الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
أهمية الثقة بالله
فإن المسلم يحتاج كثيراً في هذا الزمان إلى الثقة بالله ، الثقة بالله يا عباد الله، الثقة بالله والتوكل على الله، فلماذا يثق المؤمن بربه ويتوكل عليه؟
لأن الله على كل شيء قدير، ولأن الأمر كله لله: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِسورة آل عمران154،إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُسورة يس82 ،لأنه تعالى يورث الأرض من يشاء من عباده، كما قال: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِالأعراف:128، لأن الأمور عنده سبحانه كما قال : وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُالبقرة:210 وليس إلى غيره، لأنه شديد المحال، فهو عزيز لا يُغلب، كما قال تعالى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِالرعد:13، لأنه له جنود السموات والأرض قال : وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِالفتح:7، جمع القوة والعزة: وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًاالأحزاب:25، وقهر العباد فأذلهم فهم لا يخرجون عن أمره ومشيئته: هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُالزمر:4، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُالذاريات:58 فهو ذو القوة وهو المتين ، وهو يقبض ويبسط، وهو يُؤتي مُلكه من يشاء: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرآل عمران:189، وهو الذي يضُر وينفع: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَالأنعام:17.
ولذلك لما قام أعداء الله على النبي ﷺ فأجمعوا مكرهم وأمرهم، فإن الله أذهب ذلك فقال:وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَالأنفال :31 ،وقال: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِالنحل:26، فإذن المكر بمن مكر بالله فالله يمكر به، وهو يخادع : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْالنساء:142، وهو الذي يرد بأس المشركين؛ ولذلك فإن النبي ﷺ لما واجه الأعداء في القتال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُالبقرة :253 فهو الذي يقدّر الاقتتال وعدم الاقتتال، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَسورة المائدة52والله قد أخبر نبيه ﷺ بأنه القادر على إمضاء القتال أو وقفه: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُالمائدة:64؛ ولذلك فإنه ﷺ لا يخاف إلا الله:أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِالزمر:36.
نماذج من الثقة بالله
والله يفعل ما يشاء ويقدر ما يشاء، ولذلك كانت الثقة به والتوكل عليه واجباً، فترى موسى لما جاء فرعون وجنوده وأجمعوا كيدهم وبغيهم وظلمهم وعدوانهم، فأسقط في يد ضعفاء النفوس وقال بعض من مع موسى : إِنَّا لَمُدْرَكُونَسورة الشعراء61 لا محالة هالكون، لا فائدة، لا نجاة، محاط بنا، ستقع الكارثة، سيدركنا فرعون، سيأخذنا، سيقتلنا، سننتهي، قال موسى الواثق بربه: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِالشعراء:62، الثقة بالله : يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد[رواه البخاري3372]إنه الله ، وهي التي قالها النبي ﷺ في غزوة الحديبية: إني رسول الله ولن يضيعني[رواه البخاري3182]، وهي التي قالها الصحابة: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْسورة آل عمران173، فما الذي حصل؟ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِسورة آل عمران173-174، ولذلك قال تعالى بعدها: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُيعني: يخوفكم بأوليائه ومناصريه، فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ سورة آل عمران175.
لقد لفت علماء الإسلام ومنهم ابن القيم رحمه الله إلى قضية خطيرة يقع فيها كثير من المسلمين وهي سوء الظن بالرب ، يظنون أن الله لا ينصر شريعته ولا ينصر دينه، وأن الله كتب الهزيمة على المسلمين أبد الدهر، وأنه لا قيام لهم، إذن فلماذا أنزل الله الكتاب؟ لماذا أرسل الرسول ﷺ؟ لماذا شرع الدين؟ لماذا جعل الإسلام مهيمناً على كل الأديان؟ لماذا نسخت كل الأديان السابقة بالإسلام إذا كان الإسلام لن ينتصر؛ ولذلك قال : مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِوليس في الآخرة فقط، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍيعني: بحبل، إِلَى السَّمَاءإلى سقف بيته، ثُمَّ لِيَقْطَعْ يعني: يختنق به يقتل نفسه، فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُسورة الحـج15 قال العلماء في تفسير هذه الآية: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً ﷺ في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل يخنق به نفسه، يتوصل إلى هذا الحبل الذي يشنق به نفسه إن كان ذلك غائظه؛ لأن الله ناصر نبيه لا محالة.
قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِسورة غافر51-52، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَسورة الصافات171-173، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْسورة المجادلة5، وفي الآية الأخرى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِيسورة المجادلة20-21 فإذن إذا تحققت شروط النصر فلا بد أن ينصر الله الذين حققوا الشروط، وإذا هزموا فإنما يهزمون لتخلف تحقق الشروط، وهذه الأمة تتربى بأقدار الله التي يجريها عليها.
والنبي ﷺ قد علمنا من سيرته كيف ينصر ربه فينصره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْسورة محمد7، إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ سورة آل عمران160، والله فعال لما يريد، والله كتب المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة؛ ولذلك فإن كل ما يقع ويحدث مكتوب عنده : وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَسورة البقرة216.
