الخميس 11 جمادى الآخرة 1446 هـ :: 12 ديسمبر 2024 م
مناشط الشيخ
  • يتم بث جميع البرامج عبر قناة زاد واليوتيوب

مصيبتنا سمعنا وعصينا


عناصر المادة
الخطبة الأولى
عدم التسليم لله من صفات المنافقين
لعدم التسليم للشرع أسباب
عدم القناعة بالحكم الشرعي
هات البديل
شبهة أن الحكم فيه مشقة
التعذر بالجو الاجتماعي وخوف الاضطهاد
الخطبة الثانية
ضغط الزوجة والأولاد
التعذر بتضارب الفتوى

الخطبة الأولى

00:00:05

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

عدم التسليم لله من صفات المنافقين

00:00:28

فيا عباد الله: لقد أُفرد ذكر المنافقين في القرآن الكريم في آيات كثيرة تنبيهاً من الله تعالى على خطرهم، وعلى سوء مبدأهم وعملهم، كما جاء ذلك في مطلع سورة البقرة، في آيات فاقت في عددها ذكر المتقين، وذكر الكافرين؛ وذلك لخفاء أمر المنافقين، وأيضاً في سورة النساء، وسورة التوبة، وسورة النور، وسورة الأحزاب، وسورة محمد ﷺ، كما أُفردت سورة سميت بسورة المنافقين لأجل بيان حال هؤلاء.

وخطر النفاق عظيم، ويكفي أن المنافق الأكبر في الدرك الأسفل من النار تحت الكافر الصريح.

عباد الله: لقد امتاز المنافقون بعلامات وسمات كانت لهم، ومن ذلك سمتان فظيعتان: الأولى: الإعراض عن الحكم الشرعي، وعدم تحكيمه وقبوله والصد عنه، والثانية: العصيان والامتناع عن التنفيذ، والتلكؤ والتباطؤ في العمل بحكم الله ورسوله، عدم التسليم، وعدم القناعة، ومن جهة أخرى مبدأ سمعنا وعصينا، هاتان الصفتان الفظيعتان للمنافقين كانتا من أعظم أسباب الخطر: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا سورة النساء:60-61، فإذن لا يوجد إقرار بحكم الله ورسوله، ولا قناعة به، ولا تسليم، بل يوجد صد عنه، وإعراض، وتحاكم إلى غير شرع الله ورسوله، ولذلك قال الله تعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي: من الخصومات، ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ، فليس فقط أن يحكموك فيما شجر، وإنما أيضاً لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، وليست هذا فقط بل وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًاسورة النساء:65، منقادين مذعنين طائعين، مذللين أنفسهم وقلوبهم لحكم الله ورسوله.

وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ ۝ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ سورة النور:48-49، إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم تولوا وأعرضوا؛ لأنهم لا يسلمون لحكم الله ورسوله، لكن إذا كان الحق لهم في الخصومة، وكان الشرع سيحكم لهم، قالوا: نريد الشرع، ما نبغي إلا الشريعة، جاؤوا منقادين؛ لأن الحق لهم؛ لأنه وافق هواهم؛ لأنه في مصلحتهم، وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ۝ أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ سورة النور:49-50، فيظلمهم، ويجور عليهم أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَسورة النور:50، فإذن لقد ناقض المنافقون قاعدة الإسلام العظيمة في التسليم لله ورسوله بالحكم وعدم الاعتراض عليه، لقد ناقضوا هذه القاعدة لعدم قناعتهم، بل واستبدال الشريعة بقوانين الكفر اللجوء إلى الكافر واليهودي والكاهن للحكم بينهم.

والمسألة الثانية -أيها الإخوة-: مبدأ سمعنا وعصينا، عدم التنفيذ، وعدم العمل، قال الله تعالى: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً سورة النساء:81، يظهرون الطاعة، وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُوأبطنوا المخالفة والمعصية.

