الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
أهمية الذكر
فالحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، فجعل الليل والنهار مجالاً للطاعات ومستودعاً للأعمال الصالحة لهؤلاء المؤمنين الصالحين، الذين يريدون أن يغتنموا أعمارهم في طاعة ربهم وعبادته ، وإذا كان عدداً من المسلمين قد خرجوا لتوهم من مدرسة الحج التي أمر الله تعالى فيها الحجاج بأن يذكروه ذكراً كثيراً كذكرهم آبائهم أو أشد ذكراً، وإذا كان بقية المسلمين قد خرجوا أيضاً من أيام التشريق لتوهم وهي أيام أكل وشرب وذكر لله فإن ذكر الله ينبغي أن يكون نصب أعيننا وأن نتعرف على فوائده ونحن خارجون من موسم الحج وأيام ذكر الله أيام التشريق.
وقد كانت عشر ذو الحجة أيام تكبير مطلق، والتكبير من الذكر كذلك، والذكر دائماً طوال العام، ويزداد مع أيام فاضلة ومواسم من مواسم الخير، جاءت السنة بالإكثار من الذكر فيها.
عباد الله، القلب الحي متصل بالله، واللسان تبع للقلب، فإذا واطأ ذكر اللسان ذكر القلب فإن ذلك نعمة عظيمة.
فوائد الذكر
فما هي منافع الذكر وما هي فوائده؟
لعل المسلم إذا سمع شيئاً من ذلك يتحمس للحرص وللمزيد من هذه العبادة العظيمة، ذكر الله مرضاة للرحمن، يزيل الهم والغم، ويجلب الفرح والسرور، وينور الوجه والقلب، ويكسو المهابة، إنه يورث محبة الله التي هي روح الإسلام ومدار السعادة والنجاة، فمن أراد أن ينال محبة الله فليداوم على ذكره، ثم إنه يشعر العبد بمراقبة الرب دائماً فيصبح يعبد الله كأنه يراه، ويورثه إنابة ورجوعاً إلى ربه؛ لأنه متى أكثر ذكره رجع إليه، وجعله مفزعه وملجأه وملاذه ومعاذه وقبلة قلبه، ومهربه عند النوازل والبلايا.
هذا الذكر يجعل العبد قريباً من الله، فعلى قدر ذكره يكون قربه من ربه، وعلى قدر غفلته عن الذكر يكون بعده عنه، ويورث ذكر الله للعبد ذكراً بذكر وجزاء بجزاء: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ سورة البقرة152 ولو لم يكن في الذكر إلا هذا الشرف: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم[رواه البخاري7405]رواه البخاري، لكان ذلك كافياً في الحرص عليه وعدم تركه، إنه يورث حياة القلب، والذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء، كذلك يكون الذاكر إذا نسي أو سها يحس بأنه لا بد من أن يعود إليه سريعاً، لكن الذي طبع على قلبه لا يكاد يحس بشيء من ذلك.
إن الذكر غذاء القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين غذائه، كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يصلي الفجر ثم يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ويقول لتلميذه: هذه هي غدوتي ولو لم أتغذى هذا الغذاء لسقطت قوتي، هذا الذكر حصن حصين من إبليس، وذلك أن هذا الحصن الذي يحرز العبد فيه نفسه لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله، هذا الذكر إذا قاله العبد يقال له: وقيت، وكذلك يقول الشيطان للآخر: تنحى عنه ماذا تريد من رجل قد هدي وكفي ووقي، هذا الذكر يحط الخطايا ويذهبها لأنه من أعظم الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات، إنه أمان من النفاق؛ لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، إنه منج من عذاب الله، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد: ما عمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله[رواه أحمد21574]، إنه سبب نزول السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة، كما قال ﷺ: لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده[رواه مسلم2700]، لو لم يكن في الذكر إلا فائدة إشغال اللسان عن المحرمات لكفى، فبالذكر يشتغل العبد عن الغيبة، والنميمة، والكذب، والفحش، والباطل؛ لأن اللسان لا بد له من حركة، والعبد لا بد له أن يتكلم، فإذا لم يشتغل بذكر الله اشتغل بمعصية الله، والمشاهدة والتجربة تشهد بذلك.
