الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
كراهية البنات من الجاهلية
فقد قال الله : لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌسورة الشورى:49-50، فيعطي من يشاء ذكوراً وإناثاً، ويعطي من يشاء ذكوراً فقط، ويعطي من يشاء إناثاً فقط، ويجعل من يشاء عقيماً بحكمته ، وفي هذه الآية نلاحظ تقديم الإناث على الذكور، فقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَسورة الشورى:49، قال العلماء: قدم الإناث حثاً على الإحسان إليهن، وجبراً لهن لاستثقال الأبوين لمكانهن، قدمه بعكس ما كانت تفعل الجاهلية من كراهية البنات حين كانوا يئدوهن، فكأنه قال لهم: إن هذا النوع المحتقر عندكم مقدم عندي في الذكر، وقدمهن لضعفهن، وعند العجز والضعف ينبغي أن تكون العناية أبلغ.
إن هذا التكريم بخلاف ما جرت عليه عادة الجاهليين الذين كانوا يحتقرون المرأة ويهينونها، ،يعتبرونها من سقط المتاع، كانت الأنثى إذا بُشِّر بها أبوها، يقع عليه الخبر كالصاعقة: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَسورة النحل:58-59.
ويقال: إن أول من فعل ذلك قيس بن عاصم التميمي، وكان بعض أعدائه أغار عليه، فأسر ابنته واتخذها زوجة، ثم حصل بينهم صلح، فخير ابنته، فاختارت زوجها، فآلا أي حلف على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب على ذلك، كانوا يخشون العار بزعمهم، وهكذا: من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها[رواه النسائي (2554)].
حكى بعض الصحابة ما كان قد فعله في الجاهلية: "إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان، فكنا نقتل الأولاد، وكانت عندي ابنة لي، فلما أجابت -لما صارت فتاةً-، وكانت مسرورة بدعائي إذ دعوتها، فدعوتها يوماً فاتبعتني، فمررت بها حتى أتيت بئراً من أهلي غير بعيد، فأخذت بيدها، فرديت بها في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول: يا أبتاه، يا أبتاه"رواه الدارمي [رواه الدارمي (2)].
وكانوا في صفة الوأد على طريقين، أحدهما: أن يأمر امرأته إذا قرب وضعها أن تكون ولادتها بجانب حفرة، فإذا وضعت ذكراً أبقته، وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفرة، ومنهم من كان إذا بلغت البنت ست سنين قال لأمها: طيبيها وزينيها لأزور بها أقاربها، ثم يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر، فيقول لها: انظري فيها، ويدفعها من خلفها، ويطمها.
وكان فيهم بقية عقلاء ينهون عن ذلك، ومنهم صعصعة بن ناجية التميمي جد الفرزدق، كان يعمد إلى من يريد أن يفعل ذلك بابنته، فيفتديها منه بالمال، فقال فيه حفيده:
وجدي الذي منع الوائدات | وأحيا الوليد فلم يوأد |
ومن الناس الآن من هم على مذهب أهل الجاهلية في كراهية البنات، وإذا جاءته البنت تلو البنت، وهذا رزق ربك، تبرم وتضجر، وتشاؤم وحزن، فلما جاء الإسلام أذهب الله به ظلمة الجاهلية، فجاء بالعطف والإحسان، واعتنى بها أيما عناية، وصانها وحفظها، وفرض لها حقوقاً.
فضل البنات
وجاءت النصوص في البنات، ولم يرد مثلها في البنين، قال ﷺ: من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضم أصابعه[رواه مسلم (2631)].
من ربى ابنتين إذن، وقام بمصالحهما من النفقة والكسوة، فإن فاعل ذلك قريب من النبي ﷺ يوم القيامة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل –أي من الفقر- فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة، فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئاً، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي ﷺ علينا، فأخبرته، فقال: من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار رواه البخاري ومسلم [رواه البخاري (5995)، ومسلم (2629)].
