الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
أحكام الدم
فيا عباد الله: إن الدم هو السائل الأحمر الذي يجري في العروق، الذي خلقه الله في الأحياء، ولهذا الدم أحكام وفيه حكم، ولنا وقفات معه.
هذا الدم الذي حرمه الله فقال: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَسورة البقرة173، وأمر المسلمون بغسله، وكذلك تغسل المستحاضة والحائض الدم، ونهينا عن ثمنه، فلا يجوز أخذ مقابل له، وشرعت لنا دماء عظيمة تهراق في الله تعالى كدماء الهدي والأضاحي لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْسورة الحج37، وكذلك دم العقيقة التي تفك أسر المولود من الشيطان، قال ﷺ: مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى[رواه البخاري5471]رواه البخاري.
وتتفاوت الدماء في النجس، فدم الخنزير من أنجسها، ولذلك لما نهانا الشارع عن اللعب بالنرد نفرنا من ذلك بقوله ﷺ: من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه[رواه أبو داود4939]. حديث صحيح رواه أبو داود.
الدم المسفوح يحرم شربه بخلاف دم العروق الذي يعسر التخلص منه في الذبائح، وما أنهر الدم نأكل منه، وأما إذا خنقت أو صعقت فإنها ميتة. وجعل الله في الدماء أحكاماً في القصاص، كما قال : وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ سورة المائدة45.
الدماء المحرمة
إن الشريعة قد جعلت دماء المسلمين محرمة، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا[رواه مسلم1218]. أعلنها ﷺ في يوم الحج الأكبر.
وعن ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة فقالا: إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر، وصاحب النبي ﷺ، فما يمنعك أن تخرج - أي في الحرب-؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، فقالا: ألم يقل الله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌسورة البقرة193، فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.[رواه البخاري4513]رواه البخاري.
ودماء المسلمين متكافئة كما قال ﷺ: المؤمنون تكافأ دماؤهم [رواه أبو داود4530]. أي: أن الشريف يقتل بالوضيع، ولا ينظر إلى فارق النسب ولا المال؛ لأن المسلمين تتكافأ دماؤهم.
الدماء الشريفة
أيها الإخوة: إن من الدماء دماء شريفة، دماء عظيمة، لها عند الله وقع كبير، وأعلاها دم المجاهد الذي يهراق في سبيل الله، ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع من خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله[رواه الترمذي1669]، تمشي إلى الجهاد أو إلى المساجد.
هذه الدماء الشريفة قال ﷺ لما سئل: أي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه وعقر جواده[رواه النسائي2526]. رواه النسائي.
دم الشهيد سعد لما سال إلى المسلمين من خيمته التي كان موضوعاً فيها، ما وعوا إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دماً، فمات فيها.[رواه البخاري463]كما رواه البخاري.
ودم الشهيد ابن ملحان الذي روى قصته أنس : لما طعن حرام بن ملحان، وكان خاله يوم بئر معونة، قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه ثم قال: فزت ورب الكعبة.[رواه البخاري2801]رواه البخاري.
إن لهذه الدماء؛ دماء الشهداء التي أريقت لتكون كلمة الله هي العليا، لها رائحة زكية، كما قال ﷺ: والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله، والله يعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك[رواه البخاري2803]. رواه البخاري.
العرف عرف المسك، هكذا كرامة من الله تعالى، تأتي يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجر دماً، اللون لون الدم والعرف عرف المسك.
عباد الله: من أجل ذلك كانت دماء الشهداء لا تغسل، كما كان النبي ﷺ يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة. وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم.[رواه البخاري1343]رواه البخاري.
إن الدماء إذا كانت من أجل طاعة عظمت عند الله، وهانت على الإنسان أن يضحي بها في سبيل الله، ولو جرح في أثر طاعة فإنما هو في سبيل الله، كان النبي ﷺ في بعض المشاهد، وفي رواية: خارجاً إلى الصلاة، وفي رواية: أنه كان في غار فدميت أصبعه، فقال: هل أنت إلا أصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت[رواه البخاري2802]. وفي سبيل الله ما لقيت من هذه الجراح. رواه البخاري.
