الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
عبادة التفكر
فإن كثيراً من المسلمين -أيها الإخوة- يفهمون عبادات الجوارح، وأعمال اللسان، لكنهم قليلاً ما يفهمون عبادات القلب، ويسهل عليهم استيعاب أعمال اللسان وعباداته، وكذلك الشعائر التعبدية التي تقوم بها الأعضاء، لكنهم يصعب عليهم فهم أعمال القلب، ثم إذا فهموا ذلك فقليل منهم من يعمل به، فلنأخذ جولة أيها الإخوة في عمل مهم من أعمال القلب، تتوقف عليه سعادة الإنسان وتحصل له به فتوح كثيرة، ويحصل على كنوز عظيمة هي والله أعظم من كنوز الذهب والفضة، وهذا العمل القلبي، وهذه العبادة العظيمة التي غفل عنها الكثيرون هي التفكر والتأمل، إعمال الخاطر في الشيء، النظر والتثبت فيه، تدقيق النظر في آيات الله المسطورة في كتابه والمنثورة في كونه، والمنثورة في خلقه بغرض الاتعاظ والتذكر، وأخذ العبرة ومعرفة الحكم، التدبر والتأمل والتفكر.
الندب إلى التفكر
عباد الله: إن الله قد ندبنا إلى التفكر والتذكر والتمعن، وذكر لنا في آياته أموراً كثيرة منها: الندب إلى التفكر في أحكامه، ولما حرم الخمر، وقال في الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ختم الآية بقوله: كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَسورة البقرة219، ثم أنزل تحريمها، وأمر وحث على التفكر في خلق السماوات والأرض، فقال مادحاً عباده: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِسورة آل عمران191، وقص علينا القصص مثل قصة الذي آتاه آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، قال في آخر القصة: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَسورة الأعراف176، ثم أعطانا أمثالاً في كتابه لأمور متعددة وأمرنا بالتفكر فيها كمثل قوله تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَسورة يونس24.
وأوجد في الأرض هذه النباتات من ماء المطر ودعانا للتفكر فيها وفيما أنبت فقال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَسورة النحل10، ترعون أنعامكم يُنبِتُ لَكُم بِهِبهذا الأنعام الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَسورة النحل11.
وخلق الدقائق من حشرات وغيرها وفاوت بينها في النفع، وجعل من النحل مجالاً عظيماً للانتفاع وأمرنا بالتفكر وحثنا على ذلك في خلقها فقال تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَسورة النحل68، مساكن النحل ثلاثة، ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَسورة النحل69.
وندبنا الله تعالى للتفكر في أنفسنا التي خلقها فقال: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْسورة الروم8، وفي خلقنا قال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَسورة الروم20-24.
وندبنا سبحانه للتفكر في نبوة نبينا ﷺ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا، من الذي يتفكر؟ من الذي يقوم بهذه العلمية أيها الإخوة؟ من الذي يفعل ذلك، مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍسورة سبأ46.
وفي وفاتنا عبرة وموتتنا الكبرى والصغرى فكرة، اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ تموت وهي نائمة وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فتعود الروح إلى النائم إذا استيقظ من نومه إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَسورة الزمر42.
ودعا الكفار للتفكر ليتوصلوا إلى وحدانيته ويرجعوا عن كفرهم، أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَسورة الأنبياء30.
ولفت نظرنا إلى السماء التي فوقنا المرفوعة بغير أعمدة خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍسورة لقمان10-11أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء ألم تر، فانظر واعتبر فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌسورة الحـج63.
نماذج من تفكر النبي ﷺ والصالحين
التأمل والتفكر والتذكر، التأمل والتفكر والتدبر في آيات الله في المصحف، وفي آيات الله في الكون والواقع، من الذي يفعل ذلك؟ وقليل ما هم، فإذا نظر في المصحف فعيناه على الحروف، ولكن القلب غير عامل في المعاني، وإذا عاش في الدنيا فالحواس تتلذذ بما فيها، لكن القلب غافل عن آيات الله فيها.
