الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فضل عشر ذي الحجة والعمل فيهن
الحمد لله الذي خلق الزمان وفضل بعضه على بعض، فخص بعض الشهور والأيام والليالي بمزايا وفضائل يعظم فيها الأجر، ويكثر الفضل رحمة منه بالعباد ليكون ذلك عوناً لهم على الزيادة في العمل الصالح، والرغبة في الطاعة، وتجديد النشاط ليحظى المسلم بنصيب وافر من الثواب، فيتأهب للموت قبل قدومه، ويتزود ليوم المعاد، ومن فوائد مواسم الطاعة سد الخلل، واستدراك النقص، وتعويض ما فات، وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة إلا ولله تعالى فيه من وظائف الطاعة يتقرب بها العباد إليه، ولله تعالى فيها لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار، وما فيها من اللفحات، فعلى المسلم أن يعرف قدر عمره، وقيمة حياته، فيكثر من عبادة ربه، ويواظب على فعل الخيرات، قال الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُسورة الحجر:99، قال المفسرون: اليقين هو الموت.
ومن مواسم الطاعة العظيمة العشر الأول من ذي الحجة التي نحن فيها، فضلها الله تعالى على سائر أيام العام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: " ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء
من مواسم الطاعة العظيمة العشر الأول من ذي الحجة التي نحن فيها، فضلها الله تعالى على سائر أيام العام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء" [رواه الترمذي (757)]هذا الحديث يدل على أن هذه العشر أفضل من سائر أيام السنة من غير استثناء حتى العشر الأواخر من رمضان، ولكن ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي العشر الأوائل من ذي الحجة وغيرها؛ لاشتمالها على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وبهذا يجتمع شمل الأدلة.
واعلم -يا عبد الله- أن فضيلة هذه العشر جاءت من أمور كثيرة منها:
أولاً: أن الله تعالى أقسم بها، والإقسام بالشيء دليل على أهميته، وعظم نفعه، قال تعالى: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍسورة الفجر:1-2، قال المفسرون: إنها عشر ذي الحجة، وهو الصحيح كما قال ابن كثير رحمه الله.
وثانياً: أن النبي ﷺ شهد بأنها أفضل أيام الدنيا كما تقدم في الحديث الصحيح.
وثالثاً: أنه حث فيها على العمل الصالح؛ لشرف الزمان بالنسبة لأهل الأمصار، وشرف المكان أيضاً، وهذا خاص بحجاج بيت الله الحرام.
ورابعاً: أنه أمر فيها بكثرة التسبيح والتحميد والتكبير، كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبيﷺ قال: ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد[رواه أحمد (5423)]أخرجه أحمد، وإسناده صحيح.
وخامساً: أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم المشهود الذي أكمل الله فيه الدين، وصيامه يكفر آثام سنتين: سنة ماضية، وسنة قادمة.
وسادساً: أن فيه يوم النحر، وهو أعظم أيام السنة على الإطلاق، كما قال النبي ﷺ: إن أعظم الأيما عند الله يوم النحر[رواه أحمد (18596)]؛ وذلك لما يجتمع فيه من الطاعات والعبادات ما لا يجتمع في غيره من المشهد العظيم، وصلاة العيد لغير الحجاج وذبح الأضاحي، والحجاج يأتون فيه من مزدلفة، فيرمون الجمار، وينحرون الهدي، ويحلقون الرؤوس؛ تواضعاً وعبودية لله رب العالمين، ويطوفون بالبيت العتيق، ويسعون بين الصفا والمروة، ففيه عبادات لا تجمع في غيره.
وكذلك فإن في هذه العشر: الأضحية والحج، وإدراك هذه العشر نعمة عظيمة من نعم الله على العبد، لا بد أن يقدرها حق قدرها، ولذلك ينبغي اغتنام الفرصة بأن يخص هذه العشر بمزيد من العناية، وأن يجاهد نفسه بالطاعة، والحمد لله طرق الخيرات كثيرة، وسبل الطاعات متنوعة، وبقي الحماس والجد، والهمة والعمل، وملازمة العبادة للمولى سبحانه.