وقد يظن المسلمون بشيء شراً فإذا هو خير، لقصر النظر وعدم معرفة الغيب: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ سورة آل عمران179، وقال تعالى: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ سورة النور11، وقال : وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَسورة البقرة216، وهذه القاعدة العظيمة التي جرت عبر التاريخ: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْسورة الرعد11؛ ولذلك فإنه لا بد من الثقة بالله، ولا بد من اعتقاد أن القوة جميعاً لله ، ولا يجري في الكون إلا ما يريد، ولا يجري شيء ولا يقع إلا لحكم يريدها سبحانه، ولا يدري الإنسان ماذا يترتب على الأمور؛ ولذلك فلا بد أن يوقن المسلمون بربهم، لا بد أن يكونوا على صلة بربهم، معتمدين عليه متوكلين، يطلبون منه القوة والمدد؛ لأنه مالك القوة جميعاً، وهو الذي يمنح أسبابها من يشاء .
إن المسلمين في زمن الضعف يجب عليهم أن يستحضروا دائماً الثقة بالله، والتوكل عليه، واستمداد القوة منه، والركون إليه، وأنه ينصر من نصره، فإذا التجأ العبد إليه فقد أوى إلى ركن شديد.
اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، وأن تعلي كلمة الدين، ونسألك سبحانك وتعالى أن تجعل رجزك وعذابك على القوم الكافرين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن الله القوي الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثقة النبي ﷺ بربه
عباد الله: لقد كان من ثقة النبي ﷺ بربه أنه كان دائماً يعتقد بنصرة الله له، وأنه لن يخذله ولن يتخلى عنه ، وكان بعض الصحابة يصابون بإحباط ويأس من كثرة رؤيتهم لقوة الكفار، وقلة عدد المسلمين، فكان النبي ﷺ يذكر أصحابه في أحلك المواقف بأن المستقبل للإسلام؛ ولذلك لما جاء خباب بن الأرت إلى النبي ﷺ يشكو له الشدة التي أصابته وأصابت أصحابه المسلمين في مكة، لقد حرق ظهره، لقد كوته مولاته الكافرة بأسياخ الحديد المحماة فلم يطفئها إلا ودك شحم ظهره لما سال عليها، وهو يقول: ألا تدعوا لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فيقول النبي ﷺ: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت - في ذلك الطريق الخطر المخوف- لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون [رواه البخاري3612]، أوردها في أحلك الظروف في مكة.
ولما ذهب هو وصاحبه في طريق الهجرة أدركهما سراقة بن مالك على فرس، إنهما مطاردان، إنهما في حال حرجة جداً، ويدركهما سراقة، ولكن تسيخ قدما أو يدا الفرس إلى الركبتين، فيقول النبي ﷺ في ذلك الموقف الحرج والظرف الحالك لسراقة: كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟[رواه البيهقي13033]ما قالها بعد انتصار بدر مثلاً، أو بعد فتح مكة، وإنما قالها وهو مطارد وسراقة وراءه في الظرف الحرج والكفار يتربصون، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ سورة الأنفال30 يطلبون دم محمد ﷺ، ووضعوا الجائزة العظيمة، ثم يقول: كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ شيء بعيد جداً عن الذهن، شيء بعيد للغاية، لا يمكن أن يفكر فيه سراقة أبداً في تلك اللحظة، يقول: كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟[رواه البيهقي13033].
لما حاصر الأحزاب المدينة واجتمعوا عليها وتألبوا، جمعوا كيدهم بعشرة آلاف، المسلمون أقل عدداً وعُدداً، وفي ذلك الخوف، والليل المظلم، والريح الباردة الشديدة، يعملون بأيديهم، الجوع والظروف القاسية جداً، هذا الخوف المدلهم، ينزل ليكسر الصخرة ويقول بعد الضربة الأولى: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة، ضربة أخرى: أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض، الضربة الثالثة:أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة[رواه أحمد18219]متى قالها؟ في أحلك الظروف وأسوئها، وقد بلغت القلوب الحناجر، ويظنون بالله الظنوناً، ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، سيأخذهم الكفار يعبرون الخندق سيحصرون سيموتون من الجوع تحت الحصار، ولكن يرد الله الذين كفروا بغيظهم بريح لم تتوقع وبملائكة تنزل.
أيها الإخوة: إن النبي ﷺ لما أخبرنا في الأحاديث الصحيحة أن المستقبل للإسلام؛ يجب أن نؤمن بذلك، ولا يجوز إطلاقاً أن نشك فيه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَسورة التوبة33 ولو كره الكفار، لا بد، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ سورة التوبة33، وقال لأصحابه ﷺ: إن الله زوى لي الأرض جمعها وضمها، فنظر إليها ﷺ نظرة حقيقية بعينه الحقيقية- فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها [رواه مسلم2889]، فسيبلغ إذن ملك هذه الأمة الليل والنهار.
