الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَسورة آل عمران102.يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب70-71.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
خطورة انتشار ظاهرة السب
عباد الله: حديثنا في هذه الخطبة عن ظاهرة اجتماعية سيئة عمت كثيراً من الخلق، وهي متعلقة باللسان الذي هو أسهل الأعضاء حركة، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم، أو على وجوههم، إلا حصائد ألسنتهم[رواه الترمذي2616]. وهذه الظاهرة هي ما نراه من انتشار السب، واللعن، والشتم، في أوساط المسلمين، واستعمال الألفاظ البذيئة المقذعة، فلا تكاد تدخل في سوق، أو محل، أو تجلس في مجلس من المجالس إلا سمعت من هذا أشياء كثيرة، فضلاً عن الطرقات والمدارس، وغيرها من مجتمعات الناس، وهذه الظاهرة؛ ظاهرة السب، والشتم، واللعن، والبذاءة في الكلام قضية خطيرة لا ينبغي التساهل فيها أبداً، "لم يكن رسول الله ﷺ فاحشاً ولا متفحشاً".[رواه البخاري3559 ومسلم2321]رواه البخاري ومسلم.
والفحش: ما قبح من القول والفعل، وشر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء فحشه[رواه البخاري6054 ومسلم2591]. فترى هؤلاء ينطقون بالأقوال الأثيمة، وأحدهم عينه غمازة، ولسانه لمازة، ونفسه همازة، وحديثه البذاءة، لا يذكر أحداً إلا شتمه، ولا يرى كريماً إلا سبه، وتعرض له بالسوء، والسب، والشتم، والطعن، والتكلم في عرض الإنسان بما يعيبه، وهو خصوص وخروج عن طاعة الله تعالى.
والنبي ﷺ كان إذا بالغ في المعتبة يقول: ماله ترب جبينه[رواه البخاري6031]، وقال ﷺ: إن الله يبغض الفاحش المتفحش[رواه ابن حبان5694]، وقال: إن الله لا يحب كل فاحش متفحش[رواه أحمد21765]، وهذه أوصاف تنطبق على كثير من الناس غالب أحاديثهم ألفاظ شنيعة مستبشعة، يأتون بها من الأماكن القذرة، وحديثهم من المراحيض، وفي العورات، وأسماء الدواب والبهائم على ألسنتهم، واللعن جار عليها، وقد قال النبي ﷺ: سباب المسلم فسوق[رواه البخاري48] يخرج عن طاعة الله تعالى، وقال: ساب المؤمن كالمشرف على الهلكة[رواه البزار صحيح الجامع الصغير3586]، وقال: المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان[رواه أحمد17487]، وقال ﷺ: أربى الربا شتم الأعراض[رواه معمر بن راشد20252].
أتدرون من المفلس؟ إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا. الحديث، وفي آخره: فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار[رواه الترمذي2418]. إذن عقوبة السب، والشتيمة، والطعن، واللعن، والفحش في القول هذه هي يوم القيامة.
وقال النبي ﷺ موصياً أحد الصحابة: اتق اللهثم قال له: وإن امرؤ شتمك وعيرك بأمر ليس هو فيك فلا تعيره بأمر هو فيه ودعه يكون وباله عليه وأجره لك ولا تسبن أحداً[رواه أبو داود4084].
إن النبي ﷺ لم يرض من عائشة فعلاً معيناً كان في عداء الدين، فقد استأذن رهط من اليهود على رسول الله ﷺ فقالوا: السام عليك، وكانوا يعنون بذلك الموت، أو يقولون: السِلام عليك، يعني الحجارة، فقالت عائشة رضي الله عنها وقد فطنت لما قالوا، وكانت نبيهة ذكية، قالت: وعليكم السام واللعنة، وفي رواية: عليكم السام ولعنة الله وغضب الله عليكم. وفي رواية: عليكم السام والذام، يعني الموت والذم، هذه الكلمات التي تلفظت بها في حق هؤلاء اليهود، فقال رسول الله ﷺ وهو المربي لزوجته: يا عائشة لا تكوني فاحشة، وفي رواية: مه يا عائشة، مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش[رواه مسلم11]، قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلت: وعليكم. رد بكلمة واحدة ليس فيها فحش وتفحش، وقال: أوليس قد رددت عليهم الذي قالوا؟[رواه مسلم2165]، هذا لكلامها رضي الله عنها في هؤلاء.
