة عن أمري، فجاءنا ودخل عليّ رجل طوال أقنى -أي الأنف- حسن الوجه، فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب.
فقلت: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟ فقال: إني ملك وحُق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله -- إذ رفعه.
ثم أقبل عليّ فقال: لمَ تشربون الخمور وهي محرمة عليكم في كتابكم؟
فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وسفهاؤنا.
قال: فلم تطئون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم؟
قلت: يفعل ذلك جهّالنا.
قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعلمون الذهب وهو محرم عليكم؟
فقلت: زال عنّا الملك، وقلّ أنصارنا، فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا، فلبسوا ذلك على كره منّا.
فأطرق ملياً وجعل يقلّب يده وينكت في الأرض ويقول: عبيدنا، أتباعنا، أعاجم دخلوا في ديننا.

ثم رفع رأسه إليّ وقال: "ليس ذلك كما ذكرتَ، بل أنتم قوم استحللتم ما حُرّم عليكم، وركبتم ما نُهيتم عنه، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله تعالى العز، وألبسكم الذُّل بذنوبكم، ولله تعالى فيكم نقمة لم تبلغ نهايتها، وأخاف أن يحلّ عليكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاث، فتزودوا ما احتجتم إليه وارحلوا عن بلادي"، ففعلت ذلك فتعجب المنصور وأطرق، والقصة في تأويل مُختلف الحديث وتاريخ ابن خلدون. [تأويل مختلف الحديث: 368، وتاريخ ابن خلدون :1/259].
حُكي أن رجلاً جلس يوماً يأكل هو وزوجته وبين أيديهما دجاجة مشوية، فوقف سائل بالباب، فخرج إليه وانتهره، فذهب السائل.
فاتفق بعد ذلك أن هذا الرجل افتقر وزالت نعمته وطلّق زوجته، وتزوجت برجل آخر، فجلس معها يوماً من الأيام - الثاني- يأكل بين أيديهما دجاجة مشوية وإذا بسائل يطرق الباب، فقال الرجل لزوجته: ادفعي إليه هذه الدجاجة.
فخرجت بها إليه فإذا هو زوجها الأول، فدفعت إليه الدجاجة ورجعت باكية، فسألها زوجها عن بكائها، فأخبرته عن تلك القصة، وذلك السائل الذي انتهره زوجها الأول.
فقال لها: أنا والله ذلك السائل.

يقول الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله-: كنت قاضياً في الشام وحدث أن كنّا مجموعة نمضي المساء عند أحد الأصدقاء فشعرت بضيق نفس واختناق، فاستأذنت أصدقائي للرحيل فأصروا أن أتم معهم السهرة فلم أستطع، وقلت: أريد أن أتمشى لأستنشق هواءً نقياً، فخرجت وحدي في الظلام، وبينا أنا كذلك إذ سمعت نحيباً وابتهالاً آتٍ من وراء تلّة، نظرت فوجدت امرأة يبدو عليها البؤس تبكي بحرقة وتدعو الله.
فاقتربت وقلت: مالك تبكين؟
قالت: إن زوجي رجل قاسٍ وظالم، طردني من البيت وأخذ أبنائي، وأقسم أن لا أراهم يوماً، وليس لي مكان أذهب إليه.
قلت: ولماذا لا ترفعين أمرك إلى القاضي؟
فبكت كثيرا ًوقالت: أنا امرأة وكيف لمثلي أن أصل إلى القاضي؟.
قال الشيخ: وهي لا تعلم أن الله قد جرّ إليها القاضي من رقبته.
لأن الشيخ -رحمه الله- كان قاضياً.
قال عبيد الله بن محمد الصروي: "حدثني أبي أن رجلاً حج وفي وسطه هميانٌ فيه دنانير وجواهر، قيمة الجميع ثلاثة آلاف دينار، والهميان: ديباج أسود.
فلما كان في بعض الطريق جلس يبول فانحلّ الهميان من وسطه وسقط، ولم يعلم به إلا بعد أن سار فراسخ.
واتفق أن رجلاً جاء على أثره، وجلس يبول مكانه ورأى الهميان وأخذه وكان له دِين فحفظ الهميان.
قال الرجل: فلم يؤثر في قلبي ذهابه لكثرة مالي فاحتسبته عند الله تعالى وتغافلت، وكان معي تجارة بأموال عظيمة فقضيتُ حجي وعدتُ إلى بلدي.

