الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
الخليل إبراهيم مع ضيوفه المكرمين
فإن الله قد قص علينا القصص في أخبار أنبيائه للعظة والعبرة: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ سورة يوسف:3، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِسورة يوسف:111، ومن أولئكم النفر الكريم خليل الله إبراهيم، أفضل الأنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والتسليم، قص الله علينا من خبر الخليل قصصاً عدة فيها فوائد جمة، ذلك النبي الكريم الذي كان يتمتع بالخصال الجميلة، والصفات الحسنة الجليلة، ومن ذلك إكرامه للضيف، كان بابه مشرعاً لا يُغلق دون الضيوف؛ ولذلك دخلوا عليه فقالوا: سلاماً، كانوا رسلاً كراماً من الملائكة: وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ سورة هود:69، فكان في هذا بيان بكيفية الرد: وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا سورة النساء:86، قَالُواْ سَلاَمًانسلم عليك سلام، جملة فعلية تقتضي التجدد، فرد بجملة اسمية: قَالَ سَلاَمٌتفيد الثبوت، وهكذا كانت تحيته أحسن، إنهم ضيوفه المكرمون، أكرمهم الله ملائكة، وأكرمهم الخليل ضيوفاً، إنهم مكرمون.
قص الله علينا من خبر الخليل قصصاً عدة فيها فوائد جمة، ذلك النبي الكريم الذي كان يتمتع بالخصال الجميلة، والصفات الحسنة الجليلة، ومن ذلك إكرامه للضيف، كان بابه مشرعاً لا يُغلق دون الضيوف؛ ولذلك دخلوا عليه فقالوا: سلاماً، كانوا رسلاً كراماً من الملائكة فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍسورة هود:69 لقد راغ إلى أهله، وانسل خفية حتى لا يشعروا به، وهذا من إكرام الضيف حتى لا يشعر بالحرج، فَجَاءسورة الذاريات:26 سرعة المجيء، هذه الفاء الدالة على أن كل شيء معد للضيوف، وأن ضيافتهم حاضرة، فَجَاء بِعِجْلٍسورة الذاريات:26 إنه شيء نفيس ليس طعاماً قليلاً، جاء بعجل كامل، وليس ببعض عجل، ولا قطعة لحم، جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍسورة هود:69 مشوي على الحجارة المحماة، وهذا من أحسن الأطعمة، وهذا من أنفسها، يقدمه على الحال، يقدمه على وجه السرعة بدون مشاورة كما يفعل البعض، فيحرج ضيوفه: هل نأتيكم بطعام؟ هل نأتيكم بعشاء؟ ويتلكأ، ويتأخر الطعام، وإذا كان هذا من البخلاء، فربما كانت شكراناً أن يعتذروا ويرفضوا، وقد قيل لبعض هؤلاء البخلاء: ما الفرج بعد الشدة؟ قال: أن يعتذر الضيف بالصوم.
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِسورة الذاريات:26 إنهم الأهل المستعدون لاستقبال الضيوف، تربية الخليل إبراهيم، لم يتذمروا عند حضور الضيف، وإنما كانوا بغاية الاستعداد، فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ، وهذه المرأة الجليلة قائمة بالخدمة حاضرة، كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌسورة هود:71 إنه الاستعداد التام، إنه القيام بالعمل والخدمة، إنه الاستنفار لأجل القيام بهذه الخصلة من الإيمان: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه[رواه البخاري (6018)، ومسلم (47)].
وهكذا وُضع الطعام فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْكما جاء في آية الذاريات، قربه إليهم ولم يقل لهم: تعالوا أنتم إليه، وذلك أبلغ في الإكرام، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، ثم عرض عليهم الأكل بغاية اللطف قال: قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ سورة الذاريات:27، وذلك أنه لحظ أن أيديهم لا تمتد إليه، وهذه الملاحظة كانت خفية، وإلا فإن التحديق في الضيف وهو يأكل ليس من الأدب، وقد جاء: أن أعرابياً أكل مع هشام بن عبد الملك أو سليمان، فرأى الخليفة في لقمة الأعرابي شعرة، فقال له: أزل الشعرة عن لقمتك، قال الأعرابي: أتنظر إلي نظر من يرى الشعرة في لقمتي! والله لا أكلت معك، فخرج يقول:
وللموت خير من زيارة باخل | يلاحظ أطراف الأكيل على عمد |
لكن تلك النظرة التي حانت خِفية من الخليل إلى ضيوفه الذين لا يمدون أيديهم إلى الطعام؛ لأنهم ملائكة، لا يشتهون، ولا يأكلون، وقد جعل الله الذكر لهم مقام الطعام والشراب، التسبيح والتقديس، وهكذا يكون الذكر زاداً لهؤلاء الأبرار الأطهار.