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ، في الجهاد، ويطيعوا أمرك، وينفذوه، قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌجربناكم من قبل، طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌبلوناكم، وعرفنا أمركم من قبل، من التجارب السابقة: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَسورة النور:53، طاعة معروفة في الظاهر أما في الباطن فلا، ولذلك لما صارت غزوة تبوك تخلفوا ما خرجوا، فقال الله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًاغنيمة سهلة وَسَفَرًا قَاصِدًاأي: قريباً ليس ببعيد لاَّتَّبَعُوكَسورة التوبة:42، لكن عصوا، وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي لقد برروا عدم خروجهم، واعتذروا عن الخروج بالأعذار السخيفة، وقال قائلهم: إني أخاف على نفسي من نساء بني الأصفر -الروم-: وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْبعدم خروجهم، وتنفيذهم أمر رسول الله ﷺ، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَسورة التوبة:49.

لعدم التسليم للشرع أسباب

00:08:04

عباد الله: إذا نقلنا المسألة إلى واقعنا، ووقفنا مع أنفسنا وقفة صريحة وصادقة لنناقش هل نحن ننفذ حكم الله ورسوله في أنفسنا أم لا؟ فماذا سنجد؟ نحن نتعلم أشياء كثيرة نسمع في الخطب والأشرطة، ونقرأ في الكتب، ونوعظ في المجالس، نسمع كلاماً كثيراً عن الأحكام الشرعية، وعن الحلال والحرام، فما هو الموقف إزاء ذلك؟ وهل ننفذ ونسمع ونطيع؟ أم أننا نسمع ولا نطيع؟ وما هي أسباب عدم التنفيذ؟ لماذا لا ننفذ؟ قد يقول قائل: إننا لا نعلم، لكن بعد انتشار شيء من التوعية يصعب أن نصدق أن واحداً من هؤلاء لا يعلم أي حكم، ولا عنده فكرة عن الحلال والحرام.

إنهم من خلال الخطب والدروس، وما سمعوه وقرؤوه، ووعظوا به ونُصحوا يعلمون، والأشياء التي لا يعلمونها إما أنهم معذورون بالجهل فيها، أو أنهم على معصية بعدم تعلمها لإمكان تعلمها، فندع هذه المسألة جانباً، ولنأخذ ما نعلمه، وما اطلعنا على حكمه، وما تبين لنا، وما نُصحنا بشأنه، المعلومات كثرت، لكن أين التطبيق؟ وأين التنفيذ؟.

عدم القناعة بالحكم الشرعي

00:09:49

مما يفاجئك بعض الناس في هذه المسألة أن يقول لك: ليس عندي قناعة بالحكم! لم أقتنع! فمثل هذا الكلام كيف يزول؟ إنه يزول -أيها الإخوة- ببيان الدليل والحكم الشرعي، فإذا بُينت المسألة، وقامت الحجة، وذُكر الدليل، وسيق كلام أهل العلم، فعند ذلك إذا قال لك غير مقتنع بعدما أورد شبهة، ورددت على شبهته، فإن كلامه بعدم القناعة نفاق واضح لا لبس فيه، نفاق واضح؛ لأنه يكون حينئذ عدم تسليم بحكم الله ورسوله، أوردت له الحكم، وبينته له، وأعطيته كتاباً حول الموضوع وشرحاً وافياً، وجواباً عن شبهة، ماذا بقي؟ بقيت قضية واحدة لا غير، ليس هناك إلا شيء واحد "نفاق"، عدم تسليم للحكم الشرعي، مشاغبة على الحكم الشرعي، وهذه مسألة يجب أن يصارح بها الشخص نفسه إذا وقع فيها، إذا تبين له الحكم بالدليل، وكلام أهل العلم، ثم لم يقتنع أنه لا يكون إلا منافقاً، ليس هناك حل آخر، ولا احتمال ثانٍ البتة، ليس إلا النفاق، فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا سورة النساء:65 أي: أنه لو أقر ولكن على مضض، وعن كره للحكم فهو منافق، فكيف لو ما أقر بذلك؟.