وقال ﷺ: ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر لا بيت حجر في البلد ولا بيت وبر وشعر في البادية، إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر[رواه أحمد16509]، وهذا أمر لم يتحقق بعد، فلا بد أن يتحقق، كما جاء في الحديث الصحيح الآخر: أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: بينما نحن حول رسول الله ﷺ نكتب -أي: نكتب حديثه- إذ سئل رسول الله ﷺ: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية -روما-؟ فقال رسول الله ﷺ: مدينة هرقل تفتح أولاً[رواه أحمد6607] يعني: القسطنطينية، رواه الإمام أحمد وغيره، وهو حديث صحيح، فروما لم تفتح بعد، فلا بد أن تفتح؛ لأن النبي ﷺ أخبر بذلك، وهو الذي قال ﷺ: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت[رواه أحمد17939]رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهو حديث صحيح، وقال ﷺ: لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً[رواه مسلم157].
فإذن هذه الأحاديث لا بد أن تتحقق؛ لأنها خبر من الغيب من الله ، ولا بد أن يعتقد المسلمون بأن المستقبل للإسلام قطعاً، كيف وقد أفلس الغرب والشرق من القيم والمفاهيم، كيف وقد صاروا في أمر مريج، ما هو الدين المرشح للانتشار والظهور وأن يكون هو الذي يقتنع به البشر ويأتون إليه؟ هو أسرع دين في العالم انتشاراً الآن في وقت ضعف المسلمين هو أسرع الأديان انتشاراً، فكيف بغيره من الأوقات؟
التعلق بالله وقت الفتن
ولكن يا عباد الله يجب على المسلمين أن يكونوا دائماً وخصوصاً في وقت الفتن متعلقين بربهم، وأن يعرفوا أن الله يميز الأمور، يميز الناس، وأنه يجري من الأقدار ما يجعلهم ينقسمون في النهاية إلى قسمين، كما قال ﷺ لما ذكر الفتن وأكثر من ذكرها، ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: يا رسول الله وما فتنة الأحلاس؟ قال: هي هرب وحرب يعني: يفر بعضهم من بعض لما بينهم من العداوة والمحاربة، وكذلك نهب يأتي يأخذ مال الآخر ويتركه بلا شيء، قال: ثم فتنة السراء والمراد بالسراء النعماء التي تسر الناس من الصحة والرخاء والعافية من البلاء والوباء، وأضيفت إلى السراء لأنها سبب في وقوعها، فتحدث الفتنة بسبب السراء، والسبب في وقوعها كثرة التنعم، فهذه هي السراء.
ثم قال ﷺ: ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع أي: أنه هذا الرجل ليس بأهل في مظهره أن يجتمع عليه الناس وإنما هو مثل الضلع على الورك، فهو غير خليق أن يكون للناس رأساً ومع ذلك يجتمعون عليه.
قال: ثم فتنة الدهيماء، لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته لطمة وهذه فتنة عظيمة وطامة عمياء ذكرها النبي ﷺ الدهيماء تدهم، فهي داهية لا تدع أحداً إلا لطمته لطمة، فأصيب بمحنة أو ببلية بسبب فتنة الدهيماء.
قال ﷺ: فإذا قيل انقضت أي: انتهت المشاكل، تمادت فيصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، حتى يصير الناس إلى فسطاطين[رواه أبو داود4242]تسلسل زمني وخبر غيبي من النبي ﷺ، فتنة لا تترك أحداً إلا مسته، كلما قال الناس انتهت تمادت، ماذا يحدث من جرائها؟ تبديل سريع في المواقف، تبديل سريع في العقائد، تغير فظيع جداً، انقلابات سريعة جداً في عقائد الناس، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً [رواه مسلم118] في الصباح مؤمن وفي المساء كافر والعكس، حتى في النهاية يحدث التمايز، وهذا ما يريده الله: لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ سورة الأنفال37، لا بد من تمايز.
فقال: حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذلكم فانتظروا الدجال من يومه أو من غده[رواه أبو داود4242] إذا حصل التمايز وانقسموا إلى المعسكرين فانتظروا الدجال من يومه أو من غده.
عباد الله: إن هذه الأحاديث وهذه النصوص الشرعية يجب أن يكون لها في القلب موقع، يجب الاعتقاد بها، لماذا أخبرنا بها؟ لنستعد لنأخذ الأهبة، نستعد يا عباد الله بالعمل والإيمان.
نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة وفي الآخرة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم على الإيمان والدين ثابتين، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم نسألك النصر للإسلام وأهله يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين، انصر المجاهدين في سبيلك، إنك على كل شيء قدير، اللهم أذل اليهود والصليبيين، واقمعهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم اجعل فتح المسلمين قريباً ونصرهم عزيزاً، اللهم أخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين، وأخرجهم من بيت المقدس أذلة صاغرين، واكتب لنا النصر العاجل عليهم يا رب العالمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.