وكان ﷺ يتفكر ويتدبر ويأمر بذلك بل ويتوعد من لا يقوم به، عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فقال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله ﷺ، فسكتت، تستحضر المشاهد التي رأتها من زوجها ﷺ، فسكتت ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي قال: يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما سرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله لم تبك وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزل علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِسورة آل عمران190-191، الآيات من سورة آل عمران.[رواه الطحاوي في مشكل الآثار4618]ثم إن النبي ﷺ أول ما بدء به الوحي كيف كان حاله؟ ألم يكن في غار حراء يتحنث، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدء به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، أي في الوضوح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: ما أنا بقارئ، القصة إلى أن قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ سورة العلق1-3.[رواه البخاري4].
فكان مبدأ النبوة حين كان ﷺ يجلس في غار حراء يتحنث، ويتفكر، ويتدبر، ويتأمل ﷺ.
وكذلك كان الصحابة، وكذلك كان الصالحون، حثوا وفعلوا، عن ابن عباس قال: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب.
وقال عمر بن عبد العزيز: الفكرة في نعم الله من أفضل العبادة.
وكان بعض الصالحين يطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه فيقول: يا سيدي إنك تديم الجلوس وحدك، فلو جلست مع الناس كان آنس لك، فيقول: إن طول الوحدة أفهم للفكر وطول الفكر دليل على طريق الجنة.
وبينما أبو شريح يمشي إذ جلس فتقنع بكسائه فجعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: تأملت في ذهاب عمري، وقلة عملي، واقتراب أجلي.
وبكى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله مرة بين أصحابه فسئل عن ذلك، فقال: فكرت، الذين يشتكون من قسوة القلب ويقولون: ما هو الطريق لزيادة الإيمان، عندنا ضعف في الإيمان، ما هو السبيل لزيادة الإيمان، لإحياء القلب؟ السبيل من أعظم السبل هذا السبيل الذي لا يعمل به الكثيرون، الأكثرون أيها الإخوة صدقوني الأكثرون لا يقومون بهذه العبادة، التفكر والتدبر.
بكى يوماً بين أصحابه فسئل عن ذلك فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إنَّ فيها مواعظ لمن ادكر، أي: ذكر.
وعن عبد الله بن عتبة قال: سألت أم الدرداء: ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار.
وعن عامر بن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمد ﷺ يقولون: إن ضياء الإيمان التفكر.
وعن الحسن رحمه الله قال: إن من أفضل العمل الورع والتفكر.
وقال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
وقال محمد بن كعب: لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ"إذا زلزلت" والقارعة لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إليَّ من أن أهذ القرآن ليلتي هذه هذاً أو أنثره نثراً.
من كان منطقه ذكراً، وصمته فكراً، ونظره عبرة، هذا أحرى به أن يكون من أهل الجنة.
وقال وهب: ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل.
وقال عبد الله بن مبارك: مر رجل براهب عند مقبرة ومزبلة، فقال: يا راهب، إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر، كنز الرجال وكنز الأموال، الأموال آخرها إلى المزبلة، وتبلى الثمار والثياب وآخرها إلى المزبلة، وكذلك الرجال آخرتهم إلى المقبرة حتى يبعث الله العباد وتقوم الساعة.
في المقبرة وفي المزبلة عبر.
قال الشيخ أبو سليمان: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله فيه نعمة ولي فيه عبرة.
وقال بشر: لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله .
ولذلك قال ابن عباس : تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله، فالتفكر في الله ليس في ذاته، ولكن في معاني أسمائه وصفاته، وعظمته وجلاله .
وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، يوم القيامة، ما أتينا عليه ولا رأيناه بأعيننا، ولكن يمكن أن نشاهده بقلوبنا، بعملية تفكر وتأمل يمكن أن تشاهد القيامة بقلبك؛ لأن الله أعطاك من الآيات ما ترى به القيامة كأنها رأي عين إذا الشمس كورت، إذا السماء انشقت.