هات البديل

00:11:47

يتذرع بعض الناس في تلكؤهم عن تنفيذ الحكم بعدم وجود البديل، ويقولون: هات البديل، والحمد لله أن الله ما حرم شيئاً إلا وجعل من الحلال من جنسه ما هو أكثر منه، ويفوقه، فعندما حرمت الشريعة الخمر أباحت من المشروبات ما لا عد له ولا حصر، وعندما حرمت لبس الحرير على الرجال، ولبس الذهب أباحت لهم من أنواع الملابس ما لا حصر له ولا عد، وأباحت خاتم الفضة للرجل، مقابل خاتم الذهب المحرم؛ لأن الشارع يعلم حاجة الناس إلى التزين، وعندما حرمت الشريعة الربا أباحت البيوع بأنواعها مما لا حصر له ولا عد من وجوه المكاسب المختلفة، فبدلاً من أن تكسب من الربا جُعل لك البيع بأنواعه، المعجَّل، والمؤجَّل بشروطه، وبيع السلم بشروطه، والمعاوضة، والمعاطاة، وغير ذلك، وبيع المزاد، وبيع الأمانة، ثم من المكاسب الإجارة والجعالة، والوكالة بالمقابل، وغير ذلك، تأخذ عليه أجراً، ولما حرمت الشريعة، وحرمت وحرمت، جعلت مقابلاً.

ثم إن البدائل عن سائر الأشياء قد تتوفر في الواقع، وقد لا تتوفر من تقصير المسلمين، وليس من قصور الشريعة، وفي مسألة البديل يشاغب بعض الناس، فيقولون في مسألة الموسيقى والألحان مثلاً: ما هو البديل؟ فإذا قلنا: بديل سماع الألحان هو سماع القرآن، فيقول: لا؛ سماع القرآن ثقيل على النفس، أما سماع الألحان خفيف ولذيذ ومطرب، فليس هذا من هذا، فنقول: ما هو إلا الهوى والله، وإلا فقل أيضاً: إن الزنا له لذات عندما يزني بعشرات النسوة، وهذه الزوجة قد صارت مملة واحدة، فنقول: قد لبَّت الشريعة الحاجة بالتعدد، والتسري وملك اليمين، وكون الحرام له لذة من تزيين إبليس لا يعني أن الزواج ليس بديلاً، لكن يعني أن الفطرة قد أصبحت منتكسة، فالبديل الذي يلبي حاجة النفس موجود في الشريعة، لكن البديل الذي يلبي هوى النفس دائماً هذا الذي يريده هؤلاء العصاة، فنقول: هذا البديل موجود في الجنة، سماع غناء الحور العين، سماع غناء النساء في الجنة، ولبس الحرير والذهب لك في الجنة، فإن العوض سيأتي ولكن بعد قليل، اصبر فما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.

وعندما يقول بعض الناس: نريد أن نؤمِّن، والتأمين قد صار حاجة، والحوادث قد كثرت، فنحن مضطرون للتأمين؛ لأنه لا يوجد بديل، وإذا قلنا: إن التأمين التعاوني الذي هو أن يدفع هؤلاء المشتركون فيه مبالغ توضع في صندوق يُستثمر، أو لا يُستثمر، ويتراضون فيما بينهم على أن يعوض من أصيب من هذا الصندوق -صندوق التأمين التعاوني-، ولا يكون هذا التأمين في الصندوق ملكاً لشركة ولا لطرف ثالث يأخذه لنفسه، ثم يعطيك إذا حصل لك، ويضيع مالك إذا لم يحصل لك، كما هو التأمين المحرم، وهو الميسر والقمار بعينه، إذا وجد التأمين التعاوني، بتعاون المسلمين فالحمد لله، وإذا لم يوجد البديل بسبب تقصير المسلمين، فما هو الحل؟ وما هو المخرج؟ الجواب: لا بد من الصبر حينئذ على هذا البلاء، ووفر نقودك واشتراكاتك في شركة التأمين حتى إذا حصل شيء تأخذ من هذا الرصيد، وربما تكتشف أنك كنت على ربح عظيم، فإذا لم يوجد بديل من جراء تقصير المسلمين، فلا بد أن نصبر، ولا نقول: نحن مضطرون إلى ارتكاب الحرام، كلا؛ الاضطرار له باب آخر، عندما يكره الشخص على الشيء، ولا بد منه، ولا مخرج إلا به، ولا مندوحة عنده وهو مكره، ولا منفذ، لا يستطيع أن يترك القضية، ولا أن يتلافاها، ويجبر عليها من الخارج، من فوقه يجبر عليها، فهذه المسألة مسألة اضطرار، والله لا يؤاخذ عليها، كما لو كان في بلد يمنع من السياقة فيه إلا بالتأمين، ويكره على ذلك، فهذه مسألة اضطرار، أما أن يختار التأمين المحرم اختياراً، فليس باضطرار، ولا بد أن يصبر، ويؤمن بقضاء الله وقدره، ويتوكل على الله ، وإذا حصل شيء كان الرضا بالمكتوب هو المفروض أن يقع، أما أن يقال: نحتاط بالتأمين المحرم، فلا وألف لا أيها الإخوة، إن وُجد الحلال أخذنا به والحمد لله، وإن لم يوجد صبرنا.