فإذن الله ورسوله قد نهيا عن الفحش، ولا يريد الشارع أن يتوعد لسان المسلم السب، والشتيمة، واللعنة مطلقاً.
طريقة القرآن في الكناية عما يستبشع ذكره
وتأمل طريقة القرآن في الكناية عما يستبشع ذكره، ويستحيا منه، ألم ترى أن الله كنى عن الجماع بالملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرفث، والسر، قال ابن عباس: المباشرة: الجماع ولكن الله يكني أو يكنِّي. وقد قال أيضاً: إن الله كريم يكنِّي ما شاء، وإن الرفث هو الجماع. ولذلك قال العلماء: من أسباب الكناية في القرآن أن يذكر بالكناية ما يفحش ذكره في السمع، فيكني عنه بما لا ينبو عنه الطبع، وقد قال الله تعالى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًاسورة الفرقان72.
ومما قيل في تفسيرها: أي كنوا عن لفظه، ولم يوردوه على صيغته، وقد قال تعالى: وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّاسورة البقرة235 ، فكنى عن الجماع بالسر.
وقال: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّسورة البقرة187 فكنى عن الجماع بالمباشرة لما فيها من التقاء البشرتين.
وقال: أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءسورة النساء43 بدلاً من الجماع، إذ لا يخلو الجماع من ملامسة، وكنى كذلك بقوله: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّسورة البقرة187، واللباس من الملابسة وهي الاختلاط الحاصل عند الجماع.
وكذلك قال في آيات أخرى: نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْسورة البقرة223، فكنى عنها بالحرث، وقال تعالى في قصة امرأة العزيز: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِسورة يوسف23 فطلبت ما تطلب المرأة من الرجل فعبر عن ذلك بالمراودة.
وقال أيضاً في الجماع: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِسورة الأعراف189.
وكنَّى عما يخرج من الإنسان من الفضلة في قصة مريم وابنها، كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَسورة المائدة75قال بعض أهل العلم بالتفسير: أراد أيضاً مع الأكل البول والغائط، فأخبر بالمسبب، إذ لا بد للآكل من البول والغائط، لكن لما كان مما يستقبح كنى عنه بذلك، وأراد أن يقول: إن مريم وابنها يأكلان الطعام ويخرجان الفضلات ولا يمكن لأحدهما أن يكون الله، أيكون إلهً؟! فإن الله تعالى منزه عن ذلك.
وقال : أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِسورة المائدة6، والمقصود بالغائط معروف قسيم البول، ما يخرج من الإنسان من فضلة، ولكن قال: الغائط، وهو المكان المنخفض من الأرض؛ لأن العرب كانوا إذا أرادوا قضاء حاجتهم أبعدوا عن العيون إلى مكان منخفض من الأرض حتى إذا نزل أحدهم فيه ليقضي حاجته لا يرى، فكنى عنه بالغائط، فانظر إلى لطيف اللفظ وكيف يعلمنا القرآن الأدب، كيف يعلمنا الله الأدب في كتابه.
وقال: وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّسورة الممتحنة12، ومعلوم ماذا يوجد بين أرجلهن، فالكناية عن الزنا، وكنى عن الإست بالدبر، فقال: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْسورة محمد27.
هدي النبي ﷺ في الكناية عما يستبشع ذكره
أما النبي ﷺ فإنه كان في غاية الأدب وهو يتحدث بتلك الأحاديث مما يعلم منه سلامة لسانه ﷺ وعفته ﷺ ، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة سألت النبي ﷺ عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها، قطعة من القطن، أو الصوف قد أصابها المسك لتطييب المكان بالرائحة الطيبة، فالمرأة قالت: كيف أتطهر؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله تطهري[روه البخاري314].
وفي رواية قالت أم المؤمنين: فاستحيا النبي ﷺ فعلمت ما أراد، قالت: فاجتبذتها إليَّ فقلت: تتبعي بها أثر الدم، طهري واغسلي ونظفي مكان الدم من الداخل، والنبي ﷺ يقول: سبحان الله تطهري بها[روه البخاري314]ولم يزد على ذلك، وكان ﷺ حيياً، أشد حياءً من العذراء في خدرها.