وانظروا إلى المنصرف بالفريقين، حين ينصرف الناس من الموقف بعد الحساب والجزاء، حينما ينفض اليوم الذي مقداره خمسين ألف سنة، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها.
قال الشافعي رحمه الله: استعينوا على الكلام بالصمت، فإذا صمت تبين لك مواضع الكلام والمصلحة وعلى الاستنباط بالفكر، هذه الكتب التي سطرها العلماء من استنباطاتهم والاجتهادات التي خرجوا بها، كيف خرجوا بها؟ من تأمل وتدبر لكتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وربما كان الواحد منهم يجلس من بعد العشاء إلى طلوع الفجر يتفكر في مسألة حتى ينقدح في ذهنه جوابها.
وعن الفضيل بن عياض قال: الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك.
من أهمية هذه العملية أنها تبين لك الحسنات والسيئات التي فيك. تبين عيوبك؛ لأجل أن تصلحها.
عودوا عيونكم البكاء، وقلوبكم التفكر.
وكذلك قال أبو سليمان: الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة، والفكر في الآخرة يورث الحكمة ويحيي القلوب، هكذا ينبغي أن يكون الحال.
فكرت في الدنيا وعالمها | فإذا جميع أمروها تفنى |
وبلوت أكثر أهلها فإذا | كل امرئ في شأنه يسعى |
وقد مررت على القبور فما | ميزت بين العبد والمولى |
أتراك تدري كم رأيت من | الأحياء ثم رأيتهم موتى |
تأمل في نبات الأرض وانظر | إلى آثار ما صنع المليك |
عيون من لجين شاخصات | بأحداق هي الذهب السبيك |
على قضب الزبرجد شاهدات | بأن الله ليس له شريك |
نسأل الله أن يجعلنا من أهل التدبر وأن يحيي قلوبنا بالتفكر، وأن يجعلنا ممن يتأملون في آياته ومخلوقاته بما يصلح حالنا، اللهم أصلح قلوبنا وألف بيننا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور إنك أنت الحي الذي لا يموت.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على آلائه، الشكر له على إحسانه ونعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً له سبحانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته والتابعين له ولأصحابه بإحسان إلى يوم الدين.
في أي شيء يتفكر
عباد الله، يا عبد الله: لو قلت في أي شيء أتأمل؟ وفي أي شيء أتفكر؟ فالتفكر كما قلنا: في القرآن وفي آيات الله المنثورة.
قال ابن القيم رحمه الله: أما التأمل في القرآن فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِسورة ص29، فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة، والجنة والنار في قلبه وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته، وأفعاله سبحانه، وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وما لسالكيه بعد الوصول، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة، وأهل النار، وأعمالهم، وأحوالهم، ومراتب أهل السعادة، وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق، وبالجملة تعرفه الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه، وبالجملة أيضاً تعرفه ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصل إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة، والعذاب يوم القيامة، فهذه ستة أمور ضرورة للعبد معرفتها ومشاهدتها، الرب والطريق الموصل إليه والكرامة لمن اتبع ذلك الطريق، والشيطان وطريقه وما للمستجيب لدعوته من العذاب. فهذه ستة أمور ضروري للعبد معرفتها ومشاهدتها ومطالعتها. فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل كل ما اختلف في ذلك العالم، فتريه الحق حقاً والباطل باطلاً وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه -التفكر والتأمل والتدبر- يعطيه فكرة، قوة في قلبه وحياة وسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً، فإن معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه والعلم بالله، وعلى الإيمان بالرسل وذكر براهين صدقهم وصحة نبوتهم، والإيمان بالملائكة وهم رسله في خلقه وأمره وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته، وما يختص بالنوع الإنساني من أن يستقر في رحم أمه إلى أن يوافي ربه ويقدم عليه، وعلى الإيمان باليوم الآخر وما أعد الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق التي لا نكد فيها ولا ألم ولا تنغيص، وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل وتفاصيل النهي والأمر والشرع، والقدر، والحلال والحرام، والمواعظ، والعبر، والقصص، والأمثال.