فلما كان بعد سنين افتقرت، وتوالت عليّ المحن، ولم يبقَ لي شيء، فهربتُ على وجهي من بلدي وقد أفضيتُ إلى الصدقة عليّ وزوجتي معي، فأويتُ إلى بعض القرى ونزلت في خانِ خرب.
فأصاب زوجتي الطلق وما أملك غير دانق ونصف من الفضة وكانت ليلة مطيرة، فوَلدَت، فقالت: يا هذا الساعة أموت، أخرج وجد لي شيئاً أتقوى به.
فخرجت أتخبط في الظلمة والمطر، حتى جئت إلى بقال فوقفت عليه، فكلمني بعد كل جهد فشرحت له حالي فرحمني وأعطاني قطعة حلبة وزيتاً وأعارني غضارة جعلته فيها، فمشيت أريد موضعي فزلقت وانكسرت الغضارة وذهب ما فيها، فورد علي أمر عظيم وأقبلتُ أبكي وأصيح، فإذا برجل قد أخرج رأسه من شباك دار وقال: ويلك، مالك تبكي؟ ما تدعنا ننام؟ فشرحت له قصتي، فقال: هذا البكاء كله بسبب دانق ونصف؟

فتداخلني من الغم أكثر من الأول، فقلت: يا هذا والله ما لما ذهب عندي محل، ولكن بكائي رحمة لنفسي مما دفعتُ إليه، وإن زوجتي وولدي الساعة يموتان جوعاً.
قال: وقد حججت في سنة كذا وكذا وأنا أملك من المال كذا وكذا، وذهب مني هميان فيه دنانير وجواهر بثلاثة آلاف ما فكرتُ فيه لما كان عندي من المال، ولكن الآن أبكي على دانق ونصف أسأل الله السلامة والعافية، لا تعيّرني ببلواي.
فقال لي: بالله عليك صف لي هميانك.
فلطمتُ رأسي وقلت: ما يقنعك ما خاطبتني به وما تراه من صورتي وقيامي في الطين والمطر حتى تلهّى بي، وأي شيء ينفعك صفة همياني وقد ضاع منذ كذا وكذا سنة؟
وإذا هو قد خرج يصيح بي: تعال خذ هذا.
فجئته قلت يتصدق علي، فقال: ما صفة هميانك؟ وقبض على يدي فلم أستطع أن أتخلص منه.

فوصفت له همياني، فقال: ادخل. فدخلت منزله، فقال: أين زوجتك؟
قلت: في الخان الفلاني، فأنفذ غلمانه فأتوا بها فأدخلها إلى حُرَمه، وأصلحوا أمرها وأطعموها ما احتاجت، وكساني كسوة حسنة، وأدخلني الحمام وأصبحت عنده في عيشة طيبة.
فقال: أقم عندي أياماً لأضيفك، فأقمتُ عنده عشرة أيام، كان يعطيني في كل يوم عشرين ديناراً وأنا متحير من عظيم بره بعد شدة جفائه.
فلما كان بعد ذلك قال لي: أي شيء تتصرف فيه؟
قلت: كنت تاجراً.
قال: أقم عندي وأنا أعطيتك رأس مال تتجّر في شركتي.
فقلت: أفعل.
فدفع إليّ مائة دينار وقال: اتّجر به ها هنا.
فقلت: هذا معاش قد أغناني الله تعالى به، يجب أن ألزمه، فلزمته.
فلما كان بعد شهور ربحنا، فجئته، فقلت له: خذ ربحك.
فقال لي: اجلس، فجلست، فأخرج إليّ همياني، فقال: أتعرف هذا؟
فحين رأيته شهقت شهقة كدتُ أن يُغمى عليّ.
ثم أفقت بعد ساعة، فقلت له: يا هذا، أمَلَك أنت؟