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ، وهكذا الحال عندما يعرض الضيف عن الأكل من طعام المضيف؛ فإن المضيف يتوجس شراً، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةًخوفاً وفزعاً، ولذلك سارعوا إلى تطمينه بنفي الخوف أولاً: لاَ تَخَفْ، ثم ببيان ما هو الغرض الذي قدموا من أجله، إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍسورة هود:70، وهنا عرف الخليل من يكلم، إنهم ملائكة الرحمن عليهم السلام، إن الخبر الجلل الآن أن لوطاً الذي كان خرج معه مهاجراً من العراق إلى الشام، وأرسله الله نبياً إلى قرية سدوم، هؤلاء المشركون الذين يفعلون هذه الجريمة العظيمة، لقد جاء الفرج بانتقام الرب من هؤلاء: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، لفكان ذلك الخبر عجيباً حتى على أهل البيت، وذلك لانكشاف الحقيقة، وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْسورة هود:71، ولذلك قال من قال من العلماء: لأجل ما اكتشفت من حقيقة القوم، وأنهم ملائكة، وأنهم جاءوا لإهلاك هؤلاء المجرمين، ضحكت عجباً، وهكذا كانت البشارة من الله لما اكتشفت الحقيقة، وعُرف الخبر بهلاك المجرمين أن يُرزق بالصالحين بعد البشارة بهلاك المجرمين.
رحمة الله وبركاته على إبراهيم وآله
وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ سورة هود:71، إنه أمر عجب، إنه شيخ كبير، وهي امرأة عجوز، ابتلاهما الله بقطع الولد طيلة هذه المدة لكن لم ييأسا من رحمة الله؛ ولذلك جاءت البشارة لهما، بشائر متوالية: هلاك قوم مجرمين، ورزق قوم صالحين، هكذا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ إذن كان يعرف أنه سيولد له ولد، وأنه يكون منه حفيد، وإن من قرة العين أن يعلم الإنسان أن له أحفاداً.
وجاءت البشارة من هؤلاء الملائكة الكرام: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ، فتعجبت، قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ سورة هود:72، وفي سورة الذاريات: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا سورة الذاريات:29 لقد جاءت في ضجة وعجلة وهي تسمع البشارة، وهكذا غطت وجهها كما جرت به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب بالخبر المفاجئ، ضرب اليدين على الوجه، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أيكون مني هذا الولد إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ! سورة الذاريات:29.
فبادرت الملائكة إلى تقرير قدرة الله: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ سورة هود:73 أتعجبين من أمر الله الذي هو على كل شيء قدير؟ الذي هو نافذ المشيئة، ما شاء كان، أتعجبين من الذي إذا قال للشيء: كن فيكون؟ أتعجبين من أمر الله: كن فيكون؟ لا تتعجبي إذن، إنه أمر الله .
رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِسورة هود:73 أنتم مباركون، أنتم صالحون، أنتم أهل للبشارات، لقد صبرتم طويلاً، وجاء الفرج من ربكم، أنتم الأطهار الأخيار الأبرار، رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، ومن البركة حصول الولد والحفيد من الله ، إنه حميد محمود في صفاته وذاته، ممجد كذلك في صفاته وذاته، إنه حميد مجيد، ختمت بها الصلاة الإبراهيمية التي يقولها المسلمون في صلاتهم بهذين الاسمين العظيمين.
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى سورة هود:74، وبعد حصول الفرحة أدركته الشفقة بهؤلاء القوم الذين أُخبر بأنهم سيهلكون، وهكذا كل نبي يشفق على أمته، ونبينا ﷺ خُيِّر بين ترك قريش، وبين أن يطبق الملك عليهم الجبلين؛ فيكون الهلاك، فاختار إبقاءهم مع ما عادوه وكذبوه، وآذوه وأخرجوه، وقتلوا أتباعه.
يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ سورة هود:74-75 ذو خلق حسن، وصدر واسع، إنه ليس بسريع الغضب، ولا يتأثر وينفعل بجهل الجاهلين عليه فيغضب، إنه أوَّاه رجَّاع إلى الله متضرع إليه في سائر الأوقات، منيب إليه، مقبل عليه، ولكن الله الذي أراد أن تكون النهاية لأولئك القوم قد أخبره بملائكته أنه لا سبيل إلى رد الأمر: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ، وما دام أنه جاء؛ فلا مرد له، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍسورة هود:76.
الضيوف يصلون إلى لوط
وهكذا كان الأمر، وانطلقت ملائكة الله تعالى إلى القرية التي فيها لوط جاؤوا إليه ضيوفاً كما جاؤوا إلى إبراهيم ضيوفاً، وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًاليس بخلاً بالضيافة، ولا رفضاً لاستقبال هؤلاء، لكنه يعلم الكفر الذي عنده في البلد، ويعلم الفجور الذي انطوى عليه قومه؛ ولذلك سِيءَ بِهِمْأين يذهب بهم من قومه، وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا؛ لأنه يتوقع ماذا سيكون من هؤلاء المجرمين: وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌسورة هود:77 إنه يوم شديد، إنه يوم صعب، كيف ستتم الحماية لهؤلاء الضيوف من هؤلاء الكثرة المجرمين، من خبث اللوطية، وتمردهم على الله؛ ولذلك بمجرد أن سمعوا الخبر عبر تلك المرأة الخائنة التي سربت الخبر -زوجة لوط -، ولم تخن زوجة نبي زوجها قط في الفراش، وإنما كانت خيانة زوجة لوط أن سربت الخبر إلى قومها، فجاؤوا يهرعون إليه، وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِسورة هود:78 انظروا -أيها المسلمون- إلى هؤلاء المجرمين، يسرعون، يهرولون فرحين! بأي شيء؟ بهذه الغنيمة، وهذا الصيد، وهؤلاء الملائكة الذين جاؤوا بصورة رجال في غاية الحسن والبهاء، إنه صيد ثمين بالنسبة إلى القوم المجرمين يُهْرَعُونَتعالوا؛ هذه بغيتكم، إنهم هنا في البيت، حاصروه، وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِسورة هود:78 بأنواعها ويأتون في ناديهم المنكر، ويقطعون السبيل، ويصدون عن سبيل الله، يعملون الفاحشة مع شركهم بالله؛ ولذلك انبرى للدفاع عن ضيوفه، وهكذا صاحب النخوة والمروءة والشجاعة يدافع عن ضيوفه، وليس بالقوة فقط، وإنما بالإقناع: يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِيسورة هود:78، والنبي في قومه بمنزلة الوالد، ونساء البلد كلهم بناته، فهو بمقام الأب، يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِيإناث البلد، هؤلاء زوجاتكم اللاتي تحتكم، ونساء البلد المؤهلات للزواج من الثيبات والأبكار، هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْسورة هود:78 لقد جعلهم الله لكم فراشاً، وخلقهن لكم سكناً، وجعل بينكم وبينهم مودة ورحمة، هؤلاء حرث فأتوا حرثكم للولد، لكن ماذا تصنعون بالذكران من العالمين؟ والذكر للذكر ليس فراشاً، ولا حرثاً، ولا يلد له، وليس بينه وبينه سكن ومودة الزوجية.
هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ ذكرهم ووعظهم، إقناع عقلي ووعظ إيماني، وتخويف بالرب، فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِيأليس الخزي الأعظم هنا أن يؤخذ الضيف، فيفعل به الفاحشة؟ إنه الخزي الكبير، وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌسورة هود:78 أليس منكم رجل واحد يعقل ويفهم؟! أليس منكم رجل مستقيم؟ لكن لم يكن من القوم رجل رشيد واحد والله، أليس منكم رجل رشيد يقوم معي يدافع عن أضيافي، يصد العدوان، يمنع وقوع الفاحشة، يقوم دون الحرام؟ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ، لكن لم ينفع ذلك الاستنجاد أمام القوم الذين انتكست فطرهم.