مجالس الذكر يا عباد الله مجالس الملائكة، سواء كان هذا الذكر قرآناً، أو سنة، أو سيرة، أو فقهاً، أو دراسة الاعتقاد، أو ذكر منة الله على الإنسان بالهداية فهو يعدد نعم ربه عليه، ويذكر ما كان فيه من قديم، وماذا زاده ربه من النعم وبأي شيء أبدله.
يا عباد الله: إن هذا الذكر في هذه المجالس تحضره الملائكة، بينما مجالس اللهو والغفلة تحضرها الشياطين، فليؤمن العبد نفسه من الحسرة يوم القيامة؛ لأن كل مجلس لا يذكر الله فيه ولا يصلى على النبي ﷺ فإنه حسرة على أصحابه، كما روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبيﷺ أنه قال: ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة يعني: حسرة وندامة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم[رواه الترمذي3380]حديث صحيح.
والذكر مع البكاء سبب لإظلال العبد يوم القيامة بظل العرش؛ لأن النبي ﷺ حدثنا من السبعة عن رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ذكره بقلبه وكذا بلسانه، إن هناك رسالة قد وجهها إبراهيم إلينا نحن في هذه الأمة عبر نبينا ﷺ حمَّله أمانة أن ينقلها إلينا، فما هي الرسالة؟ وماذا قال إبراهيم؟ ما هي الوصية عبر الناقل التي جاءتنا؟ اسمعوا هذا الحديث، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام وعليه السلام ورحمة الله وبركاته أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء وأنها قيعان، فهي أرض جاهزة للزراعة مستعدة لذلك قابلة، وفيها كل العوامل التي تؤدي إلى نماء الزرع، طيبة التربة عذبة الماء بقي ماذا؟ البذر والزرع، قال إبراهيم لنبينا ﷺ: وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر[رواه الترمذي3462]، هذه الغراس، كلما زدت غرساً نما زرعك فتجده يوم القيامة أوفر ما يكون، ولذلك قال ﷺ: من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة[رواه الترمذي3464]، غرس نخلة هنا كم يكلف؟ من قيمة النخلة المغروسة، وكذلك السماد والأدوية والسقي والتعاهد والتلقيح، كل ذلك لا تحتاج إليه في الجنة، إذا قلت في الدنيا: سبحان الله العظيم وبحمده نخلة، سبحان الله العظيم وبحمده نخلة ثانية، سبحان الله العظيم وبحمده نخلة ثالثة، فازرعوا ما شئتم وهيئوا لمنازلكم، وأراضيكم، وبساتينكم في جنات النعيم بهذه الأذكار يا عباد الله.
يكفيك أن الله لا ينساك إذا ذكرته: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْسورة الحشر19 من نسي الله تعالى أنساه نفسه في الدنيا ونسيه في العذاب، يعني: تركه في العذاب يوم القيامة: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىسورة طـه124 أما مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً هذا في الدنيا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَسورة النحل97هذا في البرزخ والآخرة.
وكان علماء الإسلام الذاكرين العباد الزهاد المتصلين بالله دائماً يذكرون الله، فيطيب عيشهم، قال ابن القيم عن شيخه: "وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً، وأسرهم نفساً، تلوح نظرة النعيم على وجهه؛ ولذلك قال هو مرة: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، ما يصنع أعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّا رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة".
ذكر الله فيه لذة عجيبة؛ ولذلك يقول بعض السلف: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
وقال آخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل له: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله ومعرفته وذكره.
لو علم الملوك ما نحن فيه، يعني: من لذة الذكر والنعيم، لجالدونا عليه بالسيوف؛ لأنهم يبحثون عن اللذات فهذه اللذة لو فطن لها أهل الدنيا لاستعدوا أن يقاتلوا بالسيوف من أجلها.
الذكر نور في الدنيا، ونور في القبر، ونور في المعاد، ونور على الصراط: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَاسورة الأنعام122، يكفيك المعية من الله: أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه[رواه البخاري باب قول الله تعالى لا تحرك به لسانك]رواه البخاري، معية نصرة، معية حفظ، معية تأييد، معية عون من رب العالمين: إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَسورة النحل128.