ولما أراد أن يعلم الأمة متى يجب الغسل قال: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل[روه الترمذي108]، وفي رواية: إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل [رواه مالك143].
وقال ﷺ لما سألته امرأة عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل هل عليها من غسل؟ فقال: نعم، إذا رأت الماء[رواه البخاري130]، وقال: الماء من الماء، فسمى ما يخرج من الرجل عند الجنابة ماء، وقال باللفظ اللطيف: الماء من الماء[رواه مسلم343].
غسل الجنابة ماؤه واجب من الماء الذي يخرج، وكذلك إذا مس الختان الختان، هل تراه ذكر أسماء العورات كما يذكرها الناس اليوم، التي يعبرون عنها بأبشع الألفاظ، وأسوأ العبارات يقولونها، وهذا نبيهم ﷺ بهذا العفاف، والطهر، ولكنهم لا يتعلمون منه، وترى المجالس يذكر فيها من أشنع الألفاظ وأسوأ العبارات مما يخدش الحياء، ويذهب المروءة، والناس ساكتون، ومنهم من يضحك، ويشارك، والنكات القذرة لا تخفى عليكم مما يذكر فيه كثير من هذا.
قال النبي ﷺ: إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه[رواه أبو داود8]رواه أبو داود، والنسائي، وهو حديث صحيح.
قال ابن الأثير رحمه الله: الاستطابة الاستنجاء؛ لأن الرجل يطيب نفسه بالاستنجاء من الخبث، والاستنجاء: إزالة أثر النجوة وهو الغائط، وهكذا إذن كانﷺ يقول.
هدي الصحابة في الكناية عما يستبشع ذكره
ولما نقل الصحابة الكلام والفعل والحركة كانوا في غاية العفاف، ففي رواية أبي داود وهو حديث صحيح يقول أبو قتادة واصفاً صلاته ﷺ، فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى وجلس على مقعدته[رواه البخاري828]، فكنى واستخدم لفظ المقعدة فيما هو معلوم، وحتى عندما كانت الاستفتاءات تأتي إلى النبي ﷺ بغاية الأدب، يقول: وقعت على أهلي، أو وقعت على امرأتي في رمضان أو ونحو ذلك، ولا يفحشون، ولا يقولون من الفحش من القول أبداً، كيف وهم أمام النبي ﷺ.
وهذه امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله ﷺ وعائشة جالسة عنده، وعندها أبو بكر فقالت: يا رسول الله إني كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي – يعني بالثلاث – فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَبِير، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل هذه الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها تريد أنه ضعيف لا يستطيع الوقاع والجماع، فكنَّت بهذه الكناية اللطيفة، ما معه إلا مثل هذه الهدبة، فلم تسم شيئاً من العورة، ولم تذكر شيئاً قبيحاً، ومع ذلك كان خالد بن سعيد بالباب لم يؤذن له، فقال: يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به عند رسول الله ﷺ، والنبي ﷺ لا يزيد على التبسم؛ لأن من حق المرأة أن تستفتي، وأن تشتكي، ثم قال ﷺ: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ يعني الزوج الأول لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته[رواه البخاري2639]، وهي كلمة فيها معنى اللذة وهي إشارة إلى وجوب الوطء في النكاح الثاني حتى إذا طلقها عادت للأول، فانظر إلى عفافه ﷺ، وقارن بينه وبين ما يتلفظ به كثير من الناس في هذه الأيام.
وقد جاء رجل إلى عائشة رضي الله عنها وهو عبد الله بن شهاب الخولاني كما في صحيح مسلم، فقال: فنزلت عندها، نام ضيفاً، فقال: احتلمت في ثوبي فغمستهما في الماء، فرأتني جارية لعائشة فأخبرتها، فبعثت إليَّ عائشة فقالت: ما حملك على ما صنعت؟ قال: كنت رأيت ما يرى النائم في منامه. لاحظ الأدب في العبارة، رأيت ما يرى النائم في منامه، والنائم يرى أشياء كثيرة، لكن هي إشارة إلى شيء معين، رأيت ما يرى النائم في منامه، يعني حصلت الجنابة، قالت: "هل رأيت فيهما شيئاً؟" قلت: لا، قالت: "فلو رأيت شيئاً غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله ﷺ يابساً بظفري".[رواه مسلم290].
