الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ سورة آل عمران102. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاسورة النساء1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًاسورة الأحزاب 70-71.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
التخويف بالآيات وحكمة ذلك
عباد الله: إن الله تعالى يخوف عباده ويرسل عليهم ما يشاء من جنده لعلهم يؤوبون إليه ويرجعون، قال الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا سورة الإسراء59، وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًاسورة الإسراء60، وقال تعالى: أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ سورة التوبة126، وقال: فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ سورة الأنعام43، وقال: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْسورة الأنعام65.
قال مجاهد رحمه الله: الصيحة والحجارة والريح، أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال: الرجفة والخسف، وهي عذاب أهل التكذيب.
وعن مجاهد قال: عذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة. إسناده صحيح.
فالله أهلك قوماً، وأقواماً من قبلنا بالرجفة كما أهل قوم شعيب فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَسورة الأعراف78، وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ سورة الأعراف155 لماذا أخذتهم الرجفة؟ أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم، ولم ينهوهم عن عبادة العجل.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: والزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده كما يخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات والحوادث لها أسباب وحكم، فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك.
ولما حدثت زلزلة على عهد عمر ، عن صفية بنت أبي عبيد قالت: زلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السرر فخطب عمر الناس فقال: أحدثتم، لقد عجلتم؛ لئن عادت لأخرجن من بين ظهرانيكم.
وقد تكلم أهل العلم هل للزلازل صلاة تخصها عند حدوثها؟ فقال الشافعي رحمه الله: آمر بالصلاة منفردين، ويستحب أن يصلي منفرداً ويدعو لئلا يكون غافلاً. وكذلك سائر الآيات كالصواعق والريح الشديدة. وقال أحمد رحمه الله: يصلي للزلزلة الدائمة؛ لأن النبي ﷺ علل الكسوف بأنه آية يخوف الله بها عباده والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة الواحدة، فأما الرجفة فلا تبقى مدة تتسع للصلاة
وعن جعفر بن برقان، قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز في زلزلة كانت بالشام أن أخرجوا يوم الاثنين من شهر كذا وكذا، ومن استطاع منكم أن يخرج صدقة فليفعل فإن الله تعالى قال: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى سورة الأعلى 14-15. سنده حسن.
عباد الله: إن من أشراط الساعة كثرة الزلازل، فقال النبي ﷺ: لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو القتل[رواه البخاري1036]رواه أحمد والبخاري عن أبي هريرة مرفوعاً.
وقال ﷺ لأحد الصحابة: يا ابن حوالة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك[رواه أبو داود2535].
وهذه الزلازل من حكم الله تعالى فإذا وقعت بالمسلمين فإنها من الرحمة بهم، بالإضافة لما فيها من التخويف والتذكير والعقوبة للعصاة، قال ﷺ: أمتي هذه أمة مرحومة عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل[رواه أبو داود4278]رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
التذكير باليوم الآخر
عباد الله: إن من أكبر العظات في الزلازل التذكير باليوم الآخر، روى الترمذي رحمه الله عن عمران بن حصين: أن رسول الله ﷺ كان في بعض أسفاره وقد تفاوت بين أصحابه السير، رفع بهاتين الآيتين صوته يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ سورة الحج1-2 فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي وعرفوا أنه عند قول يقوله، فلما تأشهوا حوله - أي: التفوا - قال: أتدرون أي يوم ذلك؟قال: ذاك يوم ينادى آدم ، فيناديه ربه ، فيقول: يا آدم ابعث بعثك إلى النار، فيقول: يا رب وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون[رواه الترمذي3168] فعند ذلك تشيب الولدان، وعند ذلك تضع كل ذات حمل حملها وعند ذلك ينزل بالناس الكرب العظيم.
وقال مذكراً بذلك اليوم: إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، ودكت الجبال دكاً، ورج الأرض زلزلتها، وقال تعالى مذكراً بيوم الدين في سورة عظيمة من السور إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا سورة الزلزلة1-3، إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا أي: تحركت من أسفلها، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا سورة الزلزلة2 أي: ألقت ما فيها من الموتى، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ سورة الحج1، وكقوله: وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ سورة الإنشقاق3-4.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة[رواه مسلم1013]، تتقيأ تقيؤاً، وتخرج ما في بطنها، وفلذة الكبد شرحته طولاً، مقطع منه، تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان جمع أسطوانة، عبر عن ذلك لكثرة الشيء الذي يخرج من الذهب والفضة، مثل الأسطوان تلقيه الأرض على ظهرها من الذهب والفضة مما فيها.
وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَاسورة الزلزلة3 استنكر أمرها بعد أن كانت قارة ساكنة ثابتة، وهو مستقر على ظهرها فتقلبت الحال فصارت متحركة مضطربة، قد جاءها من أمر الله ما قد أعد لها من الزلزال الذي لا محيد لها عنه، فنعمة ثبات الأرض، ثبات الأرض نعمة من الله، يا أيها الناس الذين تمشون عليها ساكنين آمنين مطمئنين اذكروا أن ثبات الأرض واستقرارها نعمة من الله، فهو الذي أرساها، وهو الذي ثبتها، فيذكر عباده ببعض الزلازل بهذه النعمة، ولذلك يستغرب الإنسان يوم القيامة ما يحدث للأرض بعد أن كانت ثابتة قارة ساكنة.
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَاسورة الزلزلة4، عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية، قال: أتدرون ما أخبارها؟قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا كذا، فهذه أخبارها[رواه الترمذي2429].
إذًا: الأرض أمنا وستخبر بما عملنا عليها، وذلك بما أوحى الله إليها وأمرها، ويقول لها: قولي، فتقول: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَاسورة الزلزلة5، فتخرج ما في بطنها، وتحدث بما أمرها الله به، عندما يقول لها: قولي فتقول.
فإذن تأمل يا عبد الله وتفكر في هذه القضية وهي أن الأرض ستخبر بما عملت عليها، في جميع الأشياء وجميع الأماكن علت أو نزلت ستخبر الأرض بما عملت عليها، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا أي: فرقاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْسورة الزلزلة6 فيجازون عليها من خير وشر، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُسورة الزلزلة7-8.
عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ سورة الزلزلة7-8، قال: ذلك لما نزلت هذه الآية: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا سورة الإنسان8، كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه، فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجوزة ونحو ذلك، فيردونه ويقولون: ما هذا بشيء، إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه، أي نؤجر على الكثير، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير، الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك، يقولون: إنما وعد الله النار أهل الكبائر، فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه، فإنه يوشك أن يكثر، وحذرهم اليسير من الشر فإنه يوشك أن يكثر فنزلت: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ سورة الزلزلة7 يعني: وزن أصغر النمل، ذرة: يعني وزن أصغر النمل، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ من خير فإنه يراه حاضراً يوم القيامة، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍمن الشر يجده حاضراً أمامه يوم القيامة، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًاسورة آل عمران30.
وروى ابن جرير بإسناد صحيح له حكم الرفع عن ابن مسعود قال: يؤتى بالعبد والأمة يوم القيامة فينادي منادٍ على رؤوس الأولين والآخرين "هذا فلان ابن فلان، إعلان، إعلان عام يوم القيامة، إعلانٌ عام، هذا فلان ابن فلان من كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أخيها أو زوجها، ثم قرأ ابن مسعود: فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَسورة المؤمنون101.[رواه ابن المبارك في الزهد1416] فهي لا ترحم أحداً ولا يرحمها أحد، وكل واحد يطالب الآخر بحقوقه، كل واحد يحتاج إلى حسنة، ولذلك العلاقة الزوجية لا تشفع والعلاقة الأبوية لا تشفع، والعلاقة الأخوية لا تنفع، وعلاقة البنوة لا ترفع، وإنما كل واحد يطلب حقه من الآخر ولو كان أقرب الناس إليه حتى أن المرأة تفرح أن تطالب أباها وأخاها وزوجها بالحق. بالحقوق التي لها عليهم.