ونشتكي اليوم من عدم القدرة على عتق الرقاب، لا يوجد عبيد لإعتاقهم، مع توقف الجهاد وإلغاء الرق لم يعد يكد يوجد من هذا الباب من أبواب الأجر شيء، فكيف يحصل الإنسان على أجر عتق الرقاب ولا يوجد رقاب؟ من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب كأنك عتقت عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك[رواه البخاري3293].
بل إن النبي ﷺ فاجأ أصحابه مرة بعرض غريب عجيب مدهش، قال: ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى -ما هو؟- قال: ذكر الله تعالى[رواه الترمذي3377]رواه الترمذي وهو حديث صحيح، الذكر رأس الشكر، وهما قرينان: لا تدعنَّ في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك[رواه الترمذي1303] قرن الله بينهما فقال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ سورة البقرة152، إن في القلب يا عباد الله قسوة لا يذهبها إلا ذكر الله، داو نفسك بذكر الله، ليّن قلبك بذكر الله، قال رجل للحسن البصري: "يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي؟ قال: أذبه بالذكر".
الذكر شفاء القلب ودواؤه والغفلة مرضه، فعليكم بذكر الله فإنه شفاء، ما استجلبت النعم بمثل الذكر، ولا استدفعت النقم بمثل الذكر، يصلي عليك الله وملائكته لأنه قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًاسورة الأحزاب42-43، مجالس الذكر مجالس الملائكة ومنها خطب الجمعة: إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا -الملائكة ينادي بعضهم بعضاً- هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قالوا: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقولوا: وكيف لو رأوني، فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً وتحميداً، وأكثر لك تسبيحاً قال في آخر الحديث: فيقول الله : أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة، قال: هو الجلساء لا يشقى بهم جليسهم[رواه البخاري6408]أليس هذا خيراً من مجالس البلوت؟ أليس خيراً من مجالس القنوات الفضائية؟ أليس خيراً من مجالس الغيبة والنميمة؟ أليس خيراً من مجالس الأرصفة التي يعزف فيها بالعود ويرقص فيها على الأنغام؟ أليس هذا خيراً من مجالس الكافي نت؟ أليس هذا خيراً من مجالس رفقاء السوء؟
يا عباد الله: أين العقول؟ لماذا لا نتوجه لاغتنام هذه الفرص؟ لماذا لا ندخل في مباهاة الله بالملائكة؟
خرج ﷺ على حلقة من أصحابه قال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة[رواه مسلم2701] لماذا شرعت الأعمال الصالحة؟ لإقامة ذكر الله: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِيسورة طه14، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُسورة العنكبوت45، إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله[رواه أبو داود1888]رواه أبو داود وهو حسن عنده، والترمذي وقال: هو حديث حسن، إن الذكر يلحق الإنسان العاجز عن الإنفاق المالي بأصحاب النفقات المالية؛ ولذلك لما اشتكى الفقراء إلى النبي ﷺ وقالوا: ذهب أهل الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم، دلهم على أي شيء ﷺ؟ قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة ما هي الميزة؟ قال لهم قبلها: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟[رواه البخاري843]فأخبرهم بذلك.
عباد الله: يبحث الناس عما يقوي البدن ويتعاطون الأدوية والفيتامينات والأعشاب وغير ذلك، ويدخلون الصالات الرياضية ونحو ذلك، بحثاً عن قوة البدن، مطلب صحي والجسد عزيز، فاعلموا -أيها الإخوة- أن الذكر يعطي الذاكر قوة حتى في الجسد؛ ولذلك لما شكت إليه فاطمة وعلي شكت إليه فاطمة ما تقاسيه من آلام الجسد بسبب الخدمة والطحن والسعي وعمل البيت، علمها إذا أخذت مضجعها سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والحمد لله ثلاثاً وثلاثين والله أكبر أربعاً وثلاثين.[رواه البخاري3705]والنبي ﷺ نفسه لما قيل له: إن في الخندق صخرة شديدة ما استطاعوا عليها، قال: أنا نازل، وقام وبطنه معصوب بالحجر لم يذق أكلاً منذ ثلاثة أيام، ماذا فعل؟ ضربها وسمى الله مع كل ضربة فعادت كثيباً أهيل، انهدت وصارت رملاً لا يتماسك، وكان بعض العلماء قد رزق قوة عجيبة في الإلقاء والكلام والإقدام والكتابة والتصنيف والقتال بسبب كثرة ذكره لله .
