الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
العبادات يكمل بعضها بعضاً
عباد الله: شرع الله لنا ديناً قيماً، وجعلنا على الملة الحنيفية، على السمحة البيضاء، ليلها ونهارها سواء، لا يزيغ عنها إلا هالك، وتعبدنا بأنواع من العبادات، وإنك لتدهش -يا مسلم- وأنت تتأمل نظام العبادة في الإسلام، عبوديات للقلب، فالقلب يعبد الله بالإخلاص والرجاء، والخوف والخشية، والمحبة والحياء، والصدق والتوكل، وهكذا، وعبادات للسان، فهو يعبد الله بالتكبير والتحميد، والتهليل والتسبيح، وكنوز الجنة بأنواعها، وعبادات للأعضاء، فهذه صلاة تؤدى بعمود الصلب، والأيدي والأرجل مع اشتراك القلب واللسان، وهكذا الحج وما فيه من المشي والرمي والهرولة، وهكذا عبوديات فعل، وعبوديات ترك، فالترك كالصيام، عبوديات فرض، وأخرى نافلة، عبوديات موزعة على أجزاء النهار والليل، عبوديات فيها اتصال المخلوق بالخالق، وجعل القلب حياً على الدوام، عبوديات يؤيد بعضها بعضاً، ويستدرك بعضها نقص بعض، هذه زكاة الفطر -مثلاً- شرعها الله في نهاية شهرنا مرتبطة بالصوم الذي نصومه، وتسمى صدقة الفطر لارتباطها بالفطر في نهاية رمضان، وهي زكاة تطهرهم وتزكيهم.
ونلاحظ أن العبادات تشرع لأمور متعددة، وفي العبادة الواحدة محاسن كثيرة، فزكاة الفطر -مثلاً- تطهر الصائم من اللغو والرفث، ومن الذي لم ينخرق صيامه بكذبة، أو كلمة غيبة، أو مخاصمة ومشاتمة، أو سوء ظن، أو حسد وحقد؟ من الذي لم ينخرق صيامه بنظرة محرمة، أو شيء من الرفث؟
فجاءت صدقة الفطر لتكمل لك عبادتك -يا مسلم-، وتستدرك النقص الذي حصل فيها، فسبحان الله! شرع لنا هذا الدين في نظام عبادة لا يوجد له مثيل في أي دين آخر، فهذا دين فيه نغمات في الكنيسة، وذاك دين يهز أصحابه هزاً، وذاك دين على الصامت، هذا دين أذكار ليس فيه لهو محرم، ولا لغو باطل، أساسه التوحيد والإخلاص لله، لا شرك فيه، وأديان أهل الأرض في شرك وكفر، اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، وبدع ورهبانية باطلة، وهكذا.
زكاة الفطر -أيضاً- طعمة للمساكين، توسعة على الفقراء، إغناؤهم عن السؤال في يوم العيد؛ لأنه لا ينبغي أن يكون هذا اليوم يوم ذل وهوان لأي مسلم، بل ينبغي أن يكون يوم فرح وسرور، عن ابن عباس قال: "فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين"[رواه أبو داود (1609)]رواه أبو داود، وهو حديث صحيح، الرفث: الفحش من الكلام، وهذه الزكاة قال بعضهم: إنها المقصودة بقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(سورة الأعلى:14-15) يعني: صلاة عيد الفطر.
من أحكام زكاة الفطر
زكاة الفطر فرض على كل مسلم، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: "فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين"[رواه البخاري (1504)]رواه البخاري؛ ولذلك تجب زكاة الفطر على من صام ومن لم يصم، بمعنى: لو كان صغيراً غير مكلف فعليه زكاة الفطر يدفعها وليه، ولو كان كبيراً في السن طاعناً لا يستطيع الصيام لكبر سنه؛ فعليه زكاة الفطر أيضاً، وهذا من حسنات الدين، فإن المعذور في الصيام له باب حسنات في هذه العبادة.
"فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين" تجب بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، معنى ذلك: أن من غربت شمس آخر يوم من رمضان عليه وهو حي تجب عليه زكاة الفطر، فإذا ولد قبل الغروب وجب زكاة فطره، وإن مات بعد الغروب وجبت زكاة فطره، وليس لزكاة الفطر نصاب، فكل من ملك ما زاد على قوت نفسه ومن يعيلهم يوم العيد فقد وجبت عليه؛ ولذلك لو ملك الفقير ما يزيد عن حاجته أخرج منها، والحمل يستحب الإخراج عنه ولا يجب، يخرجها المسلم عن نفسه، وعن من ينفق عليهم من الزوجات والأولاد والأقارب، فقد يكون متكفلاً بأبويه، والبنت التي لم يدخل بها زوجها زكاة فطرها على أبيها، والولد الغني يخرج عن نفسه، فإن أراد الأب أن يخرج عن أولاده الكبار أخبرهم، ولا حرج في ذلك، يخرجها الزوج حتى عن مطلقته الرجعية لا الناشز، ولا البائن، ومن أخرج عمن لا تلزمه فلا بد أن يستأذنه؛ ولذلك بما أنه لا يجب عليك أن تخرج زكاة الفطر عن الخادمة والسائق؛ لأنهم موظفون عندك، لهم رواتب، ولا تلزمك نفقتهم شرعاً، فزكاة فطرهم عليهم، لكن لو تبرعت عنهم بعد إعلامهم ورضاهم سقطت عنهم، وأجزأت وأنت مأجور.
مقدارها صاع من طعام؛ لحديث أبي سعيد الخدري قال: "كنا نعطيها في زمان النبي ﷺ صاعاً من طعام"[رواه البخاري (1508)]رواه البخاري، أربع حفنات بكفي الرجل معتدل الخلقة، وزن الصاع يختلف باختلاف ما يملؤه؛ لأن كثافة المواد تتنوع، لكن ثلاثة كيلو غرامات من الرز، أو من القمح، أو من التمر، أو من غير ذلك كافية إن شاء الله.
زكاة الفطر من أي طعام يقتاته الناس، والطعام الذي يكال ويدخر ويقتات عليه كالقمح والذرة ،والأرز والعدس والحمص، وهكذا.
فرضها رسول الله ﷺ صاعاً من طعام، فإن أخرج أكثر من صاع تتطوعاً فلا مانع، كأن يجب عليه ثمانية عشر كيلو مثلاً، فيخرج كيساً بعشرين، ويجب على تجار الرز أن يتقوا الله تعالى فإنه يكتب على الكيس خمسة وأربعين فإذا وزنته وجدته أحياناً أربعين، أو تسعاً وثلاثين، فإذا سألت، قال: وزناه لما كان الرز رطباً، فهلا انتظرتم حتى إذا يبس وزنتموه، وكتبتم عليه، وأنتم تعلمون أنه سيؤول إلى اليبوسة؟!
وأما إخراج زكاة الفطر مالاً فإنه خلاف نص الشارع، ونحن متعبدون بنص الشارع، فرضها رسول ﷺ زكاة من طعام، يعني: زكاة من طعام، نحن المسلمين لا نفتات على النص، ولا نخالف النص، وقد يكون للشرع حكم لا ندري عنها، فقد تكون زكاة الفطر في بعض البلدان والأوقات سبباً في فك احتكار الحبوب، وهناك أزمات غذاء عالمية قادمة، والعلم عند الله.
عباد الله: لقد حدد الشرع جنسها -وهو الطعام- فلا يجوز إخراجها من غيره، وحدد مقداره -وهو الصاع- فلا يجوز أقل منه، بناء على ذلك تعلموا حجم المخالفة لمن يُخرج زكاة الفطر نقداً سداد دين، وأجرة عملية، وتسديد أقساط دراسة، ونحو ذلك مع أن الشرع جعل لهذه مجالات، زكاة المال، زكاة النقود، زكاة العملات الورقية، زكاة الذهب والفضة، زكاة عروض التجارة، وهكذا، وهكذا من أنواع الأموال التي فيها زكاة هي نقود، وهذه قال لك: صاع من طعام، فلماذا إذن نلبس هذا بهذا، وندخل هذا على هذا، وقد جعل الشرع هذه الزكاة من طعام، وهذه الزكاة من النقد والأموال، فهنالك مصادر أخرى في الإسلام لسد احتياجات الفقراء، وإذا قال قائل: هؤلاء عندهم طعام، فمعنى ذلك: أنه ربما لا يكونون فقراء أصلاً، فلينظر من هم الفقراء، وإذا سلمها لمن يثق به برئت ذمته، وصارت أمانة في عنق الآخر من أفراد، أو جمعيات، وعليه أن يتحرى من يوكل، وأن يتابع الوكيل لئلا ينسى.