أعمال فاضلة في أيام فاضلة
ومن الأعمال الفاضلة التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها في عشر ذي الحجة الصيام، فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة؛ لأن النبي ﷺ حث على العمل الصالح في أيام العشر، والصيام من أفضل الأيام، وقد اصطفاه الله لنفسه كما في الحديث القدسي، قال الله: كل عمل بني آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به[رواه البخاري (1904)]، وقد كان النبي ﷺ يصوم تسع ذي الحجة، فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي ﷺ قالت: "كان النبي ﷺ يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، أول اثنين من الشهر وخميسين" [رواه النسائي (2372)]أخرجه النسائي، وأبو داود، وصححه الألباني.
وكذلك من الأعمال ذكر الله تعالى بالتكبير والتحميد والتهليل، قال : لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِسورة الحج:27، والجمهور على أن الأيام المعلومات هي الأيام العشر، كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال النبي ﷺ: فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد[رواه أحمد (5423)]، فهذه سنة، والجهر بها في المساجد والمنازل والطرقات، وكل موضع يجوز فيه ذكر الله تعالى إظهاراً للعبادة، وإعلاناً بتعظيم الله ، يجهر به الرجل، وتخفيه المرأة.
وصفة التكبير: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، وهناك صفات أخرى.
والتكبير في هذا الزمان صار مع الأسف من السنن المهجورة، ولا سيما في أول العشر، فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فينبغي الجهر به إحياءً للسنة، وتذكيراً للغافلين.
وقد ثبت أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران؛ ويكبر الناس بتكبيرهما، والمراد أن الناس يتذكرون التكبير، فيكبر كل واحد بمفرده، وليس المراد التكبير الجماعي بصوت واحد؛ لأنه عمل غير مشروع.
عباد الله: إن إحياء ما اندثر من السنن أو كاد فيه ثواب عظيم، وكذلك الإكثار من الأعمال الصالحة عموماً في العشر؛ لأن العمل الصالح محبوب إلى الله تعالى، وهذا يستلزم عظم ثوابه عند الله، فعلى المؤمن أن يعمر هذه الأيام الفاضلة بطاعة الله تعالى من الصلاة وقراءة القرآن، والذكر والدعاء والصدقة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم، وغير ذلك من طرق الخير، وسبل الطاعة.
ومن الأعمال الصالحة العظيمة في هذه العشر التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي، واستسمان الأضحية، كان المسلمون يسمنون في المدينة، يجعلون الأضحية قبل العيد، يسمنونها استعداداً لذبحها، فتسمينها سنة، وحسن استعداد للقيام بالعبادة، وكذلك استحسانها بأن تنتقى من أطيبها وأحسنها وأفضلها وأعلاها في الأنواع والميزات والصفات، وبذل المال في هذا من القربات العظيمة، وسنأتي على ذكر بعض أحكامها بمشيئة الله.
وكذلك في هذه العشر التوبة النصوح، والإقلاع عن المعاصي والذنوب، والرجوع إلى الله، وترك ما يكرهه ظاهراً وباطناً، والندم على ما مضى، والترك في الحال، والعزم على عدم العودة، والاستقامة على الحق بفعل ما يحبه الله، والواجب على المسلم إذا تلبس بمعصية أن يبادر إلى التوبة حالاً بدون تمهل، أولاً: لأنه لا يدري في أي لحظة يموت، وثانياً: لأن السيئات تجر أخواتها، والتوبة في الزمن الفاضل لها شأن عظيم؛ لأن الغالب إقبال النفوس على الطاعات، ورغبتها في الخير، فيحصل الاعتراف بالذنب، والندم على ما مضى، وإلا فإن التوبة واجبة في جميع الأزمان، وعنوان الفلاح توبة نصوح: فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَسورة القصص:67، فعليك بالتوبة -يا عبد الله-؛ فإن المكث قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمآب: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُسورة الزلزلة:7-8، الغنيمة، الغنيمة! بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، فما منها عوض، ولا تقدر بقيمة، المبادرة المبادرة بالعمل، والعجل العجل قبل هجوم الأجل، وقبل أن يندم المفرط على ما فعل، وقبل أن يسأل الرجعة فلا يجاب إلى ما سأل، قبل أن يحول الموت قبل المؤمل وبلوغ الأمل، قبل أن يصير المرء محبوساً في حفرته بما قدم من عمل.
يا من ظلمة قلبه كالليل إذا يسر، أما آن لقلبك أن يستنير أو يستلين، تعرض لنفحات مولاك في هذه العشر، فإن لله فيه نفحات يصيب بها من يشاء، فمن أصابته سعد بها يوم الدين.