وفي رواية لمسلم: قالت عائشة رضي الله عنها: "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله ﷺفقال: إن الله قد أوجب لها بها بهذه التمرة إن الله قد أوجب لها بها الجنة، أو أعتقها بها من النار [رواه مسلم (2630)].
لاحظ أيها المسلم: من ابتلي من هذه البنات، فهو اختبار وامتحان من الله لينظر كيف يعمل العبد، يا أيها الأب هل تحسن أم تسيء؟ هل تربي أم تهمل؟ هل تحب أن تبغض على عادة أهل الجاهلية؟ فأحسن إليهن في الحديث، وعند ابن ماجة: فصبر عليهن وأطعمهن، وسقاهن وكساهن[رواه ابن ماجه (3669)]،وعند الطبراني: فأنفق عليهن وزوجهن، وأحسن أدبهن[رواه الطبراني في الكبير (11542)]، وعند أحمد: يؤويهن، ويرحمهن، ويكفلهن[رواه أحمد (13835)]، وللترمذي: فأحسن صحبتهن، واتقى الله فيهن[رواه الترمذي (1916)]، هذا هو المطلوب في البنات، هذا هو الإحسان، صبر عليهن، أطعمهن، سقاهن، كساهن، زوجهن، أحسن أدبهن، رحمهم، آواهن، كفلهن، أحسن صحبتهن، اتقى الله فيهن، هذا هو الإحسان الذي يُعقب صاحبه جنات النعيم.
قال ﷺ: ما من رجل تدرك له ابنتان، فيحسن إليهما ما صحبتاه، أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة حديث حسن[رواه ابن ماجه (3670)]، وقال: من كان له ثلاث بنات، فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدته كساهن، فساتين البنات أغلى من ثياب الأولاد، وحلي البنات لا يحتاجه الأولاد الذكور، بل يحرم عليهم، وكساهن من جدته من الغنى الذي أعطاه الله إياه بحسب الحال: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِسورة الطلاق:7، قال ﷺ في أجره: كن له حجاباً من النار يوم القيامة حديث صحيح[رواه ابن ماجه (3669)].
إذًا: البنت شرف ومنحة عزيزة، قال الحسن رحمه الله: البنات حسنان والبنون نعم، والحسنات مجزي عليها، والنعم محاسب عليها.
كتب بعضهم إلى صديق يهنئه بالبنت يقول: أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون.
فلو كان النساء كمن ذكرنا | لفضلت النساء على الرجال |
وما التأنيث لاسم الشمس عيب | ولا التذكير فخر للهلال |
إذًا: من الخطأ أن يظن بعض الناس أن إعطاءه البنات إهانة، بل إن في ذلك منقبة ومكرمة، وفتح الله له باباً إلى الجنة بهؤلاء البنات، إنهن نعمة، وإنهن في التربية والهمِّ شيء ثقيل نعم، وحتى النفقة، ولذلك صار الأجر في تربيتهن والإنفاق عليهن كبير.
وكان رجل عند أحد الخلفاء، فدخلت عليه ابنته الصغيرة، فقبلها، فقال له أحد الأعراب: دعهن عنك يا أمير المؤمنين؛ فإنهن يقربن البعداء، يلدن الأعداء، فقال له آخر: يا ويحك، لا تسمع له يا أمير المؤمنين، فوالله ما قام بحق مريض، ولا رحم كبيراً، ولا أعان على نوائب الدهر إلا هن.
وكان لرجل زوجة رزقه الله منها بنات، فغضب واعتزلها، فمر بها بعد شهور وهي ترقص ابنتها، فسمعها تقول:
مال أبي حمزة لا يأتينا | ينام في البيت الذي يلينا |
غضبان أن لا نلد البنين | تالله ما ذاك في أيدينا |
نحن كالأرض لزارعينا | ننبت ما قد زرعوه فينا |
وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ سورة البقرة:216، وكم من فتاة كانت أبر لأبويها، وأنفع من عدد من الذكور، وكم من ابن كان شقاءً على أبويه، وتمنيا أنهما لم يأتيا به، ولا رأياه، فها هي الجوهرة المصونة، والدرة المكنونة، ينبغي أن تتلقى الحب والرعاية.