هذا الذي اشتمل عليه القرآن، وهذا الذي يحتاج إلى تدبر، فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التخفف للقاء اليوم الثقيل وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر الرب الجليل، وتسهل عليه الأمور الصعاب غاية التسهيل، وتناديه كلما فترت عزماته وونى في سيره، تقدم الركب فاللحاق اللحاق، والرحيل الرحيل، وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو، أو قاطع من قطاع الطريق نادته، الحذر الحذر! فاعتصم بالله واستعن به وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.
التأمل في خلق الإنسان
التأمل يكون يا عباد الله أيضاً في عجائب صنع الله أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌسورة العنكبوت19-20، أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْسورة الروم8، في صنع نفسك فكر، وفي عجائب خلقك تفكر، انظر في جوارحك،في خلقك، في إحياء الله للأرض بعد موتها، في آثار الأمم السابقة، فكر وتدبر، لو فكرت في خلقك بماذا تخرج؟
من آياته الإنسان المخلوق من نطفة، فيك من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على عشر معشاره، أو أقل قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُسورة عبس17-22، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَسورة المؤمنون12-14، فانظر الآن إلى النطفة وهي قطرة الماء المهين التي لو تركت ساعة فيضربها الهواء فسدت وأنتنت، كيف أخرجها رب الأرباب من الصلب والترائب، وكيف جمع بين الذكر والأنثى، وألقى بينهما الألفة والمحبة، ثم خلق المولود من النطفة وسقاه بماء الحيض وغذاه حتى نما وكبر، وكيف جعل النطفة وهي بيضاء علقة حمراء، ثم جعلها مضغة، ثم قسم أجزاء النطفة وهي متساوية متشابهة إلى العظام، والأعصاب، والعروق، والأوتار، واللحم.
ثم كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق الأعضاء الظاهرة، فدور الرأس وشق السمع والبصر والأنف والفم، وسائر المنافذ ثم مد اليد والرجل، وقسم رؤوسها بالأصابع، وقسم الأصابع بالأنامل، ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب، والمعدة، والكبد، والطحال، والرئة، والرحم، والمثانة، والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص، ومقدار مخصوص لعمل مخصوص؟ ثم كيف قسم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام أخر، فركب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص،وهيئة مخصوصة، لو فقدت طبقة منها،أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإبصار، فلو ذهبنا إلى نصف ما في آحاد هذه الأعضاء من العجائب لانقضت فيها الأعمار، ولم نبلغ، وانظر إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة، ثم جعلها قواماً للبدن، وعماداً عليه، ثم قدرها بمقادير مختلفة وأشكال مختلفة، فمنها الصغير والكبير، والطويل والمستدير، والمجوف والمصمت، والعريض والدقيق، ولما كان الإنسان محتاجاً إلى الحركة جعل فيها المفاصل حتى تتيسر الحركة، وربط بعضها ببعض بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الآخر كالرباط له، ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارج منه وفي الآخر العظم المقابل حفرة غائصة موافقة لشكل الزوائد، لتدخل فيها وتنطبق عليها، فصار العبد إذا أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر ذلك.