فضل الحج والعمرة
عباد الله: ومن أعظم ما يؤدى في هذه العشر الحج والعمرة، حج بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام ومبانيه العظيم.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: بني الإسلام على خمس، فذكر منها الحج [رواه البخاري (8)]، فرضه الله تعالى سنة تسع من الهجرة، وهي سنة الوفود التي نزلت فيها سورة آل عمران، وفيها قول الله تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاًسورة آل عمران:97، ويجب الحج على الفور؛ لأن هذا هو الأصل في الأوامر الشرعية، وقد دلت السنة على هذا الحكم، كما قال النبي ﷺ: من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة[رواه ابن ماجه (2883)]، وفي رواية: تعجلوا إلى الحجيعني: الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له[رواه أحمد (2864)]، هذا الحديث الحسن بشواهده، يدل على وجوب المبادرة إلى الحج عند الاستطاعة، يجب على المستطيع مرة في العمر، وما زاد على ذلك فهو تطوع، كما دل عليه حديث النبي ﷺ: أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج؛ فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثالثاً، فقال رسول الله ﷺ: لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه[رواه مسلم (1337)]، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع.
ومع أنه تطوع إلا أنه يستحب الإكثار منه؛ لأن النبي ﷺ قال: تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر، والذنوب[رواه الترمذي (810)]، فهذا من فوائده إذن، نفي الفقر والذنوب، فوائد دنيوية، وأخرى أخروية هي أعظم منها، وينبغي أن لا يمر على المؤمن المستطيع خمس سنوات إلا ويحج فيها مرة، وذلك لقول النبي ﷺ: يقول الله : إن عبداً أصححت له جسمه، وأوسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي إلا لمحروم[رواه أبو يعلى في مسنده (1031)]حديث صحيح.
وقد قال ﷺ لما سئل: أي العمل أفضل؟ إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور [رواه البخاري (26)]، وقال: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[رواه البخاري (1773)].
ومن صفات الحج المبرور ما يلي:
أولاً: أن يكون من مال حلال.
ثانياً: أن يبتعد فيه عن الفسق والإثم والجدال.
ثالثاً: أن يأتي بالمناسك وفق السنة النبوية: لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه[رواه مسلم (1297)].
رابعاً: أن لا يرائي بحجه، ويخلص فيه لله.
وخامساً: أن لا يعقبه بمعصية أو إثم.
وقد قال ﷺ: من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه[رواه البخاري (1521)]، وقالت عائشة: "يا رسول الله، ألا نغزو ونجاهد معكم، فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله، الحج ، قالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله ﷺ" [رواه البخاري (1861)]رواه البخاري.
إنه يهدم ما كان قبله، إن الغازي في سبيل الله، والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم.
جاء رجلان إلى النبي ﷺ كما روى ابن عمر في منى، قال: كنت جالساً مع النبي ﷺ في مسجد منى، فأتاه رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف، فسلما، ثم قالا: يا رسول الله، جئنا نسألك، فقال: إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني عنه فعلت، فقالا: أخبرنا يا رسول الله، فقال الثقفي للأنصاري: سل، فقال: "أخبرني يا رسول الله" وهذه معجزة؛ لأن النبي ﷺ لا يعرف ما في النفوس إلا بتعريف الله له "فقال: جئتني تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام، وما لك فيهيعني من الأجر، وعن ركعتيك بعد الطواف، وما لك فيهما، وعن طوافك بين الصفا والمروة، وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة، وما لك فيه، وعن رميك الجمار، وما لك فيه، وعن نحرك، وما لك فيه مع الإفاضة، فقال: والذي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسألك، قال: فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لا تضع ناقتك خفاً ولا ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة، ومحا عنك خطيئة، وأما ركعتاك بعد الطواف كعتق رقبة من بني إسماعيل، وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا، فيباهي بكم الملائكة يقول: عبادي جاؤوني شعثاً من كل فج عميق يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم، ولمن شفعتم له، وأما نحرك فمدخور لك عند ربك، وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة، وتمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك، فيقول: اعمل فيما تستقبل، فقد غفر لك ما مضى" [رواه البزار في مسنده (6177)]رواه الطبراني في الكبير، والبزار، واللفظ له، وقال: وقد روي هذا الحديث من وجوه، ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق، قال المملي رحمه الله: وهي طريق لا بأس بها، رواتها كلهم موثقون، وحسنه الألباني رحمه الله لغيره في صحيح الترغيب والترهيب.