إن هذا الدم الذي سال من النبي ﷺ على وجهه الشريف لما جرحوه في أحد وكسروا رباعيته، وفاطمة تغسله، والدم يزيد فعمدت إلى حصير فأحرقتها، وألصقتها على جرحه ﷺ فرقأ الدم.
إن هذه الدماء الشريفة التي ذهبت لله وفي الله جراحة وقتلى لا تضيع عند الله أبداً، إنها عند الله بمكان عظيم، كذلك دم الداعية الذي يعتدى عليه، قال ﷺ وقد حكى عنه الراوي: كأني أنظر إلى النبي ﷺ يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه فهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون[رواه البخاري6929]. رواه البخاري، قيل: هو نوح .
دم التائبة، وما أدراك ما دم التائبة؟ تلك التي شدت عليها ثيابها، ثم رجمت، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع النبي ﷺ سبه إياها، فقال: مهلاً يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس الذي يأخذ الضرائب ظلماً من الناس لو تابها صاحب مكس لغفر له. ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت.[رواه مسلم1695]رواه مسلم.
خطورة القتل
إن الدماء شأنها عظيم، ولذلك أول ما يقضى يوم القيامة في الدماء كما قال ﷺ: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء[رواه البخاري6533 ومسلم1678]. وهو في الصحيحين، أول ما يقضى بين الناس في قضايا الخلق في الدماء، فكما أنهم أول ما يحاسبون عليه الصلاة فيما يتعلق بالخالق، فكذلك أول ما يحاسبون عليه الدماء فيما يتعلق بأمور الخلق.
يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً، فيقول: يا رب هذا قتلني، حتى يدنيه من العرش[رواه الترمذي3029]. قال الترمذي: هذا حديث حسن، حتى يقف بين يدي الله، فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني[رواه النسائي3998].
لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً[رواه البخاري6862]. هذا الحديث الذي في الصحيح يبين أن المؤمن في سعة فإذا أصاب دماً حراماً ضاقت عليه، ولذلك كان بعضهم يرى أن القاتل لا تقبل توبته.
فقال عبد الله بن عمر : إن من ورطات الأمور، -والورطة: هي المهلكة التي لا ينجو منها أحد-، إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله.[رواه البخاري6863]رواه البخاري.
ولذلك كان ابن عمر يقول للقاتل العمد بغير حق: تزود من الماء البارد فإنك لا تدخل الجنة.
إن الشأن عظيم، قال ﷺ: لزوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم[رواه الترمذي1395]. حديث حسن.
وإذا ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك فكيف بقتل الآدمي، فكيف بقتل التقي الصالح؟ ولذلك تكون بعض الدماء أوزاراً على ظهور أصحابها يوم القيامة، كما قال ﷺ: لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ وذلك لأنه أول من سن القتل[رواه البخاري3335]رواه البخاري.
وهناك نهر الدم، نهر دم يعذب فيه آكل الربا بالذات في عذاب البرزخ كما قاله ﷺ: رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر آكل الربا[رواه البخاري1386]رواه البخاري.
الدماء المهدرة
ومع حرمة الدماء فإن هناك دماءً مهدرة؛ لأن أصحابها وقعوا في الشأن العظيم: في الردة، الثيب الزاني، القاتل العمد، عن ابن عباس: أن أعمى كان على عهد رسول الله ﷺ وكانت له أم ولد وكان له منها ابنان، وكانت تكثر الوقيعة برسول الله ﷺ وتسبه، فيزجرها فلا تنزجر، وينهاها فلا تنتهي، فلما كان ذات ليلة، ذكرت النبي ﷺ فوقعت فيه، قال: فلم أصبر أن قمت إلى المغول فوضعته في بطنها فاتكأت عليه فقتلتها، فأصبحت قتيلاً. فذكر ذلك للنبي ﷺ فجمع الناس وقال: أنشد الله رجلاً لي عليه حق فعل ما فعل إلا قام، فأقبل الأعمى يتدلدل، فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت أم ولدي، وكانت بي لطيفة رفيقة ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، ولكنها كانت تكثر الوقيعة فيك وتشتمك، فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، فلما كانت البارحة ذكرتك فوقعت فيك فقمت إلى المغول فوضعته في بطنها فاتكأت عليها حتى قتلتها، فقال رسول الله ﷺ: ألا اشهدوا أن دمها هدر[رواه النسائي4070]. رواه النسائي وهو كذلك عند أبي داود وهو حديث صحيح.