لقد عبر الصحابة عن التبول بإراقة الماء، وإهراق الماء، وكان أحدهم يقول: أصابتني جنابة، وكان يقال في الحديث: حصل بعض ما يكون بين الرجل وامرأته، ومعلوم ماذا يكون، ومع ذلك فإنهم كانوا يستخدمون الألفاظ المؤدبة النظيفة في الكلام والخطاب.
وحتى ما يحدث بين الرجل وامرأته لا يجوز الحديث به، مع أنها حلال عليه، لقد روى الإمام أحمد رحمه الله: أن رسول الله ﷺ قال: لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها. فأرم القوم، يعني سكتوا، قال ﷺ : لا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون[رواه الطبراني في الكبير414]، هذا إذا حدث بالحلال الذي بينه وبين زوجته، فانظر الآن إلى ما يقولون بالحرام، وماذا فعلوا في الإجازة الماضية من المنكرات والكبائر، وهم يتفوهون به.
فإذن هذه الألفاظ المستبشعة المستشنعة، وما يكون بين الرجل وزوجته لا يجوز الحديث به أمام الناس من باب الأدب، الشريعة تعلم الأدب، تعلم العفاف في اللسان.
انتشار اللعن
وكذلك من المصائب المنتشرة اليوم فيما يتعلق بهذا انتشار اللعن، اللعن: وهو الطرد والإبعاد عن الله تعالى، اللعن منتشر كثيراً على ألسنة الناس، أخرج البخاري ومسلم عن النبي ﷺ قال: لعن المؤمن كقتله[رواه أحمد16385].
وروى مسلم عن النبي ﷺ: لا ينبغي لصدِّيق أن يكون لعاناً[رواه مسلم2597].
قال العلماء: يحرم لعن إنسان بعينه أو دابة.
وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء : قال رسول الله ﷺ: إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإن لم تجد مساغاً ما وجدت مسلكاً ولا أحداً يستحقها، فإن لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعن فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها[رواه أبو داود4905]. إذا كان الملعون يستحق، ظالم ونحو ذلك وقعت اللعنة، أو كان ممن لعنه الله تعالى أو رسوله، أو كان لعن الجنس، لعن الله اليهود والنصارى. أو لعن الفاسقين والمتبرجات، أو لعن النامصات والمتنمصات ونحو ذلك مما يجوز لعنه على وجه العموم وإلا رجعت على صاحبها. حتى الدواب حتى البهائم حتى الجمادات لا يجوز لعنها.
أخرج مسلم عن عمران بن الحصين قال: بينما رسول الله ﷺ في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت المرأة من الناقة فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله ﷺ، فقال: خذوا ما عليهايعني: من المتاع، ودعوها فإنها ملعونه[رواه مسلم2595] لا يمكن أن يصحبنا ملعون في السفر، قال عمران: فإني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد، الدابة مهملة ولا أحد اقترب منها، فقد قال النبي ﷺ: دعوهافتركوها. فإذن هكذا عقوبة تعزيرية للاعن.
لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة[رواه مسلم2598]. حديث صحيح.
إذًا: أيها المسلمون: هذا اللعن المنتشر حرام في حرام، هذا اللعن المنتشر يرجع على قائله في العموم والغالب، وحتى قضية السباب والشتم، إذا جاوز الإنسان المسبوب والمشتوم فإنه يأثم، لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَسورة النساء148، وأخبر النبي ﷺ في الحديث أن إثم السب والشتم على البادئ إلا أن يتعدى المظلوم فيسب ويشتم بأكثر مما حصل، وإن ترك السب والشتم حتى لو كان مظلوماً فهو أحسن وأطيب.
ولذلك ينبغي الامتناع والكف عن ذلك والصحابة ضربوا المثل العظيم في هذا، فعن جابر بن سليم قال: قلت: اعهد إليَّ يا رسول الله، أوصني، اعهد إليَّ، قال: لا تسبن أحداًقال: فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة.[رواه أبو داود4084]أخرجه أبو داود بإسناد حسن.
كم بين هذا وبين ما يحدث الآن من السب، والشتم، واللعن في المجالس، والهواتف، والدكاكين، والمحلات، ومجتمعات الناس، ظاهرة سيئة، ويسب الرجل زوجته ويلعن أولاده وحتى أقرب الناس إليه.