ثم قرأ: فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَسورة المؤمنون101، فيغفر الله من حقه ما يشاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئاً؛ لأن حقوق الناس مبنية على التشاح ولا بد من أدائها في الدنيا أو في الآخرة، لا بد من أدائها، فينصب للناس، فينادى: هذا فلان ابن فلان من كان له حق فليأت إلى حقه، فليقول، يقول هذا الذي عليه الحقوق التي ما أداها والتي لطم هذا وشتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا، يقول: يا رب فنيت الدنيا من أين أؤتيهم حقوقهم؟ ذهبت الأموال، فنيت الدنيا من أين أعطيهم حقوقهم؟ فيقول الله للملائكة: قال: خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر طلبته، على قدر ما يطلب أعطوه من الحسنات، فإن كان ولياً لله، إن كان هذا المطلوب ولياً لله ففضل له مثقال ذرة، فإن كان ولياً لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ علينا ابن مسعود: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًاسورة النساء40، قال: ادخل الجنة، وإن كان عبداً شقياً قال الملك: رب فنيت حسناته، أعطانا أصحاب الحقوق حقوقهم وفنيت حسناته، من أين نعطيهم، ولا مال ولا حسنات باقية، قال الملك: رب فنيت حسناته وبقي طالبون كثير، عمال ما أخذوا رواتب، زوجات ما أخذن نفقة، أولاد ما أخذوا كفاية، أقارب ما أخذوا المستحقات، بقي طالبون كثير، ناس مظلومين في العرض، ناس مظلومين في الدم. ناس مظلومين في المال، بقي طالبون كثير فيقول: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكاً إلى النار.
عباد الله: بماذا تذكرنا الزلازل؟ بهذا اليوم، فلمثل هذا اليوم أعدوا يا إخواني.
أسأل الله أن يجعلنا ممن يؤدي إلى أهل الحقوق حقوقهم، وأن يتجاوز عنا بمنه وكرمه وفضله، وأن يرحمنا برحمته وعفوه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وأوسعوا وأفسحوا يفسح الله لكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء، هو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه بما علمنا وهدانا، وأرشدنا وأدبنا، صلى الله عليه وعلى أصحابه الذين بلغوا حديثه وأدوا سنته، صلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
شهر رجب وما فيه من البدع
عباد الله: هذا شهركم شهر رجب المحرم قد دخل، وقد قال النبي ﷺ: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان[رواه البخاري3197].
أما قوله ﷺ: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض فقد ذكر بعض أهل العلم في معناه: أهل الجاهلية كانوا يتلاعبون بالأشهر الحرم فإذا طال عليهم توالي ثلاثة أشهر حرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم لا يقاتلون فيها أنفسهم شق ذلك عليهم وثقل وأرادوا القتال فماذا يفعلون بمحرم؟ يؤخرونه ويستعملونه في القتال، ويحرمون صفر مكانه، ويتلاعبون في الأشهر الحرم فيقدمون ويؤخرون ويزيدون وينقصون، ويحلون ما أرادوا تحليله ويحرمون بدلاً منه إلى أن جاء الإسلام فوافق حجة الوداع رجوع التحريم إلى محرم الحقيقي، رجوع المحرم إلى محرم الحقيقي، ورجع كل شهر إلى حقيقته التي خلق الله عليها السماوات والأرض وصارت المطابقة بين الواقع وينما قدره الله وشرعه في تلك الحجة حجة الوداع، فقال النبي ﷺ: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض.
أما قوله: رجب مضرفإن مضر حي من أحياء العرب، وقبيلة من قبائلهم، أضاف رجب إليهم؛ لأنهم كانوا أشد العرب تعظيماً له. سميت الأشهر الحرم لعظم حرمتها، وحرمة الذنب فيها؛ ولذلك قال الله: فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْسورة التوبة36، وكان القتال محرماً على المسلمين في الأشهر الحرم في أول الإسلام، ثم نسخ بعد ذلك وأمر بقتال المشركين في زمان وفي أي مكان، وهذا قول جمهور أهل العلم، ونص على نسخه الإمام أحمد وغيره، فشهر رجب شهر محرم الذنب فيه أضعف وأكثر وأسوأ من الذنب في غيره من الأشهر غير الحرم، ولا شك أن الذنوب تعظم في الأزمنة الفاضلة والأمكنة الفاضلة، والناس عدد منهم بدلاً من أن يمسكوا عن ظلم أنفسهم في رجب فإنهم يظلمون أنفسهم بأشد أنواع الظلم أو من أشدها وهي البدعة، التي هي أشد ذنب بعد الشرك بالله، فيحولون شهر رجب إلى شهر بدع، فيجعلون فيه صلاة الرغائب التي هي أول ليلة جمعة من شهر رجب فيصلونها على كيفية معينة، وهي بدعة عند العلماء، ويجعلونه صياماً، والإكثار من الصيام في شعبان والمحرم، والشهر الوحيد الذي يصام كله هو رمضان.