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْسورة الحج:28، إنها التلبية لنداء إبراهيم الخليل، وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْسورة الحج:27-28، إذن أذَّنإبراهيم، وأعلم أهل الأرض، وبلغ الله الصوت في أنحاء الأرض، ففعل إبراهيم ما عليه، وبلغ الله الصوت.
منافع دينية ودنيوية، أجور عظيمة، صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف، وعودة بمغفرة الذنوب، ولقاء لإخوانه المسلمين، ووقوف على أحوالهم، ولقاء لأهل العلم واستفادة منهم، ومنافع أيضاً بالتجارة وسائر وجوه المكاسب المباحة في الحج، يتذكر الحاج بسفره السفر إلى الله والدار الآخرة، وكما أن في السفر للحج فراق الأحبة والأهل والأولاد والوطن، فكذلك السفر إلى الدار الآخرة، والذاهب في السفر يتزود من الزاد الذي يبلغه، فليتذكر أن سفره إلى ربه ينبغي أن يكون معه زاد يبلغه: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىسورة البقرة:197، وكما أن السفر قطعة من العذاب، فالسفر إلى الدار الآخرة أعظم بمراحل، فأمام الإنسان النزع والموت، والقبر والحشر، والحساب والميزان والصراط، ثم الجنة أو النار، والسعيد من نجاه الله ، وإذا لبس المحرم ثوبي إحرامه فلا يذكر إلا كفنه الذي سيكفن به، وهذا يدعوه للتخلص من الذنوب والمعاصي، فكما تجرد من الثياب فلبس أبيضين نظيفين، فليتجرد من الذنوب وسوادها، وليلبس قلباً أبيض سليماً، وإذا قال في الميقات: لبيك الله اللهم لبيك، فهذا إعلان بالاستجابة لربه، لبيك استجابة بعد استجابة.
ولما ترك المحظورات في الإحرام، وكانت أصلاً مباحة، واشتغل بالتلبية والذكر، فهو يتذكر أنه لا بد أن يترك المحرمات التي هي محرمة قبل الإحرام من باب أولى في كل زمان ومكان، ودخول البيت الحرام الذي جعله الله آمناً يتذكر به العبد الأمن يوم القيامة، وأن أعظم ما يحصل به الأمن عند الله التوحيد: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍأي: بشرك أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَسورة الأنعام:82، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌسورة لقمان:13، ويقبل الحجر الأسود إذا تمكن، لا يتعدى على شرع الله بعقله القاصر، وإنما يسلِّم ويقر، ولا يقل: حجر لماذا نقبله؟ ونرمي حجراً بحجر في الجمرات، لماذا؟ فهو لا يعترض على شرع الله، ولا تخطر بباله هذه الوساوس، ولا يستجيب لإبليس، وإنما يقول كما قال عمر: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي ﷺ يقبلك ما قبلتك.
ويتذكر في حجه كيف حج الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى، وغيرهم، ونبيه ﷺ، ويرى في بنيان الكعبة إنجازاً عظيماً في الطاعة قام به إبراهيم، وعاون الابن الصالح أباه، وهكذا التعاون في الأسرة على البر والتقوى.
وكذلك بالسعي بين الصفا والمروة، يتذكر ما حملت هاجر به أم إسماعيل تبحث عن الفرج تطوف بين الجبلين، فيتذكر حتى الرجل صبر المرأة وجهادها، فيخفف عليه ذلك الآلام أثناء الطواف والسعي، والوقوف بعرفة يتذكر به أرض المحشر، وكيف يجمع الله العباد حفاة عراة غرلاً وقوفاً خميس ألف سنة، فيتذكر بوقوف عرفة ذلك الوقوف، وكذلك بذبح الهدي يتذكر كيف أنقذ الله إسماعيل، وفداه بذبح عظيم مكافأة لإبراهيم لما سلما لله تعالى، وأسلما الأمر له.