قال: لا، ولكنّي ممتحن بحفظ هميانك هذا منذ كذا وكذا سنة.
فلما سمعتك تلك الليلة تقول ما قلته، وأعطيتني علامته أردتُ أن أعطيك هو فخشيت أن تنشق مرارتك من الفرح، فأعطيتك تلك الدنانير التي أوهمتك أنها هبة لك، وإنما أعطيتك ذلك كله من هميانك، والدنانير المائتان قرض، فخذ هميانك واجعلني في حِل.
فأخذته ودعوت له ورددت عليه القرض ورجعت إلى بلدي وبعت الجوهر وأضفت ثمنه إلى الدنانير واتّجرت بها، فما مضت إلا سنيات حتى صرتُ صاحب عشرة آلاف دينار فأنا في فضل الله تعالى أعيش بها إلى الآن".[الفرج بعد الشدة للتنوخي: 2/37].
يقول الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله-: في دمشق مسجد كبير اسمه "جامع التوبة" فيه أنس وجمال، سمي بجامع التوبة لأنه كان خاناً ترتكب فيه أنواع المعاصي، فاشتراه أحد المحسنين في القرن السابع وهدمه وبناه مسجداً.
وكان فيه منذ نحو سبعين سنة شيخ مربي فاضل اسمه: "سليم" -رحمه الله-.
كان أهل الحي يثقون به ويرجعون إليه في أمور دينهم ودنياهم.
وكان هناك تلميذ مضرب المثل في فقره وفي إبائه وعزّة نفسه، يسكن في غرفة المسجد، مر عليه يومان لم يأكل شيئاً، وليس عنده ما يطعمه ولا ما يشتري به طعاماً.

فلما جاء اليوم الثالث أحس كأنه مشرف على الموت، وفكر ماذا يصنع، فرأى أنه بلغ حد الاضطرار الذي يجيز له أكل الميتة، والأخذ خفية بمقدار الحاجة.
وكان المسجد في حي من الأحياء القديمة، والبيوت فيها متلاصقة، والأسطح متصلة، ويستطيع المرء أن ينتقل من بيت إلى آخر فصعد إلى سطح المسجد وانتقل منه إلى الدار التي تليه، فلمح نساء فيها، فغضّ بصره وابتعد، ونظر فرأى إلى جانبها داراً خالية، وشمّ ريح الطبخ تصدر منها، وجوعه يجذبه كالمغناطيس، وكان الدور من طبقة واحدة فقفز قفزتين من السطح إلى الشرفة فصار في الدار وأسرع إلى المطبخ فكشف الغطاء فإذا بباذنجان محشو، فأخذ واحدة ولم يبالِ من شدة الجوع بسخونتها.

فعض عضة فلم يكد يبتلعها حتى ارتد إليها عقله ودينه، وقال: أعوذ بالله أنا طالب علم أقيم في المسجد أقتحم المنازل وأسرق ما فيها؟
فكبر عليه ما فعل، وندم، واستغفر، ورد الباذنجانة، وعاد من حيث جاء، ونزل إلى المسجد وقعد في حلقة الشيخ وهو في شدة الجوع لا يكاد يفهم ما يسمع.
فلما انقضى الدرس وانصرف الناس، جاءت امرأة مستترة، ولم يكن في تلك الأيام امرأة غير مستترة.
فكلمت الشيخ بكلام لم يسمعه، فتلفت الشيخ حوله فلم يرَ غيره، فدعاه، وقال له: هل أنت متزوج؟
قال: لا.
قال: هل تريد الزواج؟
فسكت، فقال: هل تريد الزواج؟