لماذا يثار موضوع البنات؟
لماذا يثار الموضوع؟
من الأسباب غير ما تقدم أن هناك هجمة شرسة اليوم في قضية المرأة المسلمة، ودغدغة لعواطف النساء في التمرد على الآباء، وعلى الرجال، وعلى الأزواج، والخروج والتحرر، هناك إيقاع لهؤلاء الفتيات في مصائد الحرام والفاحشة، ومن أسباب ذلك حصول إهمال، وحصول تقصير في حق البنات جعلهن فرائس في مصائد أهل الشبهات من المنافقين والمنافقات، الكتاب والكاتبات، الصحفيين والصحفيات، وأهل الشهوات من هؤلاء الذئاب الذين يفترسون هؤلاء الفتيات.
كفى بالبنت شرفاً أن الأنبياء آباء لبنات، وكفى به عزاً أن أكثر أولاد رسول الله ﷺ بنات، فبناته ﷺ زينب ورقية، وأم كلثوم وفاطمة، قال ابن القيم رحمه الله: وكل أولاده توفي قبله إلا فاطمة، فإنها تأخرت بعده بستة أشهر، فرفع الله لها بصبرها واحتسابها من الدرجات ما فضلت به على نساء العالمين، وفاطمة أفضل بناته على الإطلاق، كان يحبهن ﷺ، وسيرته زاخرة بذلك، والله تعالى يقيض نبياً لبنت رجل صالح.
أحب البنات وحب البنات | فرض على كل نفس كريمة |
فإن شعيباً من أجل ابنتيه | أخدمه الله موسى كليمه |
وإن كان هو رجل صالح، وليس شعيباً على الراجح، لكن هذا التسخير لنبي الله الكليم، يخرج من بلدته إلى مدين بسبب ليكون زواج البنت الصالحة من هذا النبي الكريم الكليم ، جزاء تلك التربية من الأب الصالح قيض الله له موسى كليمه.
تعامل النبي ﷺ مع البنات
كان ﷺ محمد يبدي عاطفته وحنانه ورقته لبناته، وكان يقول: فاطمة بضعة مني؛ فمن أغضبها أغضبني رواه البخاري ومسلم[رواه البخاري (3714)، ومسلم (2449)].
قالت عائشة رضي الله عنها: "أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثاً؛ فبكت، فقلت لها: لم تبكين؟ ثم أسر لها حديثاً؛ فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله ﷺ، حتى قبض النبي ﷺ، فسألتها، فقالت: أسرَّ إلي: إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي؛ فبكيت، فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة؛ فضحكت لذلك" رواه البخاري ومسلم [رواه البخاري (3624)، ومسلم (2450)].
قالت عائشة: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله ﷺ في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله ﷺ، وكانت إذا دخلت على النبي ﷺ قام إليها فقبلها[رواه الترمذي (3872)]، وفي رواية أبي داود: "فأخذ بيدها وقبلها"[رواه أبو داود (5217)]، وفي الأدب المفرد: "قام إليها فرحب بها وأجلسها في مجلسه، تكريماً لها، وكان إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته، فلما مرض النبي ﷺدخلت فاطمة فأكبت عليه، مالت إليه، ثم رفعت رأسها فبكت ثم ضحكت" الحديث[بتصرف من الأدب المفرد (971)].
عباد الله: هذا اهتمامه ﷺ ببناته وابنته الأخرى التي أرسلت إليه تقول: "إن ابناً لي قبض، يعني يحتضر الآن، فأرسل يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكلٌ عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال" [رواه البخاري (1284)]، أجاب يمين ابنته وبره، وحمل أمامة في الصلاة، كان ﷺ يحمل أمامة وهي صبية، يحملها في صلاته، ويضعها إذا ركع، ويعيدها إذا قام، يفعل ذلك في صلاته[رواه أبو داود (918)].