ولذلك كان الراجح من أقوال أهل العلم: أن من سب النبي ﷺ بعد موته ﷺ يقتل ولو تاب، لماذا؟ لأننا لا نستطيع أن نستعفي من النبي ﷺ، ويتنازل عن حقه الآن، فإذا كان حد ساب النبي ﷺ القتل كما جاءت بذلك الأحاديث فإن حقه ﷺ باقٍ، لا يمكن أن يتنازل عنه الآن بعد موته، فمن سبه ﷺ وثبت عليه ذلك يقتل شرعاً ولو تاب، وتوبته عند الله تنفعه، ولكن في الدنيا لا بد من أخذ حق النبي ﷺ.
ودماء المنتحرين التي ذهبت هدراً، كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة[رواه البخاري3463].
وهناك دماء قذرة تحمل فيروسات الأمراض القذرة، يسير بها أناس ثم ينقلون العدوى إلى الأبرياء والبريئات.
ويري عيسى ابن مريم المؤمنين في عصره دم الدجال على الحربة التي يطعنه بها، يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته.
آيات وعجائب في الدم
إن في الدم يا عباد الله آيات وعجائب، فمن ذلك أن الله يخرج من بطون الأنعام لبناً خالصاً سائغاً للشاربين، من بين فرث ودم، ومن الآيات: أن الله لما كفر قوم فرعون أرسل عليهم الآيات، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍسورة الأعراف133، قال ابن كثير رحمه الله: وأما الدم فكان قد مزج بمائهم كله، فلا يستقون من النيل شيئاً إلا وجدوه عبيطاً، ولا من نهر ولا بئر ولا شيء إلا كان دماً.
وكذا قيل: سلط عليهم الرعاف، حتى ما عادوا يستطيعون القيام بأي شيء فيه مصلحة، قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَسورة الأعراف134، لكن لما كشف الله عنهم ذلك ما ازدادوا إلا عتواً ونفوراً، إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَسورة يونس96-97.
ومن الآيات التي جعل الله بها الدم فتنة: ما يقع ليأجوج ومأجوج عندما يعيثون في الأرض فساداً، ثم يقولون: قتلنا أهل الأرض، هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دماً.[رواه مسلم2937]رواه مسلم. وفي رواية: محمرة دماً. وعند ذلك تكون فتنة لهم، ويظنون أنهم قد قتلوا أهل السماء، ثم يرسل الله عليهم النغف مثل الدود في رقابهم فيقتلهم شر قتلة.
أيها الإخوة: إن هذا الدم يخشع لله تعالى، ويعبر المؤمن عن ذلك بهذا الذكر الرفيع الذي يقوله في الركوع مما علمنا إياه النبي ﷺ، كان إذا ركع قال: اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت، وعليك توكلت، أنت ربي، خشع سمعي وبصري ودمي ولحمي وعظمي وعصبي لله رب العالمين[رواه النسائي1051]رواه النسائي، وكان النبي ﷺ يسأل الله أن يجعل في دمه نوراً، وكان يقول في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً، واجعل لي نوراً، وفي رواية: فذكر عصبي ولحمي ودمي وشعري وبشري.[رواه البخاري6316]رواه البخاري.
إن هذه المسألة شأنها عظيم أيها الإخوة ولها حكم وفيها أحكام.
نسأل الله تعالى أن يفقهنا في دينه، وأن يجعلنا من حراس شريعته، وأن يجعل دماءنا رخيصة في سبيله، وأن يجعلنا مجاهدين لنصرة شريعته من الذابين عن سنة نبيه ﷺ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.