وقت زكاة الفطر ومصارفها
ولإخراجها وقتان -يا عباد الله-: وقت استحباب، ووقت جواز، فالاستحباب صباح يوم العيد قبل الصلاة، قبل خروج الناس إلى الصلاة، كما أمر بها النبي ﷺ، ووقت الجواز قبل العيد بيوم أو يومين، فيوم ثمانية وعشرين، ويوم تسعة وعشرين يجوز إخراج الزكاة فيهما، وإذا كان رمضان ثلاثين صارت ثلاثة أيام، ومن وكل غيره بدفع مال خلال الشهر على أن يقوم الوكيل بالشراء والإعطاء في الوقت الشرعي ففعله صحيح، قال نافع: "إن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده -أي: من بيت المال الموكل- قبل الفطر بيومين أو ثلاثة" هذا على عدة رمضان تسعة وعشرين أو ثلاثين.
ويجوز دفع الزكاة إلى وكيل الفقير، ومن ينوب عنه، وأما تأخيرها عن يوم العيد فحرام، وفي إخراجها بعد صلاة العيد خلاف، والأقرب المنع من ذلك لحديث: من أداها قبل الصلاةيعني: صلاة العيد، فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات[رواه أبو داود (1609)] أي: لم تعد زكاة فطر مقبولة. رواه أبو داود وهو حديث صحيح، ولا تسقط بخروج وقتها، فلو نسي وجب عليه الأداء.
تصرف زكاة الفطر للفقراء والمساكين، ولا توضع في مشاريع خيرية، ويجوز إعطاء الفطرة الواحدة للجماعة كما يجوز إعطاء فطرة الجماعة لواحد، ولا يجوز دفع زكاة الفطر إلى من تلزمك نفقتهم كالوالدين والأولاد، لكن تدفع إلى الأقارب المساكين الآخرين الذين لا تلزمك نفقتهم، وتعطى في بلد مخرجها -وهو الأفضل-، فإذا نقلها لأنه لا يجد فقيراً هنا، لكن يجد فقيراً في الصومال -مثلاً- جاز ذلك.
عباد الله، يختار الأطيب، الأجود من الطعام لا المعيب، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
صلاة العيد حكم وأحكام
أيها المسلمون، أيها الأحباب: في هذا الإسلام مناسبات فرح، وصلاة العيد تميزنا، ولكل قوم عيد، وعيدنا أهل الإسلام عيد الفطر، وعيد الأضحى فقط، لا عيد زواج، ولا عيد ميلاد، ولا عيد معلم، ولا عيد شجرة، لا يجوز اتخاذ يوم معين يحتفل به، وتظهر فيه مظاهر البهجة والفرح سنوياً إلا هذان العيدان، قال ﷺ: إن الله قد أبدلكم بهمايعني: اليومين اللذين كان أهل المدينة يلعبون فيهما في الجاهلية، ألغاها الشرع شطبها: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الفطر، ويوم الأضحى[رواه أبو داود (1134)]، وقال ﷺ: إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا[رواه البخاري (952)، ومسلم (892)]رواه البخاري ومسلم، وأفضل ما يقوم به المسلم في العيد صلاة العيد؛ لأن النبي ﷺ واظب عليها، بل أمر بإخراج النساء من البيوت لشهادتها، حتى الحيض، والتي لا تجب عليها الصلاة أوصى بإخراجها وأمر، ركعتان على لسان محمد ﷺ، يكبر في الأولى الإحرام وبعدها سبع، ثم يقرأ الفاتحة وسورة، والثانية يكبر للقيام وبعدها خمس، ويقرأ الفاتحة وسورة، وهكذا، وبين التكبيرات ثناء على الله، ودعاء، وصلاة على النبي ﷺ، ليس لصلاة العيد أذان ولا إقامة، يبدأ بالصلاة، ثم الخطبة، والاستماع لها سنة، ومن فاتته صلاة العيد استحب له قضاؤها، ولا نافلة قبل صلاة العيد، ولا بعدها، ولكن إذا صلوها في مسجد فللمسجد تحيته.