ولما جاءت ابنته فاطمة تشتكي إليه ما تلقى من أثر الرحى، ولم تجده، وكانت قد تعبت في الخدمة، والعمل في البيت، جاءها في بيتها مواسياً، وقعد بينها وبين زوجها وهما مضطجعان، وقال: ألا أعلمكما خيراً مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعاً وثلاثين وتسبحا ثلاثاً وثلاثين، وتحمدا ثلاثاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم[رواه البخاري (3705)].
ولما جاء آل أبي جهل يستأذنون من خطبة علي لابنتهم النبي ﷺ قال: لا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن؛ فإنما هي يعني: ابنته فاطمة بضعة مني، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها[رواه البخاري (5230)]، وقال: لا تجتمع بنت رسول الله ﷺ، وبنت عدو الله عند رجل[رواه البخاري (7329)]، فترك علي الخطبة.
لقد قالت ابنته له: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، فقام ﷺ، فقال: إن فاطمة مضغة مني، وأنا أكره أن يفتنوها[رواه مسلم (2449)]، إنها قطعة لحم أنا أكره أن تجعل في هذا الموضع الذي تفتن فيه، وبين للناس أنه لا يحرم ما أحل الله، ولا يحرم تعدد الزوجات، ولا يحرم أن يتزوج صهره، لكنه يخشى على ابنته، وأراد أن يبين أن ذلك يؤذيها، وإذا تأذت تأذى هو، وهنا تأتي الخصيصة النبوية، يحرم إيذاء النبي ﷺ.
ورجح أهل العلم أن ذلك من الخصائص النبوية، وليست القضية أنه يريد تحريم ما أحل الله، لكن لأجل مكانة ابنته وخشية عليها من الفتنة بالغيرة، فترتكب المحرمات بسبب ذلك.
لقد كانت ابنته فاطمة عزيزة عليه، ألم تكن وهي الصبية قد جاءت إليه عند الكعبة وقد طرح الكفار أمعاء البعير على رقبته الشريفة وهو ساجد، وجعلوا يتضاحكون، ويتمايلون، فأقبلت إلى أبيها، فرفعت سلى الجزور، وطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم.
هكذا كانت تلك البنت الشجاعة وليدة التربية النبوية، ولم يكن هذا شأن النبي ﷺ مع بناته هو فقط، بل كان يداعب البنات الصغيرات، ولما أُتي إليه بالقميص الأصفر ألبسه بنتاً صغيرة، أصغر من حضره: سنة، سنة يقول لها بالحبشية يعني: حسنة، وقال: أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي[رواه البخاري (5993)] يعني: يدعو لها بالبقاء الطويل، وأنها تبلي ثياباً كثيرة في حياتها.
عباد الله: هكذا كانت إذن حياة النبي ﷺ مع بناته، فلتكن نبراساً لنا، وقدوة لنا.
اللهم إنا نسألك أن تجعل في قلوبنا الرحمة يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من القائمين بتربية أبنائنا وبناتنا، احفظهم ذكوراً وإناثاً، وأصلحهم أجمعين يا رب العالمين، واجعلهم قرة أعين لنا يا سميع يا عليم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ونبيه وصفيه الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى وآله وصحبه، وأزواجه وذريته، والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
العاطفة المطلوبة تجاه بناتنا
عباد الله: لقد ابتلي البعض بقسوة القلب فعلاً لا يكاد يبدي عاطفة تجاه أولاده ذكوراً وإناثاً، ولما تنشأ البنت على هذا الفراغ العاطفي ليتلقاها ذلك الذئب البشري ويدغدغ عاطفتها أولئك المنافقون والمنافقات تكون الكارثة قد حلت، ولذلك لا بد اليوم من الالتفات كثيراً لشأن البنات والبنين، لا بد من الاهتمام البالغ في عالم الانفتاح الذي نعيش اليوم فيه، قنوات ومواقع ومجلات وصحفاً.