نسأل الله أن يطهر ألسنتنا وقلوبنا، اللهم إنا نسألك العفة والعفاف، اللهم إنا نسألك العفة والعفاف، اللهم إنا نسألك العفة والعفاف، استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا وافسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه وأنصاره والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
بعض الأحكام المتعلقة بالسب
عباد الله: إن التعود على السب والشتم عادة قبيحة جداً، وقد توقع والعياذ بالله في الكفر كما إذا سب الله تعالى أو النبي ﷺ أو الملائكة. ومن السب ما يحكم بكفر صاحبه، ومنه ما يوجب الحد كما إذا قذف بالزنا، لو قال: أنت أزنى من فلان عليه حدان؛ لأنه قذف رجلين، وبعض ذلك يقتضي التعزير، وقد اتفق الفقهاء على أن من سب ملة الإسلام، أو دين المسلمين يكون كافراً، وكذلك نهى الشارع عن سب الدهر، فقال: لا تسبوا الدهر[رواه مسلم2246]؛ لأن سب الدهر يعود على خالق الدهر وهو الله تعالى إذ أن الدهر لا ذنب له.
وتأمل في سب الناس اليوم للساعة والأيام والسنين، وأما سب الأموات بغير مصلحة شرعية فمنهي عنه وهو يفضي إلى إيذاء الأحياء.
وأما أقوال العلماء في السب في هذه الألفاظ المنتشرة فإن بعض أهل العلم قد ذكروا: أنه إذا سبه سباً لا يصل إلى القذف بالزنا فإنه يعزر، يعزر بالجلدات المناسبة أو بما يراه القاضي لدرء ذلك، وذكر العلماء رحمهم الله في كتبهم أمثلة لمن سب شخصاً بألفاظ مقذعة أو قال: يا فاسق، أو يا فاجر، أو ديوث، ونحو ذلك، فإنه يعزر تعزيراً رادعاً ينهاه وينهى مثله، وكذلك إذا شتمه ببعض أسماء البهائم، فإن بعض أهل العلم قد ذكروا أيضاً أنه يعزر في ذلك.
وأما النطق بألفاظ الخنا في الملأ مما يستبشع، فإنه يسقط مروءة الإنسان، حتى قال بعضهم: لا تقبل شهادته.
قال ابن همام رحمه الله: إظهار الشتيمة مجون وسفه، ولا يأتي به إلا أوضاع وأسقاط.
وهناك بعض الحالات التي يجوز فيها الجهر بالسب والشتم، كما إذا سب آلهة الكفار لإغاظتهم دون أن يكون هناك منكر أكبر من ذلك يترتب عليه؛ ولذلك قال أبو بكر للمشرك: اممص بظر اللات.
وكذلك قال النبي ﷺ: من تعزى بعزاء الجاهليةيعني تعصب العصبية الجاهلية فأعضوه بهني أبيه ولا تكنوا[رواه النسائي في الكبرى8813]. لا تكنوا وإنما قولوها بالصراحة، بصراحة اللفظ من باب زجره، والمراد بهني أبيه أي: ذكر أبيه، يقال له ذلك: اعضضه، إذا تعزى بعزاء الجاهلية.
وكذلك في استنطاق القاضي للمعترف بالزنا، كما قال الصحابي في كلمة النبي ﷺ لماعز، ثم قال الصحابي: ولا يكني؛ لأجل الحاجة لأن المسألة فيها إزهاق روحه وقتله، فلا بد من استنطاقه باللفظ الصريح.
وكذلك قال النووي رحمه الله: يجوز للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وكل مؤدب أن يقول لمن يخاطبه في ذلك الأمر ممن فعل شيئاً سيئاً ويلك أو يا ضعيف الحال، أو يا قليل النظر لنفسه، أو يا ظالم نفسه، وما أشبه ذلك بحيث يؤدبه بمثل هذا. وهذه حاجة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الباعث على الفحش
والحاصل أيها الإخوة: أن الباعث على الفحش إما أن يكون قصد إيذاء الناس، أو العادة التي جرت بفعل مخالطة أهل الفسق، واللؤم، والخبث، فإن الاعتياد في مخالطة الفساق يسبب تكرار مجالستهم والاستماع إليهم التعود على ألفاظهم، وزوال شناعتها من النفس، والتلفظ بها في تقليدهم والاقتداء بهم.