وبالتحلل يتذكر عاقبة الصبر، وأن مع العسر يسراً، ويذوق الحلاوة والفرج، وكذلك انتهاء تلك الفترة وقضاء التفث يشهده، فهي حلاوة للطاعة عند التحلل من الإحرام، كالحلاوة التي يجدها الصائم عند فطره، فإذا انتهى من مناسك الحج رجا ربه أن يغفر له، لا يرائي بحجه، ولا يمن به، وإنما هو إخلاص لله ، وأما الذين قعدوا في البلدان ليس لتقصير، وليس كسلاً عن الحج، وليس زهداً فيه، وإنما لعدم التمكن من شغل، أو حالة مادية متدنية وديون، أو أنهم لا يستطيعون في عملية تنظيم الحج أن يحجوا، أو أنهم انشغلوا بطاعات أخرى كتمريض أم، وقيام على أهل يضيعون لو ذهب، ونحو ذلك، فإن هؤلاء قد جعل الله لهم الأضحية، وشيئاً يشابهون به الحجاج، يمسكون عن الشعر والأظفار في الحج، هؤلاء الذين لم يستطيعوا الذهاب، وهم يريدونه لو تمكنوا فلهم أجر.
يا سائرين إلى البيت العتيق لقد | سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا |
إنا أقمنا على عذر وقد راحوا | ومن أقام على عذر كمن راحا |
إذن: القاعد المتمني للحج لو استطاع له من أجر الحج؛ لأن تمني العبادة مع عدم القدرة عليها فيه أجر عظيم، فليبشر هذا النوع من القاعدين، وليتب النوع الآخر الذين قعدوا لا لعذر، وإنما لمعصية وكسل، ويتحركوا في طاعة الله .
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واغفر ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله الرحمة المهداة، البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خلفائه وذريته الطيبين الطاهرين، وأزواجه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الأضحية فضائل وأحكام
عباد الله: من نسك إبراهيم إلى نسك محمد ﷺ أضحية عظيمة، وعبادة جليلة، يتقرب بها المسلمون إلى الله ببهيمة الأنعام، من الإبل والبقر والغنم، تُذبح بعد صلاة عيد النحر إلى آخر أيام التشريق، وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، كلها أيام ذبح: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْسورة الكوثر:2، يتذكر بها العبد قول الله: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَسورة الأنعام:162، ونسكي، يعني: ذبحي، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواسورة الحج:34، إنها سنة مؤكدة في قول أكثر أهل العلم، وقال بعض العلماء بوجوبها على القادر، وهي مطلوبة من الحي عن نفسه وأهل بيته، وأما عن الميت، فإذا أوصى وترك مالاً وجب إنفاذ الوصية وإلا لا يجب، فيدخله الحي في أضحيته عندما يذبحها، ويقول: اللهم عني وعن آل بيتي، فيدخل فيهم من نوى من الأحياء والأموات، وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها بكثير، تجزئ الشاة الواحدة عنه وعن عياله، قال أبو أيوب : "كان الرجل في عهد رسول الله ﷺ يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون"، وإذا أرادت الزوجة الموظفة، أو ذات الدخل أن تضحي بأضحية مستقلة، أو أحد الأولاد الموظفين في البيت أن يضحي بأضحية مستقلة فلا يمنع من ذلك.
والأفضل في الأضحية، قال بعض العلماء: الكبش لفعل النبي ﷺ، وقال آخرون: البدنة لحديث التبكير يوم الجمعة، وقد ضحى ﷺ بكبشين أقرنين أملحين موجوءين سمينين، ضحى ﷺ بكبش ينظر في سواد -ما حول عينيه أسود-، ويطأ في سواد -ما حول ركبتيه أسود-، ضحى ﷺ بالأملح، وهو الأبيض الذي خالطه سواد فاغبر لونه، ضحى بالأقرن الدال وجود القرنين فيه على قوته، ضحى ﷺ بالأضحية كاملة عظيمة.
إنها قضية مهمة لأمر الله فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْسورة الكوثر:2، إنها مسألة يدل على أهميتها حديث النبي ﷺ: من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا[رواه أحمد (8074)]، ويدل على أهميتها قوله ﷺ: على كل أهل بيت في كل عام أضحية[رواه الترمذي (1518)]، وقد قال ﷺ: من أراد أن يضحي فدخلت أيام العشر؛ فلا يأخذ من شعره ولا أظافره[رواه النسائي (4363)]يعني: إذا دخلت العشر، فيشارك حجاج بيت الله الحرام بشيء من أحكام الإحرام، لا بد أن تبلغ السن المطلوبة، ستة أشهر فما فوق من الضأن، وسنة فما فوق من المعز، وسنتان فما فوق في البقر، وخمس سنين فما فوق في الإبل، تكون سالمة من العيوب المانعة من الإجزاء، أربع لا يجيزن في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والكسيرة التي لا تنقي[رواه النسائي (4370)]يعني: لا مخ في عظامها لهزالها ومرضها، وكلما كانت أكمل كلما كانت أفضل وأطيب، فالتمس البعيدة عن العيوب، والموجوء منزوع الخصيتين قيل: لأنه أطيب للحمه، وليس لعيب فيه.