وينبغي على أولياء النساء الاعتناء بحجابهن عند الخروج، قالت أم عطية رضي الله عنها: "أمرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين، والعواتق، وذوات الخدور" العواتق جمع عاتق، وهي الجارية البالغة، أي: الفتاة التي لم تتزوج، والخدور جمع خدر، وهو ستر يكون في ناحية البيت، قالت: "فيشهدن جماعة المسلمين، ودعوتهم، ويعتزل الحيض عن مصلاهن"[رواه البخاري (351)].
والتكبير يبدأ من بعد غروب شمس آخر يوم من رمضان ودخول ليلة العيد؛ لقوله : وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْسورة البقرة:185، فطيلة ليلة العيد تكبير، وعند الذهاب لصلاة العيد تكبير، كان المسلمون يهتمون جداً بالتكبير، وفي الفطر أشد حتى يدخل الإمام للصلاة، فينقطع التكبير: "الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد".
يأكل تمرات قبل الخروج يجعلهن وتراً، ويحرم صوم يومي العيد، ولا بأس بالبدء في ست شوال بعد العيد مباشرة، ويستحب الاغتسال قبل الذهاب للصلاة، قال علي لرجل: "اغتسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر"، وسنده صحيح.
وكذلك يسن التجمل والتزين: "كان للنبيﷺ جُبة يلبسها في العيدين ويوم الجمعة"[رواه ابن خزيمة (1766)]صحيح ابن خزيمة، وتهاني الناس المباحة الطيبة من الإسلام: كان أصحاب محمد ﷺ يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك.
وإظهار البهجة والسرور بالعيد سنة، وإنها فرصة عظيمة لصلة الأرحام، وزيارة الأقارب، وكذلك فإن المسلم يحرص أن يكون عيده طاعة لله لا يشوبه بمعصية، فكيف يسوغ لمن كان في شهر عبادة أن يختمه بمعصية؟!
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، مالك الملك، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء، لا إله إلا الله الحي القيوم، وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله البشير والنذير، والسراج المنير، أشهد أنه رسول الله حقاً، والداعي إلى سبيله صدقاً، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين، وذريته الشرفاء، وأزواجه وخلفائه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
فضل ليلة القدر
عباد الله: إن الله يختار ما يشاء من الزمان ويفضله؛ فهو خالق الزمان، قال ربنا: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ سورة القصص:68، واختار الله تعالى من ليالي رمضان ليلة عظيمة فيها تغفر الذنوب والسيئات، وتعتق الرقاب من النار، وتتنزل المغفرة والرحمات، عبادتها خير من عبادة ألف شهر، خير من قيام ثلاث وثمانين سنة، عُمُر رجل معمر، وقيامها سبب لمغفرة المعاصي والسيئات، هي أمل العائدين التائبين، وأمنية العباد الطائعين، خصها تعالى بخصائص، منها أنه أنزل فيها القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع على مدى ثلاث وعشرين سنة على رسول الله ﷺ: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِسورة القدر:1يعني: من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وقد وصفها تعالى بأنها خير من ألف شهر، وهذا من رحمة الله بهذه الأمة التي قصرت أعمارها عن أعمار من قبلها، فعوضهم الله عوضاً عظيمة في كل سنة ليلة عبادتها عبادة رجل مُعمَّر، كأنك أعطيت في كل سنة عمر شخص عمره ثلاثة وثمانون سنة، في كل سنة من عمرك، يا مسلم! فاقدر هذه النعمة حق قدرها، وصفها الله تعالى بالبركة، فقال: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍسورة الدخان:3، وأخبر عن نزول عدد هائل من الملائكة وجبريل يتقدمهم إلى الأرض: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سورة القدر:4، ووصفها بأنها سلام سالمة من الشر: سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِسورة القدر:5، سالمة من العذاب، هي رحمة وبركة وخير، ووصفها سادساً: بأنه يفرق فيها كل أمر حكيم، تقدر مقادير الخلائق على مدى العام في هذه الليلة، يكتب فيها الأحياء والأموات، وفي صحف الملائكة يكتب الناجون والهالكون، والسعداء والأشقياء، والأذلاء والأعزاء، والجدب والقحط، والصحة والمرض، والقبض والعطاء، والغنى والفقر، وتغيير أحوال الناس، ترى الملائكة رجلاً يمشي على الأرض، وعندها في صحفها أنه يموت هذه الساعة، سبحان من أخبرهم وأعلمهم في تلك الليلة بما يكون في السنة!.