عباد الله: ألا يسرك يا عبد الله أنك لا تمشي في طريق إلا يشهد لك يوم القيامة، ولا تجلس في مجلس إلا ويشهد لك يوم القيامة، ولا تدخل بيتاً إلا يشهد لك يوم القيامة، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُهذه الأرضأَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَاسورة الزلزلة4-5 تشهد على كل عبد بما عمل، عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا، تسهل عليك الصعاب وييسر العسير ويخفف الشاق بذكر الله ، فلا تنس واحرص ولا تعجز واعمل، ولا تغفل بل اذكر، وأكثر من ذكر ربك ، إنها معروفة ليست أسراراً بل إنها واضحة منشورة كمثل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، والترديد مع المؤذن وأذكار الصباح والمساء، وسبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم، وغير ذلك من الأذكار الكثيرة بابها واسع ونصوصها معروفة، ولكن بقي العمل: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا من الذاكرين لك كثيراً يا رب العالمين، لا تجعلنا من أهل الغفلة وأحيي قلوبنا بذكرك إنك على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم ذو الجلال والإكرام، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته وخلفائه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
حال إخواننا المسلمين في فلسطين
عباد الله: المسلمون في خطر، المسلمون يعيشون تحت الإرهاب، المسلمون يعيشون تحت وطأة التعذيب، المسلمون في أقطار كثيرة يعانون، وعلى رأس هؤلاء إخواننا المسلمين في فلسطين، إنها أحوال عصيبة، إنها ظروف شديدة جداً، ولا بد أن نذكر حال إخواننا؛ لأن المسلمين كالجسد الواحد، إن الحصار مستمر، والقتل اليومي مستمر، والتعذيب والتنكيل والبطش مستمر، إن مخيماً مثل مخيم بلاطة الذي لا تتجاوز مساحته نصف كيلو متر مربع يعيش فيه عشرون ألف لاجئ من المسلمين تحاصره أكثر من خمسة وعشرين دبابة وأربعين ناقلة جنود وثلاث كاسحات ألغام وطائرات الأباتشي التي تقصفه الآن والليلة الماضية باستمرار موقعة أكثر من عشرة قتلى ومئات الجرحى، وقد قتل عدد من المسلمين في بيوتهم من هذا القصف ومن هذه الشظايا، إن هذا الحصار المفروض على المسلمين في فلسطين وهذا القصف المكثف المتواصل من الدبابات والمروحيات التي لم توفر حتى محولات الكهرباء ليغرق إخواننا في الظلام وينقطع عنهم التيار، ويطالبونهم بالخروج، حصار حصار، المسلمون تحت الحصار، والمطالبة بالخروج بزعمهم لإخلاء المخيم من الإرهابيين، فمن هم الإرهابيون؟
رصاصة هنا وقذيفة هناك وأحوال صعبة جداً، والحاجة إلى الدماء كثيرة؛ ولذلك طلب المسلمون عبر مكبرات الصوت في المساجد الإسراع بالذهاب للتبرع بالدماء، وعثر على عدد من جثث المسلمين وقد شوهت ورسمت عليها النجمة السداسية، وهكذا تنزف جراحهم ويقدمون المناشدات تلو المناشدات، ومع ذلك فإنهم يقومون بالتكبيرات والهتافات الداعية للثأر والانتقام، ويبدون أعمالاً بطولية عجيبة، نلاحظ الآن في فلسطين أن الوضع قد انتقل إلى مرحلة رخص الروح، فقد قام المسلمون فعلاً بتقديم أنفسهم في سبيل الله، فرخصت عندهم أرواحهم، صار القتل عندهم شيء عادي، كل يوم جنازات، بل حتى الخروج من البيوت والإخراج منها شيء عادي يحدث كل يوم، إجلاء وتهديم المنازل يومي وشيء عادي يحدث كذلك، والقصف طبيعي وعادي، والحصار كذلك، والإذلال عند المعابر، وتجرد المرأة المسلمة من ملابسها وهي في حال ألم الطلق لتلد وهي واقفة.