عباد الله: إنها مسؤولية، إن قضية الملاعبة لهؤلاء الأطفال من الدين ومن الحسنات، لقد قال الشاعر:
ولقد لهوت بطفلة ميالة | بلهاء تطلعني على أسرارها |
أراد أنها غر لا دهاء لها، فهي تخبره بأسرارها، طفلته ولا تفطن لما في ذلك من انكشاف أمرها.
وقال شاعر الجاهلية:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً | يا رب جنب أبي الأوصاب والوجع |
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي | فإن لجنب المرء مضطجاً |
إن فعلاً يخاف الإنسان على بناته، ويتمنى لهن الحياة الكريمة في حياته ومن بعد مماته، ولا يزال الأب الصالح يدعو لبناته بالحظ الطيب والستر والحياة الرغيدة.
لقد زاد الحياة إلي حباً | بناتي إنهن من الضعاف |
أحاذر أن يرين الفقر بعدي | وأن يشربن كدراً بعد صافي |
وأن يعرين إن كسي الجواري | فتنبو العين عن كرم عجاف |
أبانا من لنا إن غبت عنا | وصار الحي بعدك في اختلاف |
ولولا ذاك قد سومت مهري | وللرحمن في الضعفاء كافي |
عباد الله: أنها فعلاً المسؤولية الكبيرة، إنها إشباع العاطفة لهؤلاء الفتيات من قبل الأب الرحيم الذي يقوم عليهن حتى لا يأتي أهل الشبهات وأهل الشهوات.
إن العاطفة الجياشة تجاه الأبناء والبنات، الأولاد عموماً، إنها الرقة التي جعلت حتى في قلب النبي ﷺ وهو الذي يوحى إليه بالقول الفصل الجد الذي ليس بالهزل، لكنه قمة في العاطفة تجاه بناته، وقمة في الاعتناء والتفقد قبل الزواج، وبعد الزواج، والزيارة والنصيحة، والتوجيه.
وهكذا كل واحد ينبغي أن يكون عطوفاً على هؤلاء الأمانات التي استرعاهن الله.
بنيتي بنيتي | مقامها في مهجتي |
إن كان لي من فتنة | في العمر فهي فتنتي |
يا فتنة خلابة | منحتها محبتي |
وكلها براءة | تقر منها مقلتي |
وخطوة سحرية | تنساب مثل النسمة |
وحينما تبسم لي | تأسرني بالبسمة |
كأنما الدنيا تماماً | أصبحت في قبضتي |
أبدأ يومي دائماً | بقبلة من طفلتي |
لأنني أعود طفلاً | بعد تلك القبلة |
وحينما أعود من | دوامة الوظيفة |
وأدخل البيت أرى | بنيتي حبيبتي |
قد فتحت أذرعها | بابا أتى يا فرحتي |
أحمل بنتي عاليا | بأذرعي كالنجمة |
أسألها من جاءكم | تقول: جاءت جدتي |
وجاء جدي راشد | وخالتي وعمتي |
مهلاً أيا صغيرتي | هل جاء كل الأسرة |
وحينما أغفو تماماً | بعد تلك الأكلة |
تجيئني مسرعة | توقظني من غفوة |
بابا كسرت لعبتي | بابا كسرت لعبتي |
وتارة تقول لي | بابا نكست جزمتي |
لكنني أنهرها | هيا اخرجي من حجرتي |
يا لك من مؤذية | ثرثارة هيا اصمتي |
تقول لي: يا أبتي | نغفو معاً في الغرفة |
وعندها أحملها | على كفوف الرحمة |
إذا بها ترمقني | بابا نسيت قصتي |
وعندما أبدأ | في حكايتي للحلوة |
حكاية الذئب الذي | أراد أكل النعجة |
تنام في حجري | فأثنيها تجاه القبلة |
ثم أعود بعدها | مستغرقاً في نومتي |
عباد الله: لا بد من الاهتمام بالبنات والبنين أيضاً، الذي نراه اليوم من المصائب خارج أسوار المدارس والمعاهد، والكليات والمستشفيات، وإقامة العلاقات من أسبابه الإهمال الأبوي للبنات، يبحثن عن العاطفة في الخارج، فيصطادهن ذلك الماكر والذئب الغادر.