قيام ليلة القدر واعتكاف العشر
يغفر تعالى فيها لمن قامها إيماناً واحتساباً، كما أخبر نبيه ﷺ: غفر له ما تقدم من ذنبه[رواه البخاري (1901)، ومسلم (760)]إيماناً: تصديقاً بوعد الله، وطلباً للأجر احتساباً، فقيام ليلة القدر يرجى به مغفرة الذنوب.
وقد أنزل الله تعالى في شأنها سورة تتلى إلى يوم القيامة، ذكر فيها شرفها، وقال في مطلعها:إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَاتعجبية وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِسورة القدر:1-2 عجباً لما فيها من الخير والبركة والثواب! فيها: لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم[رواه النسائي (2106)] كما قال ﷺ، ليلة القدر ليلة الشرف، ليلة البركة والرحمة والمغفرة.
ليلة القدر في أوتار العشر الأواخر، وهي في السبع الأواخر أقرب؛ لحديث: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر[رواه البخاري (2015)، ومسلم (1165)]، وقال: التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي[رواه مسلم (1165)]، وأوتار السبع الأواخر أقربها ليلة سبع وعشرين، هذه الليلة القادمة، وما أدراك ما هذه الليلة القادمة؟ قال كعب: والله إني لأعلمها، هي الليلة التي أمرنا رسول الله ﷺ بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين، تنتقل كما قال كثير من العلماء، وأكثر ما تكون في ليلة سبع وعشرين، وقد تكون في غيرها، كما قال ﷺ: التمسوها...، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى[رواه البخاري (2021)] وهكذا يقوم العبد هذه الليالي الشريفة.
ومن اعتكف العشر الأواخر أصاب ليلة القدر قطعاً، والاعتكاف سنة عظيمة، فمن قدر على اعتكاف يوم واحد فلا يفوت الفرصة، فإن قال: لا أستطيع إلا ليلة، من المغرب إلى الفجر، فقد ورد في حديث عمر، افعل يا مسلم.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن أصاب ليلة القدر يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن قامها احتساباً وإيماناً يا أرحم الراحمين، اللهم تقبل منا وتب علينا.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في أمن وأمان وإيمان، اللهم اغفر لنا ذنوبنا يا غفار، وتب علينا يا تواب، وارزقنا يا رزاق، كفر عنا سيئاتنا، وأدخلنا الجنة مع الأبرار، لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وعمل صالح متقبل مشكور.
اللهم اجعلنا من أهل المغفرة، أعتق رقابنا من النيران، رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًاسورة الفرقان:65، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًاسورة الفرقان:74.
اللهم إنا نسألك أنت خرجنا من ذنوبنا كيوم ولدتنا أمهاتنا، وأن تطهرنا من الذنوب والخطايا بالماء والثلج والبرد، اللهم اغفر لموتى المسلمين أهل التوحيد، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، وجازهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، وأبدلهم دوراً خير من دورهم، وأهلاً خيراً من أهليهم، وارحمنا برحمتك إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
اللهم اغفر لنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، يا رب العالمين.
لا تخزنا يوم يبعثون، واجعلنا ممن يأتيك بقلب سليم، أحسن وقوفنا بين يديك، ولا تخزنا يوم العرض عليك، أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وقنا شر الدنيا وخزيها، وعذاب الآخرة، يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين.
لا رب لنا غيرك فندعوه، لا إله لنا سواك فنعبده، اللهم إنا نسألك في يومنا هذا، في ساعتنا هذه أن تنجي إخواننا المستضعفين، نج المستضعفين من المؤمنين في الشام، وسائر الأرض يا رب العالمين، اللهم احمل حافيهم، وآوي طريدهم، وداو جريحهم، واشف مريضهم، وارحم ميتهم، اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم عليك بكل طاغية وجبار، اللهم اقصم ظهور من يعذبون المسلمين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل دائرة السوء عليهم، وائتهم من حيث لا يحتسبون.
اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وأسقط عليهم عذاباً من فوقهم، واجعلهم آية وعبرة للمعتبرين، يا رب العالمين.
آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا غفور.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.