وما فعلته الأقلام الهابطة في القصص السيئة الماجنة، والأفلام المنحطة ما فعلته في نشر السباب، والشتائم، والألفاظ الشنيعة، وإزالة الحياء، والكلام في العورات، والكلام في الرفث والجماع، ونحو ذلك أمر عظيم جداً، وأثره في الأجيال واضح للغاية، وأصحاب السوء والناس في الشوارع الذين يتعلم منهم بقية الأولاد الصغار السباب، والشتائم، أمر واضح جداً، لقد أقيمت في بعض الأماكن مسابقة بعنوان (أبو عيون جريئة) يكون الفائز فيها أوقح الشبان، وأقلهم حياءً وأدباً، فتصور ذلك في مجتمع من مجتمعات المسلمين، إلى هذه الدرجة، من أوقح وأشد شناعة في لفظه هو الذي ينال الجائزة، فهذه الأشياء التي تنشر الفحش ينبغي بترها وقطع دابرها، وينبغي على الآباء أن يصونوا أولادهم عن مرافقة أهل السوء.
أهمية الصحبة الصالحة
ونحن الآن في بداية عام دراسي جديد، هل ذهبت يا أيها الأب إلى المدرسة وتفرست في وجوه الطلاب الذين يدرسون مع ولدك في الفصل الدراسي الذي هو فيه، فانتقيت له عدداً من الأخيار، ولو قلوا، وقلت له: هؤلاء الزمهم ولا تتعداهم، وتسمح له بأن يزورهم ويزوروه. هذه مسؤوليتك، ليست المسؤولية فقط شراء الكراريس والأقلام والدفاتر، والمسارعة لتلبية احتياجات المدرسة، وإنما الأهم من ذلك مراقبة الولد، من هم أصحابه، من هم الذين يماشيهم ويحتك بهم، فإنهم مصدر أخلاقه ومنبع عاداته؛ ولذلك مسؤولية الأب مسؤولية عظيمة، وكل واحد من الراشدين البالغين مسؤول عن نفسه في أصحابه الذين يماشيهم ويصادقهم، فإن صاحب الفحاشين صار فحاشاً، وإن صاحب النمامين المغتابين صار كذلك، وهكذا أيها الإخوة.
ولنذكر إخواننا في مطلع هذا العام الدراسي بالاعتناء بتربية أبنائهم، وعدم الاكتفاء بذهابهم إلى المدرسة، ونذكر المدرسين بمسؤوليتهم في التربية قبل التعليم، إذ أن هناك فرقاً بين التربية والتعليم، فليست القضية نقل المعلومات، وإنما تأديب الطلاب وتربيتهم على المنهج الإسلامي، وكذلك نذكر بالفقراء والضعفاء ممن يحتاجون إلى الصدقات حتى في شراء لوازم المدرسة، وقد أفتى أهل العلم بجواز دفع الزكاة لنفقة الدراسة للطالب الفقير؛ لأنها صارت حاجة في هذه الأيام، لا تنال شهادة أو وظيفة في الغالب إلا بها، بل حتى الزواج؛ ولذلك يجوز دفع الزكاة فيها ما لم يكن فيها شر أو إثم أو معصية.
وكذلك أيها الإخوة الشفاعة لمن يحتاج الشفاعة في قبول ولده في المدرسة، ونحو ذلك، لقوله ﷺ: اشفعوا تؤجروا[رواه البخاري1432]، ونحو ذلك ممن يستحق من المسلمين.
نسأل الله أن يجعل أعمالنا في طاعته، وأن يوفقنا إلى مرضاته، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفة والعفاف، اللهم ارزقنا الطهر والصدق يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين وافتح لهم بلاد الكفار والمشركين، اللهم عجل بنصرهم، اللهم رد إلينا القدس الشريف، وأخرج اليهود منه أذلة صاغرين، عليك بهم يا رب العالمين، وبسائر أعداء الدين، أرغم أنوفهم، وأفشل خططهم واجعل مكرهم تدميراً لهم يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والصلاح للعباد، اللهم إنا نسألك الأمن في الأوطان والدور، آمنا في أوطاننا ودورنا، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور، وارحمنا يا رحيم يا غفور.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءوَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.