شبهة أن الحكم فيه مشقة

00:18:10

وبعض الناس يقولون في سبب عدم التنفيذ: إن الحكم فيه مشقة، فيه تعب، سواء كان فعل واجب، أو ترك محرم، وهل يُظن أن الجنة رخيصة؟ وأن طريقها مفروش ومعبد وميسور لا مشقة فيه، ولا عوائق؟! إذن كيف ستحصل المجاهدة، الجهاد، جهاد النفس أولاً، كيف سيحصل جهاد النفس المؤدي للجنة، والذي يتفاوت الناس فيه، فيتفاوتون في مراتب الجنة، كيف ستحصل المجاهدة، كيف سيحصل الجهاد إذا لم توجد مشقات في الأحكام؟ كيف؟ كيف ستحصل إذا لم توجد مشقة في صلاة الفجر مثلاً؟ كيف سيتبين الطائع من العاصي؟ والمجاهد من غير المجاهد؟ أليست القضية هي حجة المنافقين بعينها: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًالو كانت القضية مريحة، غنيمة سهلة، وسفر قصير لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُالمسافة من المدينة إلى تبوك، السفر طويل، والعدو الروم! ليست قبيلة من قبائل العرب، الروم! وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُسورة التوبة:42، ولذلك تخلفوا، تخلفوا عن الذهاب لأجل المشقة، وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ مشقة، وكانت غزوة تبوك في حر شديد، وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ، فبماذا أجابهم الله؟ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَسورة التوبة:81، إذن لا بد من أن يكون هناك في التكاليف مشقة، لا بد، ولكن من رحمة الله أنه جعل المشقة محتملة في التكاليف، فلا يقال: إنك لا تستطيع أن تقوم لصلاة الفجر، تستطيع، وعندما لا تستطيع تنفيذ الحكم يُسقطه عنك الشارع، ولا يطالبك به، ولا يقول للمريض الذي لا يستطيع القيام: صل قائماً، وإنما يقول له: فإن لم تستطع فصل قاعداً، هذه الشريعة من الله، وليست دساتير وضعيه من البشر.

التعذر بالجو الاجتماعي وخوف الاضطهاد

00:21:01

وبعض الناس يتعللون بعدم تنفيذ الأحكام الشرعية بأن الجو الاجتماعي للشخص، والجو الوظيفي المحيط به لا يساعد، وهذه حجة سخيفة؛ لأن معنى ذلك أنه يقدم الناس على الله، وأنه يطيع الناس ويعصي الله، وأنه يُرضي الناس بسخط الله، هذا معنى كلمة الجو الاجتماعي لا يساعد، الجو المحيط لا يساعد على ترك هذا المنكر، الناس من حولي لا يعينوني على أداء الواجب، هذا معناه أنه أرضى الناس بسخط الله، هذا معناه نوع من النفاق، وضعف في الإيمان، وتخاذل، ومحبة للناس فوق محبة الله، وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى وهي: أن بعض الناس مستعد لتنفيذ الأحكام الشرعية ما دام أنه لا يتعرض للمشكلات، فإذا تعرض للصعوبات والمشكلات امتنع عن التنفيذ؛ لأنه غير مستعد للتضحية في سبيل الله، غير مستعد أن يواجه صعوبة: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ حافة فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ قال: هذه شريعة حسنة، وهذا دين عظيم، وهذه أحكام بليغة، فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌماذا يفعل؟ إن أصابته مصيبة ماذا يفعل؟ إن أصابته شدة ماذا يفعل؟ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، وارتد وانتكس، وتولى وأعرض، ولم ينفذ الحكم، وعصى الله ورسوله، انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُسورة الحج:11.