خدعوها بقولهم حسناء | والغواني يغرهن الثناء |
فاتقوا الله في قلوب العذارى | فالعذارى قلوبهن هواء |
لا تصمد البنت أمام المدح الزائد المتوالي، وهذا طريق أهل الفسق والفجور إلى قلبها، ودورنا: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ سورة التحريم:6.
ترقيق القلوب، والذي يحجبها من المال، ويمنعها من حقها، ويهملها في البيت، ويؤذيها ويجرح شعورها، لماذا يا أبتي هذا الجفاء؟ لماذا هذا التصدي؟ بماذا بخلت عليك؟ خدمتك، قمت بحقك، برغم ذلك تصد عني، وتبخل عليَّ حتى بالابتسامة الصادقة، والكلمة الحنونة الطيبة، وتفضل إخوتي علي، رغم أنهم لم يقدموا لك مثلما قدمت، ما يكرمهن إلا كريم، ولا يهينهن إلا لئيم.
عباد الله: إذا لم نهتم بالبنات والله ليأتين علينا يوم يصبح أمرنا فيه كأمر تلك المجتمعات المنحلة.
يقول إريكسيجمان البريطاني، وقد استطلع قضايا ألفين من الآباء: إن 40% يشعرون بالوحدة والكآبة، ومع أن الآباء يفتقدون أبناءهم من الجنسين إلا أنهم يعترفون أنهم يفتقدون بناتهم أكثر.
المنافقون والمنافقات يكتبون اليوم في الصحف والمجلات: لا نريد محرماً، ولا ولياً، فهم يعترضون على شرع الله، ولا يريدون تطبيق حكم الله في تحريم الاختلاط، ويقولون: اخلطوها، أخرجوها، اتركوها تثبت جدارتها، لماذا يأخذ علينا بناتنا هؤلاء المنافقون والمنافقون؟ لماذا يسلبون منا شرفنا وأعراضنا؟.
لا بد من مزيد من الاهتمام، نشئوهن على طاعة الله ورسوله، وحكم الله ورسوله، والالتزام بالحجاب، وليس أن تفاجأ إذا بلغت أن يقال لها يجب عليك.
الحب المزيف
إن الفساتين شبه العارية التي تلبس للبنات اليوم، وتشترى من الأسواق ليست من التربية في شيء، وليس من الدلال والعطف والحنان أن تجاب البنت إلى جوال ورسيفر تخلو به في البيت، وليس من العطف والحنان أنها تقول: أريد الذهاب إلى أماكن الفسق، أو أعمل حفلة في فندق لزميلاتي، حفلة نجاح، ليس من هذا أبداً التمكين من المحرمات في الزينة كالنمص وغيره.
لا بد من إقناع والإقناع هذه الأيام لا يأتي إلا مع المحبة، والمحبة لا بد فيها من مراعاة ومشاعر، وإلا ستُسلب بناتنا منا.
لما خرج الأب مع ابنته، مع العائلة قالت بنت الأربع سنين: يا حظنا أبونا معنا اليوم؛ لأنه لم يركب معهم من زمن طويل جداً، القضية كلها مع السائق، إنما إذا رُبِّيت البنت من صغرها تذهب إلى المرأة التي أتتهم زائرة، وقد كشفت ما فوق الركبة تضرب عليها، وتقول: عيب، عيب، هكذا تقول البنت الصغيرة للمرأة الكبيرة؛ لأن التربية صحيحة.
اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، وأبناءنا وبناتنا يا رب العالمين، اللهم أصلح نفوسنا، وأصلح بيوتنا، وأصلح مجتمعاتنا.
اللهم انصر المجاهدين، وأعل كلمة الدين، اللهم أنزل علينا رحمة من عندك، وارزقنا يا رب العالمين.
اللهم استر عيوبنا، واقض ديوننا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وفك أسرانا، وحرر بلاد المسلمين من اليهود والصليبيين والمشركين يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.