قال: يا سيدي ما عندي ثمن رغيف والله، فلماذا أتزوج؟
فقال الشيخ: إن هذه المرأة أخبرتني أن زوجها قد توفي من مدة وأنها غريبة عن هذا البلد وليس لها فيه ولا في الدنيا إلا عم عجوز فقير، جاءت به معها  -وأشارت إلى رجل قاعد في ركن الحلقة-  وقد ورثت دار زوجها ومعاشه، وهي تحب أن تجد رجلاً يتزوجها على سنة الله ورسوله؛ لأن لا تبقى منفردة فيطمع فيها الأشرار وأولاد الحرام.
فهل تريد أن تتزوج بها؟
قلت: نعم.
فسألها الشيخ: هل تقبلين به زوجاً؟
قالت: نعم.
فدعا بعمها وشاهدين وعقد العقد، ودفع المهر من عنده.
وقال: خذ بيدها، أو أخذت بيده فقادته إلى بيتها.
فلما دخلته كشف عن وجهها فرأى شباباً وجمالاً، ورأى البيت هذا هو الذي نزله قبل قليل، وسألته: هل تأكل؟
قال: نعم.

فكشفت غطاء القدر فرأت الباذنجانة، فقالت: عجباً، من عضّها؟
فبكى الرجل وقصّ عليها الخبر.
فقالت: عففتَ عن الباذنجانة فأعطاك الله الدار وصاحبتها والباذنجان كله".
وهكذا تمضي المواقف المؤثرة التي تحيي الإيمان في النفوس وتدعو إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة، ومنها العفة عن الحرام، والأمانة. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا[النساء: 58].

موقف الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- مع حجاب ابنته

01:00:00

وعندما تكون القصة فيها تربية أو فيها دافع إلى تعلم شيء من الدين والعمل به فإن ذلك ولا شك في غاية الأهمية.
يقول الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله-: كيف أعمل على تعليم بناتي الحجاب؟ أنا لا أريد أن أجبر بنتي عليه إجباراً فتتخذه وهي كارهة ضائقة به، حتى إذا استطاعت نبذه نبذته.
بل أريد أن تتخذه مقتنعة به، مطمئنة إليه محبة له.
ففكرت وطلبت العون من الله لما جاوزت بنتي الأولى التاسعة، فقلت لأمها: اذهبي فاشتري لها خماراً غالياً نفيساً.
وكان الخمار العادي يباع بليرتين، وإن ارتفع ثمنه فثلاث.
قالت: إنها صغيرة تسخر منها رفيقاتها إن غطت شعرها ويهزأن بها.
قلت: لقد قدرت هذا وفكرت فيه، فاشتري لها أغلى خمار تجدينه في السوق مهما بلغ ثمنه.
فكلمتني بالهاتف من السوق، فقالت: لقد وجدت خماراً نفيساً من الحرير الخالص ثمنه أربعون ليرة.
وكان هذا المبلغ يعدل من راتبي الثلث في الشهر كله.
فقلت لها: اشتريه.
فتعجبت وحاولت أن تثنيني عن شرائه فأصررت، فلما جاءت به ولبسته البنت وذهبت به إلى المدرسة كان إعجاب التلميذات به أكثر من عجبهن منها بارتدائه.
وجعلن يثنين عليها وقد حسدها أكثرهن على امتلاكه.
فاقترن اتخاذها الحجاب وهي صغيرة بهذا الإعجاب وذهب بعضهن في اليوم التالي فاشترين ما يقدرن عليه من أمثاله وإن لم تشترِ واحدة منهن خماراً في مثل نفاسته.
بدأت اتخاذ الحجاب فخورة به محبة له وهكذا كان الأمر في محبة الحجاب.
والقصص والمواقف كثيرة، فلعله لضيق الوقت نكتفي بما مضى منها، ونسأل الله -- أن يحيي قلوبنا بالإيمان، وأن يرزقنا البر والتقوى، وأن يجعلنا من الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساءوا استغفروا، إنه سميع مجيب قريب.

  • طاهر علي

    جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرا يا شيخنا الجليل وإنا والله نحبك في الله ونحسبك من حملة سراج الحق ولا نزكي على الله أحدا

  • عبد القادر

    جزاكم الله خير الجزاء بارك الله فيكم ونفع الله بكم ورفع الله قدركم اسال الله ان يجعله فى ميزان حسناتكم

  • ناصر زيدان بن سعدي التميمي

    الله يمد في عمرك ويبارك فيه

  • ام حمزة

    بارك الله فيك يا شيخنا الفاضل وجعلك ذخراللاسلام والمسلمبن