ومما يتعلق بهذا السبب أيضاً خوف الاضطهاد: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِسورة العنكبوت:10 هذه الآية العظيمة التي تبين هذا المبدأ، فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ، وما مسوه به في الدنيا من سخرية، أو كلمات جارحة، أو شيء من المقاطعة أو الهجر جعلها كعذاب جهنم، كعذاب الله في الآخرة، جعل إيذاء الناس له في الدنيا كعذاب الله في الآخرة، ورضخ، وأعطاهم ما يريدون، ووافقهم على معصيتهم، أما الاضطهاد الذي يُكره الإنسان إكراهاً شرعياً؛ فإن الله لا يؤاخذ على ترك الحكم فيمن هذا حاله، وهذا الذي حصل للمسلمين بمكة، كان الرجل يُضرب فيضرب حتى لا يستطيع أن يستوي قاعداً لشدة الضُّر، لا يستطيع أن يقعد من ألم الضرب، لا بد أن يستلقي طيلة الوقت، حتى يقولوا له: هذا الجعل إلهك؟ وهذا الخنفس إلهك؟ فيقول: نعم؛ من شدة الضر الذي نزل به، ولكن هؤلاء أُكرهوا وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولذلك عذرهم الله تعالى، واستثناهم، وقال في شأنهم: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ، ولكن المصيبة وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًاسورة النحل:106، وقبل الكفر، ورضي به، فعندما تصل المسألة إلى أذىً لا يطيقه البشر، لا يطيقه الشخص، كالضرب الشديد، والسجن الطويل، والتعذيب المؤلم، فعند ذلك إذا ترك الحكم في الظاهر، وقلبه مطمئن بالإيمان، فعند ذلك لا حرج عليه لو تكلم بما يريدون، أما أن يترك الإنسان حكماً شرعياً لكلمة، أو سخرية، أو استهزاء، فهذه سخافة؛ لأن هذا طريق الأنبياء، ماذا كان الأنبياء يقابلون به؟ الاستهزاء والسخرية، إذن لا يجوز مطلقاً أن نترك تنفيذ الأحكام لمثل هذه الأسباب الواهية التي يضخهما الشيطان ليقنعنا بأننا معذورون في ترك الحكم الشرعي، ونحن في زمن فتنة، والقابض على دينه كالقابض على الجمر.

نسأل الله أن يقوي إيماننا، وأن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا.

اللهم ارزقنا اليقين، وتب علينا إنك أنت أرحم الراحمين، اللهم لا تؤاخذنا بما فعلنا، واغفر لنا أجمعين.

أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

00:26:19

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ضغط الزوجة والأولاد

00:26:42

عباد الله: ومما يتعلل به كثير من الناس في مسألة عدم تنفيذ الأحكام الشرعية، وبالذات في قضية إخراج المنكرات من البيوت عدم الصبر على ضغط الزوجة والأولاد، يتذرعون في عدم إخراج آلات اللهو من البيت، وصحون الاستقبال التي تسمم البيت، وتدخل الدياثة فيه يتذرعون بأنهم لا يقوون على احتمال ضغط الزوجة والأولاد، وهذه ذريعة سخيفة أيضاً، وقدّر -يا عبد الله- ماذا ستجيب الله يوم القيامة عندما يسألك عما استرعاك، وعن هذا المنكر الذي أدخلته بيتك، فهل ستقول له يوم القيامة: ضغط الزوجة والأولاد؟ وهل يقبل الله مثل هذا العذر "ضغط الزوجة والأولاد"؟ ألم يقل لك في كتابه: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ سورة التغابن:14، هل قال لك: طاوعوهم، هل قال: وافقوهم؟ هل قال: أعطوهم مطلبهم؟ هل قال: أعطوهم ما يشتهون، وأدخلوا لهم ما يريدون؟ أم قال: فَاحْذَرُوهُمْ؟ فاحذروهم.