عندما تنتكس الفطر
قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ سبحان الله! إنهم ليس لهم غرض بالنساء، القضية شهوة الرجال، وإتيانهم في العالمين، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ سورة هود:79 تعلم مقصودنا، تعلم هدفنا، تعلم بغيتنا، تنحى جانباً، ودع الأمر لنا الآن، فهنا يتمنى ذلك النبي في موقف الضعف، في موقف الهوان عند قومه، في ذلك الموقف العصيب يتمنى قوة تنصره، وركناً شديداً يأوي إليه، إنه يتمنى أن يحدث شيء الآن لأجل القيام بحق الضيوف ونصرتهم، ومنع الاعتداء بجميع أنواعه.
أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍسورة هود:80، ولكنه في الحقيقة كان يأوي إلى ركن شديد، يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد[رواه البخاري (3372)، ومسلم (151)]في الحقيقة من هو الركن الشديد، ذا الأمر الرشيد السديد؟ إنه الله ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، فروى الترمذي رحمه الله عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: رحمة الله على لوط؛ إن كان ليأوي إلى ركن شديد[رواه الترمذي (3116)]أي: إلى الله أشد الأركان وأقواها، ترحَّم عليه لسهوه حين ضاق صدره من قومه، فأراد عز العشيرة الذين يستند إليهم كما يُستند إلى الركن من الحائط؛ ولذلك ما بعث الله نبياً بعد لوط إلا في عز من قومه، ومنعة منهم؛ حتى لا يحصل مثل هذا الموقف.
ولكن الملائكة سارعت هنا إلى تطمين لوط كما طمأنت إبراهيم من قبل: قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَكشفوا عن هويتهم، لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَلَن من المستحيل إذن لن يصلوا إليك بسوء، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ سورة هود:81 خذ أهلك، وانصرفوا من البيت، اذهبوا في هذا الليل، اخرجوا من البلد، الخروج السريع الآن؛ لأن عذاب الله وشيك، أمر لوط في هذه الآية أن يسري بأهله بقطع من الليل ولم يبين هنا ما هو، أهو أوله؟ أم وسطه؟ أم آخره؟ ولكن بينه في سورة القمر فقال الرب : إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍسورة القمر:34 في آخر الليل إذن.
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ سورة الحجر:65 إلى مكان معلوم، وهكذا لما نجى الصالحون، واستثنيَ من أهل لوط المرأة الخائنة، فإنها لن تنجو، وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌلا تلتفتوا إلى الوراء، ستسمعون ضجة عظيمة، وأحداث شديدة؛ فلا تلتفتوا إلى الوراء.
وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، وهكذا يشترك المجرم مع المجرمين في المصير، إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍسورة هود:81، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ أدلجوا أنتم إذن في السحر، وفي الصباح إذا طلع سيبدأ مسلسل العذاب.
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَسورة الحجر:66 إنه مع الإشراق، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ سورة الحجر:73، ومن عادة الله أن يأتي بالعذاب على المكذبين في الصبح، ما أن يقوموا من نومهم للعب واللهو والغفلة إلا ويسارع العذاب بالنزول بهم، وهكذا كان الموعد الصبح: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍسورة هود:81.
اللهم فقهنا في كتابك، وعلمنا ما يعيننا على تقواك، اللهم اجعل عملنا في هداك، وأسعدنا بطاعتك، ولا تشقنا بمعصيتك، إنك أنت السميع العليم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن الله الملك الحق المبين، أشهد أن لا إله إلا هو رفع السموات بغير عمد، وأشهد أن محمداً رسول الله الذي أرسله الله بالمدد إلى العالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فكثر بالعدد الموحدين الداعين إلى سبيله صلى الله عليهم وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عاليها سافلها
عباد الله: إن العذاب عندما نزل بالقوم كان عذاباً موجعاً، كان مسلسلاً رهيباً.
فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ سورة هود:82، وقال في الآية الأخرى: فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ سورة القمر:37 لقد استقبل الملك أهل القرية بجناحه فضربهم، فطمس أعينهم، صاروا عمياناً، لا يهتدون سبيلاً، ولا يعرفون طريقاً، يخبط بعضهم في بعض، هكذا أصابهم العمى كما عموا هم قبل عن الهداية، لما عموا من قبل عن الهداية والفطرة السليمة، لما عموا عن الحق أعمى الله أبصارهم: فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْسورة القمر:37 هذا أولاً.
ثم بعد ذلك قلب الله عليهم البلد، فرفعها إلى أعلى، وجعل عاليها سافلها، كما نكسوا الفطرة، وقلبوا خلقة الله السوية، قلبوا الأمر بدلاً من إتيان النساء، المزرعة الطيبة، بدلاً من إتيان الحرث، بدلاً من أن يشكروا نعمة الله عليهم -الذي خلق لهم من أنفسهم أزواجاً ليسكنوا إليها، وجعل المودة والرحمة- قلبوا الأمر، فأتوا الذكران من العالمين، بدَّلوا نعمة الله كفراً، فكما قلبوا الأمر قلب الله عليهم البلد، جعل عاليها سافلها، حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، وأصوات الديكة بين السماء والأرض، سمعوا الصياح -صياح القوم-، يصيحون ذعراً وخوفاً، وهذه البلد المقلوبة التي اجتثت من أرضها، فرفعت في السماء، جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَاسورة هود:82، وضربت بالأرض مرة أخرى لتصبح مكانها، هذه البحيرة المنتنة ليس فيها حياة، بلدة سدوم صارت أثراً بعد عين، وكان يرافق هذا القلب حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ سورة هود:82 معلم مسوم كل واحد باسمه، حجارة من طين صلب، حجارة مهلكة، وهكذا كانت هذه الحجارة المسومة لكل واحد منهم نصيب معلوم، مقدر، محدد، لا يزيغ ولا يحيد، حجارة من سجيل، وأيضاً الصيحة التي أخذت البلد صيحة أخذت البلد، فصارت القضية مسلسل من العذاب لا يُعرف أنه اجتمع على قوم آخرين: طمسنا أعينهم، أخذتهم الصيحة، جعلنا عاليها سافلها.
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ سورة هود:82-83 هذه عقوبة الفاحشة، هذه نهاية قوم اللواط، هذه عاقبة أصحاب الشذوذ الجنسي الذي يسمونه مثلية جنسية.
وقال الله في آخرها: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍسورة هود:83، فإنها يمكن إذن أن تنزل بالظالمين الذين يشابهونهم في أعمالهم، ليس ببعيد عنهم ذلك، فلنحذر غضب الرب ، قطع السبيل، وإتيان المنكر في الأندية: وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَسورة العنكبوت:29، وقلب الفطرة، ومعاداة الصالحين، أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ سورة النمل:56، وهكذا معاداة دعوة الأنبياء، وفعل هذه الفاحشة العظيمة.
ظهور الفواحش وبتصريح
وهذا الذي يحدث اليوم في الأرض، تُقنن القوانين للفواحش، في عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين صدر القانون البريطاني الذي لا يعتبر اللواط بين ذكرين بالغين جريمة يعاقب عليهما، ثم بدأ المسلسل بعد ذلك باعتراف حكومات الغرب بزيجات الشواذ جنسياً، وشهدت أمستردام أول زواج رسمي بين الشواذ في العالم وسط حضور الوزراء والكبراء، وأذيعت على الهواء مباشرة.
وفي ألفين وواحد تم تزويج ستة رجال بعضهم على بعض، وأُصدر القانون الذي يبيح ذلك الزواج في تلك البلاد، ثم ارتفع العدد إلى أكثر من عشرة آلاف زيجة بين الشواذ سنوياً بنحو عشرة في المائة عندهم من حالات الزواج الطبيعية.