لا يجوز بيع الأضحية إذا عينتها، إذا عينتها بالفعل أو بالقول أو بالنية، هذه أضحيتك، فلا يجوز بيعها، ولا حتى بيع الجلد، ولا حتى إعطاء الجلد مقابل أجر الجزار، وإنما تعطيه من عندك كما أمر النبي ﷺ علياً .
يجوز الذبح بالليل والنهار، ويستحب لمن له أضحية أن يأكل منها لحديث: ليأكل كل رجل من أضحيته[رواه أبو نعيم في الحلية (4/362)]، فهذا أفضل إذا تمكن، يذبحها بيده، أو يشهد ذبحها إذا تمكن، ويقسمها كما قال العلماء أثلاثاً، وقال بعضهم: نصفين: نصف له، ونصف للفقراء: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَسورة الحج:28، ولينتبه أن يكون الذابح مسلماً، أو كتابياً، وإلا لا يجوز أن يذبح له الهندوسي والبوذي، والمرتد تارك الصلاة بالكلية، ونحو ذلك.
عباد الله: إن قوله ﷺ: فلا يمس من شعره وبشره شيئاً[رواه مسلم (1977)]، هو للتحريم على الراجح، وهو خاص بمن دفع ثمنها، لا الجزار، ولا الوكيل، ولا الزوجة، ولا الأولاد والأهل، وإنما الذي دفع الثمن، هو صاحب الأضحية، وبعض الناس يريد أن يفر من الحكم فيوكل غيره، وهذا لا ينفعه، ولماذا الفرار، وماذا يضيره لو ترك الشعر والأظفار هذه الأيام القليلة، التي قال الله فيها: مَّعْلُومَاتٍسورة الحج:28؟ إنها أيام قليلة، بعدها: أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍسورة البقرة:203، فإذن ينبغي على المسلم أن يحترم هذا، ولا ينتهكه، وقد يكون فيه تعويد على اتخاذ اللحية لمن لم يكن متعوداً عليها.
عباد الله: الحاج له هدي، وأهل البلد لهم أضحية، ولو أن الحاج ذهب للحج فإنه يأخذ من الشعر والأظفار قبل الإحرام، أما لو ترك أضحية في البلد غير الهدي الذي سيذبحه فلا يأخذ من شعره وأظفاره في العشر حتى تذبح الأضحية إلا المتمتع عند قص شعره بعد العمرة بالتحلل منها؛ لأنه واجب فيقدَّم، والسنة أن تذبح الأضحية في البلد، ولا ترسل إلا الخارج؛ لئلا تموت السنة في البلد، لكن لو كان له أكثر من أضحية، فأبقى واحدة هنا، وأرسل الأخريات، أو كان لا يستطيع أن يضحي هنا لارتفاع ثمن الأضاحي، بينما يستطيع أن يشتري أضحية في بلد أخرى، فليفعل ذلك، وإذا كان هنا وأهله هناك، وأراد أن يتمتع أهله بالأضحية، فأرسل إليهم ثمنها ليأكلوا منها، وينتفعوا هم، فهذا طيب أيضاً.
عباد الله، إنها عبادات عظيمة، وشعائر جليلة، وأيام مباركة، فالحرص الحرص على اغتنام الأوقات في هذه الطاعات.
نسأل الله تعالى أن يغفر ذنوبنا، ويكفر عنا سيئاتنا، وأن يعظم لنا أجراً، اللهم اجعل هذه العشر رحمة وبركة علينا يا رب العالمين، واجعلها فرجاً وخيراً للإسلام والمسلمين، واجعلها ناراً ودماراً على أعداء الدين.
اللهم أعل فيها كلمة الحق، وانصر فيها أهل الجهاد، واقمع فيها أهل الزيغ والعناد، وانشر رحمتك علينا يا ربنا، اللهم وفقنا لطاعتك والتوبة النصوح، اللهم واجعلنا في هذه العشر من الأوابين، اللهم اجعلنا إليك تائبين يا رب العالمين، وأخرجنا من ذنوبنا، كيوم ولدتنا أمهاتنا، اللهم اقذف في قلوبنا حبك وحب من يحبك، وحب إقامة شرعك يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.