ثم انظر كيف خلق عظام الرأس وكيف جمعها وركبها من خمسة وخمسين عظماً مختلفة الأشكال والصور، وبقية العظام منها الأسنان بعضها عريضة تصلح للطحن وبعضها حادة تصلح للقطع، وهي الأنياب والأضراس والثنايا، وجعل عظام الرقبة، ثم ركب الرقبة على الظهر، وركب الظهر من أسفل الرقبة إلى منتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة، وركب عظم العجز من ثلاثة أجزاء مختلفة يتصل به من أسفله عظم العصعص وهو أيضاً مؤلف من ثلاثة أجزاء، ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر، وعظام الكتف، وعظام اليدين، وعظام العانة، وعظام العجز، وعظام الفخذين، والساقين، وأصابع الرجلين، وليس المقصود ذكر عدد العظام فهذا شيء يعرفه الأطباء والمشرحون، إنما الغرض أن ينظر في مدبرها، ويتفكر في خالقها، كيف قدرها ودبرها؟ وخالف بين أشكالها وأقدارها؟ وخصصها بهذا العدد المخصوص الذي لو زادت عليه عظمة لاحتاج الإنسان إلى قلعها، ولو نقصت واحد لاحتاج إلى جبرها ، فالطبيب ينظر لأجل العلاج، وأهل البصائر ينظرون ليستدلوا بذلك على جلال الخالق، وانظر كيف خلق الله الآلات لتحريك العظام وهي العضلات، فخلق في بدن الإنسان تسعاً وعشرين وخمسمائة عضلة مركبة من لحم،وعصب،ورباط،وأغشية، فأربع وعشرون عضلة لتحريك حدقة العين وأجفانها، لو نقصت واحدة فقط لاختل الأمر، وكل ذلك صنع الله من قطرة ماء مهين، فما ظنك بصنعه في السماوات، وكواكبها فلا تظنن أن ذرة من ملكوت السماء تنفك عن حكمة وحكم.
هو أحكم خلقاً وأتقن صنعاً، بل إن خلق السماوات أعجب أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَاسورة النازعات27-29، لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِسورة غافر57، ومع ذلك تتفكر في هذه العين كيف فتحها ورتب طبقاتها وأحسن شكلها ولونها وهيئاتها وحماها بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع القذى عنها، ثم أظهر في مقدار عدسة منها ما تراه في السماوات والأرض، وخلق الأذنين وشقهما وأودعهما ماءً لحفظ السمع ودفع الهوام وحوطها بصدفة الأذن لتجمع الصوت فترده إلى الصماخ، وفتح المنخرين وأودع حاسة الشم فيه ليستدل باستنشاق الروائح على المطاعم والأغذية، وليستنشق الهواء الذي فيه غذاء القلب، وهذه الحنجرة التي هيأها لخروج الأصوات وخلق اللسان للحركات وتقطيع الصوت من مخارج مختلفة، كل حرف من مخرج، ثم خلق الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملامسة والرخاوة والطول والقصر حتى اختلفت بسبب ذلك الأصوات فلا يكاد يتشابه صوتان، بل يظهر بين كل صوتين فرق مع كثرة عدد البشر، حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة.
وزيَّن الرأس بالشعر،وزيَّن الوجه باللحية والحاجبين، وزيّن الحاجب برقة الشعر وتقوس الشكل، وزين العينين بالأهداب،والحيوانات وبقية البهائم وما أدراك ما فيها وما هي؟ منها من يطير، ومن يمشي، والماشي على رجلين، وعلى أربع، وعلى أربع وأربعين، وعلى ما يشاء مختلفة في المنافع والصور والأشكال والطبائع.
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ.
كل هذا -أيها الإخوة- مجال للتدبر والتفكر والتأمل،فمن الذي يقوم بهذه العبادة؟ هي تحتاج إلى خلوة وتركيز،وتصل بعد ذلك إلى مغاليق يفتح الله بها عليك، تزيد إيمانك، وتثبتك على الدين، فالله الله في هذه العبادة أيها الإخوة، الله الله في التفكر والتدبر والتأمل.
نسأل الله أن يزيد إيماننا، وأن يثبت قلوبنا، وأن يشرح للحق صدورنا، اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، واقض ديوننا، وألف ذات بيننا،وانصرنا على عدونا، أهلك اليهود والنصارى، أفشل خططهم، اللهم أوقع بينهم، اللهم إنا نسألك الدائرة عليهم، انصرنا عليهم وقنا شرهم وسائر الشرور،اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم من أراد بلدنا هذا بسوء وسائر بلاد المسلمين فاردد كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءوَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ،فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم.