الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الفرح بفضل الله
قال ربنا تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَسورة يونس57-58، هذا فرحنا بدين الإسلام، هذا فرحنا بعيد الإسلام، هذا فرحنا باجتماع أهل الإسلام، هذا فرحنا بشرع الله، هذا فرحنا بإتمام رمضان، هذا فرحنا يا عباد الله بفضل الله ورحمته، وفضله القرآن ورحمته الدين والإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْهذه الفرحة الحقيقية في الدنيا، الفرح بدين الله وشرعه، وأما الفرح بالمال والثراء والجاه والمراكب والقصور فإنه فرح زائل، فإنه فرح بأمور تفنى يا عباد الله.
عن أيفع بن عبد الله الكلاعي قال: لما قدم خراج العراق إلى عمر خرج عمر ومولى له، فجعل عمر يعد الإبل، فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل يقول: الحمد لله، ويقول مولاه: هذا والله من فضل الله ورحمته، فقال عمر: كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَسورة يونس58 هكذا كان رعيلنا الأول ينظر إلى الدنيا وعندما يقارن بشرع الله تعالى.
الفرح بالعيد
وحق لكم أيها المؤمنون يا عباد الله يا إماء الله أن تفرحوا في هذا اليوم، من في الأرض عنده دين مثل ديننا؟ من في الأرض عنده صيام مثل صيامنا؟ من في الأرض عنده صلاة مثل صلاتنا؟ من في الأرض عنده دعاء مثل دعائنا؟ من في الأرض عنده ذكر مثل ذكرنا؟ نحن الأمة الوحيدة التي خلقها الله في هذا العالم بعد محمد ﷺ عندها مثل هذا الشرع، ببعثته جاء، ونحن نفرح والله اليوم بهذا الدين، بهذه النعمة، هذا هو الفرح التام والابتهاج والنعيم، وأما الفرح بغيره فإنه ناقص والله لا يحب الفرحين الأشرين البطرين، يعني بأمور الدنيا، فهذه الفرحة الحقيقية، أما الفرح الآخر: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَسورة القصص76.
فرح الأشر والبطر مذموم، وأما الفرح المباح فهو أن تفرح بنعمة حصلت لك من الله كرزق ساقه الله إليك، وولد رزقك الله إياه، وزوجة أنعم الله بها عليك، فتجعل من هذه النعمة طاعة لله ، والفرح الأسمى والفرح الأعلى الفرح بهذا القرآن يا عباد الله.
فرح النبي ﷺ وأصحابه
كان ﷺ يفرح بدخول الناس في دين الله أفراداً وأفواجاً، ففرح لما أسلم عكرمة، وفرح لما أسلم عدي بن حاتم، وفرح لما أسلم سواد بن قارب، وهؤلاء من سادة الجزيرة وملوكها، فرح لما أسلم عمر، وفرح أبو هريرة لما أسلمت أمه وبكى من الفرح، هذا هو الفرح العظيم، وكذلك الفرح بظهور الحق، كما فرح ﷺ بشهادة مجزز المدلجي لما شهد شهادة الحق في ثبوت نسب أسامة من أبيه فكانت رداً على المنافقين، فرح النبي ﷺ والمؤمنون بظهور براءة عائشة وكبت الله المنافقين وزيف دعواهم: أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتكقالت: "وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه".[رواه مسلم2770].
كان ﷺ يفرح أصحابه بالأخبار الطيبة السارة فيتلقفونها فرحين، فسأله رجل مرة: "متى الساعة؟" قال: وماذا أعدت لها قال: لا شيء إلا إني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي ﷺ: أنت مع من أحببت[رواه البخاري3688]، قالﷺ مرة لأبي بن كعب: إن الله أمرني أن أقرأ عليك: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ سورة البينة1 قال: وسماني -ربي سماني لك-؟ قال: نعم فبكى.[رواه البخاري3809] بكى أبي من الفرح والسرور.
وهكذا فرح النبي ﷺ لما أبدى الصحابة استعدادهم أن يسيروا وراءه، وقال له المقداد: نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك، فأشرق وجه رسول الله ﷺ.
لما دعا المسلمين نبينا للصدقة عندما جاءه وفد شديدة فاقتهم حث الصحابة على الصدقة، فجاء رجل من الأنصار بصُرة كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت، ثم تتابع الناس، فتح الباب كان قدوة، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله ﷺ يتهلل كأنه مذهبة، قطعة ذهب، فرح بإقبال الناس على الصدقة، فرح بسد حاجة القوم، فرح بأن يوجد في المسلمين من يعين إخوانه.
وهكذا فرح كعب بتوبة الله عليه، وفرح له المسلمون، وتلقوه أفواجاً أفواجاً يهنئونه، الفرح بنصر الله فرح عظيم كما قال في سورة الروم: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُسورة الروم4-5، وهكذا استقبل أهل المدينة بالفرحة خبر نصر بدر وغيرها من المواقع، والفرح بثواب الله للشهداء، الشهداء يفرحون فرحة عظيمة، قال ربنا عنهم: فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْسورة آل عمران170، والفرح بهلاك الظالمين، كما قال حماد: بشرت إبراهيم بموت الحجاج فسجد، قال حماد: فما كنت أرى أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت إبراهيم بكى من الفرح، لما مات الظالم، ولما تحقق طاووس من موته تلا قول الله: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَسورة الأنعام45 وهكذا يفرح المسلمون بزوال طاغية وطغيان.
الفرح بفضل الله ورحمته، فرح أهل الإيمان، ماذا كان شعور الصحابة يا عباد الله يا أمة الإسلام أيها الإخوة والأخوات عيشوا مع نبيكم ﷺ لما دخل المدينة، ماذا كانت مشاعر أهل المدينة؟ قال الصحابي: فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله ﷺ، حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله قدم رسول الله، والغلمان والخدم يقولون: جاء محمد جاء رسول الله ﷺ، خرج الناس في الطرقات.
وهكذا كان فرح المسلمين باستقبال علمائهم، قال محمد بن يعقوب بن الأخرم: لما قدم البخاري نيسابور، البخاري صاحب الصحيح، استقبله أربعة آلاف رجل على الخيل سوى من ركب بغلاً أو حماراً وسوى الرجالة، ففرحت فرحاً شديداً، هكذا كان المسلمون يفرحون بقدوم علمائهم.
أما الفرحة التي نحن فيها الآن فرحة عيد الفطر نابعة من فرحة إكمال شهر الصيام، قال ﷺ: للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه[رواه البخاري1904]، هذه الفرحة الحقيقية؛ لأن الله من علينا بالتمكين من العبادة، لأننا ولله الحمد ختمنا شهرنا.
اللهم تقبل منا الصيام، والقيام، والدعاء، والذكر، والعبادة، واجعلها لوجهك يا أرحم الراحمين، واجعلنا من أهل جنات النعيم، واختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم خلق السموات والأرض بالحق، خلق الزمان وفضل بعضه على بعض، وجعل يوم عيدنا هذا يوماً عظيماً يكبر فيه المسلمون، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله السراج المنير والبشير والنذير، سيدنا نبينا قدوتنا أسوتنا حبيبنا، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وذريته وأصحابه وخلفائه الميامين وأزواجه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
آداب في العيد
عباد الله: عيدنا هذا فرح والله نذكر الله فيه، صلينا لله، واجتمعنا على طاعة الله، نسأل الله كما جمعنا في هذا المقام أن يجمعنا في جنات النعيم.
عباد الله: احرصوا رحمكم الله على صلة الأرحام، وبلوها ولو بالسلام، واجمعوا شمل الأسرة وأقيموها على شرع الله، يا أيها الزوج رفقاً بالزوجة وعناية بالأولاد.
واجب المرأة
يا أيتها النساء: إن الله تعالى قد أنزل فيكن سوراً وسورة النساء وآيات الأحزاب والنور وغيرها فاقنعي يا أمة الله بشرع الله، لا تحيدي عنه شعرة، تمسكي به واقنعي بالرزق الذي جاءك، واقنعي بما يأتيك من زوجك، وتذكري نعمة الله عليك إذا أصبحت آمنة في بيتك، معافاة في جسدك، وعندك قوت يومك، وعيني زوجك على غض البصر بحسن التزين له، وطيب الكلام ولطف المعاشرة، لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله، ذكر الله يعينك يا أيتها المرأة المسلمة حتى على أعمال البيت، فلما اشتكت فاطمة ما تلقاه للنبي ﷺ علمها تكبر أربعاً وثلاثين وتسبح ثلاثاً وثلاثين وتحمد ثلاثاً وثلاثين إذا أخذت مضجعها، الحذر الحذر من المشعوذين والسحرة والطرق المشبوهة، وإنما الرجوع في الكرب إلى الله.
وهذه الوسائل التي خلقها الله في شبكات الاتصالات اليوم ينبغي أن تستعمل في طاعة الله، صوني بيتك وأطيعي زوجك، وحافظي على الأسرار، واعتني بتربية الأولاد، واحذري من الشر والمرأة راعية في بيتها مسئولة عن رعيتها.
واعلمي أن العبودية الحقيقية هي التحرر من الشرك التحرر من المعصية، وليس التحرر من الشرع والتحرر من الأحكام، ليست تفلتاً من أحكام الحجاب والحشمة والعفاف، وإنما تمسكاً بما أمر الله: وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّسورة النور:31 وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّسورة النور31،فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ سورة الأحزاب32 وهكذا فليست الحرية والتقدم في تقليد غرب أو شرق، أو اختلاط بالرجال الأجانب، ولا تنازل عن أشياء من الدين، لا في الحجاب ولا في غيره، لن تنالي يا أمة الله رزق الله بمعصيته، لا عند ساحر ولا بإقامة علاقات محرمة لكسب زوج موهوم؛ لأن القاعدة تقول: لا ينال ما عند الله بمعصيته وإنما ينال ما عنده بطاعته، ومن يتصبر يصبره الله، فقد تبتلى المرأة بطلاق أو عدم زواج فلتعلم أن ما عند الله خير وأبقى وأن الله هو الرزاق.
عباد الله: هذا العيد فرصة لتصفية القلوب من الأحقاد، تصفية الصدور من الشوائب، فأقبلوا على أخوة إيمانية حقيقية، أقبلوا على لم شمل الأسرة، أقبلوا على جمع أنفسكم وأهليكم على طاعة الله .
اللهم أحينا مؤمنين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، تقبل توبتنا واغسل حوبتنا واشف صدورنا وطهر قلوبنا وحصن فروجنا وارحم أمواتنا واشف مرضانا، اللهم اقض ديوننا واهد ضالنا، يا أرحم الراحمين فرج عن المسلمين المستضعفين، اللهم إن في بعض بلاد المسلمين من اللأواء ما لا نشكوه إلا إليك ففرج عنهم يا أرحم الراحمين، كن معهم ولا تكن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، أعنهم ولا تعن عليهم، واقصم ظهر من ظلمهم، وشتت شمل الطغاة المتجبرين، واجعل بأسهم بينهم، وعاجلهم بنقمتك، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
الواجب نحو البيت العتيق
عباد الله: وأنتم على مقربة من حرم الله تستشعرون مسئوليتكم نحو هذا البيت العتيق، أنتم على مقربة من حرم الله تخدمون الحجاج والمعتمرين، أنتم على بوابة الحرم الجوية والبحرية بل وحتى البرية عليكم مسئولية في السعي لإقامة أحكام الله وإعانة عباد الله، هنيئاً لكم بما تفضل الله به عليكم من إتمام شهركم، وهنيئاً لكم بعيدكم بارك الله لي ولكم بهذا العيد، وهنيئاً لكم بهذا الاجتماع الذي اجتمعتموه اليوم، وهنيئاً لكم بتطبيق السنة في الصلاة في هذا المصلى كما كان ﷺ يخرج إلى الفلاة ليصلي صلاة العيد، فهاأنتم قد اجتمعتم وأصبتم سنة نبيكم في هذا المكان.
نسأل الله تعالى ألا يفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور وعمل مبرور وسعي متقبل مشكور، وأن يخرجنا من ذنوبنا كيوم ولدتنا أمهاتنا، اللهم أغننا من فضلك، نسألك من فضلك، ارزقنا رزقاً حسناً يا أرحم الراحمين، أسعدنا في الدنيا وفي الآخرة، اجعلنا من أهل السعادة في الدارين يا رب العالمين، اغفر لآبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا، اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ.
اللهم اجعل بلدنا هذا بلداً آمناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعلها عامرة بذكرك مقيمة لشرعك يا أرحم الراحمين، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.