وهكذا دخلت الدنمارك ذلك العالم، ثم تبعتها بلدان أوروبا وأمريكا، وصارت ولاية فرمونت أول ولاية تُعطي للشواذ جنسياً حق الإمضاء على قسيمة شبيهة بقسيمة الشواذ، وتتابع المسلسل، وصارت لهم أندية، ونواب في البرلمان، وحقوق، وأحقية في التبني، وتخفيض ضريبي، فماذا كانت النتيجة؟ في عام ألف وتسعمائة وواحد وثمانين بدأت النذر الطبية بالخروج على العالم بذلك المرض النادر الذي يسبب الجروح والقروح، ذلك الفيروس الذي يكون هامداً كامناً نائماً، ثم بعد ذلك يتحرك للإفساد في ستة شهور يقضي على صاحبه، ووجد العالم نفسه في أمر مريج، وصار الوفيات بالملايين، وانتشار المرض في خمسين مليوناً في العالم، والأكثرية من الشاذين جنسياً، وانطبق قول النبي ﷺ الذي أخبر به ﷺ عندما قال في الحديث الصحيح: أنه لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا[رواه ابن ماجه (4019)]، وهكذا فشا فيهم حقاً الأمراض التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا.
عقوبة جريمة اللواط
ومن هنا نعلم الحق في هذه الشريعة التي جاءت بالعقوبة الرادعة: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط؛ فاقتلوا الفاعل والمفعول به[رواه الترمذي (1456)] أي: إذا كان راضياً.
إن ذلك القتل مطهر للعالم، ومنقذ للأرض من الدنس والرجس، ومن هذه الفيروسات الخبيثة، وقال ﷺ: ملعون من عمل عَمل قوم لوط[رواه الترمذي (1456)].
ثم ذهب العلماء مذاهب في كيفية قتله:
فقال بعضهم: يرجم بالحجارة، واستدلوا بأن الله عاقب قوم لوط برجمهم بالحجارة.
وقال بعضهم: يلقى من أعلى بناء في البلد، واحتجوا بأن الله قلب عاليها سافلها، وضربهم في الأرض.
وقال بعضهم: يحرق بالنار؛ إنه خبيث، ولا يطهر الأرض والمجتمع إلا حرقه بالنار، لكن قد جاء الحديث في النهي عن التحريق بالنار، وأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار.
ولذلك كان القول الصواب: أنه يقتل بالسيف، قال ﷺ: اقتلوا الفاعل والمفعول بهإذا كان راضياً رواه أهل السنن الأربعة، وهو حديث صحيح [رواه الترمذي (1456)]، وفي رواية: إذا وجدتموه يعمل عمل قوم لوط؛ فاقتلوه[رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (3835)]، وهكذا صار مشبهاً بمن وقع على ذات محرم كالبنت والأخت، ومن أتى بهيمة، فإن العقوبة في الجميع القتل، هذا هو الراجح إذن، القتل بالسيف، ضرب عنقه بالسيف تخليصاً للأرض وللعباد من شؤمه، ونتنه وخبثه، وهذه الأمراض المعشعشة في ذلك الجسد الخبيث.
إنه الانتقام الإلهي، والشرع الرباني، والحد الحكيم؛ ليعلم الناس عظم هذه الجريمة التي شاعت وانتشرت، فهذه حمامات المدارس، وأماكن الاستراحات، وغيرها شاهدة على ما يُفعل في الأرض من هذه الجرائم، وأعمال خطف الأحداث، وفعل الفواحش بهم من هؤلاء المجرمين منذرة بالشؤم، واللحاق بركب القوم الكافرين، وقد قال الله: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍسورة هود:83.
فالتوبة التوبة، والعودة العودة، قبل نزول العذاب، وقبل استفحال الأمر -يا عباد الله-، والأخذ الأخذ على يد من تسول له نفسه العبث بحدود الله، وركوب هذا المركب المقلوب على صاحبه في بحر الشهوات؛ ولذلك كان لا بد من أخذ الاحتياطات العديدة في عدم تفشي هذه الجريمة الخبيثة.
اللهم طهر قلوبنا يا رب العالمين، اللهم طهر مجتمعاتنا من المنكرات يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل بلادنا عامرة بذكرك، مقبلة على دينك، مطبقة لشريعتك.
اللهم نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين، ومن أراد بلدنا وعقيدتنا بسوء فامكر به، واجعل كيده في نحره.
انصر المجاهدين، واحم حوزة الدين، وأنقذ المسجد الأقصى من براثن اليهود الغاصبين، اللهم أهلك الصليبيين الذين احتلوا بلاد المسلمين، واجعل عليهم رجزك وعذابك وسخطك يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.