في الوقت الذي يجب عليك أن تطبق قول الله تعالى: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُالناس هم شعلة النار، هم حطبها، وقود جهنم الناس، هم الحطب، هم الجمر، الناس: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَسورة التحريم:6، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَسورة الزخرف:77، هذا عذر غير مقبول، الواجب الآن دعوة الزوجة والأولاد، وتربية الزوجة والأولاد، والاهتمام بالزوجة والأولاد، وإذا وجدت مجالات مباحة للترفيه، وهذه عبارة صارت في عصرنا خطيرة جداً، ولها أبعاد كثيرة، صناعة الترفيه في العالم، إذا وجدت مجالات مباحة للترفيه وألعاب مباحة، وتسليات مباحة؛ فعند ذلك يكون البديل لهذه الأشياء المحرمة، وهناك أشياء مباحة، والحمد لله.

التعذر بتضارب الفتوى

00:29:19

وبعض الناس يعتذرون عن عدم الالتزام بالحكم الشرعي بتضارب الفتاوى، واختلاف المفتين، ويقولون: لكن يقول: هي حلال، لقد احترنا! نسمع من هنا أنه حرام، ومن هنا أنه حلال! ونحن في سعة ما دام هناك من يقول بالإباحة، فنحن في سعة، إبليس يقول بالإباحة، وهناك دائماً من يقول بالإباحة في أي محرم، وهناك من هو متساهل ومفرِّط، وهناك صاحب شبهة في الفتوى، هناك من يفتي بشبهة، يقول: نوسع على الناس ليدخلوا في الدين، وما هو إلا إدخالهم من باب وإخراجهم من الباب الآخر، هذا معنى التساهل في الفتوى، هذا التضليل، هؤلاء يحملون أوزارهم يوم القيامة كاملة، وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ سورة النحل:25، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ سورة العنكبوت:13، على الله .

والإنسان إذا عرف شخصاً أنه مفرط ومتساهل في الفتوى، فبأي حجة عند الله يتبعه؟ بأي حجة؟ ثم أليس لك عقل، أليس عندك ميزان، ألا يوجد تفكير في الأمور، عندما يأتي مثلاً من يحلل الربا، ويقول: هو حلال، وأنت تعلم -لو فكرت بعقلك- أن هذا المال الذي تودعه عند المرابي، وتضعه عنده، لو كان مجرد وديعة وأمانة هل يجوز التصرف فيها؟ هل يجوز للمرابي الذي يأخذ المال عنده أن يتصرف في الوديعة والأمانة؟ هو يتصرف، ويستثمر فيها، ويعمل! إذن ما هي؟ قرض، المال الذي أخذه منك، ويستثمره، ويعمل فيه ما هو إذن؟ ليس أمانة، ولا وديعة، هذا كذب، وحيلة واحتيال، هذا قرض بدليل أن الأمانة لا يجوز التصرف فيها، وهذا يتصرف في المال، إذن هذا قرض، ثم الوديعة لو تلفت بغير تفريط من المستأمن فإنه لا يضمن في الشريعة، ويقول: احترقت مع بيتي، لكن هذا المرابي يضمن المال لو سرق، ولو احترق مكانه يضمن، معناها أنه أخذها قرضاً لا وديعة، فأنت تعلم أنه قرض، ثم يعطيك عليه زيادة، فماذا يكون؟! لا يكون إلا ربا، فلو جاء مائة وألف من المفتين، وأصحاب العمائم، وأقسموا بالله جهد أيمانهم، وأنهم يتحملون المسؤولية أمام الله عن هذه الفتوى، وقالوا: إنه حلال، فماذا تفعل؟! ماذا تفعل؟! وقد عرفت الحكم؟ لو جاء من هؤلاء الأئمة المضلين من قال: إن الغناء مباح! وأن الموسيقى إذا كانت ليست بصاخبة، وإذا كانت الموسيقى هادئة فهي حلال! وأنت تعلم من حديث النبي ﷺ الصحيح الذي سمعته مراراً وتكراراً عن أناس أخبر عنهم النبي ﷺ أنهم  يستحلون  يأخذون الحرام فيجعلونه حلالاً  الحر يعني الزنا، والحرير المحرم على الرجال، والمعازف، الحر والحرير، والخمر والمعازف [رواه البخاري معلقاً (7/106)] ما هي المعازف؟! أليست الأورج والبيانو، والقانون والكمنجة، والعود والطبل؟ أليست هي المعازف؟ لماذا نلف وندور؟! أليست هي المعازف؟! أليس الشارع قد حرمها بالكلية؟! أليس ما استثنى منها إلا الدف فقط، الدف للنساء في الأعراس والأعياد؟! ثم تسمع حديث النبي ﷺ الصحيح: صوتان ملعونان: مزمار عند نعمة، ملعونان[رواه البزار في المسند (7513)]، الملعون هل يكون مكروهاً أو مباحاً؟ الملعون محرم، صوتان ملعونان: مزمار عند نعمة، فهل تقول بعد ذلك: إن المزمار مباح؟! وعندما يأتيك حديث النبي ﷺ نهى عن الكوبة [رواه أبو داود (3685)]، والكوبة هي الطبل، عندما نعلم يقيناً -أيها الإخوة-، عندما نعلم الحكم الشرعي والأدلة، هل بعد ذلك إذا قال فلان وفلان وفلان من الناس مهما كان ارتفاع عمامته، وطول لحيته، وشهرته، إذا قال: إنها مباحة، فهل نسمع له ونطيع؟ وهل نقول: إن المسألة فيها اختلاف، وإنه يسعنا أن نأخذ بما نريد من أقوال المفتين، وكلٌ على خير؟! ما هذا اللعب؟! إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ۝ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِسورة الطارق:13-14، ما هو بالهزل، هذا دين ليس بلعب، ولذلك -أيها الإخوة- لو تعارض عندك أقوال المفتين، فإذا علمت بالدليل الصحيح الحكم الشرعي لا يسعك أن تتركه، ولا أن تخالفه إلى قول كائن من كان؛ لأنك تطيع الله ورسوله، لا فلان وفلان، فإذا جاء الحكم عن الله ورسوله، فعلى الرأس والعين، لا بد أن نقبل به، ولو قالوا: من قال بذلك؟ قد يكون مجرماً منافقاً مضلاً، وقد يكون مسكيناً من قلة علمه، والشبهة التي عنده قال بهذا، شبهة، عدم علم.

أيها الإخوة: إن التذرع بقضية اختلاف المفتين في أن ننتقي ما نريد بأهوائنا مدخل شيطاني، لكن عندما لا تعرف تسمع أقوالاً، ولا تعرف أدلة، ولا تعرف حكم الله ورسوله، وليس عندك حجة ولا بينة، ماذا تفعل؟ تقلد الأعلم، هذا هو المطلوب منك كعامي من عامة الناس أن تقلد الأعلم،

إذا لم تكن طالب علم تحسن البحث والنظر في الأدلة؛ فتقلد الأعلم من العلماء، وقلنا: تقلد الأعلم، ولم نقل: تقلد الأشهر؛ لأن هذه مصيبة في هذا العصر، أن الناس يقلدون المشهورين، وليس الأعلم، يقلد الأشهر بسبب شهرته يقلده، ولا يقلد الأعلم، وهذه فضيحة جديدة في عالم الإفتاء أن يتجه الناس إلى الأشهر، وليس إلى الأعلم، فكم من مشهور أقل علماً ممن هو أقل منه شهرةً.

نسأل الله أن يجنبنا الهوى والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعل كلمة الدين، وأقم لواء الجهاد في الأرض يا رب العالمين.

اللهم اقمع أهل البدعة والمشركين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كوسوفو وكشمير وفلسطين يا رب العالمين.

اللهم أنقذ المسلمين من الفيضانات في السودان وبنجلادش إنك على كل شيء قدير، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وإنهم عراة فاكسهم، وإنهم جياع فأطعمهم، وإنهم مرضى فاشفهم، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.

وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.

1 - رواه البخاري معلقاً (7/106) 
2 - رواه البزار في المسند (7513)
3 - رواه أبو داود (3685)