واجبنا نحو إخواننا
عباد الله: إن مثل هذا الحال يدعونا فعلاً لإذكاء روح الحمية لدين الله في نفوسنا، وأن نكون مستعدين متأهبين لتقديم أرواحنا في سبيل الله، وإن إخواننا الذين يضربون الأمثلة العالية يدعوننا بالقدوة إلى ذلك؛ ولذلك فإن تذكر حديث النبي ﷺ في الذي لا يحدث نفسه بالغزو أنه منافق إذا مات على ذلك، إن القضية جد خطيرة، ولا بد من استحضار المسألة في الذهن، وأن تكون حية في القلب لنخرج من قمقم الدنيا والاستكانة لها الذي نعيش فيه.
أيها الإخوة: إن القضية تزيدنا حماساً إلى حماس، وأن نصر الله قادم، عندما تهون على المسلمين أرواحهم ليقدموها في سبيل الله، فإننا نقول: إننا قد اقتربنا من النصر أكثر من ذي قبل.
وعندما يعيش كذلك إخواننا المسلمون في الهند الآن هذا اليوم واليوم الذي قبله تحت وطأة الهندوس الكفرة الذين يعمد عدداً من المسلمين إلى تشغيلهم بكل سهولة ويسر، وإعطائهم الرواتب والأموال، ويقول: نفعني في الشركة، وهو يمد أهله هناك بما يحرقون به إخواننا المسلمين في الشوارع، أحرقوا خمسين في الليلة الماضية داخل بيوتهم، وجروا آخرين إلى الشوارع فأحرقوهم أحياء، أحرقوا منازلهم ومتاجرهم ونهبوا أموالهم.. وهكذا يفعلون؛ لأنهم يريدون أن يبنوا معبدهم سيئ الذكر معبد الشرك والكفر على أنقاض مسجد المسلمين.
أيها الإخوة: إن ما يحصل هنا وهناك إذا لم يجعل في قلوبنا تواصلاً مع إخواننا، وإذا لم يجعل في قلوبنا رغبة في نصرة ديننا، وإذا لم يجعل في قلوبنا الحمية لقتال الكفار وجهادهم وإحياء هذه الجذوة، فليس في القلب إسلام وإيمان، بل ليس هناك قلب أصلاً: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌسورة ق37 وأما من ليس له قلب فليتمس قلباً فإنه في عداد الموتى.
أيها الإخوة، أيها المسلمون، يا عباد الله: إن لم تملك إلا يدين ترفعهما وكفين تتضرع بهما وريالات تقدمها فافعل ذلك، وإن لم يمكنك إلا دعم محدود بحسب قدرتك المتواضعة إعلامياً ونصرة للقضية فافعل ذلك، فإننا لسنا معذورين والله عندما نسأل عن إخواننا وهم يذبحون ويحرقون ويقتلون: مثل المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر[رواه مسلم2586].
اللهم ارفع البأس عن إخواننا المسلمين، واكشف الضر عنهم يا رب العالمين، اللهم كن معهم ولا تكن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم اهدهم سبل السلام، واهدهم سبيل التوحيد، اللهم شد عزائمهم، وقو قلوبهم، وسدد رميتهم، واجمع على الحق كلمتهم، وألهمهم رشدهم، اللهم إنا نسألك لهم النصر العاجل، اللهم إنا نسألك لهم التثبيت، ثبت أقدامهم، وانصرهم على القوم الكافرين، اللهم عليك بأعداء الدين من اليهود والنصارى والهندوس والمشركين، اللهم اشدد وطأتك عليهم، وأذقهم ما أسقيت عاداً رمدداً، اللهم صب عليهم سوط عذاب، فرق شملهم وشتت جمعهم واجعل بأسهم بينهم ودائرة السوء عليهم، اللهم صب عليهم العذاب صباً، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً، اللهم ابطش بهم، اللهم إنا نسألك يا جبار أن تنتقم للمسلمين منهم، اللهم انتقم منهم يا رب العالمين، اللهم اجعل نقمتك وعذابك على القوم الكافرين، اللهم أفشل خططهم، اللهم اكشف مؤامراتهم، اللهم وأفشلها يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد والنجاة للعباد والأمن يوم المعاد، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.