ويعتقدون بأن عمرة رجب أفضل من غيرها والمفروض أن الإنسان يعتمر في أي وقت يتيسر له، والعمرة في رمضان تعدل حجة، فاعتمر في رجب وفي غير رجب، دون اعتقاد لفضل معين، وقد اعتمر النبي ﷺ أربع مرات كلهن في ذي القعدة، وبذلك أثبتت عائشة وسكت ابن عمر.
ويحتفلون ببدعة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين منه علماً بأن الإسراء والمعراج لم يثبت أصلاً أنه في السابع والعشرين من رجب، فضلاً عن الاحتفال به، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله مقعداً هذه القاعدة العظيمة: الزمان ثلاثة أنواع:
أولاً: يوماً لم تعظمه الشريعة أصلاً، ولم يكن له ذكر في السلف ولم تحدث فيه حادثة معينة، فتعظيمه وتخصيصه بعبادة أو زينة أو احتفال بدعة شنيعة، كأول خميس من رجب ليلة الجمعة التي يصلون فيها صلاة يسمونها صلاة الرغائب، ويوم في وسط رجب فيه صلاة يزعمون أنها صلاة أم داود، وكل ذلك بدعة منكرة، وتخصيص بعض الأيام بالصيام وليلها بقيام من بين سائر الليالي والأيام يكون كذلك، فينبغي أن يصام منه كأي شهر آخر مثل الأيام البيض والاثنين والخميس أو صيام يوم وإفطار يوم ونحو ذلك.
القسم الثاني: ما جرت فيه حادثة معينة لم تجر في غيره، ولكن هذا الجريان لهذه الحادثة لا يوجب أن تجعل موسماً ولا تجعل عيداً ولا تعظم، كخطبة النبي ﷺ في غدير خم، أو المولد، فيوم المولد حدث فيه حدث معين وهو ولادة النبي ﷺ لكن لا اليوم ولا الحدث يوجب أن نحتفل به، أو نخصصه بعبادة معينة من بين سائر أيام العام، وقد حدث للنبي خطب وعهود ووقائع ومعارك في أيام كثيرة لم يحتفل بها الصحابة، ولم يخصصوها بعبادات معينة.
القسم الثالث: ما هو معظم في الشريعة كيوم عاشوراء، ويوم عرفة، والعشر الأواخر من رمضان، والعشر الأوائل من ذي الحجة، وليلة الجمعة ويومها، والعشر الأول من محرم ونحو ذلك، فهذه يقتصر فيها على ما فعله السلف ولا يحدث فيه أشياء جديدة، وإنما يقتصر على ما ورد من السلف في الاجتهاد فيها بالعبادة، طول القيام، والصيام فيما ورد فيه ذلك، والحمد لله. وهكذا تكونون أمة وسطاً لا إفراط ولا تفريط، ولا غلو، وإنما العبادة وفق ما كان النبي ﷺ وأصحابه والسلف من بعدهم.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من القائمين بالملة الحنيفية، وأن يجعلنا من المستقيمين على السنة النبوية، وأن يجعلنا من العاملين بحديث النبي ﷺ وهذه الشريعة السمحة.
اللهم اغفر لمن مات من المسلمين من الموحدين يا رب العالمين، اللهم ارحم موتى المسلمين الذين ماتوا في هذه المصيبة، اللهم خفف عن المصابين مصابهم، اللهم واشف مرضى المسلمين مما أصابهم، اللهم إنا نسألك أن تجعل ما أصاب الموحدين من المسلمين كفارة ورفعة لهم في الدنيا والآخرة يا رب العالمين، اللهم آمنا في البلاد، وأرشد الأئمة وولاة أمور العباد وانشر رحمتك على العباد يا رب العالمين.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءوَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.